بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 18 أبريل 2022

ضاعت القدس.. فكفر العرب بالعروبة

 


غنّت فيروز بصوتها الملائكي للقدس التي وصفها الشاعر اللبناني المثير للجدل سعيد عقل بزهرة المدائن، ومدينة الصلاة، ودرب من مرّوا إلى السماء في ليلة الإسراء..  وقال عنها بقلب مرهف بالإحساس، أنه حين هوت القدس سقط العدل في الأرض، واستشهد السلام، وتراجع الحب في قلوب الناس، واستوطنت الحرب عقولهم، فارتوت الأرض بالدماء، وتوشحت السماء بالأحزان.. فضاع الإنسان.../...

وبرغم إيمان سعيد عقل بقرب قدوم جياد الرهبة لتحريرها، ووعد فيروز بفتح أبوابها للصلاة في كنائسها ومساجدها،  لم يأتي الغضب الساطع لينقذ الطفل وأمه مريم من مغارة الانتظار، ويمسح عن الإنجيل والقرآن غبار النسيان، لتعود الابتسامة إلى وجه السماء..

وحين أدرك سعيد عقل أن العرب ضيّعوا الشرف والمروءة والعفاف،  كفر بالعروبة وسخط على الفلسطينيين، ولعن عرفات وزمرته على ما أحدثوه في بيروت من خراب وتسببوا في احتلال لبنان من قبل اليهود زمن شارون.. كانت فلسطين تصرخ من الألم في كل ليلة يضاجعها الصهاينة على فراش العروبة، وكان المناضلون العرب إخوان المغتصبة يشربون “الجنّ"  بالليمون في بيروت ويبحثون عن وطن بديل في العيون الفينيقية في شارع الحمراء، وكانت فوهات البنادق تطلق الرصاص في غير اتجاه، وعمال النظافة يجمعون أطراف الموتى مع الأزبال كل صباح..  فشيّع العرب القضية بالطقوس العسكرية وأحرقوا ملف العودة إلى الأبد.

وبعد ذلك هاجموا سعيد عقل لأنه خان العروبة، وكفر بالقضية، وحرّض الصهاينة على قتل الفلسطينيين في بيروت، وتنكر للّغة العربيّة التي قال أن مصيرها سيكون كمصير اللاتينية بعد أن استبدلتها الشعوب العربية باللهجات المحلية، فوضعوا بينهم وبين القرآن برزخا يحجب عنهم المعاني، ويتيح للحكام أن يسنّوا لهم بمساعدة الفقهاء شريعة مستمدة من تعاليم التلمود، فضاع الدين بعد أن ضاعت اللغة وضاعت قبلها العروبة.

ولعل منا من لا يزال يذكر أن سعيد عقل الذي كفر بالعروبة هو من غنّت له فيروز الأغنية الشهيرة التي ترددت على كل لسان بعنوان “غنّيتُ مكّة أهلها الصيد“، وكتب عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قصيدة جميلة يقول في مطلعها: “كلامي على ربّ الكلام هوىً صعبُ.." فما الذي حدث وأثّر على الرجل بشكل جعله يصب جام غضبه على الفلسطينيين والعرب أجمعين، ويعتبر نفسه من اللبنانيين الفينيقيين، ويرفض تجزئة لبنان الذي قُـدّ مثله مثل فلسطين والأردن من أرض الشام المباركة قبل أن يفقد العرب الشرف ويُمرّغ الاستعمار كرامتهم في التراب؟..

إنها الظروف السياسية والأمنية الخاصة التي مر منها لبنان والعالم العربي في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، والتي دفعته إلى اليأس من العروبة والكفر بشعارات التحرير..

في النهاية  مات الرجل عن عمر يناهز 102 سنة، ولم يعتذر للعرب والفلسطينيين كما كانوا يأملون.. فلم يرحمه نقاده، ولم يجدوا له في ظاهرة الخيانة والتآمر العربي حينها عذرا لما قاله، لدرجة أن الإخوان الرّحباني حين لحّنوا له قصيدة “زهرة المدائن" الشهيرة التي هزت قلوب العرب من الماء إلى الماء، قالوا أنها من تأليفهم خوفا من غضب العرب وسخط الفلسطينيين.

*** / ***

نزار قباني من جهته، كتب عن لؤلؤة الأديان، بكى حتى جفّ الدمع من عيونه، وصلّى حتى ذابت الشموع، وركع حتى ملّ منه الركوع، سأل عن محمّد وعن يسوع فلم يجد غير أفاعي سوداء تمارس طقوس الرقص على إيقاع القتل أمام حائط المبكى، والعالم العربي يضحك لليهود القادمين إليه من تحت الأظافر، رافعا شعار التعايش بين الأديان، على وزن التعايش مع جائحة كورونا..

لأنه إذا كان المخطط في الأصل من صنع بريطانيا، والعربدة من بعد تمت بحماية أمريكا، فإن بترول الخليج هو السبب، وكل ما يقال غير ذلك أمور جانبية.. 

هذه هي الخلاصة التي وصل إليها نزار قبل أن يرحل، فخرج يصرخ من مغارة غربته ويقول:  ملعونة أم السّياسة، نحن نحب أغاني شارل أزنافور، والويسكي بالثلج المُكسّر، والعطور الأجنبية، والنساء بنصف عقل، وأجمل الأثداء في اللمس المليءُ المستدير، والسويديات أحسن من يمارسن الهوى، والجنس في ستوكهولم يشرب كالنبيذ على الموائد، الجنس يقرأ في السويد مع الجرائد،  والشريعة عندنا هي الضحية..

ثم تساءل الرجل والدمع الحارّ يملأ الأجفان عن من يوقف العدوان وينقذ مدينة الأحزان؟.. عن من يقرع الأجراس في كنيسة القيامة، ومن يرفع الآذان في المسجد الأقصى؟.. وعن من يحمل الألعاب للأولاد في الأعياد؟..

لكن لا جواب..  اكتشف نزار أن شعب فلسطين أصبح مثل شعب الهنود الحمر يُذبح في شوارع المدن أمام صمت العالم، وأن الزيتون ينتحر في الأغصان وتختنق حبات القمح في السنابل..

ومثل سعيد عقل في البداية، اعتقد نزار قباني أن الحريق الذي أضرم في المسجد الأقصى ليس سوى قنديل يضيء الطريق لغضب شعبي قادم، وأن الحرم الأقصى تحول إلى شهيد جديد يضاف إلى الحساب العتيق، وأن اليهود وإن هزموا الجيوش العربية إلا أنهم لم يهزموا الشعور، وأنهم وإن قطعوا الأشجار من رؤوسها فلا زالت في باطن الأرض الجذور..

لكنه استفاق على هول الصدمة حين أدرك أن العرب لم يعد بإمكانهم عبور النهر سويّا لنصرة لؤلؤة الأديان بعد كامب ديفيد المشؤوم الذي تنازل في منتجعه السادات عن ما تبقى للعرب من كرامة..

ثارت ثائرته فخرج يقول أن العالم العربي غانية ينام اليهود على فراشها كل ليلة، وأن العرب لا يخططون لأنهم يعتقدون أن الحرب كما السلم من تقدير رب العالمين، وأن فلسطين كانت لهم دجاجة من بيضها الثمين يأكلون، وكانت لهم قميص عثمان الذي به يتاجرون..

وقال أيضا موجها كلامه لأمراء الزيت في الخليج:  تغرق القدس في دمها، وأنت يا أمير النفط صريع شهواتك، تنام كأنما المأساة ليست بعض مأساتك،  بعت القدس، بعت دينك، بعت تاريخك، بعت عروبتك، بعت كرامتك، وبعت رماد أمواتك.. كأن حراب “إسرائيل” لم تجهض شقيقاتك، ولم تهدم منازلنا، ولم تحرق مصاحفنا، ولا راياتها ارتفعت على أشلاء راياتك.. فمتى تفهم؟ متى يستيقظ الإنسان في ذاتك؟.. ثم تساءل بأسى: متى يعلنون وفاة العرب؟..

وقبل السفر نحو الخلود، ترك وصيته الشهيرة ورحل، قال: إياك أن تقرأ حرفا من كتابات العرب..  فحربهم إشاعة وسيفهم خشب.. وعشقهم خيانة ووعدهم كذب.. إياك أن تسمع حرفا من خطابات العرب..  فكلها نحو وصرف وأدب.. وليس في معاجم الأقوام قوم اسمهم عرب.

وبعد أن اغتال العرب ونعى العروبة، قرّر اغتيال الوطن بالسفر فحجز تذكرة ذهاب بلا إياب، تاركا وطنه محاصرا بين أسنان الخلافة والوراثة والإمارة، رافضا أن يُحوّل كلماته إلى أرانب خشبية، أو أن يلعب دور المهرج في بلاط السلطان..  لكن أحدا، غير الإسلامويين الذين كفّروه، لم يلمه على ما فعل.. لأن كلماته كانت كالخنجر الذي يغوص في القلب فيسيل دماء الحقيقة فوق صدرنا العاري.

وبرغم كل ما حصل، ظل نزار ينتظر طويلا في تغريبته الحزينة وهو يمني النفس بأن يكسر الشعب الفلسطيني صمت القبور وينتفض لينفجر في وجه اليهود بعد أن يئس من نصرة العرب.. لكنه تيقّن أخيرا أن الشعوب لن يحملها الريح كالجراد بالملايين من أقصى المحيط ومن ضفاف النيل والفرات وجبال اليمن وصحاري الخليج إلى فلسطين الحبيبة، وأن “المجاهدين الإخوان"  الذين رفعوا شعار “وأعدّوا لهم..." لن يأتوا حاملين سيف الرسول على أجنحة النسور مع غضب الرعد وزخات المطر للصلاة في القدس الشريف، لأن جهادهم ضد إخوانهم في الدين مقدم على جهاد اليهود..

مرت الأيام والشهور والسنين، ولم تأتي الشعوب العربية لتزلزل الأرض من تحت أقدام الصهاينة، فاقتنع الرجل أن عقارب الساعة لم تعد تدور وتوقفت عند توقيت اليهود، وأنه لم يعد من أمل للفلسطينيين سوى حمل أحجار فلسطين على مراكب الشعر والرحيل نحو أرض القمر حيث تدفن الأحلام.

*** / ***

أما محمود درويش عاشق فلسطين الأصدق، الذي كان يقول أنه أحبها ليس لأنها الأجمل بل لأنها الأعمق، وأن عاشق الجمال في العادة أحمق، فكان شاعرا صوفيا باحثا عن الحقيقة التي لم يجدها في خبز وقهوة أمه، فأدرك متأخرا أنها أيام جميلة لن تعود، وتمنى من الله أن يصير يوماً ما يريد..

تمنى أن يتحول من إنسان إلى طائر ليُخرج وجوده من سديم العدم الذي يسبح في متاهاته بلا معنى.. كان يشعر أنه كلما احترقت جناحاه كلما اقترب من الحقيقة أكثر لينبعث من الرماد كطائر الفينق..  ولأنه لم يتحوّل إلى طائر كما كان يتمنى فقد قرر استكمال الرحلة نحو المعنى، فباغته الرحيل حين أحرقه الواقع المرير، وكشف في عليائه أنه هو عين الحضور في ظل الغياب، مثل كائن سماوي ظل طريدا يبحث عن السلام، في بلد يُدعى فلسطين، قُدّ من أرض بلد يُدعى الشام، في محيط بلاد تدعى بلاد العرب، بها لصوص يعبدون الله كي تعبدهم الشعوب، ملوك للأبد وعبيد للأبد.

لم يكن محمود درويش رحمه الله يخاف اليهود بل كان يخاف العيون التي تستطيع اختراق ضفافه، لأنها قد تبصر عقله العاري فتطل منه على قلبه الحافي، لذلك كان يخشى الاعتراف.. لكنه قبل أن يرحل ترك لنا جوهر المعنى الذي توصّل إليه بعد جهد وعناء، قال: إنها ليست الإديولوجيا أيها السادة بل اليأس الأعمى، وأنتم أحياء كالموتى، أنتم أناس عابرون في كلام عابر، تريدون تحرير أنفسكم من هذه الحياة المظلمة وأنتم ضائعون تعيشون بلا معنى، انظروا حولكم فسترون أن لكل نهر منبع ومصب ومجرى ينبض بالحياة..  فإلى أين أنتم سائرون بلا بوصلة؟.. عام يمضي وآخر يأتي وكل شيء يزداد سوءاً، هيكلكم قصب وعروشكم قصب، في كل مئذنة حاو ومغتصب يدعو لأندلس إن حوصرت حلب..

وها نحن نعيش اليوم بالصوت والصورة نكبة سورية بعد نكبة العراق، وكنا قد درسنا في كتب التاريخ عن نكبة الأندلس، وحدّثنا الآباء في المهد عن نكبة فلسطين التي لم يكتبها التاريخ بسبب رفض الخونة العرب أن تكشف الحقيقة..

ثم ماذا بعد؟..

لكي نفهم.. قال لنا محمود درويش، أنه علينا أن نعي أنهم علّمونا أن النسيان هو تدريب الخيال على احترام الواقع القائم، وهذا ما كان، وهذا ما هو كائن بدليل حالنا اليوم حيث أصبح الحق والحقانية مجرد ترثرة كلامية على رأي عبد الله العروي، والحقيقة هي ما تنتجه السلطة لا الله حسب النظرية الفلسفية الغربية الحديثة.. 

وبذلك لم يعد الوطن بالنسبة لنا حياة وقضية حين أصبح الفارس فينا هو من يغمد في صدر أخيه خنجرا باسم الله ويصلي لينال المغفرة طمعا في دخول الجنة حيث الجنس من الحوريات هو عين المراد..

لكن الحقيقة التي نرفضها ونهرب منها بسبب تشبتنا بحياة الذل وخوفنا من الموت على سنة اليهود تصرخ فينا وتقول: ما الوطن سوى الشوق إلى الموت من أجل أن تعيد الحق والأرض لأصحابها، ليس الوطن أرضا فقط، ولكنه الأرض والحق معا، وإذا كان الحق معك فإن الأرض معهم..  وهنا تكمن المعضلة..  فهل وصلت الرسالة؟..

*** / ***

في الخلاصة، لم تعد بلاد العرب تنتج شعراء من وزن سعيد عقل وحجم نزار قباني وعظمة محمود درويش.. والسبب، موت الإحساس في الناس والذي يوازي موت الإيمان بالقضية بعض أن ضاع الشرف وفرط العرب في المروءة واغتالوا الكرامة وكفروا بالعروبة..

لقد نجح اليهود في كسر عصا موسى في صحاري مصر حين قتلوا جمال عبد الناصر كي لا يعود بمقدوره شق مياه البحر لتعبر الشعوب إلى فلسطين، لكن ذلك لم يمنع خليفته السيسي من تمرير مياه النيل في الأنفاق تحت الأرض ليغتسل شعب الله المختار من دماء شعب العمالقة بالمياه المقدسة..

حدث هذا بعد أن استفاق العرب على حقيقة أصبح من الصعب تغييرها، ومفادها أنهم نجحوا في تنصيب حكام يهود في عواصم العرب، بعد أن نجحوا في التسلل إلى أفكارهم السياسية وعقائدهم الدينية وتنظيماتهم اليمينية واليسارية وجماعاتهم الإسلاموية، وأصبحوا هم من يُنظّرون لها ويضعون لها الأهداف ويوزعون عليها الأدوار ويحددون لها المسار..

ولسنا بحاجة للتدليل على هذه الحقيقة المؤلمة إلا إذا كان النهار يحتاج إلى دليل، ومن لديه أدنى شك في ذلك، فليراجع ما كتب في الفترة الأخيرة عن مؤامرات الإخوان ضد سورية ومصر وضد فلسطين والفلسطينيين بتعليمات من واشنطن وتركيا وقطر الذين وعدوهم بالخلافة.. فلا شك أن ما سيكتشفه الباحث من حقائق سيشعر معها بأن أحشاؤه تتمزق ألما على حال فلسطين وحال الأمة الميؤوس منها في هذا الزمن الأغبر.

ثم لينظر المتابع إلى ما تمخضت عنه سياسات السلام التي انتهجتها منظمة فتح طوال عقود، ليتساءل عن سر استمرار الفلسطينيين في الوثوق بخط العميل عباس ورهانه على وهم السلام المستحيل في إطار ما يسميها بـ“الشرعية الدولية“، في محاولة بليدة لقتل روح المقاومة في الشباب الفلسطيني واستغباء الشعوب العربية الغارقة في الفتن والمنشغلة بـ“إسقاط الأنظمة” وتقسيم سورية والعراق واليمن ولبنان كي لا يكون لإيران موطئ قدم في المنطقة، تمهيدا لانتصار الوهابية والسلفية الإخونجية، وعودة الخلافة العثمانية الاستبدادية لتحكم القطيع كما كانت لقرون خلت..

وحدها المقاومة الشريفة في لبنان وفلسطين وسورية والعراق واليمن لا تزال على العهد، تكافح في إطار محور المقاومة لتوحيد البندقية وساحات المعركة، بعد أن قرروا ترك خلافات الماضي وراء ظهورهم والسير نحو المستقبل، مستقبل يمر عبر تحرير الإنسان كمقدمة لتحرير الأرض..

وهذا هو الرهان اليوم، والتقرب إلى الله أصبح من خلال دعم المقاومة، بعد أن لم يعد للخزنة والعملاء المُطبّعين والكهنة مجوس الأمة من دور أو مكان في عصر الشعوب التي بدأت تستردّ وعيها بالدّم والحزن والدموع.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق