بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 24 يناير 2023

الصلاة بين السنة والقرآن.. (10/5)

 

(قل إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين)

الأنعام: 162 -

الصلاة حسب التراث

يقول فقهاء السنة والشيعة: "إنه لولا التواتر لما عرف المسلمون كيف يُصلّون" وهو إقرار ضمني يفيد بأن القرآن نص ناقص ما دام لم يبيّن للمؤمنين طريقة الصلاة وأوقاتها وعدد ركعاتها فجاءت السنّة لتكمّله، بل أكثر من هذا، فهناك أحاديث كثيرة تُعتبر من الصحاح لدى الطرفين سنّة وشيعة، تؤكد بأن القرآن المجموع بين دفتي مصحف عثمان محرّف وناقص، وبالتالي، لا يمكن اعتباره مصدرا وحيدا للتّشريع.../...

أقوال السنة: تذكر كتب التراث السنّي أن الملاك جبريل كان يراجع القرآن كل سنة مع النبي عليه السلام، وفي آخر سنة قام بالمراجعة مرّتين في رمضان الأخير قبل وفات الرسول عليه السلام. وكان رئيس الملائكة "يحذف عدداً من الآيات في كل مراجعة" (هكذا). وبرغم ما تضمّنه هذا القول من افتراء على الله وعلى الروح الأمين عليه السلام واتهامهما بالعبث، فها هو السيوطي يقول إن عدد آيات سورة الأحزاب كان 200 آية بدل 73 المتضمنة في مصحف عثمان.  ويعطي أمثلة أخرى لسور وآيات اختفت من القرآن الكريم، وينقل عن أبي عبيد قوله: "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر". 

 ويلاحظ أن سورة التوبة هي السورة الوحيدة في القرآن التي لا تبدأ بالبسملة كما هو معلوم، وعلى هذا الأساس، يرى مالك بن أنس من جهته، أنه سقط منها الكثير عندما سقطت البسملة. وهناك من يرى أنه لم يبق منها في القرآن الحالي إلا ربعها، مما يعني انه سقط منها ثلاثة ارباع آياتها بما في ذلك البسملة، هذا بالرغم من أن مالك يتناقض مع نفسه حين يقول: إن "البسملة ليست آية من القرآن الكريم". ويذكر التراث في "سيرة النبلاء"، أن الإمام مالك بن أنس اعتزل المسلمين وقعد في بيته من دون أن يوضّح السبب، فلم يكن يذهب إلى صلاة الجماعة في المسجد بما في ذلك يوم الجمعة والأعياد، وظل على هذا الحال لمدة 25 سنة، واختلف الخلف من بعده في السبب من وراء ذلك، ومعلوم أن الإمام مالك لم يكن أعلم علماء المدينة، وجد الفراغ فملأه بعد أن قتل عديد الحفاظ والفقهاء في الحروب على السلطة كما هو معروف تاريخيا. 

وتشير بعض الروايات في التراث السنّي الى أن ابن كعب أضاف الى قرآنه سورتي القنوت، وهما سورة الخلع وسورة الحفد. ونصهما وفق ما زعم:

- سورة الخلع: "اَللّهُمّ إِنّا نَسْتَعِيْنُك وَنَسْتَغْفِرُكَ ونُثْنِيْ عَلَيْكَ اَلْخَيْرَ ولا نَكْفُرُك ونَخْلَعُ ونـَــتـْرُكُ مَنْ يَفْجُرُك".

- سورة الحفد: اَللّهُمّ إيّاكَ نَعْبُدُ ولَكَ نُصَلِّي ونَسْجُدُ وَإِلَيْكَ نَسْعَى ونَحْفِدُ نَرْجُوْ رَحْمَتَكْ ونَخْشَى عَذَابَكَ اَلْجَد إِن عَذَاْبَكَ بِالكُفّاْرِ مُلْحِقٌ". 

وواضح للعيان من خلال الأسلوب اختلاف المبنى مع أسلوب القرآن الكريم، لكن وبرغم ذلك كان الكثيرون من فقهاء السنة يعتبرون هاتين السورتين الغريبتين جزءاً من القرآن، ومنهم ابن عباس وابو موسى الأشعري وأنس بن مالك وابراهيم النخعي وسفيان الثوري والحسن البصري. وكان عمر بن الخطاب يقرأ بهاتين السورتين في الصلاة حسب ما أورده جلال الدين السيوطي الذي وضعهما في آخر تفسيره "الدر المنثور" بعد "المعوذتين" اعتقادا منه أنـهما سورتان من القرآن.

وهناك من يعيبون اليوم على المسلمين اختلاف عدد الآيات باختلاف المصاحف كبعض الباحثين الحداثيين الذين لهم موقف سلبي من الإسلام، فيقولون إن القرآن الحالي يتضمن 114 سورة اختلط فيها المكي بالمدني، وأن عدد آياته تختلف باختلاف الروايات، ومثال ذلك:

- الترقيم المدني الأول: 6000 آية.

- الترقيم المدني الأخير: 6214 آية.

- الترقيم المكي: 6219 آية.

- الترقيم الشامي: 6226 آية.

- الترقيم الكوفي: 6236 آية.

- الترقيم البصري: 6204 آية.

- الترقيم العثماني: 6344 آية

غير أن اختلاف الترقيم بين المصاحب المذكورة أعلاه لا يعني أن النص القرآني يختلف من حيث الطول أو القصر، بل الأمر يتعلق بتقسيم نفس الآيات بصورة مختلفة من دون زيادة أو نقصان في النص القرآني ككلّ. لكن من الصحيح كما يقول الباحث سامي الذيب في إحدى مقالاته حول الموضوع، أن هذا الأمر يُخلّف ارتباكا عند أتباع نظرية الإعجاز العددي للقرآن. والحقيقة أن الأمر أهم من ذلك، بحيث أن عدم توحيد ترقيم الآيات يخلق ارتباكا عند الاستشهاد بأرقامها المرجعيّة في البحوث القرآنية، كما أنه من المعيب ألاّ يقوم من يُسمُّون أنفسهم بـ "العلماء" بهذا الجهد لوضع حد للتّقوُّلات المُغرضة التي تتّهم المسلمين بالعبث في كتاب هو المصدر الأول الذي يستمدُّون منه تعاليم دينهم. 

هذا غيض من فيض، والمصيبة، أننا لو اعتمدنا الروايات التي يقال بأنها "صحيحة" عند أهل السنة والجماعة، لخلصنا إلى أن القرآن الحالي الذي بين أيدينا لا يبلغ نصف القرآن المُنزّل على محمد عليه السلام، وذلك ضدا في قوله تعالى (إنا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون) الحجر: 9، وقوله أيضا: (لا تحرّك به لسانك لتعجل به * إنّ علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه) القيامة: من 16 إلى 19.

وهذا غيض من فيض بحيث لا يسع المقام لسرد كل المرويات التي قيلت حول الموضوع.

أقوال الشيعة: لم يسلم التراث الشيعي أيضا من مثل هكذا أقوال مغرضة تطعن في كتاب الله، بل ذهب بعض فقهائهم كالكليني الملقب بـ "ثقة الإسلام" حدّ القول: "إن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد سبعة عشر ألف آية"، علما أن مصحف عثمان لم يتضمن سوى 6236 آية، مما يعني أن قرابة ثلثي القرآن قد ضاعت وفقا لهذا القول. ونفس المصدر (أي الكليني)، عندما يتحدث عن فاطمة بنت النبي عليه السلام يقول: إن مصحف فاطمة فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد" (هكذا)، وكأن القرآن الذي أنزله الله على رسوله ونسخته فاطمة في مصحفها هو غير القرآن الذي جمع في إمام عثمان، فيا للعجب. 

وذهب الفيض الكاشاني في المقدمة السادسة لتفسيره المسمى "الصافي" إلى القول: "إن القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه كما أُنزل على محمد، منه ما هو خلاف ما أنزل الله ومنه ما هو مُغيّر ومُحرّف، وإنه قد حُذف عنه أشياء كثيرة منها اسم عليّ في كثير من المواضع (وكأن عليّا رضي الله عنه هو الرسول لا محمد عليه السلام)، ومنها غير ذلك، وأنه ليس أيضا على الترتيب المرضي عند الله وعند رسوله"، ويترتّب على هذا القول وفق الكاشاني خلاصة خطيرة مفادها: أنه "لا يمكن الاعتماد على القرآن الذي بين أيدينا - كمصدر للشريعة والحقيقة - إذ يحتمل أن تكون كل آية منه قد طالها التحريف أو التغيير أو الزيادة أو النقصان فأصبحت على خلاف ما أنزل الله"، وبالتالي، "لم يبق لنا في القرآن حجة أصلا، فتنتفي فائدة الأمر باتّباعه والوصيّة بالتمسّك به" كما يقول بوقاحة.

هذه شهادة زور ومنكر من فقيه يعتبره الشيعة من "العلماء" الكبار، يتحدى الله ورسوله والله تعالى يقول: (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأُوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) الأنعام: 19. ويقول: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) الأنعام: 20. ويقول أيضا: (... والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربّك بالحق فلا تكن من الممترين) الأنعام: 114. وبالتالي فكل من لم يؤمن بالذي أُوحي إلى محمد عليه السلام من قومه يكون قد خسر نفسه، خصوصا وأن الله يقول إنه يشهد على صحته وأن الذين أوتو الكتاب يعرفون آياته كما يعرفون أبناءهم وأنه نزل بالحق من عند الله. 

 والمفارقة العجيبة الغريبة تكمن في أن كبار فقهاء السنة والشيعة يقولون: إن "كل من قال بأن القرآن فيه زيادة أو نقصان أو تحريف أو تغيير فقد خرج من دين المسلمين" ويذهب البعض الآخر حد تكفيره، فيما يقول البعض أن حكم من يقول بذلك أن "يستتاب أو يقتل".

والسؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة هو: هل هؤلاء الفقهاء الذين افتروا على الله ورسوله الكريم ومبعوثه الروح الأمين الكذب وقالوا بأن القرآن ناقص ومحرف وخلافه، قد كفروا وخرجوا من الملّة استنادا إلى شريعتهم التي تنص على أن: "كل من قال بأن القرآن فيه زيادة أو نقصان فقد كفر"؟

لا يسعنا إلا قول ما قاله الله تعالى في محكم التنزيل: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يفعلون) البقرة: 134. 

لكن لا بأس من التذكير بالمناسبة، أن من يشككون في النص القرآني كما هو في مصحف عثمان، يجهلون أو يتجاهلون أن الرسول عليه السلام كان قد كلّف أربعين كاتبا لا شغل لهم سوى كتابة التنزيل، ومنع أصحابه من كتابة الحديث حتى لا يختلط الأمر على أمته، وحتى لا تضيع آية من آيات الذكر الحكيم مصداقا لقوله تعالى (إنا نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون). هذه شهادة من الله وهو خير الشاهدين. وعليه، فمن يقول عكس ذلك فقد كفر بآيات الله وظلم نفسه، خصوصا إذا علمنا أن الخليفة الثالث لم يعتمد حصريّا على الذاكرة الحافظة للمسلمين في عملية جمع القرآن، بل اعتمد أساسا على المصاحف والمخطوطات التي كانت بحوزة الصحابة من عسف وجلد وورق وخلافه، وعند الاختلاف كان يستدعي الحفظة للتأكد من صحة النص، وعلى هذا الأساس أجمعت الأمة أن القرآن الذي بين أيدينا هو كل ما نزل على محمد عليه السلام دون زيادة أو نقصان، ودون تحريف أو تزوير أو تبديل أو تغيير، بخلاف ما وقع مع الكتب السماوية السابقة التي لم تصلنا، وكل ما وصلنا في حقيقة الأمر هو ما كتبه الحاخامات والكهنة من سيرة أنبيائهم، فضاع كلام الله واستبدل بكلام بشر.

شرعيّة الصلاة الحركية المتواترة:

فيما يتعلّق بشرعيّة الصلواة الحركية المتواترة كما يؤديها المسلمون اليوم، وبالبحث في التراث، نجد حديثا واحدا يتيما لم يذكره النبي عليه السلام، بل روته عائشة كشاهدة وفق ما ورد في كتب البخاري ومسلم، ونصه: " فرضت الصلاة ركعتين، ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر". وقد بُيّنت هذه الزيادة في حديث البيهقي عن عائشة دائما حيث قالت: "إن أول ما فرضت ركعتين، فلمّا قدم نبي الله - عليه السلام - المدينة واطمأن زاد ركعتين غير المغرب لأنها وتر وصلاة الغداة لطول قراءتها، قالت: وكان إذا سافر صلى صلاته الأولى" أي ركعتين بالتقصير.

وقد سبق وأن أوردنا ما نقل عن عائشة في مسألة الزيادة والنقصان والتحريف والتحوير في آيات القرآن الكريم، وبالتالي، كيف يمكن الوثوق برواية منسوبة إليها في شأن الحديث مع تحفظنا على ذلك لعدم معرفتنا إن كانت قد قالت فعلا ذلك أم أنه مجرد كلام مختلق نسب لاحقا إليها، هذا علما أن الحديث المنسوب إليها في هذا الباب ليس رواية عن النبي بل شهادة شخصية لا تمثل سندا يعتد به في التأصيل لشرعية مسألة دينية خطيرة كفريضة الصلاة التي تهمّ أمة المؤمنين كافّة.

وفي إقرار للشيخ الألباني، "فإن هناك إجماع للعلماء على أن عدد ركعات كل صلاة على ما هو معلوم عند المسلمين الآن من كون الظهر والعصر والعشاء أربعا، والفجر ركعتين، والمغرب ثلاث ركعات". وبهذا قال أيضا الشيخ الكاشاني في "بدائع الصنائع" والمنذر في "الأوسط في السنن والإجماع"، وغيرهما من فقهاء النقل.

لكن ما لم يقله الشيخ الألباني وغيره، هو على أي أساس من شرع انعقد هذا الإجماع؟.. وهل اتفاق "عالمين" أو ثلاثة يعد إجماعا بحق؟.. خصوصا وأن ما هو معلوم بالضرورة عند المسلمين وفق قوله، لا يمثل دليلا شرعيا يُبنى عليه، لأن الأمر لا يتعلق بعرف متواتر، بل بفريضة من أهم فرائض الدين لا يحق لأحد أن يشرّعها غير الله وحده دون سواه.

هذه إحدى المعضلات الكبرى التي تواجه المسلم كلما أراد البحث في التراث عن شرعيّة الصلاة المفروضة كما يمارس طقوسها المسلمون اليوم. 

والحقيقة أنه لا يوجد حديث واحد للرسول عليه السلام يتحدث عن عدد الصلوات المفروضة في اليوم وأوقاتها وعدد ركعاتها وطريقة أدائها، باستثناء حديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي يعني المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر" ثم التفت إلي فقال: "يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين". وقد حسّن الحديث الشيخ الألباني فقال عنه أنه حديث حسن صحيح.

لكن دليل عدم صحة هذا الحديث جملة وتفصيلا، هو أن الأنبياء قبل الرسول كانوا يصلون ثلاثة أوقات (الفجر والمغرب والعشاء) بنص القرآن، على أساس ركعتين في كل وقت. وهو ما ذكرته عائشة في حديثها السالف الذكر. كما أن الحديث يتحدث عن الصلاة في شهر الصيام، ومعلوم أن النبي وفق ما ذكر القرآن كان يصلي في مكة قبل المدينة على طريقة (ملّة) جدّه إبراهيم الخليل عليه السلام، ما يؤكد أن هذا الحديث المنسوب للرسول مكذوب عليه، خصوصا إذا علمنا أن ابن عباس الذي روى الحديث هو جد العبّاسيين الذين ورثوا الحكم بعد بني أميّة، وكان عمره لا يتجاوز 12 سنة عندما توفّي الرسول عليه السلام، فكيف يمكن الوثوق برواية طفل لم يبلغ الحلم بعد، في حين أن أول شرط فيما يُسمى بعلم الرجال عند الفقهاء هو الرشد.

ونأتي لحديث آخر منسوب للرسول عليه السلام يقول: "صلّوا كما رأيتموني أصلي" دون أن يوضح لأمته طريقة صلاته بل ترك الأمر لشهادة أصحابه. لكن المعضلة أنه لا يوجد حديث لأحد من أصحابه يروي الطريقة التي كان يصلي بها النبي، بل هناك فقط شهادات لأناس عابرين وآخرين مشركين زعموا أنهم رأوا الرسول يصلي فذكروا لأقوامهم عند عودتهم طريقة صلاة النبي من دون أن يكونوا هم من المصلين، والتراث يزخر بمثل هذه الأحاديث الغريبة.

فعل سبيل المثال، ولأهداف لا علاقة لها بالدين، تم اختلاق مجموعة من الشهادات من قبل فقهاء بني أميّة نسبوها لأناس لا يعرفون الصلاة وفدوا على الرسول في زمن الوفود ورأوه يصلي فوصفوا طريقته وفق ما يزعم ناقلوا الشهادات، لكن – ويا للمفارقة - لم يذكر التراث السني على لسان صحابة رسول الله والأقربين الذين عاشوا معه طريقة صلاته.

وهناك حديث أخرجه أبو داوود في سننه عن وائل بن حجر يقول إنه عندما وفد على الرسول عام الوفد في آخر سنة من عمره الشريف، رآه يُصلّي، فلما عاد إلى قومه ذكر لهم بالتفصيل كيف كان يُصلي، هذا علما أن وائل لم يسبق له أن عرف الصلاة، ولم يصلّي مع الرسول، ولا صلّى قبله، ولا بعده عندما عاد إلى قومه. ناهيك عن أن ما ذكره أبو داود في سننه عن وائل لا يعدّ حديثا أصلا بل مشاهدة شخصية إن صحت وتدخل في باب "السواليف" كما وصفها النقاد، أي مجرد ثرثرة وكلام فارغ لا فائدة منه ولا مصداقية له.  

وهناك شهادة أخرى أوردها الدرامي نقلا عن رواية أبو عاصمٍ عنْ عبدِ الحميدِ بنِ جعفرٍ نقلا عن محمدُ بنُ عمرو بنِ عطاءٍ يقول أنه سمع أبا حميدٍ الساعديَّ يقول أن أبو قتادَةَ (وهو من أصحاب النبي)، أنه قالَ: أنَا أعلَمُكُم بصلاةِ رسولِ اللَّهِ عليه السلام، فقالوا: لِمَ، فَمَا كنتَ أكثرَنَا لَهُ تبعةً، ولاَ أقدَمَنَا لهُ صحبةً، قالَ: بَلَى قالوا: فاعْرِضْ، قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ عليه السلام إذا قامَ إلَى الصلاةِ رَفَعَ يديهِ حتَّى يحاذيَ بِهِمَا مَنْكِبَيهِ، ثُمَّ كبَّرَ حتَّى يَقَرَّ كلُّ عظمٍ في موضِعِهِ، ثُمَّ يقرأُ ثُمَّ يكبِّرُ ويرفَعُ يديهِ حتَّى يحاذيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ يركَعُ ويضعُ راحتيهِ عَلَى ركبتيهِ، حتَّى يرجِعَ كلُّ عظمٍ إلَى موضِعِهِ، وَلاَ يُصَوِّبُ رأسَهُ وَلاَ يقنعُ، ثُمَّ يرفعُ رأْسَهُ فيقولُ سمعَ اللَّهُ لِمَنْ حمدَه، ثُمَّ يرفَعُ يديهِ حتَّى يحاذيَ بِهِمَا مَنكِبيهِ، يظنُّ أبو عاصمٍ أنهُ قالَ: حتَّى يرجعَ كلُّ عظمٍ إلَى موضعِهِ معتدلاً، ثُمَّ يقولُ اللَّهُ أكبرُ ثُمَّ يهويَ إلَى الأرضِ، فَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ ثم يسجُدُ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فيثني رِجْلَهُ اليسْرَى فيقعدُ عليهَا، ويفتَحُ أصابعَ رجليهِ إذا سَجَدَ، ثُمَّ يعودُ فيسجُدُ ثُمَّ يرفَعُ رأسَهُ فيقولُ اللَّهُ أكبرُ، ويَثْنِي رجلَه اليسرَى فيقعُدُ عليهَا معتدلاً حتَّى يرجِعَ كلُّ عظمٍ إلَى موضِعِهِ معتدلاً، ثُمَّ يقومُ فيصنعُ في الركعةِ الأخرَى مثلَ ذَلِكَ، فإذا قامَ منَ السجدتينِ كبَّرَ ورَفَعَ يديهِ حتَّى يحاذيَ بِهِمَا مَنْكِبيهِ كَمَا فعلَ عندَ افتتاحِ الصلاةِ، ثُمَّ يصنعُ مثلَ ذلكَ في بقيةِ صلاتِهِ، حتَّى إذا كانت السجدةُ أو القعدةُ التي يكونُ فيها التسليمُ، أخَّرَ رجلَهُ اليسرَى وجلَسَ متوركاً عَلَى شِقِّهِ الأيسرِ، قالَ: قالوا: صدقتَ هكذا كانَت صلاةُ رسولِ اللَّهِ عليه السلام". 

لكن التاريخ يذكر أن محمد بن عمرو بن عطاء توفي في خلافة الوليد وقيل آخر خلافة هشام ابن عبد الملك، ومهما يكن من أمر فإنه لم ير الرسول بالمطلق ليقدّم مثل هذه الشهادة، كما أنه ليس من الصحابة الذين عايشوه عليه السلام، وثقافته ثقافة ما بعد الفتوح، أي زمن بني أميّة الذي كثرت فيه الأحاديث الكاذبة المنسوبة إلى الرسول عليه السلام. ناهيك عن أنه مثل سابقه ليس بحديث بل مجرد شهادة مثل تلك التي قال بها ابن حجر، تُكذبها معطيات التاريخ وحقائق الدين التي وردت في كتاب الله الحكيم، وبالتالي، تدخل في باب "السواليف" أيضا.

هذه الشهادات وغيرها من التي اعتمدتها المنظومة السنية للتّشريع للصلاة التي يؤديها المسلمون اليوم، تؤكد أنه وباستثناء من أدلوا بهذه الشهادات وغيرها، لا يوجد من المسلمين قديما بما في ذلك زمن البعثة من كان يعرف كيف كان يصلي النبي عليه السلام، وأن الأمر كله مجرد افتراء على الله ورسوله، وإلا لما اختلف الفقهاء والمسلمون في عدد الصلوات وركعاتها وطريقة أدائها، ولما تحدثوا أصلا عن صلاة للرسول، لأنه ليس هناك صلاة للرسول وصلاة لغيره من المسلمين ما دام المشرع واحد هو الله. وبالتالي، ففي غياب حكم الصلاة في القرآن لم يجد من سمّاهم الرسول بـ "مجوس الأمة" من المشركين والمنافقين وتجار الدين من فقهاء السلاطين غير الكذب ليفتروا على الله ورسوله وعامة المسلمين من لم ينزل به ربّ العباد من سلطان.

مفهوم الصلاة في القرآن الكريم

وردت كلمة "الصلاة" في القرآن الكريم على مستوى الجذر 125 مرة، وجاءت بمصاديق عدّة، أهمّها على الإطلاق المحافظة على الصلة مع الله سبحانه وتعالى بحكم القضاء المبرم في أصل الخلق الوارد في الآية 56 من سورة الذاريات ونصّه: (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون). فالعبادة هي الطريقة الوحيدة للمحافظة على الصلة الدائمة بين العبد والمعبود، ومن مناسكها الصلاة الحركية والصوم والزكاة والحج والذكر والتسبيح وغير ذلك من الطقوس وإن لم تقترن في القرآن الكريم بكلمة "صلواة"، لكنها بالمفهوم الديني العام تُعزّز صلة العبد بربه وتُقرّبه منه بما يُرضيه، وسنمها بعد الإيمان بالله واليوم الآخر العمل الصالح الذي ينفع الناس وفق أركان الإسلام الثلاثة المذكورة في القرآن الكريم لقوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 62. وقد تكررت هذه الآية الكريمة بنفس الصيغة في سورة المائدة: 69 كما سبق القول.

بل أكثر من هذا، فالإسلام، وبخلاف ما قال به فقهاء بني أمية، هو الدّين الذي يقوم على العمل الصالح بعد الإيمان، وذلك لقوله تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيّبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النحل: 97. ما يعني أن الجزاء لن يكون في الآخرة فحسب، بل وفي الدنيا أيضا بحيث ينعم المؤمن الصالح أو المؤمنة الصالحة بحياة طيبة هنيئة في كنف الله، وبالتالي، فلا معنى لإيمان لا يقترن بعمل صالح ينفع الناس ويرضي الله تعالى.

وبهذا المعنى، فإقامة الصلواة لا تعني إقامة الطقوس الحركية كما ابتدعها الفقهاء، بل تعني إقامة القرآن، أي إقامة الدين القيّم الذي هو الإسلام السمح الجميل لبناء مجتمع صالح، تسوده الفضيلة وتحكمه الأخلاق، ينعم المؤمن فيه بسعادة الدنيا ويضمن الخلاص في الآخرة. وذلك على غرار ما أمر به الله أهل الكتاب لإقامة التوراة والإنجيل، بدليل قوله تعالى:

- (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) المائدة: 66.

- وقوله: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربّكم) المائدة: 68.

وعلى غرار ذلك، أمر تعالى رسوله الكريم محمد عليه السلام وأمته بإقامة نفس الدين الذي شرّعه للرسل والأنبياء والأمم من قبل، وذلك لقوله:

- (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب) الشورى: 13.

الفرق بين الرسمين: "الصلاة والصلواة" من حيث المعنى:

يلاحظ من خلال البحث عن كلمة "صلاة" في مصحف عثمان أنها وردت برسمين مختلفين من حيث الكتابة، فيما النطق يبقى واحدا. الشكل الأول مفرد: (بالألف) أي "صلاة"، فيما الشكل الثاني مفرد أيضا (بالواو) أي "صلواة"، وهو الأمر الذي دفع بعض الباحثين للقول بأن المعنى يختلف بين اللفظين، ذلك أن "صلاة" (بالألف) وفق قولهم تعني الصلة بالله عموما، فيما "صلواة" (بالواو) تعني التعبد من خلال إقامة الصلاة الحركية المفروضة (محمد شحرور نموذجا).

ومعلوم أن الصلاة (بالألف) هي من فعل صلّى، وهي نفسها الصلواة (بالواو). والرسمان يعنيان إقامة الصلة مع الله من خلال إقامة القرآن ليصبح دستورا عمليّا ينظم حياة المؤمنين الخاصة والعامة كما أسلفنا. وفي هذا الصدد يقول ابن قتيبة: "إن الواو هي الأصل مثلها مثل 'زكوات' و'حيوات'، فقد قلبت الواو ألفا لما انفتحت وانفتح ما قبلها، وقد رُسمت هكذا للتنبيه على أصل مادتها، وأن ألفها منقلبة عن الأصل الذي هو واو، أي أن لام الفعل اللاحق منها هو الواو السابق". 

هذا ويبقى الرسم موضوعا على اساس تنوع القراءات الثابتة في اللفظ الواحد حسب بعض المفسرين، لكن ذلك لا يفسر سبب اختلاف كتابة "الصلاة" مرة بالألف ومرة بالواو في مصحف عثمان، كما أن اختلاف الرسم لا يعني اختلاف المعنى لأنه لا وجود في كلام الله للترادف حسب ما هو معروف، فالتنزيل أحكمت ألفاظه ثم فصّلت معانيه، وكل لفظ من ألفاظه إلا وله معنى دقيق وضع بميزان الذهب بفصاحة وبلاغة منقطعة النظير. وعلى هذا الأساس قد يكون اختلاف الرسم كاختلاف القراءة مجرد عادة في ثقافة العرب ولا علاقة له باختلاف المعنى وهذا هو الصحيح لغة عند المناطقة.

غير أن بعض الباحثين الحداثيين، واستنادا إلى المنهج اللفظي، يؤكدون على ضرورة فهم معنى المفردة القرآنية في السياق الذي وردت فيه وربط دلالتها بالمصداق العملي الذي يفرزه واقع تطبيقها كما تنص على ذلك قاعدة (المعنى والمصداق)، مع مراعاة ما تشير إليه حروف اللغة العربية من نظام يمثل جزء من النظام الكوني لقوله تعالى (والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور) الطور: 1 – 2 – 3. حيث أقسم الله بالجبل الذي كلم فوقه موسى عليه السلام، والكتاب المسطور هو اللوح المحفوظ الذي كتب فيه الله تعالى ما كان وما هو كائن وما سيكون من مخلوقات وأعمال وأقدار إلى أن تبدل السماوات والأرض، ويشار إليه مجازا بالكون الفسيح وما يجري فيه من مشيئة إلهية بلا حدود ولا قيود، أما الرق المنشور، فيحيل على ما أُخذ من اللوح المحفوظ ودُوّن في المنشورات كالورق والجلد والعساف وغيره من وسائل الكتابة التي كانت سائدة زمل التنزيل والتبليغ للناس عبر الرسل من صحف إبراهيم ومزامير داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وقرآن محمد عليهم السلام جميعا. 

فمثلا، بالنسبة لحروف العلة (أ - و - ي) نجد أن لها تعبيراتها الخاصة عن الوجود، ذلك أن الألف يكون ممثلا بحركة الفتحة، والواو بالضمة، فيما الياء بالكسرة. وعلى هذا الأساس، فالفتحة تُستعمل للتعبير عن الزمن الماضي، والضمة للتعبير عن الزمن الحاضر (بصيغة المضارع)، والياء تستعمل للتعبير عن المستقبل، أما السكون فيشير إلى العدم أو اللاشيئ لقوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) الإنسان: 1، فمصطلح "اللا الشيء" في القرآن يوازي مصطلح "العدم" في الفلسفة، لعدم استعمال القرآن لهذا المصطلح الأخير بمعناه الأنطولوجي. 

وحسب هذه القاعدة المنهجية في علم اللغة، فإذا ربطت حروف العلة بمفردة الصلاة تحصل على المعاني التراتبية التالية: 

- المرحلة الأولى: استخدام الواو في الرسم (صلواة) بالمفرد، يكون ذلك للتعبير عن إقامة الصلة العمودية مع الله في الحاضر، والتي لا تتحقق إلا من خلال إقامة الذكر أثناء الممارسة التعبدّية اليومية للمؤمن، وتتجلى هذه الممارسة بالطريقة العملية من خلال دخول مدرسة الله للتعلم على يد المعلم الأكبر الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لا يعلم، الأمر الذي يتيح للإنسان فرصة التأمل والتدبر والفهم من خلال الوحي لقوله تعالى (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما) طه: 114.  وذلك بهدف إقامة الدين على أساس الفهم الصحيح لما ورد في الذكر الحكيم من نور وهدى وتعاليم، بحكم ارتباط المعنى بالمكان، سواء أكان التعلم جماعة في مسجد، أو جامع، أو بشكل فردي في المكان الذي يقيم فيه المسلم حتى لو كان خارج ديار المسلمين، لأن الله الحي القيوم الواجب الوجود موجود في كل زمان ومكان، وهو معنكم أينما كنتم وأينما ولّيتم وجوهكم فتمّ وجه الله كما يؤكد تعالى في محكم التنزيل.

- المرحلة ثانية: استخدام الألف (صلاة) بالمفرد، يكون للتعبير عن الصلة الأفقية لارتباط المفردة بنقطة زمنية متحركة في (الزمكان)، ما دام لا وجود لمكان من غير زمان في واقع التجربة الإنسانية، والعكس صحيح أيضا. وفي هذه المرحلة يأتي التطبيق العملي لما تعلّمه المُسلم في المرحلة الأولى، أي إقامة الدين بشكل عملي في حياة الناس على ضوء تعاليم القرآن الكريم التي تعلّمها المسلم وآمن بها عن قناعة بعد أن فهمها بالعمق المطلوب في المرحلة الأولى. ومعلوم أن الخطاب القرآني موجه للعالمين وليس للفقهاء فحسب، لأن لا وساطة بين العبد وربّه في الإسلام، بدليل أن نداء تدبّر القرآن نداء عام يشكل الناس كافة بخلاف ما عليه الاعتقاد مع الرهبانية الكهنوتية في المسيحية.

ويستنتج ممّا سلف أنه كلّما تغيّر المبنى إلا وتغيّرت الصلة المقصودة وليس المعنى في ذاته الذي يظل هو نفسه، ذلك أن الصلاة اسم جنس، وكلما وردت هذه المفردة في القرآن الكريم بالواو (صلواة) إلا وأشارت إلى الصلة الأفقية مع الله (أي المعنى المقصود)، والتي تُؤدّى بطقوس معيّنة بيّنها تعالى في كتابه المجيد. وكلما وردت المفردة بالألف (صلاة) إلا وأشارت إلى الصلة الأفقية داخل المجتمع (أي المعنى المقصود) والتي أساسها القيم الدينية المُثلى والقواعد الأخلاقية الحسنة. بمعنى، أن الأولى صلواة قياميّة لأنها دائما تكون مسبوقة بفعل "أقام" لقوله تعالى: (الذين يقيمون الصلواة)، أي يقيمون الذكر والتسبيح لتحقيق انسجام الإنسان مع الله ومع الكون بدليل قوله: (ألم تر أن الله يسبّح له من في السماوات والأرض والطّير صافّات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون) النور: 41. ومعلوم أن التسبيح الوارد في الآية الكريمة يعني الصلاة، أي إقامة الصلة مع الله من خلال الذكر. أما الثانية فصلاة اجتماعية لإقامة الدين بهدف إقامة مجتمع الفضيلة الذي يحكمه العدل ويسوده الإحسان والقيم الأخلاقية النبيلة، وأهم قاعدة قرآنية تحقق ذلك هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه عندما تخلّى عنها المسلمون أصبحوا أسوء أمة في العالمين بعد أن كانوا أحسن أمة أخرجت للناس كما يفهم من ظاهر الآية الكريمة لقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) آل عمران: 110. 

وبالتالي، فتعطيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي جعلت أمة محمد قديما أحسن أمّة أخرجت للناس، حوّلها اليوم إلى أسوء أمة منبوذة في العالمين، ولم ينفعها تديّنها السطحي ولا صلاتها الموروثة في الخروج من أزماتها المتراكمة والمركّبة التي أركست فيها منذ أن ترك المسلمون كتاب الله وراء ظهورهم وتمسّكوا بسنّة فقهاء القشور. 

وقد جاءت الصلاة في القرآن الكريم أيضا بمعنى "الصلي" لقوله تعالى (الذي يصلى النار الكبرى) الأعلى: 12. ومثال ذلك صلي العصا في النار بهدف تقويمها من الاعوجاج وتخليصها من الشوائب وتجفيفها من الماء وانضاجها لتقويتها في النهاية. وهذا بالضبط هو هدف إقامة الصلاة، أي إقامة الدين بغاية تقويم الإنسان المسلم من الاعوجاج، وتنقيته من الشوائب بإبعاده عن الذنوب والآثام والفواحش، وانضاجه عبر الانضباط حتى يصبح مؤمنا قويا ملتزما ومتّقيا على هدى من الله، وذلك هو الصراط المستقيم، الأمر الذي يُمهّد لخلق مُؤمن مُتنوّر نافع وقادر على إقامة مجتمع الفضيلة الذي يقوم على العدل والأخوة والمساواة والتضامن والتعاون والتسامح، وتسود فيه روابط الولاء على أساس مبادئ الأخلاق والمحبة في الله. 

أما من حيث قواميس اللغة، فمعلوم أن فعل "وصل" يعني أحسن العطيّة والبرّ والجائزة، كما أن الوصلة التي أصلها من فعل "وصل" أيضا تعني الاتصال، وأوصل هي كذلك من فعل "وصل" وتعني أبلغ. وبذلك فكلمة "صلواة" أو صلاة" في اللغة الدينية تعني عموما بارك، وبذلك تكون الصلواة من الملائكة تفيد طلب المغفرة والرحمة للمؤمنين، فيما الصلواة من الله تعني مباركة الدعاء بالاستجابة ليحصل المؤمن على المغفرة والرحمة، وبهذا تكون "إقامة الصلواة" من حيث الدلالة الدينية المقصودة في الكتب السماوية قديما وحديثا تعني التسبيح والدعاء والتوكّل على الله في العمل الصالح الذي ينفع الناس، ويأتي ذلك بعد التصديق المعبّر عنه بلغة القرآن بـ "الركوع". أما السجود فيأتي بمعنى الطاعة بعد التصديق، لذلك قال تعالى لمريم عليها السلام: (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) آل عمران: 43، فأمرها بالقنوت (أي لزوم الطاعة) والسجود قبل الركوع، أي الإيمان الذي يأتي بعد التصديق على غرار ما فعله  "الراكعون" أي المصدقون من قومها (آل عمران)، وهو ما يؤكد عليه القرآن حين يربط بين متلازمة الإيمان والعمل  لقوله تعالى في أكثر من آية وسياق (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، ما دام العمل هو ترجمة واقعية لما تعلّمه الإنسان في صلته مع الله فآمن بعد أن حصلت له القناعة المؤسسة على اليقين الصادق، وترجم ذلك من خلال الطاعة والخضوع التام، والتسليم بخشوع، والتطبيق بإخلاص مع الاستسلام لقضاء الله وقدره بخوف ورجاء.

وإذا كان هذا هو معنى الصلاة في القرآن بشقيها المتضمن للصلة العمودية مع الله والصلة الأفقيّة مع خلقه، فالسؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة هو: - من فرض على الناس الصلوات الحركية الخمسة؟ كيف؟ ومتى؟.. وماذا يقول صاحب الدين وربّ العباد في ذلك؟

يتبـــع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق