بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 23 يناير 2023

الصلاة بين السنة والقرآن.. (10/4)

 

(قل إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين)

- الأنعام: 162 -

ديــــــــن أم أديــــــان؟.. 

يقول تعالى بشأن الدين الذي ارتضاه لعباده كافة: (ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران: 85. وتعتبر هذه الآية من المحكمات التي استند عليها فقهاء الرسوم للقول بتعدد الأديان، فقسّموا دين الله الواحد إلى أديان متعددة كاليهودية والمسيحية والإسلام، هذا بالرغم من أن القرآن يؤكد أن لا دين عند الله غير الإسلام وأن جميع الأنبياء والرسل من نوح صعودا إلى محمد هبوطا عليهم السلام جميعا كانوا يُبشّرون بالإسلام.../...

بدليل أن أبا الأنبياء والرسل خليل اللخ إبراهيم صاحب العهد والوعد وصّى بالإسلام كدين ذرّيته لقوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) البقفرة: 132. وبدليل قوله تعالى على لسان نبيّه نوح عليه السلام: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يونس: 72. وعلى لسان إبراهيم وإسماعيل علسهما السلام: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة: 128. وفي وصية يعقوب لولده عليهما السلام: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ  فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) البقرة: 132. وعاة لسان يوسف عليه السلام: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) يوسف: 101. وفي عهد سليمان عليه السلام، اعترفت ملكة سبأ بظلمها لنفسها وأعلنت إسلامها لله الواحد الأحد: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) النمل: 44.  وعن موسى عليه السلام: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) يونس: 84. بل حتى سحرة فرعون عندما آمنوا بإله موسى قالوا: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) الأعراف: 126.  وأشهد الحواريون عيسى على إسلامهم بقولهم: (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) آل عمران 52.

هذه هي الحقيقة الوحيدة التي أكدها تعالى في محكم التنزيل بشأن الدين الواحد القويم الذي هو الإسلام، ومن يقول بتعدد الأديان فهو إما أنه لم يفهم المراد خطاب الله لعباده أو أنه بدل البحث عن المعنى في كتاب الله استند في قناعته على ما قال به فقهاء القشور عبر الأزمان والدهور.. حدث هذا  مع اليهود والنصارى والمسلمين أيضا للأسف، بدليل قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) البقرة: 113.

هذا علما أن الله تعالى أكد في محكم التنزيل بما لا يدع مجالا للشك، أن لا فرق بين المؤمنين من أتباع الرسل، وأن النجاة يوم القيامة تقوم على قواعد ثلاثة هي : (الإيمان بالله - الإيمان باليوم الآخر - -والعمل الصالح الذي ينفع الناس) وذلك لقوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 62 وهي الآية التي تكررت بنفس الصيغة في سورة المائدة: 69. ومعناها واضح وضوح الشمس في قبّة السماء، ومفادها بالعربي الفصيح أن الدين القويم يقوم على الأركان الثلاثة التي سبق ذكرها بالنسبة لجميع الرسالات، أما ما قيل عن أركان الإسلام الخمسة في التراث، فتدخل في باب مقتضيات الإيمان لا الإسلام لأنها وردت في إطار الأوامر المكتوبة على المؤمنين لقوله تعالى في مطلع كل فريضة (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم...)، وللإشارة فهي سبعة فرائض وليست خمسة، لكن فقهاء السلاطين حذفوا فريضة القتال في سبيل الله وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برغم ورودهما بصيغة الأمر المكتوب لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم) كما سبقت الإشارة بالنسبة لمقتضيات الإيمان، وهما فريضتين لهما علاقة بالسياسة الدينية التي تصطدم رأسا مع مصالح تحالف الفقهاء والإقطاع، وتحرم بالتالي المواطن المسلم من حق المشاركة في تقرير مصيره ومستقبل عياله واختيار حكّماه ونظام الحكم في دولته، الأمر الذي مهّد لإرساء قواعد الحكم التيوقراطي الاستبدادي عبر التاريخ الدموي الإسلامي، في غياب الشورى بالمفهوم القرآني، والتي اقترنت في كتاب الله بفريضة الصلاة، لتكون فرضا ملزما على كل فرد مسلم، بحث تتطور في ظلها المعارضة السياسية السلميّة.

والمصيبة أن الفقهاء لم يكتفوا بتفريق المؤمنين في الدين باختلاف الرسل والرسالات كما يشهد على ذلك الواقع، بل قالوا أيضا بتعدد المذاهب داخل نفس الرسالة، مبرّرين ذلك بالقول "إن الاختلاف رحمة"، وهو ما أنكره الله تعالى في قرآنه بقوله لرسوله الكريم عليه السلام: (إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم الى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) الأنعام: 159. وقوله أيضا: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتّقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا كلّ حزب بما لديهم فرحون) الروم: 30 – 31 – 32. 

ولأن الله تعالى جعل الحاجة إلى الدين القويم في أصل فطرة الخلق فقد اعتبر أن كل من يحاول تغيير هذه الفطرة وحرف الناس عن أن يُوجّهوا وجوههم لله وحده دون سواه شركا واضحا نهى المؤمنين من أن يسقطوا في فخّه فيكونوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون كما نهى عن ذلك في الآية السالفة الذكر. وبالتالي، فالأمر لا يحتاج إلى تأويل بعد أن أوضح تعالى في نفس الآية الكريمة أن كل من اتبع حزبا أو مذهبا أو ملة غير حزب الله وملّة إبراهيم عليه السلام يعتبر مشركا من الذين فرّقوا دينهم، لأن خليل الله الذي أمر أنبياءه وعباده باتّباعه كان حنيفا مسلما ولم يكن من المشركين.

ولأن القرآن الكريم هو عبارة عن وعاء جامع لكل الرسالات السماوية وفق ما يعطيه المعنى الحقيقي للمصطلح المأخوذ من مفردة "القرء"، لقول العرب في اللغة القديمة "قرأت الماء في الحوض" أي جمعته. وبالتالي، فلا وجود لشيء اسمه ديانات مختلفة، بل دين واحد برسالات متعددة نزلت في فترات متفرقة حيث بعث الله لكل أمة رسولا أو نبيّا يُعلّمهم أصول الدين والحكمة، ويُذكّرهم بميثاقهم الذي عقدوه مع ربّهم طوعا لا كرها في عالم الذر قبل النزول لخوض التجربة الأرضية، بدليل قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني ادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين) الأعراف: 172. وواضح أن بعثة الرسل كانت لتذكير الناس بعهدهم مع الله لئلاّ يكون للناس على الله حجة يوم القيامة بعد الرسل، بحيث يدّعون أنهم أتوا لخوض الامتحان في الحياة الدنيا دون إرادتهم، أو يزعمون أنهم نسوا ما عاهدوا الله عليه لقوله تعالى: (رسلا مُبشّرين ومُنذرين لئلاّ يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) الشورة: 15. 

وهنا تجدر الإشارة إلى أن جميع الرسل أرسلهم الله مبشّرين ومنذرين بنفس الدين ونفس الشريعة دون تبديل أو تغيير إلا ما له علاقة ببعض الأحكام الفرعيّة التي شرّعها تعالى للأمم السابقة وبدّل أو عدّل في بعضها بالنسبة لأمّة محمد حيث حاء بأحسن منها بسبب تغيّر الظروف والشروط انسجاما مع سنن التطور والتقدم، وهذا هو النسخ الذي يعني حصرا نسخ بعض الأحكام التي فرضت على أهل الكتاب واستبدالها بأخرى خير منها زمن خاتم الرسل عليهم السلام جميعا، ولا علاقة للناسخ والمنسوخ بالقرآن الكريم كما زعم الفقهاء بذريعة كاذبة غايتهم استبدال شريعة السماء بشريعة ابتدعوها ونسبوها للسنّة والرسول عليه السلام منها براء. فالقرآن يؤكد في أكثر من آية وسورة أن الله أوحى لرسله نفس الرسالة ليبلغوها لأقوامهم دون تمييز أو تفضيل بين رسول ورسول، وجعل لكل أمة نفس الشرعة (الطريق) ونفس المنهج (القواعد).. ودليل ذلك كالتالي:

نفس الوحي لكلّ الرّسل:

- يقول تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا * رسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلّم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) النساء: 163 – 164 – 165، (الخطاب في هذه الآية موجّه لمحمد عليه السلام).

- ويقول كذلك بنفس المعنى: (ما يقال لك إلاّ ما قد قيل للرّسل من قبلك إن ربّك لذو مغفرة وذو عقاب أليم) فصّلت: 43، (والخطاب في هذه الآية موجّه لمحمد عليه السلام).

- ويؤكد تعالى على لسان رسوله نوح عليه السلام أنه مجرد بشر اصطفاه تعالى وبعثه لقومه بالوحي وأنه لا يعلم الغيب وليس بملك وأمره تعالى بالعدل: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم وإنّي إذا لمن الظالمين) هود: 31. 

- ونفس ما قاله تعالى على لسان نوح عليه السلام لقومه قاله أيضا على لسان خاتم الأنبياء والرسل محمد عليه السلام لقومه: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنّي ملك إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكّرون) الأنعام: 50.

نفس الدّعوة للتّقوى والطّاعة: 

وفي هذا الصدد وردت عديد الآيات التي تؤكد أن الله تعالى كلّف جميع أنبيائه ورسله بنفس الرسالة التي تدعو أقوامهم إلى الطاعة والتقوى، وذلك لقوله تعالى:

- (كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتّقون * إنّي لكم رسول أمين * فاتّقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين) الشعراء: 105من إلى 110.

- (كذّبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتّقون * إنّي لكم رسول أمين * فاتّقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين) الشعراء: من 123 إلى 127.

- (كذّبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتّقون * إنّي لكم رسول أمين * فاتّقوا الله وأطيعون * وما أسألكم من أجر إن أجري إلا على ربّ العالمين) الشعراء: من 141 إلى 145.

- (كذّبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتّقون * إنّي لكم رسول أمين * فاتّقوا الله وأطيعون * وما أجري إلاّ على الله ربّ العالمين) الشعراء: من 160 إلى 164. 

- (كذّب أصحاب ليكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتّقون * إنّي لكم رسول أمين * فاتّقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على الله ربّ العالمين) الشعراء: من 176 إلى 180.

وهؤلاء هم الأحزاب الذين كذبوا بالدين وكفروا بما جاءت به الرسل فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

نفس الشريعة العامة بالنسبة للجميع:

اختلفت الأقوال في هذه المسألة بين المفسرين القدماء والمعاصرين من جهة، وبين الباحثين الحداثيين من جهة أخرى:

- الفئة الأولى، هي فئة المفسرين عموما، والتي تمثل معظم إن لم يكن كل الفقهاء تقول: بأن الله جعل لكل أمة شريعة مختلفة بحجة أنه لو أوحى للجميع شريعة واحدة لجعلهم أمة واحدة، وتستشهد هذه الفئة بقوله تعالى: (ولكل جعلنا شرعة ومنهاجا ولو شاء لجعلكم أمّة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم) المائدة: 48.

- الفئة الثانية، وهي فئة بعض المُؤوّلين، والتي تمثل قلة قليلة جدا من الباحثين الحداثيين تقول: إن أحكام الله واحدة لكلّ الرسل بدليل قوله تعالى لرسوله محمد عليه السلام: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرّسل من قبلك) فصّلت: 43. وأن الآية التي استشهد بها المفسرون القدماء تتحدث عن طائفتين، طائفة مؤمنة تحكم بكتاب الله، وأخرى كافرة تحكم بالأهواء، ما يشير إلى وجود أمّتان لكلّ واحدة منهما شرعة ومنهاجا، ولو شاء تعالى لجعلهم أمة واحدة ولكن ليبلوهم فيما أتاهم كما يقول، وهذا مناط الاختبار بالنسبة للأمة المؤمنة والفرق بينها وبين الأمة الكافرة، وبالتالي، فالأمر يتعلق بسوء فهم الخطاب القرآني من قبل المفسرين التقليديين.

والسؤول هو: أين الصواب من الخطأ في الطرحين السالفين؟

يستفاد من محكم التنزيل أن للمسألة وجهان، وجه ظاهر ووجه باطن، ذلك أنه إذا كانت الشريعة هي جسد الإسلام الظاهر، والحقيقة هي روحه الباطنة، فإن معرفة الحقيقة هي غاية المسلم من تجربته الأرضية، والطريقة الوحيدة لهذه المعرفة تكمن في التعليم لتغذية العقل، والتربية لتزكية النفس، والمجاهدة القلبية لولوج الحقيقة من بوابة الشريعة، لأنه لا يمكن معرفة الحقيقة من دون معرفة الحكمة من الشريعة التي تؤدي إلى معرفة الحق الذي هو الله تعالى، لأنه من دون معرفة الله لا يمكن فهم رؤيته للعالم والخلق، وإدراك المراد من خطابه لعباده.

والشريعة في اللغة العربيّة القديمة، هي المكان الذي ينحدر منه الماء من أعلى إلى أسفل، واشتُقت الكلمة من الفعل "شرَع"، أي حدّد وأمر فأباح ومنع. أما اصطلاحاً فهو ما شرّعه الله تعالى لعباده من مناسك وأحكام ووصايا وأخلاق، ليسود العدل والأمن والسلم اجتماع المؤمنين، فتتحقق لهم بذلك سعادة الدنيا وخلاص الآخرة. 

وإذا كان هدف الدين هو تحقيق العدل بين الناس في الدنيا وتبيان طريق الخلاص في الآخرة، فإن أصول الشريعة لا يمكن أن تكون إلا من مصدر علوي يشمل العباد كافة وفق ما يعطيه المفهوم القرآني للمصطلح ما دام العدل له مفهوم واحد لا يتعدّد ومقابله الظلم، وهو ما يفيد بالتالي، أن المشرع الوحيد هو الله تعالى دون سواه بحكم أنه صاحب الدين ورب العالمين ومن أسمائه الحسنى التي لا تتبدّل ولا تتغيّر "العدل".

وبهذا المعنى، تكون شريعة السماء، شريعة مطلقة، شاملة، ومشتركة بين جميع الأمم باختلاف الرسل والرسالات، بدليل قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) الشورى: 13.

ويفهم من هذه الآية الكريمة، أن اختلاف الرسل والرسالات لا يُبرّر التفرقة في الدين ما دامت أصول الشريعة هي واحدة والمشرع هو نفسه، لكن واقع الحال يؤكد أن التفرقة هي التي انتصرت بفضل لصوص الدين الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على عقيدة المؤمنين، باسم سنة نسبوها لرسلهم الذين ظلوا يتكلمون لعقود بعد وفاتهم، حصل هذا بعد وفاة موسى وبعد وفاة عيسى وبعد وفاة محمد عليهم السلام جميعا، بل وبعد وفاة حتى الرسل الذين جاءوا قبلهم وفق ما يشير إلى ذلك القرآن المجيد، يقول تعالى لرسوله الكريم محمد عليه السلام في هذا الشأن: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) آل عمران: 48. وهي ذات الآية التي تكررت حرفيا في سورة البقرة: 136، مع تغيير بسيط في صيغة المخاطب بالأمر من "قل" إلى "قولوا".  

وبالتالي، فشريعة المساء لا يمكن أن تكون إلا شاملة بالنسبة للجميع دون استثناء وهذا ما يقتضيه العدل الإلهي. ولعل أجمل ما يعبر عن هذه الحقيقة الفريدة هي آيات الوصايا العشر التي جاء فيها: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) الأنعام: من 151 إلى 154.

والمفارقة الغريبة أن هذه الآية الكريمة التي تعتبر من المحكمات، وتتضمن قانونا إلهيا أخلاقيا ساميا، شاملا ومشتركا بين البشر جميعا، يفتخر به أهل الكتاب من يهود ونصارى.. تكمن في أن التراث الإسلامي تجاهلها (أي الوصايا العشر)، حيث اختلط الأمر على فقهاء الظاهر فاعتبروها شريعة خاصة بقوم موسى، زاعمين أن شريعة محمد نسخت ما قبلها من شرائع، مستدلين على ذلك بقوله تعالى: (لكل جعلنا شرعة ومنهاجا) المائدة: 48 كما سبق القول، وهي جملة تم اقتلاعها من سياقها ففقدت معناها الذي يحكمه مبناها كما تقول القاعدة اللغوية حسب علم الدلالة المنطقية. 

هذا علما – ويا للغرابة - أن الوصية الثالثة المتعلقة بالنهي عن قتل الأولاد خشية إملاق (فقر) لا تخص اليهود بل عرب قريش دون سواهم من العالمين، كما أن استهلال الوصايا بقوله تعالى: (وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) المائدة: 48، يؤكد أن الخطاب موجّه للرسول محمد عليه السلام، وأن المعنيّ بالوصايا العشر هم كل المؤمنين سواء من أهل الكتاب أو الذين آمنوا برسالة خاتم الرسل عليه السلام. وبهذا، تكون الشريعة أخص من الدين، لأن تصديق كتاب محمد عليه السلام لما بين يديه من الكتاب، برغم تعدد الرسل والرسالات، جاء ليؤكد الأصل الواحد للشريعة المستمدة من أم الكتاب – ما يعني، أن شريعة محمد هي مجموع وصايا الله تعالى لأنبيائه ورسله عليهم السلام جميعا، وأن الاختلاف هو في بعض الأحكام التفصيليّة الفرعيّة والظرفيّة التي لا ترقى للمحكمات، والتي تم نسخها في القرآن الكريم مقارنة بالرسالات السابقة، لتغيّر الظروف والشروط والأحوال وانقضاء مصلحة الحكم المُستنسخ، وهو ما لم يعجب الفقهاء الذين أصرّوا على التشبث بالمتشابه لنسخ ما هو محكم، فقالوا بالنسخ من داخل القرآن الكريم نفسه، وهذا لعمري هو عين العبث. ذلك أن نسخ بعض الأحكام الجزئية في القرآن وفق ما يستفاد من السياق الذي وردت فيه كلمة "نسخ" له علاقة بالكتب السابقة لا بما نزل على محمد من وحي خلال مرحلة الرسالة بين مكة والمدينة. لأنه لو أخذ الباحث بمزاعم الفقهاء حول الناسخ والمنسوخ، لاكتشف أن الفقهاء استبدلوا شريعة الله بشريعتهم، واختزلوا الدين في مذاهبهم، فحوّلوه إلى نسخ مشوّهة إلى أقصى الحدود عن الإسلام السمح الجميل، وهذا هو عين العبث تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. نقول هذا لأنك لو أخذت بمنطق الناسخ والمنسوخ الذي اعتمده الفقهاء لاكتشفت أن سورة السيف (براءة) التي نزلت بدون بسملة قد نسخت سور القرآن الأخرى كلّها جملة وتفصيلا، وألغت كل تعاليم المحبة والعفو والتسامح والتعايش بين الناس أقواما وشعوبا وقبائل باختلاف أعراقهم وعقائدهم وقناعاتهم وتوجهاتهم التي هي غنى لكل مجتمع وشرط أساسي لتقدّمه بما تشكّله من تنوّع، وهو ما لا يتناسب ومذهب الأصوليين المتطرّفين الذين استباحوا دماء المخالفين لهم زورا وبهتانا بناء على فهمهم السّطحيّ والخاطئ للمراد من خطاب الله تعالى لعباده كافّة.

وعودة إلى تفسير معنى قوله تعالى (لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) نقول، أنه إذا كانت الشرعة وفق المعنى اللغوي القديم تعني الطريق العام الذي يمر منه الماء من أعلى إلى أسفل كما سبق القول، فالمنهج بالتالي هو المسلك الذي يسلكه الماء في طريقه إلى مصبه متجاوزا بذلك كافة العقبات التي تعترض طريقه. وبذلك يكون الله تعالى قد شرّع لعباده كافة دينا واحدا سماه الإسلام، لكنه وضع لهم مسالك مختلفة (شُعب)، كل حسب اختلاف زمانه وتنوع استعداداته، ليبلوهم جميعا فيما آتاهم كما توضح ذلك نفس الآية بجلاء: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم) المائدة: 48. ويذكر الله تعالى فيما له علاقة بأحكام الحلال والحرام، أنه لم يُحرّم على بنو إسرائيل بادئ ذي بدأ من شيء إلا ما حرّمه إسرائيل على أنفسهم، لقوله تعالى: (كلّ الطعام كان حلاّ لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) آل عمران: 93. وإسرائيل هو نبي الله يعقوب كما هو معلوم، أما ما حرّم الله عليهم من طيّبات بعد ذلك في التوراة، فلم يكن بسبب نوع الطعام، بل بسبب ظلمهم وصدّهم عن سبيل الله والبهتان الذي قالوه في مريم عليها السلام وغير ذلك كثير، فكان بعض التحريم بمثابة عقاب استثنائي لهم، لذلك تحدّاهم الله أن يأتوا بالتوراة فيتلوها إن كانوا صادقين، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليه طيّبات أحلّت لهم وبصدّهم عن سبيل الله) النساء: 160، وتوضح هذه الآية الأخيرة سبب التحريم الاستثنائي الوارد في التوراة والمشار إليه في الآية 93 من سورة آل عمران. 

هذا المعنى العام للشرعة والمنهاج الذي ذهبنا إليه، هو ما قال به الصوفية أيضا، فعبّروا عنه بما يفيد، أن الطريق إلى الله هي الصراط المستقيم، أي الوحي الذي نزل على رسله كافة وجمعه في القرآن الكريم ثم سمّاه حبل الله المتين وأمر عباده بالاعتصام به، وعلى هذا الطريق المستقيم يمضي الخلق كافة طوعا أو كرها بحكم الفطرة، ما دام الله ماسك بناصية عباده ولا هروب منه إلاّ إليه لقوله تعالى: (إني توكّلت على الله ربّي وربّكم ما من دابّة إلاّ وهو آخذ بناصيتها إن ربّي على صراط مستقيم) هود: 56. أما المسالك، فتختلف بعدد أنفاس الخلائق ما دام لكل أنسان مسلكه الخاص الذي يسلكه في حياته فيُمتحن ويُحاسب على أساسه لقوله تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة) المدثر: 38، وقوله أيضا: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) النجم: 39. ومثل ذلك بالتعبير الصوفي كمسافر في بحر بلا شاطئ، تتقاذفه رياح الأهواء وتيارات المسارات، ولا يملك إرادة التّحكّم في اتّجاهه إلا بقدر ما له من حرية التّحكّم في أنفاسه.

وهذا يعني أن الإنسان إذا فقد حُرّيته فقد كرامته فسقطت قيمته، وأصبحت تجربته الأرضية بلا معنى في حال صادر لصوص الدين إرادته، وسيطروا على عقله، وفرضوا أنفسهم أوصياء على عقيدته وإيمانه، وحرموه من حُرّيّة الاختيار، فيتحول الدين بالتالي من رحمة ونعيم إلى عذاب وجحيم.

أمم مختلفة وملّة واحدة:

وحيث أن الله تعالى وإن كان قد جعل الناس أمما مختلفة تتعاقب على وراثة الأرض بحكم قانون الصيرورة والتطور، إلا أنه فرض عليها جميعا دينا واحدا سمّاه "الإسلام" كما سبق بيان ذلك، لتكون العبادة لله دون سواه، ولم يفرّق بين رسله، وأمر الجميع باتباع ملّة أبو الأنبياء والرسل إبراهيم الخليل صاحب الوعد والعهد عليه السلام حيث وصفه تعالى بأنه كان أمّة جامع لكل الأمم. ودليل ذلك قوله تعالى:

- (قالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قولوا آمنا بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيؤون من ربّهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) البقرة: 135 - 136.

- (قل آمنّا بالله وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيؤون من ربّهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلا يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران: 84 – 85.

- (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون نومن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتّخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقّا واعتدنا للكافرين عذابا مهينا * والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرّقوا بين أحد منهم أولئك سوف نوتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما) النساء: من 150 إلى 152.

- (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مّات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) آل عمران: 144.

- (ما المسيح ابن مريم إلاّ رسول قد خلت من قبله الرّسل وأمّه صدّيقة كانا يأكلان الطّعام انظر كيف نبيّن لهم الآيات ثمّ انظر أنّى يؤفكون) المائدة: 75.

- (قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ وما أنا إلاّ نذير مبين) الأحقاق: 9.

وحيث أن الأمر هو كما بيّنه الله تعالى من حيث وحدة الدين والأحكام العامة للشريعة، فكيف يعقل أن يختلف المسلمون في الصلاة؟ هذا علما أن مناسك العبادات سبق وأن فرضها الله على إبراهيم الخليل، وأمر جميع الرسل والأنبياء عليهم السلام والمؤمنين من أقوامهم باتباع ملّته (أي طريقته)، وهو الذي لم يصفه تعالى عبثا بأنه كان لوحده أمة كما سبق القول، ما يعني أنه رمز لأمة المسلمين في كل وقت وحين، وبمعنى أدق، أن طريقته (ملّته) هي التي تُعتبر دون غيرها طيلة الزمن الأرضي الذي تمثله التجربة البشريّة في الحياة الدنيا بالمفهوم الفيزيائي والتي لا تعدو عن كومها يوم أو بعض يوم بمفهوم الزمن القدساني. 

يتبـــع ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق