بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 أبريل 2022

ثنائية الموت والحياة

 

(من يجعل الآخرة غايته لا يهاب الموت)

يقول تعالى: (هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) الملك: 2. ما يعني أن الحياة انبثقت من مادة ميّتة كانت الحياة باطنة فيها.. بدليل قوله تعالى: (يخرج الحي من الميّت ويخرج الميّت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها) الروم: 19.. ما يؤكد مرة أخرى أن الموت سابق للحياة في الخلق ومنه تولّدت الحياة.../... 

هذا الترتيب بين الموت والحياة ليس اعتباطيا، وإلا لما قال تعالى على لسان الكافرين يوم البعث: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) غافر: 11. ما يؤكد أن الإنسان حين يموت في الدنيا يموت موتته الثانية بعد الأولى التي كانت في عالم الدر والأنوار العلوية، حيث مسح الله على ظهور بني آدم ذرّيتهم فأحضر الخلق جميعا من العدم إلى الوجود ليشهدوا على أنفسهم بأن الله ربهم، وحذرهم من أن يكونوا عن هذا غافلين وفق ما تؤكد آية الميثاق (الأعراف: 172)، وبعد ذلك أماتهم جميعا ليعيد إحياء كل نفس على حدة في الموعد والجسم والموطن المقرر خوض تجربتها الأرضية، وبعدها تموت الموتة الثانية ليحييها الله مرة أخرى يوم البعث.

وبذلك لا يمثل الموت النهاية في رؤية الله للخلق بالحق، بل فقط البداية لحياة الخلود.
لا غرو أن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي تُذكّر الإنسان بأن لا مفر له من الله إلا إليه، وأنه يعيش أسيرا في الحياة، كراكب البحر إذا نجا من الغرق فلن يسلم من الخوف.. لأن الخوف يرافق الإنسان في كل محطات حياته، إذا أمن الجوع لا يأمن المرض، وإذا أمن المرض لا يأمن الشيخوخة.. وفي الشيخوخة عجز، وضعف، وأوجاع.. لقوله تعالى: (والله خلقكم ثم يتوفّاكم ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا) النحل: 70. وبذلك يكون الموت هو الفاجعة الكبرى التي تأتي من غير استئذان لتنتزع الإنسان من أحبائه، وآماله، وأحلامه، وأوهامه، فتعيد جسده إلى التراب حيث ينتمي، وتعيد روحه إلى صاحبها الذي أودعها أمانة عنده، وتعود نفسه إلى عالم ما وراء البزخ المقدر لها النوم فيه في انتظار نفخة الصور الثانية إيذانا بحلول ساعة الحقيقة.

والحقيقة أن الله حين خلق الموت قبل الحياة فليذكر الناس بأنهم متساوين جميعا في سلسلة النشأة والتكوين، لا يختلف في ذلك قوي وضعيف، صغير وكبير، غني وفقير، شجاع وجبان، ما دامت كل نفس ذائقة الموت من دون استثناء. ولأن الله تعالى جعل الموت والحياة كتابا مُقدّرا، وأحاط الموت بهالة من الخوف والرعب، ووضع الإنسان أمام خيارين لا ثالث لهما، إما ثواب الدنيا أو ثواب الآخرة لقوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يود ثواب الدنيا نؤته منها ومن يود ثواب الآخرة نؤته منها وسيجزي الله الشاكرين) آل عمران: 145. وشتان بين الثوابين.

وبالتالي، فالذي يرغب في ثواب الدنيا يعيش الخوف من الموت، أما من يرغب في ثواب الآخرة فيعرف بيقين أنه إنسان خالد، وأن الموت هو مجرد انتقال من عالم صغير فاني إلى عالم دائم باقي لا يحده وصف ولا يحيط به إدراك، أو كما وصفه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر".. هذا الخوف من الموت هو الذي يدفع الإنسان لتحديد خياراته والغاية من حياته.. ذلك أن الأمر يشبه إلى حد كبير من يخطط للمدى القريب ومن يخطط للمدى البعيد.. فالأول يعيش على الأمل القاتل خوفا من فقدان نعيم الدنيا إلى أن يباغته الموت. أما الثاني فيعيش مطمئنا يأمل أن تشمله رحمة الله بعد أن يقدم صالح الأعمال في الحياة الدنيا، وبالتالي فلا يهمه متى أو كيف أو بأي أرض يموت، ما دام قدره بيد الله وفي قبضته ولا هروب منه إلا إليه لقوله تعالى: (كلا إذا بلغت التراقي * وقيل من راق * وظن أنه الفراق * والتفّت الساق بالساق * إلى ربك يومئذ المساق). القيامة: من 26 إلى 30. 

لا غرو أن حب الحياة غريزة كامنة في طبيعة الإنسان، يُقوّيها بريق العيش وجماله.. لكن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي توقظنا من وهمنا لندرك أن الحياة ليست سوى حلم عشناه لساعة من نهار بمقياس الزمن القدساني، وأننا بلغنا نهاية تجربة قصيرة لنبدأ حياة مديدة موعودة بالخلود. 

إن معرفة الحقيقة الكامنة وراء الموت هي الغاية التي من أجلها خلق الله الحياة، ولأن الله أراد للبشر أن يخلف بعضهم بعضا، لم يجعل الحياة دائمة لأحد وإلا لما أصبح للتجربة من معنى.

 إنها حتمية الموت مهما اختلفت الأسباب أو طال العمر، فكل حي مصيره الموت بما في ذلك خير الأنام لقوله تعالى: (إنك ميّت وإنهم ميّتون) الزمر: 30. ولا يملك الإنسان منه مهربا.. إنه المشهد الدرامي الذي يُفرّق بين الأحبة، يهدم اللذات، يصرع الجبابرة، يقهر المستضعفين، ويذهب بالأنبياء والرسل، بل ويطال في نهاية المطاف حتى الملائكة المقربين بمن فيهم ملاك الموت نفسه لقوله تعالى: (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) الرحمن: 26 – 27.. 

ومن طبيعة الموت أنه لا يصغي لصرخة ملهوف، ولا حسرة مفارق ولا مكانة مخلوق.. لا ينفع معه دواء ولا رقيّة راق.. إنه لحظة الوداع الفارقة، لحظة الحقيقة المذهلة التي تذكر الجميع بحتمية المصير. 

الموت هو إعلان نهاية الامتحان بعد التجربة الأرضية التي يعقبها البعث والحساب فالجنة أو النار.. فلا طريق بعد الموت إلا الطريق الذي ينتهي إلى الله لقوله تعالى: (وإنّ إلى ربك المنتهى) النجم: 42. حينها، وحينها فقط يدرك الإنسان أن نفسه فرغت من أمر الدنيا، وخلّفت وراءها الدنيا وما فيها، لتستقبل عالما جديدا وغريبا لا تعرف عنه شيئا، ولا تملك للنجاة من أمره مالا ولا جاها ولا بنون سوى ما اذخرته من صالح الأعمال، ما دامت حتى رحمة الله التي "وسعت كل شيء" لا تشمل الجميع يوم البعث كما قال بذلك بعض الصوفية، بل جعلها تعالى مشروطة بما قدمت يد الإنسان من أعمال في الحياة الدنيا لقوله: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) الأعراف: 156. وواضح ما تعنيه كلمة التقوى من جهاد مرير للنفس الأمارة بالسوء، وواضح ما تعنيه كلمة الإيمان بآيات الله من مستلزمات الأعمال الصالحة التي تنفع الناس ويرضى عنها الله.

وبالتالي، الموت هو فقط نهاية الطور الأول من النشأة الإنسانية وبداية طور جديد مختلف كليا عن الأول، حيث ينعم المؤمن بحياة حقيقية وجديدة من دون نواقص، ولا تناقضات، من دون حزن ولا ألم، من دون خوف ولا قلق، ليبلغ مرتبة الكمال. أمّا الأمل الذي يعيشه الإنسان في الدنيا فلا يعدو عن كونه وهما وسرابا، مردّه إما الجهل، أو سوء فهم المراد من التجربة الأرضية، أو حب الدنيا والتعلّق بزخرفها.

ولعل حب الدنيا هو المرض العضال الذي يصيب قلب الإنسان الغافل، فقد أعيا علاجه الأولين والآخرين، فيما الحقيقة أن لا علاج له إلا بالإيمان، لأن به يحصل اليقين بحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، فيدرك الإنسان وهم الدنيا وجمال الآخرة، ويصل إلى قناعة مؤداها أن متاع الدنيا مقارنة بمتاع الآخرة قليل، لقوله تعالى: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) التوبة: 38.

أما السر في تجاوز الخوف من الموت فيكمن في حب الله، لأن من أحب الله أحب لقائه ولم يتملّكه الخوف من وجع الموت، ذلك أن الموت لا يوجع المؤمن الراغب في لقاء ربه بل يوجع أهله الذين يجهلون حقيقة الموت، لأن المؤمن إذا بُشّر برحمة الله وشعر برضوانه أثناء احتضاره أدرك أن الله أحبّه فرغب في لقائه، ولا يهمه بعد ذلك موت ولا فراق، بدليل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الموت: (قلنا يا رسول الله كلنا يكره الموت، قال: ليس ذلك كراهية الموت، ولكن المؤمن إذا حُضر جاءه البشير من الله فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه، وإن الفاجر – أو الكافر – إذا حُضر جاءه ما هو صائر إليه من الشر، فكره لقاء الله وكره الله لقائه) رواه الإمام أحمد والنسائي بإسناد صحيح. وبهذا المعنى الذي أوضحه الرسول صلى الله عليه وسلم، فالخوف لا يكون من الموت، بل من المجهول القابع وراء الموت. بدليل أن المؤمن حين يأتيه ملك الموت ليأخذ نفسه يقول له: (يا أيتها النفس المطمئنّة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي) الفجر: من 27 إلى 30. وبهذا المعنى فالمؤمن لا يشعر بألم الموت بقدر ما يشعر بلذة اللقاء بسبب ما بشّرته به ملائكة الرحمة من نعيم دائم وهناء عظيم. 

أما الكافر، والمقصود به عموما كل من خان العهد والميثاق مع الله فأنكر وجوده وجحد بآياته.. أو من أشرك به وزعم أن له ندا أو أندادا.. أو جعل لله من عباده جزءا كالولد أو القول بأن الملائكة بناته.. أو من ارتد عن دينه بعد إسلامه ولم يتب عن قريب قبل موته.. أو من اتخذ النفاق وسيلة للغدر والخداع وإيقاظ نار الفتن في الآمنين المسالمين.. هذا الكافر يرى ساعة الاحتضار نكير ومنكر وملائكة العذاب وعلى رأسهم ملك الموت، يسألونه فلا يستطيع الجواب، يُوبّخونه، يلعنونه، ويُبشّرونه بسخط الله وغضبه وما أعد له من عذاب، فيعلم مكانته من النار فيدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور فلا من يغيثه، يطلب الرجعة ليعمل صالحا في فرصة أخرى فيناديه الملك من السماء: "إنك لكاذب". ثم تبدأ ملائكة العذاب بضربه بالمقامع على وجهه ودبره، وهو ضرب فوق تصور البشر وطاقة تحمّل الإنسان لقوله تعالى: (ولو ترى إذ يتوفّى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق) الأنفال: 50. بعدها تنزع روحه من جسده كما تقطّع العروق والأعصاب وتفصل اللحم عن العظم.. ويشبه ذلك نزع غصن الشوك من كومة الصوف وما يخلفه من ألم عظيم لا يطاق. وبموازاة ذلك تناديه الملائكة بأقبح الأسماء، وتكون له رائحة أنتن من رائحة الجيفة على وجه الأرض، فتغلق أبواب السماء في وجهه، ويُمثّل له عمله الخبيث في أسوء صورة ليبشره بالمصير الأسود الذي ينتظره، وفي النهاية تفتح له باب من النار ليعلم مقامه. يقول تعالى في هذا الصدد: (ولو ترى إذ وُقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نُردّ ولا نُكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يُخفون من قبل ولو رُدّوا لعادوا لما نُهوا عنه وإنهم لكاذبون) الأنعام: 27 - 28.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق