بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 يناير 2023

الصلاة بين السنة والقرآن.. (10/6)

 

(قل إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين)

- الأنعام: 162 -

كيف تم التأصيل للصلاة الحركية من المأثور؟

من المقولات التي يطالعنا بها الفقهاء لإثبات صحة زعمهم كلما تعلق الأمر بقضية دينية تتطلب إعمال العقل في تدبّر القرآن، مقولة "إجماع العلماء"، وهو ما يكذبه الأثر جملة وتفصيلا، ناهيك عن تعارض ما يدّعونه مع ما ورد بشأنه من حقائق في التنزيل الحكيم، وهو ما لم يجدوا من سبيل لتجاوزه غير إعمال قاعدة الناسخ والمنسوخ التي ابتدعوها فنسخوا بها ما طاب لهم من أحكام قطعية الثبوت واضحة الدلالة واستبدلوها بأخرى لا علاقة لها بالدين بقدر ما هي من مجال الكهنوت.../...

فمثلا بالنسبة للصلاة المفروضة يقول فقهاء السنة والجماعة أن العلماء أجمعوا على أن الصلوات الخمس فرضت بالطريقة التي تُؤدّى بها ليلة الإسراء والمعراج، أي ليلة 27 من رجب من دون وجود معطى تاريخي واحد يثبت ذلك، هذا فيما ينفي القرآن الكريم هذا الزعم جملة وتفصيلا، والسبب أن الفقهاء تعاملوا مع الدين بشكل تجزيئي، بحيث اعتبروا الإسلام غير اليهودية وغير المسيحية فاختلقوا انطلاقا من سنة ابتدعوها نسخة مختزلة ومشوهة عن الإسلام تبدأ بعهد الرسول محمد عليه السلام وتتجاهل ما قبله، فيما القرآن يتحدث عن إله واحد هو رب العالمين، ودين واحد لكل الأمم، وعقيدة توحيد واحدة لكل البشر، ومناسك مشتركة، مع اختلاف طفيف في الشرائع بحكم التطوّر والصيرورة.

وبهذا المعنى لا يمكن الحديث عن صلاة فرضت زمن الرسول محمد عليه السلام وتجاهل ما قبله، خصوصا وأن كل المناسك حسب القرآن الكريم فرضت زمن أب الأنبياء والرسل وصاحب العهد والوعد إبراهيم الخليل عليه السلام، لذلك أمر الله تعالى رسوله الأعظم باتباع ملّة إبراهيم بقوله: (قل إنني هداني ربّي إلى صراط مستقيم دينا قيّما ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) الأنعام: 161. وقوله تعالى لمن يرغب في اتباع ملّة غير ملّة أبراهيم: (ومن أحسن دينا ممّن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملّة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا) النساء: 125. والملّة لغة هي الطريقة والمسلك في العبادة المعبر عنهما بالصراط المستقيم، و"الضّالّين" الواردة في آخر سورة الفاتحة هي الصفة التي وسم بها الله تعالى من حاد عن صراطه المستقيم. وبالتالي، لم يأمر الله تعالى الرسل والأنبياء بوضع سنن خاصة بهم لأقوامهم لسبب بسيط، وهو أن إبراهيم عليه السلام كان أمة لوحده فأمر تعالى عباده كافة باتباع ملّته لقوله: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين) النحل: 120. 

ومعنى المعنى أن إبراهيم الخليل عليه السلام اصطفاه الله ليكون الإمام الأعظم المقتدى به عبر الدهور والعصور في العقيدة والطاعة والعبادة بعيدا عن إيديولوجيات الطوائف والأحزاب والمذاهب، لأن إبراهيم الخليل عليه السلام لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا سنيا ولا شيعيا ولا يمينيّا ولا يساريّا بل كان مسلما حنيفا، شاكرا لأنعم الله، فهداه تعالى إلى صراطه المستقيم، وأطلعه على أسرار ملكوته بما لم يطلع عليها أحد من الرسل والأنبياء غيره، لقوله تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) الأنعام: 75، والملكوت كما هو معلوم من مجال عالم الغيب لا عالم الملك، وهو العالم الذي لا يحصل للإنسان اليقين بوجوده إلا بعد الموت، لقوله تعالى للمؤمن (واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين) الحجر: 99، وقوله تعالى على لسان المجرمين: (وكنّا نكذّب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين) المدثر: 46 – 47، وقوله لمن ألهاهم التفاخر بما كسبوا في الحياة الدنيا وانشغالهم بهمّ تكاثر الأموال والأولاد والأعضاء عن ذكر الله وفعل الخير: (كلاّ لو تعلمون علم اليقين * لترونّ الجحيم * ثم لترونّها عين اليقين * ثم لتسألنّ عن النعيم)  التكاثر: من 5 إلى 8.

أما كيف أصبح المسلمون يُصلّون الصلوات الخمس بالطريقة المتواترة منذ عصر كتابة الحديث وإلى يوم الناس هذا؟ فقد استغل الفقهاء جهل العامة وعدم تمسّكهم بكتاب الله بسبب الجهل والأمية، فابتدعوا لهم طقوسا غريبة لم يشرّعها القرآن، مستندين في القول بشرعية الصلوات الحركية الخمسة على حديث رواه أنس ابن مالك بعد مرور  182 عام على وفاة الرسول عليه السلام، أورده البخاري تحت رقم: 342 و349 وأورده مسلم تحت رقم 162، يؤكدان فيه أن الصلاة فرضت على الرسول عليه السلام ليلة الإسراء والمعراج، وكانت خمسون صلاة أول الأمر، خففها الله على محمد بنصيحة من نبي الله موسى عليهما السلام إلى خمس صلوات مع الحفاظ على نفس الأجر كما هو مبيّن في الحديث المذكور لمن أراد الرجوع إليه. وقد أجمع العلماء على أن الصلوات الخمس لم تفرض إلا في هذه الليلة (فتح الباري لابن رجب: 2/104). وجاء في (تفسير ابن كثير: 7/164) ما نصه: "فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف، فرض الله على رسوله عليه السلام الصلوات الخمس، وفصّل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك شيئا فشيئا". انتهى الاقتباس.

لقد سبق وأن فصّلنا القول في هذا المبحث حول أسطورة الإسراء والمعراج بالأدلّة التاريخية والقرآنية أيضا، وقلنا أن المسجد الأقصى لم يكن موجودا في عهد الرسول عليه السلام ليُسري إليه ومن ثم يعرج إلى السماء، كما أن الله أكد في أكثر من سورة وآية رفضه أن يدعم دعوة رسوله الأعظم بالمعجزات نزولا عند رغبة قريش باستثناء القرآن الذي تعتبر آياته كلّها معجزات من حيث المبنى والمعنى، وأكد عليه السلام بما لا يدع مجالا للشك أنه مجرد بشر اختاره الله ليكون رسولا، وأنه ليس بملك، ولا يعلم الغيب، ولا يملك خزائن الأرض، وبالتالي، فهل نُصدّق الله ورسوله أم نصدّق الفقهاء؟ هذا علما أن الفقهاء اختلفوا اختلافا كبيرا في رواية القصة بين قائل بأن الإسراء والمعراج كان مجرد رؤيا وهو قول عائشة ومعاوية، وبين قائل أنه تم بالروح والجسد وهو قول ابن عباس الذي كان طفلا لم يبلغ الحلم حينها ولم يسمع من الرسول ولو حديثا واحدا لأن عمره كان 12 سنة حين مات النبيّ عليه السلام. وواضح أن الفقهاء ابتدعوا خرافة الإسراء والمعراج لأنهم كانوا بحاجة إلى سيرة على غرار سيرة اليهود والنصارى في إطار التنافس الذي كان قائما بين العقائد، كما أن الغرض من القصة بالأساس كان ولا يزال هو إفزاع الناس وبث الرعب في قلوبهم بسبب المشاهد المهولة التي نسجوها حول المعراج من وحي الميثولوجيا القديمة عند الإغريق والفرس والهنود واليهود والنصارى وغيرهم، وذلك لدفع الناس بالإرهاب الفكري للخضوع لهم كما فعل بولس الرسول عندما ابتدع أقوالا ترعب المؤمنين ونسبها للمسيح عليه السلام ثم قال أن هدفه هو نصرة المسيحية بتخويف الناس من العذاب، وكأن ما ذكره الله تعالى عن عذاب الآخرة في الجحيم لم يكن كافيا.

والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: إذا كان الله تعالى قد فصّل في القرآن الكريم شروط وأركان كل العبادات ولم يترك من شيء إلا وبيّنه كما يقول في قرآنه، فلماذا لم يفعل ذلك بالنسبة للصلاة وتركها لتشريع الفقهاء باسم سنة ابتدعوها ونسبوها زورا وبهتانا لرسوله الكريم؟  

الجواب واضح ولا يحتاج لكثير ذكاء، وهو أن الله سبحانه وتعالى الذي لم يفرّط في الكتاب من شيء، وفصّل فيه كلّ شيء، لم يفرض على المؤمنين الصلوات الحركية الخمسة بنفس الطريقة التي زعمها الفقهاء. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المسلمين آخذوا دينهم عبر العصور والدهور من الفقهاء لا من كتاب الله.

والمثير للاستغراب وجود حديث آخر رواه البخاري تحت رقم 3935 ومسلم تحت رقم: 685 عن عائشة أنها قالت: "فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبيّ عليه السلام ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الأولى" (أي ركعتين). لكن عائشة كما البخاري ومسلم لم يوضّحوا متى فرض الله الصلاة ركعتين، هذا علما أن النبي كان يصلّي في مكة بها، ويتعلّق الأمر بنفس الصلاة التي فرضها الله تعالى على الأنبياء والرسل والأمم السابقة منذ زمن إبراهيم الخليل عليه السلام كما سبق القول، ولا يجود نص في القرآن الكريم يشير إلى تغيير طريقتها أو عدد ركعاتها أو أوقاتها باستثناء ما ورد بشأن قيام الليل، حيث قال الإمام الشافعي: "سمعت ممّن أثق بخبره أنّ الله أنزل فرضا في الصلاة، ثم نسخه بفرض غيره، ثم نسخ الثاني بالفرض في الصلوات الخمس"، وهو حديث غريب يُكذّبه القرآن ما دام لا وجود في كتاب الله لآية تنسخ ما قال به الشافعي بالنسبة للفرض وبالتالي فما رواه هو بالسماع عن شخص يثق في أخباره روى له هذا الخبر بعد قرنين من نزول القرآن دون أن يذكر اسم الراوي. ثم يضيف الإمام الشافعي في تأويل تعسّفي لجعل حكم النافلة ينطبق على الفرض في الصلاة فيقول: وكأّنّه يعني قول الله عزّ وجلّ (يا أيها المزمّل قم الليل إلا قليلا ونصفه أو أنقص منه قليلا) ثم نسخها في السورة بقول الله جلّ ثناؤه: (إن ربّك يعلم أنّك تقوم أدنى من ثلث الليل ونصفه – إلى قوله – فاقرءوا ما تيسّر من القرآن)، فنسخ قيام الليل أو نصفه أو أقلّ أو أكثر بما تيسّر وما أشبه ما قال بما قال" (الموسوعة الفقهية: 27/ 52 – 53) و (الذخيرة للقرافي: 2/8). وواضح أن التخفيف الذي جاء في الآية الكريمة لا يعني نسخ صلاة النافلة، بل التخفيف من قيام الليل بالذكر والتسبيح واختصار ذلك في قراءة ما تيسّر من القرآن فقط رأمة بالرسول والمؤمنين. 

وقد ورد في تفسير الطبري عن قتادة أنه قال: "كانت الصلاة ركعتين في الغدوة وركعتين في العشيّة) (تفسير الطبريّ: 3/501). والطبري هو أقرب المفسرين لفترة الرسول عليه السلام وأكثرهم حرصا على التحرّي لإظهار الحقائق بما توفّر له من معطيات في زمانه. 

وقال ابن كثير في تفسيره (3/538): "أن جماعة من أهل العلم أثبتوا فرض مطلق الصلاة قبل الإسراء" أي في مكة، انظر أيضا: (التمهيد لابن عبد البرّ: 8/35)، و (البحر الرائق لابن نجيم: 1/257). لكن وبرغم هذا الإقرار لم يشر ابن كثير ولا من نقل عنهم إلى متى فرضت هذه الصلاة التي كان الرسول يصلي بها في مكّة؟

وذكر ابن كثير في تفسيره: (7/164) بصيغة الظن الذي لا يغني من الحق شيئا كما يقول تعالى في محكم التنزيل، ما نصه: "لا يبعد – بمعنى احتمال -  أن يكون أصل الزكاة الصدقة كان مأمورا به في ابتداء البعثة ، كقوله تعالى : ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) الأنعام:141 ، فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بَيَّن أمرها بالمدينة، كما أن أصل الصلاة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة ، فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف، فرض الله على رسوله - عليه السلام -  الصلوات الخمس، وفصّل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك، شيئا فشيئا" - انتهى الاقتباس - وواضح أن ضمير "فصّل شروطها وأركانها" في نص ابن كثير يعود إلى الله، غير أن القرآن لا يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد، حيث لم يأتي على ذكر الصلوات الخمس ولم يفصّل شروطها وأركانها كما حاول ابن كثير الإيهام تعسّفا بذلك.

والحقيقة أنه لا يسع المقام هنا للحديث عن الصلاة من المأثور بكل تفاصيلها لما يحمله التراث من تناقضات بل ومن عبث لا يقبله العقل ويشمئز منه القلب، فعلى سبيل المثال، ها هو البخاري يتحدث عن صلاة الرسول عليه السلام وأصحابه بالتفصيل المملّ دون سند من قرآن يُعتدّ به، كما لو أن الرسول وأصحابه طبّقوا شروط وتفاصيل الصلاة من كتاب البخاري بدل القرآن الكريم. 

وبالرغم من أن البخاري يعترف أن الناس تعلّموا الصلاة بالتواتر (أي على طريقة دين الآباء والأجداد التي نهى الله عنها في أكثر من سورة وآية)، إلاّ أنّنا نجده يقول في حديث غريب: "إن المرأة مأمورة بالصلاة حتى لو كانت حائض والدّم يخرج من تحتها وهي تصلي"، ثم نجده في حديث آخر ينهى المرأة كلّيا عن ذلك (كتاب البخاري – باب الصلاة ص: 853)، والسبب كما هو معروف أن المرأة في عرف فقهاء القشور مخلوق ناقص عقل ودين بل وكائن نجس. وبالرغم من أن البخاري يقول إن الرسول عليه السلام صلّى الظهر والعصر أربع ركعات إلا أنه في حديث آخر يناقض نفسه ويشكك في عدد الركعات التي صلّى بها فيقول: "إن الرسول صلى في البطحاء – بالمدينة – الظهر والعصر ركعتين ولم يكن مسافرا"، هذا فيما القرآن لا يذكر شيئا عن صلاة الظهر أو العصر (نفس المرجع ص: 133). ثم يقول في (باب الصلاة – ص: 169) أن الرسول عليه السلام صلى الصبح أربع ركعات. وفي الصفحات: 143 – 144 يقول إن الرسول صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء 7 و8 ركعات (هكذا). وفي حديث رواه عن عائشة في باب (يردّ المصلّي - الصفحات 135 و136) يقول: "من مرّ أمامك وأنت تصلّي فقاتله". وفي حديث عن عائشة: "أن الحمار والكلب والمرأة يقطعون الصلاة"، لكن في حديث آخر مناقض له تقول عائشة: "إن الرسول كان يصلي وهي نائمة بينه وبين القبلة". وفي حديث غريب يقول البخاري: "أن الرسول عليه السلام كان يرى المصلين من وراء ظهره ولا يخفى عليه ركوعهم وخشوعهم" (نفس المصدر ص: 188 -189). ولك أن تتخيّل أيها المسلم إن كان الرسول يخشع في صلاته أم يهتم بمراقبة من لا يركع ويخشع من وراءه؟.

والغريب في الأمر، أن الله تعالى جعل في القرآن الكريم لكل معصية كفّارة باستثناء الصلاة لم يجعل لها ذلك لسبب بسيط وهو أنه لم يشرّعها بالطريقة التي قال بها الفقهاء، لكن الأخطر من ذلك، أنهم جعلوا لتاركها عقوبة ما أنزل الله بها من سلطان، حيث قالوا "بكفر تاركها وقتله وأكل لحمه لكن من دون طبخها أو شيّها لما فيها من حرمة" (هكذا)، وهذا ما ورد على سبيل المثال في كتاب: (الاقناع في حل الفاض أبي شجاع للصف الثالث الثانوي ص: 256 - الأزهر الشريف - قطاع المعاهد الأزهرية - الإدارة المركزية للكتب والمكتبة ووسائل تعليمية)، وقد استند القائلين الأزهريين بهذا الحكم الغريب على قوله تعالى: (فويل للمصلّين * الذين هم عن صلاتهم ساهون) الماعون: 4 – 5. هذا بالرغم من أن الآية تتحدث عن "السّهو" الذي يعني النسيان والغفلة لا الإنكار والجحود، ناهيك عن أن الصلاة المذكورة في الآية تعني المنافقين الذين يراؤون الناس ويمنعون الماعون ولا يحضون على طعام المسكين ويدعّون اليتيم وبالتالي، اعتبرهم تعالى من المكذبين بالدين. وقد اختلف المفسرون بين قائل بأن الأمر يتعلق بمن ترك الصلاة استخفافا وكسلا، وبين قائل بأن الأمر يتعلّق بترك الصلاة عمدا مما يعتبر كفرا. وبغض النظر إن كان الأمر يتعلق بالصلاة المفروضة لأن السورة من أوائل ما تنزل على الرسول في مكة، فكيف يعقل أن يكفّر ويقتل من ترك الصلاة عمدا أو سهوا وهو ينطق الشهادتين؟ وماذا نفعل بقوله تعالى لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إن الله غني عن العالمين؟.. ثم من وكّل هؤلاء الفقهاء حرّاسا على عقيدة الناس التي هي شأن من مجال الله تعالى دون سواه، هو أعلم بمن ضلّ وأعلم بمن اهتدى كما يقول في قرآنه؟. 

والمصيبة أنه وبرغم ما سلف ذكره ها هو الشافعي يقول: "إن تارك الصلاة يُقتل حدّا"، وكذلك أحمد بن حنبل يقول: إن "تارك الصلاة كافر كفرا مخرجا من الملّة وأنه يقتل إذا لم يتب ويُصلّي". ويقول ابن حزم في رواية نقلها عن عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وابن ‏مسعود،‏ وعن ابن المبارك، وأحمد بن حنبل، ‏وإسحاق بن راهويه، وعن تمام سبعة عشر رجلاً من الصحابة والتابعين ‏كما يزعم، أن: "من ترك صلاة فرض عامداً ذاكراً حتى يخرج وقتها، فإنه كافر ‏ومرتد". فيا للهول، الرجل ينسب هذا القول لصحابة كبار ورجال يعتبرون من التقاة ليجزم بأن من "أخّر" وليس من "ترك" فرض واحد من الصلاة عن وقتها فهو كافر يطبق عليه حد الكفر حتى لو صلاّها بعد ذلك في وقت آخر غير وقتها.   

ولم يخرج ابن عباس عن هذا الحكم، فهو بدوره يقطع بأن "من ترك الصلاة فقد كفر" وفق ما رواه المروزي في تعظيم قدر الصلاة، والمنذري في الترغيب والترهيب، وعن جابر بن عبد الله أنه قال: "من لم يصل فهو كافر" رواه ابن عبد البر في التمهيد (4/226) والمنذري في الترغيب.

بل وهناك من الفقهاء من أمثال الفقيه السني الشافعي أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري البغداديّ الذي عاش في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري الذي ذهب حد القول في إحدى فتاويه الشهيرة: أن "تارك الصلاة يقتل بعد الاستثابة ثلاثة أيام بلياليها كفرا ويصنع به كسائر الكفار من مواراة جثته، ولا يُغسّل ولا يُكفّن ولا يُصلّى عليه ولا يُدفن في قبور المسلمين". ويضيف أيضا: "ولا توارى جثته في التراب بل يلقى على المزابل" (هكذا بلا كرامة ولا إكرام للميت ليتسبب تحلّل جثته في المزبلة في أمراض خطيرة يعابر الدفن حلاّ صحّيا وعمليّا لتلافيها). وها هو أيضا الفقيه الحنبلي أحمد بن سالم السفاريني الذي يزعمون أنه عالم بالحديث والأصول والآداب، ويعتبرونه من كبار المحققين في سيرة الرجال يقول في إحدى فتاويه بسادية منقطعة النظير: أن "تارك الصلاة يقتل بعد ثلاثة أيام حتى لو تاب" (هكذا). 

وإذا كان ما رُوى من أحاديث يصنّف في باب السنّة نسبة لسنّة الرسول عليه السلام، بذريعة أن السنّة هي أيضا وحي يوحى، فهل يعقل أن يوحي الله لرسوله أحكاما لم يشرّعها في قرآنه والله تعالى يقول في محكم التنزيل: (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثمّ لقطعنا منه الوتين) الحاقة: من 44 إلى 46.؟.. هذا قول خطير من رب العالمين يؤكد فيه أن الرسول الكريم لو تقوّل على الله غير ما أرسله به لعباده لأخذه بقوة وقتله دون مواربة ولا أحد يستطيع أن يحجبه من عقوبة الله وهلاكه. 

- وإذا كان الأمر هو كما يؤكد تعالى في الآية الكريمة السالفة الذكر، فكيف للمؤمن أن يؤخذ بأقوال الفقهاء التي نسبوها للرسول الكريم دون أن يُشرّعها صاحب الدين في كتابه المجيد؟

- وبأي نص من تنزيل يكفّرون تارك الصلاة أو من أخّرها لغير وقتها ويقطعون بوجوب تطبيق حد القتل عليه لأنه كفر وخرج من الملّة وفق زعمهم؟.. 

نقول هذا لأن الصلة مع الله ليست من شأن العباد بل هي حق إلهي بين العبد وربّه، وهو من يعاقب أو لا يعاقب على تركها أو تأخيرها، وليس للفقهاء الحق في التشريع مع الله وإلا أصبحوا شركاء له في الدين، خصوصا وأنهم كلّما شرعوا للناس حكما مخالف للقرآن إلاّ ونسبوه زورا وبهتانا للرسول الأعظم عليه السلام وقالوا أن السنّة تنسخ القرآن، وهذه انتكاسة فكرية ودينية خطيرة أدّت إلى ما هي عليه الأمة اليوم من ضلال، لدرجة أنها استبدلت دين الله بدين الفقهاء.

والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: 

هل السنة تنسخ القرآن؟

يقول من يُسمّون أنفسهم بأهل العلم ومنهم الشيخ الشنقيطي في (الأضواء)، أن الصواب جواز نسخ السنّة للقرآن، ذلك لأن كلا من السنة الثابتة تواترا أو آحادا تعتبر وحيا" وفق زعمه. ومثال ذلك نسخ آية وردت بأمر "كتب عليكم" بحديث منسوب للرسول، بالرغم من أن أمر "كتب عليكم" يعتبر من مقتضيات الإيمان كما هو الحال بالنسبة للصلاة والصيام والقتال والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك ممّا لا يستقيم الإيمان إلا به، والآية المستهدفة بالنسخ هي: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف) البقرة: 180، وقد تكرر هذا الأمر بنفس الصيغة في سورة المائدة الآية: 106، أما الحديث الذي نسخ هذا الأمر فيقول: "لا وصيّة لوارث". هذا بالرغم من أن الله تعالى كرر في المواريث صيغة (بعد وصيّة يوصي بها أو دين) 6 مرّات كالتالي: مرّة في سورة البقرة: 240، ومرّة في سورة النساء: 11، وأربع مرات في سورة النساء: 12. وكل هذه المرات ألغيت بحديث يتيم يعتبر من أحاديث الآحاد، وهذا قمّة العبث.. ذلك أن الوصية كما الدين وفق ما يفهم من الآيات الكريمة هما الأصل كما هو معمول به من قبل العالمين في كل مكان، ما دام الإنسان حرّ في ملكه له الحق في أن يتصرف فيه في حياته بالهبة أو الصدقة أو أن يوصي به لأقاربه سواء تعلّق الأمر بالوالدين أو الأولاد أو غيرهم، هذا فيما الاستثناء هو أن لا يترك وصيّة فتطبّق حينها قسمة المواريث، وواضح أن الفقهاء بتحريمهم للوصيّة في حقّ المقربين يكونون قد ألغوا القاعدة الأساس التي أمر بها تعالى واستبدلوها بالاستثناء، هذا علما أن الوصية والدّين مقترنين في نفس الأمر لكنهم تجاهلوا ذلك فألغوا الوصيّة وتركوا الدّين دون أن يقدّموا لقولهم هذا تفسيرا منطقيا يقنع العقل ويرتاح له القلب من كتاب الله باستثناء حديث مكذوب على رسول الله.

وهناك أيضا الآية التي تشرّع جواز المتعة ونصّها: (فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضة) النساء: 24، حيث قال أبو عمر في (الاستذكار): "أن العلماء من السلف والخلف لم يختلفوا في أن المتعة بالتعريف هي: "نكاح لأجل من دون حق في الميراث وأن الفرقة تقع عند انقضاء الأجل من دون طلاق - كما هو حال كل عقد ينتهي بانتهاء الأجل المتفق عليه - وليس هذا من حكم الزوجة الشرعية أو ملك اليمين، وقد نزعت عائشة والقاسم بن محمد وغيرهما في تحريمهما". وبذلك لم يعد الحديث المنسوب للرسول هو من ينسخ القرآن بل حتى حديث عائشة وغيرها من المتقوّلين على الله ورسوله يمكن أن ينسخ آية من آيات القرآن الكريم، وقد ذهب ابن مسعود حد القول أن: "المتعة منسوخة بالطلاق والعدة والميراث، وأكّد غيره كالثوري عن داود بن أبي هند عن سعيد بن السيّب أنه قال: "نسخها الميراث". وقيل أيضا في تناقض مع ما سلف وتجاهل تام للآية 24 من سورة النساء، أن المتعة "أبيحت بالسُّنّة ونُسخت بها" كما أخرج ذلك مسلم في "صحيحه" عن الربيع بن سبرة عن أبيه عن رسول الله الذي نهى يوم فتح مكّة عن متعة النساء. وفي رواية أخرى أن الرسول عليه السلام قال: "يا أيها الناس: إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئا". وهذا يعني أن الرسول تجاهل الآية: 24 من سورة النساء ونسب التشريع لنفسه لا إلى الله، وهو قول مردود على أصحابه لأن الرسول عليه السلام لم يكن يحلل أو يحرم شيئا إلا بعد أن يأتيه الوحي، ولم يذكر الله تعالى أنه فعل شيئا من ذلك من خارج الوحي.

أما الفقيه النووي فقد قال في شرحه لهذه الأحاديث: " الصواب المختار أن التحريم والإباحة للمتعة كانا مرتين، فكانت المتعة حلالا قبل غزوة خيبر، ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح مكة، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريماً مؤبداً إلى يوم القيامة، واستقر تحريمها". وهو بذلك يُكذّب الحديث الذي يقول إن الرسول حرم المتعة يوم فتح مكة ويجزم بأنه أباحها يوم الفتح، فما هذا التناقض الذي وصل حد العبث؟. أمّا ابن بطّال فقال في شرح البخاري: "واتفق فقهاء الأمصار من أهل الرأي والأثر على تحريم نكاح المتعة"، وبالتالي، فالتحريم هنا بُني على أساس الرأي ولا وجود لنص قرآني يُحرّم ذلك، بل العكس لا زالت الآية 24 من سورة النساء تعتبر عند الشيعة مثلا من المحكمات في شأن التشريع لزواج المتعة، والرسول عليه السلام لا يستطيع تحليل أو تحريم شيء دون أمر واضح من السماء بدليل قوله تعالى: (يا أيها النبيّ لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم) التحريم: 1، وهو خطاب من ربّ العالمين لنبيّه الكريم مشوب بعتاب يستنكر عليه تحريم ما أباح الله له مرضاة لزوجاته، والأولى له أن يرضي الله دون سواه في مسألة خطيرة كالتحريم الذي هو شأن من مجال الله دون سواه.  

والحقيقة أن القول بنسخ الحديث للقرآن يعني اعترافا ضمنيّا بأن الحديث أحسن من القرآن ومقدّم عليه، وهو قول خطير وانتكاسة دينية كبيرة لم تستطع الأمة النهوض من وطأتها ولا أن تتجاوز تداعياتها الكارثية إلى اليوم، خصوصا بعد أن أصبح المأثور عن السلف الذي لم يكن كلّه صالحا يُشكّل بديلا عن وحي السماء كما حدث مع اليهود والنصارى من قبل، برغم أن مصادر الحديث متعددة ومضامينها مختلفة بل ومتضاربة حد التعارض، فيما مصدر القرآن واحد كما هو معلوم. 

وبسبب ذلك لم يجد فقهاء القشور من سبيل لتجاوز آيات الله البيّنات بعد أن استنفذوا خزّان الحديث المتهافت غير القول بأن القرآن ينسخ بعضه بعضا، وكأن الله لا يثبت على قول سبحانه وتعالى عما يصف الجاهلون، وهو القائل: (ما يُبدّل القول لديّ وما أنا بظلاّم للعبيد) ق: 29. أما استنادهم في تبرير ذلك على قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) البقرة: 106، فقد تم استئصالها من سياقها لتحميلها ما لا تحتمل من معنى، ذلك أن نص الآية حين توضع في سياقها بتدبّر ما سبقها نجدها تدلّ دلالة قاطعة لا لبس فيها على أن النّسخ لا يتعلق بالقرآن نفسه – أي من داخله – بل بنسخ بعض الآيات والأحكام التي جاءت في الكتب السابقة وخاصة التوراة، فاستبدلها تعالى بأحسن منها أو مثلها لكن مع تعديل بسيط يناسب التطوّر والصيرورة.

وخلاصة القول، أن المسلم إذا أخذ بمنطق الفقهاء المتهافت فسيصل حتما إلى نتيجة نهائية قاطعة حاسمة بل وصادمة مفادها: أن آية السيف المسمّاة "براءة" قد نسخت القرآن كله. وبذلك تكون الأمة بسبب أُمّيتها وهجرها لكتاب ربّها قد آمنت (إلا من رحم الله) بكتاب البخاري ومسلم وغيرهما من فقهاء القشور وعلماء الرسوم ومجوس الأمة كما وصفهم الرسول الأعظم عليه السلام وفق ما أورده الإمام الغزالي في (الإحياء – باب العلم والعلماء)، وذلك بدل الإيمان بما أنزل الله تعالى في القرآن الكريم وقال عنه أنه الحق وبالحق نزل.

هذا غيض من فيض، وإذا لم يكن ما سبق يمثل قمّة الاستهزاء والسخرية بالدين ممّا يتوجّب استنكاره وفضحه، فلا عجب أن نكتشف اليوم أن ما جاء به البخاري وغيره لا يعدو عن كونه نسخة مشوّهة إلى أقصى الحدود عن الدين السمح الجميل الذي أنزله الله تعالى على رسوله الكريم وأمره وأمّته باتّباعه، لكن ما حصل للأسف، أن أمة محمد عليه السلام اتّبعت دين الفقهاء بدل دين السماء.

والسؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة هو: من نصدّق؟: كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه؟.. أم الأحاديث المكذوبة على الرسول الأعظم والتي تزعم أنها ناسخة لعديد من آيات القرآن الكريم؟.. أم ترانا نأخذ بآراء الفقهاء الذين نصّبوا أنفسهم مشرّعين مع الله يُحلّلون ويحرّمون على هواهم فنكون بذلك من المشركين؟..

الجواب متروك لفطنة وضمير كل مسلم.

يتبـــع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق