بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 16 نوفمبر 2018

العناصر الدخيلة على التصوف الإسلامي (2/1)


تمهيــــــد
ثم زعم حظي بنصيب من الرواج لدى الناس، ومفاده، أن التصوف هو دخيل على الإسلام، وأن لا علاقة له بالقرآن ولا بسنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه تشكل نتيجة عناصر أجنبية تسربت إليه وأثرت فيه بشكل ملحوظ. غير أن مثل هذا الزعم يعبر عن موقف سطحي مسبّق، لا يستند على أساس من نص، أو من دراسة موضوعية لهذا المسلك الروحي الراقي الذي يمثل مستوى الإحسان في الإسلام بشهادة كبار علماء الأمة. ومرد ذلك، أن فقهاء القشور الظاهرية بشكل خاص، يتعاملون مع الدين من زاوية ضيقة تعتبر الرسالة المحمدية هي الإسلام وما سواها كفر، وتتجاهل بشكل سافر حقيقتين أساسيتين: .../...

-       الأولى: أن الله تعالى خلق الإنس والجن ليعبدون قديما وحديثا بموجب الفطرة التي وضعها في أصل المخلوقات، وأن الإنسان عرف الله قبل أن يعرفه الفقهاء، وأن التاريخ القدساني هو أشمل وأعم من التاريخ الزمني الذي حاول هؤلاء اختزال الحق والخلق في مساحته الضيقة.

-       الثانية: أن ما من أمة خلقها الله إلا وبعث لها رسولا ليذكر الناس بميثاقهم مع ربهم في عالم الذر قبل الوجود المادي على الأرض (آية الميثاق)، لكيلا يكون للناس حجة على الله بعد الرسل كما يؤكد تعالى في قرآنه.

وحول هذه العناصر الأجنبية التي يقال إنها تسربت إلى التصوف الإسلامي، هناك مباحث وأقوال كثيرة نوجز أهمها فيما يلي:


التصوف والتأثير الفارسي

هناك من يرد التصوف إلى أصول الديانة الفارسية التي ظهرت بخراسان حيث تلاقت الديانات والثقافات الشرقية، وبعد دخول أهلها الإسلام صبغت بعض المبادئ الإسلامية بالصبغة الصوفية القديمة (المذاهب الصوفية ومدارسها – ص: 28 - عبد الحكيم عبد الغني قاسم – مكتبة مدبولي – القاهرة - ط. 1   - 1989/1991).

والديانة الفارسية كما هو معلوم، ديانة " زرادشتية " انتشرت في إيران، وأصبح لها رجـال دين هم طبقة الكهنة، وجمعـت تعاليمها في كتاب يسمى "أبستاق". وهو أول كتاب باللغة الفهلوية عرفه العرب وشرحه "الزندا أفستا". ويذكر ابن النديم، أن هذا الكتاب ترجم كما ترجمت مختلف الكتب الدينية الي العربية.

والزرادشتية هي ديانة المجوس التي تقول بالتثنية، أي أن العالم له مدبرين قديمين يقتسمان الخير والشر، والنفع والضر، والإصلاح والفساد. وهذان الأصلان كما يقول السيد حسين فضل الله في تعريفه لهذه الديانة على موقعه الرسمي هما: "يزدان" و "أهرمن"، وتعنيان تباعا "النور" و "الظلمة".  وكل شيء عندهم يدور وفق قاعدتين، الأولى كيفية امتزاج النور بالظلمة، والثانية سبب خلاص النور من الظلمة، وهذا هو المعاد.

والمجوس فرق متعددة، زعم بعضهم أن الأصلين "النور" و "الظلمة" لم يكونا قديمين منذ الأزل، بل أحدهما قديم أزلي وهو "النور" والأصل الثاني "الظلمة" محدثة، ولهذا اختلفوا في الأصل الثاني ومما تكوّن؟! لأن النور خير والخير لا يحدث شراً وهو "الظلمة".

وهؤلاء يزعمون أن المبدأ الأول من الأشخاص هو" كيومرث" والمعني به آدم عليه السلام، وبعضهم قال المبدأ الأول هو "زوران الكبير" ويعد أول معلم لهم، ثم النبي "زرادشت".

ولطائفة "الكيومرثية" مزاعم في خلق الظلمة وسيطرته على النور، وقد أثبتوا إلهاً قديماً وسموه "يزدان" ومعناه "النور"، يعنون به الله تعالى، وإلهاً مخلوقاً سموه "أهرمن" ومعناه" الظلمة" ويعنون به "إبليس". ويزعمون أن سبب وجود "أهرمن" أن "يزدان" فكّر في نفسه أنه لو كان له منازع كيف يكون محدث. ذلك أن "أهرمن" في أصله مطبوعاً على الشر والفتنة والفساد والضرر والإضرار، فخرج على "يزدان" وخالف طبيعته فجرت بينهما محاربة، كان آخر الأمر فيها أن يكون العالم السفلي لـ"أهرمن" سبعة آلاف سنة – بالزمن الكوني - ثم يخلي العالم ويسلمه لـ"يزدان"..  ثم إنه أباد الذين كانوا في الدنيا قبل الصلح وأهلكهم، وبدأ برجل يقال له "كيومرث"، وحيوان يقال له "الثور"، فكان من كيومرث البشر، ومن الثور البقر وسائر الحيوان. وقاعدة مذهبهم تعظيم النور والتحرز من الظلمة، ومن هنا أبحروا إلى النار فعبدوها لما اشتملت عليه من نور. ولما كان الثور أصل الحيوان عندهم المصادف لوجود " كيومرث"، عظموا البقر فعبدوها لما اشتملت عليه من النور كذلك، بل ووصل بهم الأمر إلى أن يتعبدوا بأبوالها.

أما قانون العدالة عندهم، فيحتم حرية الاختيار لكل إنسان في إتباع أي الحزبين يشاء، إما حزب "لإله الشر" أو حزب "إله الخير". ولكن لما كان كل من الإلهين يتحاربان والحرب بينهما سجال، ولا يباشرانها بأنفسهما وإنما بمخلوقاتهما، فإن الإنسان، وقد خلقه "مزدا" حر الإرادة، تتجاذب في حياته هاتان القوتان، فإن هو طهّر بدنه ونفسه وعمل صالحاً، نصر خالقه وأضعف إله الشر، وبذلك يدين بدين "مزدا". 

وقد حوّل المذهب الزرادشتي إلى دين رسمي لبلاد فارس في عهد "داريوس الأول"، واعتنق مذهب زرادشت، ولعلّ سمة التسامح التي تحلى بها داريوس الأول، مردّه إلى الفلسفة الزرادشتية في تفكيرها الإلهي القائل: بأن جوهر "الفكرة الإلهية" لا ينال بتغير الأمم واللغات متغير أسماء، فهو إله واحد لكل العالم، ولكل أمة أن تناديه بالاسم الذي شاءت. ويتماها هذا القول مع قوله تعالى: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف: 40.  

وحيث أن الأمر كذلك، وبغض النظر عن التحريف الذي طال مسألة "التوحيد"، شأنها في ذلك شأن بقية الرسالات بما في ذلك المسيحية التي ليست عنا ببعيدة، إلا أنه يوجد من أوجه التشابه بين الزرادشتية والإسلام ما يجعلنا نرجح أن أصلها سماوي، من حيث أنها تتحدث عن الله باعتباره نور السماوات والأرض، وخالق الخلق، وتؤمن بوجود إبليس الذي يجسد الشر الذي هو نقيض الخير، وعالم الظلمة والضلال الذي هو نقيض عالم النور والإيمان، و تؤكد أن آدم هو أب البشر، كما أنها تحث على قيم العدل ومبادئ الأخلاق التي جاء بها زرادشت الرسول (عاش من سنة 660 الي 583 ق.م)، والذي يخاطب الإله ككيان حميم يمتدحه حتى الموت.  ويعتقد أتباع هذه الرسالة أن الخلاص من القيود المادية إلى الحياة الروحية لا يكون إلا بالطهارة الخالصة من الشر عن طريق التحرر النهائي من الجسد وقيوده.

غير أنه عندما انتشر الإسلام في بلاد فارس اعتنق أهلها دين التوحيد فانتهى الناس من عبادة النار، فانتهت بذلك الديانة الزردشتية. 

ويرد تأثير الزردشتية على التصوف الإسلامي وفق زعم منتقدي هذه الطريقة، إلى دور الفرس في الدولة العباسية واشتغال رجالها في الدواوين والوزارات، حيث نقلوا بعض أفكارهم إلى الإسلام.  لكن الرأي المعارض، يرى أن هذا ليس بدليل قطعي، لأن الدولة المغلوبة تتأثر بالغالبة وفق نظرية ابن خلدون، وأن المنبع الأصلي للصوفية هو فهم حقيقة الإسلام من القرآن والسنة.  (فاطمة داود - مجلة حوليات التراث - العدد 01- جوان 2004). 


التصوف والتأثير الهندوسي والبوذي

يرى المستشرق نيكلسون: " أن التصوف قد يكون عن تأثيرات خارجية غير إسلامية كالبوذية، وأنه ليس في القرآن أصل للتفسير الصوفي". ويري آخرون بعض أوجه اشتراك بين التصوف الاسلامي وبعض مبادئ الديانة الهندوسية، خاصة في الجانب المتعلق بقضية "النيرفانا".   ونقصد بذلك تصوف أبا يزيد بن عيسى البسطامي الذي يعتبر أول من تكلم في "النيرفانا" وأخرج الزهد الديني إلى النظر العقلي فقال: "عرفت الله بالله وعرفت ما دون الله بنور الله"، واليه ينسب القول: “سبحاني ما أعظم شأني " و "ما في الجبة إلا الله". وبعده الحلاج الذي قال " أنا الحق". وكذلك أبو بكر دلف بن جحدر الشبلي (334 ه / 966 م) الذي قال: "أنا النقطة التي تحت الباء"، وهي المقولة التي أخذها عن الإمام عليّ كرم الله وجهه.

ومعروف أن أصل "النيرفانا" هو من الفلسفة الهندوسية المؤسسة على فكرة التناسخ، أي مجيء النفس الواحدة إلى الحياة مرات متعددة تسمى "أدوارا"، بهدف إتاحة الفرصة لها لكي تتهذب، فإذا اكتمل تهذيبها لم يبق لها حاجة إلى المجيء مرة أخرى إلى الحياة الدنيا، فتدخل حينئذ في "النيرفانا"، التي تعني الإنمحاء والانعدام من الوجود والدخول في حالة سكون وانتعاش وراحة مطلقة.  و"النيرفانا" بهذا المعنى هي السعي للتخلص من الوجود المؤلم للنفس داخل الجسد.. وهو ما يعرف عند الصوفية بالفناء وفناء الفناء، فبعضهم يشبه هذا النوع من المسلك بتصرف الفراشة الفطري في سعيها للهروب من الظلمة نحو النور حين يبهرها ضوء الشمعة في الليل الدامس، فتحوم حوله إلى أن ينتهي بها المطاف إلى الاحتراق والفناء، أي الذوبان في اللهب الذي هو منبع نور الشمعة. لاحظ هنا دوران الفراشة حول النور، وطواف العابد حول الكعبة، ودوران الصوفي حول نفسه في رقصة الدراويش التي ابتدعها ابن الرومي، كتعبير عن دوران أصغر جسيم في الكون الذي هو "الدرّة" حول نفسه وحول غيره من الأجسام. لأن سكونه يعني تقلصه وتناثره وانمحائه.  تماما كدوران الأرض والشمس والكواكب والنجوم حول نفسها وحول بعضها البعض، في سفرها الخطي المتموج ركوعا وسجودا إلى مستقر لها.  انه دوران ثلاثي الأبعاد متفاوت السرعات، لكنه مسترسل ومتوازن بشكل دقيق.. وهذا هو ما يعرف بالدوران حول القطب الذي يولد الصيرورة التي توصف بأنها تسبيح لله، وحركة دائمة نحو المعرفة والكمال.  والقطب هنا هو الله، لأنه هو نقطة المركز وكل مركز من دون تعدد وفق الرؤية الصوفية لله والكون (الدوائر – لابن عربي). 

ووجه التلاقي في الصوفية الإسلامية مع الديانة البوذية حسب هذا القول، هو في حالة "الفناء" عند بعض الصوفية، التي توازي "النيرفانا" في الديانة البوذية من جهة، وفكرة الحلول والاتحاد التي توازي فكرة تناسخ الأرواح كما عرفت في الديانة الهندوسية، من جهة أخري.  فالحلول عندهم يعني: حلول أحد الجسمين في الآخر، كحلول الماء في الإناء. أما الاتحاد: فمعناه أن تصير الذاتين ذاتا واحدة، وهو حال وشهود ووجود.  أما الفناء: فهو أن يفنى عنه الحظوظ، أي أن يفنى عما له ويبقى بما لله، وهو بقاء في تعظيم الله وفناء في تعظيم ما سوى الله. ويرى البيروني أن الصوفية أخذوا من فكرة التناسخ حين قالوا: " الدنيا نفس نائمة ونفس يقظة ". (المذاهب الصوفية ص: 32/33).

أما المعارضون لهذا الادعاء فيقولون: أن مثل هذه الحجج غير كافية، وليس التناسخ يشبه الفناء لأن التناسخ معناه حلول الأرواح من جسد لآخر، أما الفناء فانمحاء من الوجود، وهو ما يقول عنه ابن عربي أنه اعتقاد شرك، لأنه لا يمكن الحديث عن فناء شيء من خارج الله هو غير موجود أصلا، لأن الله وحده هو الموجود والواجب الوجود بشرط لا شيء، وبالتالي فلا يمكن الحديث عن وجود شيء معه يمكنه أن يفني. وسيأتي تفصيل القول في كل هذه المصطلحات عند الحديث عن " الوجود بين الوحدة والثنائية ".

وتعتبر البوذية اليوم كإحدى المعتقدات الكبرى في العالم، لجهة عدد أتباعها وتوزيعهم الجغرافي وتأثيرهم الثقافي والاجتماعي.  أما أصلها فهو مشرقي، وتشترك مع الهندوسية في الإيمان بـ "الكارما" التي تعني "أخلاقيات السبب والنتيجة"، و"المايا" التي تعني طبيعة العالم الغير واقعية، و "السامسارا" التي تعني دورة الحياة وإعادة الحياة.

ويؤمن البوذيون أن الهدف الأسمى في الحياة هو الوصول إلى "التنوير"، وهذا الهدف هو من القواسم المشتركة بين البوذية والتصوف الذي يستعمل مصطلح "المعرفة" بدل كلمة "التنوير". كما أن معرفة الله هي غاية المؤمن بامتياز.. ومصداق ذلك يتجلى في أول ما نزل من القرآن في أول آية من أول سورة: (اقرأ)، لأن القراءة هي أول الطريق إلى المعرفة التي تعتبر شرطا أساسيا لسعادة الإنسان في الدنيا وخلاصه في الآخرة، ومن دونها يستحيل السير نحو الكمال سواء في ملك الله أثناء الحياة أو ملكوته بعد الموت.

وحيث أن الأمر كذلك، فلا يمكن أن نوافق نيكلسون فيما ذهب إليه من أن "التصوف قد يكون عن تأثيرات غير إسلامية كالبوذية".. لأن البوذية وان كانت تشترك مع دين التوحيد في العديد من الأمور، إلا أنها ليست بفلسفة كما قد يعتقد البعض، بل حكمة سامية يجهل تاريخيا وإن كان للسماء تأثير في بلورتها بشكل من الأشكال. فمؤسسها "سيدهارتا جواتاما" الذي عاش في الهند حوالي 600 سنة قبل الميلاد، يُحكى أنه عاش حياة رخاء في وسط عائلة غنية، وأبعده والده عن تأثيرات التدين الهندوسي خوفا عليه من المعاناة.. لكن شاءت الأقدار أن يقتحم الدين عليه مخبأه، وتغزو خياله بعض الرؤى، كانت أولاها لرجل مريض وجثة، والرابعة لراهب مسالم زاهد في الدنيا، لكنه ينعم بالأمن والسلام.. وهو ما أثر فيه بشكل حاسم، فهجر حياة الجاه والغنى وسعى وراء "التنوير"، بحثا عن السكينة والسلام من خلال حياة الزهد والتقشف. وهذا بدوره قاسم آخر مشترك بين التصوف الاسلامي والرهبانية المسيحية والبوذية، فالتصوف بدأ بالزهد والمجاهدة أولا، قبل أن يصل إلى ما وصل إليه من معرفة، تعتبر من الأسرار الخفية لاستحالة فهمها بآليات العقل.  إلا أن مثل هذا التشابه الذي هو من طبيعة الأشياء، لا يمكن أن يدفعنا إلى الجزم بأن الأمر يتعلق بتأثير البوذية في النصرانية والتصوف الاسلامي، وإلا لقادنا التساؤل إلى متاهات لا معنى ولا نهاية لها. وبالتالي، فلا يمكن فهم الظاهرة فهما صحيحا إلا من خلال النظرة الشمولية للحق والخلق بدل النظرة التجزيئية التي ينطلق منها فقهاء الرسول للحكم على التدين.

وكون أن الصوفي رجل زاهد يفضل الانقطاع إلى التأمل في لحظة صفاء، فلا يعني ذلك أنه تأثر بمنهج مؤسس البوذية "سيدهارتا جواتاما" الذي جلس تحت شجرة في الخلاء للتأمل بحثا عن "التنوير"، فوجده في اليوم التالي، وبذلك أصبحت الشجرة تسمي "بوذا" والمتأمل الذي وجد التنوير يدعي "بوذي".. لأن إذلال الذات، والزهد في الدنيا، ومحبة الخلوة للتأمل والتفكير، هي طبيعة بشرية بحتة، لها علاقة بالفطرة التي فطر الله عليها عباده، وقد عرفها العُبّاد قديما لقوله تعالى: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين امنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) الحديد: 27.  كما عرف الخلوة للتأمل والتعبد كل من الأولياء والأنبياء والرسل كافة بدليل تجربة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في غار حراء، باعتبارها الوسيلة الوحيدة بالنسبة للسالك الراغب في البحث عن الحقيقة المؤدية إلى معرفة النفس ومعرفة الله، لقول الرسول في حديث شهير يستند إليه الصوفية في تبرير مسلكهم: (من عرف نفسه فقد عرف ربه).

      أما ما اكتشفه "سيدهارتا جواتاما" خلال تأمله، فتلخصه التعاليم البوذية في المبادئ الأساسية التالية:

       -  الاستنارة تكون في "الطريق الوسط"، وليس في الانغماس في الرفاهية أو في تعذيب الذات، وهو ما يقول به الإسلام أيضا حول "الوسطية" بحيث وصف بها تعالى أمة محمد لقوله: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) البقرة: 143.

وبسبب هذه الوسطية عرف بوذا  "الحقائق الأربعة النبيلة" وهي:

 أ -  الحياة معاناة: (دوكا).

 ب - المعاناة تأتي من رغبات النفس (تانها، أو "تعلق النفس بالشهوات").

 ج -  يمكن أن ينهي الإنسان كل معاناته بالتخلي عن كل الأمور الذاتية التي تعلق به ويتعلق بها.

 د -  يتم تحقيق ذلك بإتباع الطريق "الثماني" النبيل والمتمثل في "الاستقامة".

أما "الطريق الثماني" النبيل فيتحقق عندما يكون لدى الشخص:

1.   نظرة صحيحة للأمور (ظاهرها وباطنها).

2.   نية صحيحة (صادقة).

3.   كلام صحيح (موزون ومسؤول).

4.   أعمال صحيحة (ايجابية تنفع الناس).

5.   معيشة صحيحة (زهد وسطي من دون تطرف أو مغالاة).

6.   مجهود صحيح (توجيه الطاقة الإيجابية بطريقة صحيحة نحو الخير والأمور النافعة).

7.   تفكير بطريقة صحيحة (التأمل العقلي والحسي العميق).

8.   تركيز صحيح (حول جوهر الأمور وحقيقتها بدل الانشغال بمظاهر الأشياء الزائفة الخادعة).

والأسئلة التي نطرحها بعد هذا التوضيح على المستشرق نيكلسون هي:

-       هل تختلف هذه التعاليم الوسطية المميزة عن تعاليم التوحيد الإسلامي برسالاته الثلاث: (الموسوية والعيساوية والمحمدية)؟

-       وهل يصح القول إن تعاليم البوذية الوسطية كما جاء بها مؤسسها الروحي، هي التي أثرت في تعاليم السماء أم أن العكس هو الصحيح؟

الجواب نجده في قوله تعالي: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل:43.

وإذا كان من وراء البوذية وقبلها الهندوكية، قلق مشترك لجهة فهم الحقيقة على أنها وحدوية في اتجاهها، كما هو الحال بالنسبة للديانة التوحيدية بكافة رسائلها واختلاف رسلها.. إلا أن هذين "الفلسفتين"، إن صح التعبير، وان كنا نفضل وصفهما ب "الحكمتين"، لا يفصحان عن مفهومهما المحدد لماهية الله، ويستأثران الصمت تجاه حقيقة الكائن المطلق. حتى وان كانتا ظاهريا تعتقدان بتعدد وتنوع الكائنات المُمجّدة.. فعندما سُئل بوذا مثلا عن كيفية بداية العالم، وعمّن خلق الكون، ظل صامتاً، لأنه في البوذية لا توجد بداية ولا نهاية.. بل توجد حلقة لا نهائية من الحياة والموت حتى تتطهر النفس من كل العوالق، وتدخل في حالة "النيرفانا" التي تعني الانغماس في السلام والسعادة الأبدية، أو بمعني من المعاني: "الاتحاد" بالكائن الأسمى والذوبان في ذاته. تقول البوذية أن "النيرفانا" هي أسمى حالات الوجود، أي أنها حالة من الوجود الطاهر والكمال المتناهي.  ويستطيع كل شخص الوصول إليها بمجهوده وطريقته. ولا تتوافق "النيرفانا" باعتبارها غاية نهائية مع التفسير الحسي أو النظام العقلاني والمنطقي، ولهذا لا يمكن تعلمها، بل فقط يتم الوصول إليها بمجاهدة النفس وإدراكها بالذوق، مثلها مثل التجربة التصوف.

ومن جهة أخري، لم يعتبر بوذا نفسه إلهاً أو مخلوقا سامياً في حياته. بل اعتبر نفسه "معلما" و "مرشدا للطريق" أي إلى "النيرفانا".. لكن بعد موته، تم تمجيده كإله من جانب بعض أتباعه، رغم أنه لم ينظر إليه كل أتباعه على أنه كذلك. ولعله نفس الأمر الذي حدث مع المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، الذي لم ينظر إليه في حياته كاله أو ابن إله، بل كمعلم ومرشد إلى الطريق المستقيم. غير أن وصمه بسمة الألوهية، حصل بمئات السنين بعد موته من قبل الكنيسة الكاثوليكية، التي ابتدعت عقيدة التثليث على أساس نظرية الحلول، من دون أن يكون لها أصل ظاهر من الدين، واعتبرت أن لا خلاص من خارج عقيدة الكنيسة.  والأناجيل الأربعة التي بين أيدينا اليوم، برغم ما طالها من تحريف وتحوير، لا تتفق حول حقيقة المسيح عليه السلام. فمنها من يعتبره ابن الله: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) التوبة: 30. ومنها من يقول إنه الله بلحمه وشحمه ودمه، مجسدا في ذات المسيح: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) المائدة: 17. ومنها من يرجعه إلى أصله الطبيعي ويصفه بأنه ابن الإنسان: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) آل عمران: 59. ومنها من يقول إنه ابن مريم العذراء وكلمة الله التي جاء بها الروح الأمين. وفي ذلك قال تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) المائدة: 75.

وفي البوذية، تعتبر الخطيئة بمثابة جهل، وتعرف بأنها "خطأ أخلاقي"، غير أن مفهوم "الخير" و "الشر" يعتبر غير أخلاقي، باعتبار أن "الكارما" (أخلاقيات السبب والنتيجة) تحقق بالنهاية التوازن الطبيعي المطلوب (وهو ما يعرف بسنة الله في القرآن). فالطبيعة ليست غير أخلاقية ولا يمكن أن تكون كذلك، وبالتالي فـ "الكارما" لا تعتبر "قانونا أخلاقيا" يجب الالتزام به والسعي لتطبيقه، لأن التوازن يحقق نفسه بنفسه وفق قوانين لا يستطيع الإنسان التدخل فيها لتغييرها (ولن تجد لسنة الله تبديلا أو تحويلا أو تغييرا). ومن هذا المفهوم اعتبرت الخطيئة أنها ليست "غير أخلاقية" لأنها بالنهاية خطأ غير شخصي.  لذلك يمكن القول، إنه في المفهوم البوذي، لا تعتبر أخطاء البشر قضية أخلاقية بما أنها في طبيعتها الحقيقية أخطاء غير شخصية، ولا يمكن بالتالي تصنيفها على أنها بمثابة إثم ضد طبيعة الله المقدسة كما تفعل الكنيسة الكاثوليكية، حيث تعتبر مرتكب الخطيئة وفق تعريفها، هو من يرتكب الإثم ضد الله سبحانه وتعالى عما يصف الجاهلون علوا كبيرا.

وفيما يتعلق بمسألة الوجود، فقد علّم بوذا الناس أن البشر ليس لهم أرواح منفردة، لأن الذات الفردية مجرد وهم لا حقيقة له.  ويتساوق مثل هذا القول مع العقيدة الإسلامية التي تعتبر أن الله خلق الناس جميعا من نفس واحدة: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء) النساء: 1. وأنه تعالى نفخ في آدم من روحه بعد أن اصطفاه من بين الخلق وجعله خليفة لمن سبقه من البشر البدائي بعد أن اكتمل تطوره وأصبح إنسانا عاقلا (هومو سابينس) وفق ما تعطيه كلمة "سوّيته" من مدلول ديني وعلمي، لقوله تعالى: (فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر: 29.  ومن هنا تحديدا استمد الصوفية الأصل المعرفي لنظريتهم الشهيرة القائلة بـ "الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة " (الواحد الكثير والكثير الواحد)، فاعتبروا الأجساد مجرد صور للأعيان الثابتة في علم الله العلي العظيم، أو بعبارة أخري: "مجالي" لرؤية الله للعالم والإنسان، لا وجود لها على الحقيقة مثلها مثل المادة التي خلفت من نور (طاقة) وتتحول إلى ما لا نهاية من دون أن تفنى في العدم، لأن الوجود لله وحده من دون شريك، وهذا هو معني (لا إله إلا الله) عند الصوفية.

إن التصوف الاسلامي الحقيقي، وإن كان من جهته، يعتقد أن الغاية من الوجود هي معرفة الحقيقة التي توصف بأنها "السر الخفي" أو "سر الأسرار"، وأن الطريق إليها يسلكه كل عابد زاهد مجتهد بشكل شخصي.. إلا أن الصوفية لا يتقاسمون بعضا من المعتقدات البوذية أو المسيحية الخاطئة، ولا يسلمون كذلك ببعض طقوس الزوايا الدينية المنحرفة.. لكنهم في نفس الوقت لا يهاجمون أحدا، بل يحترمون كل المعتقدات والخصوصيات الثقافية من منطلق دين الحب أو الرحمة التي تشمل الجميع من دون استثناء، لقوله تعالى: (عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء) الأعراف: 156. فقيّد الله تعالى العذاب بمشيئته في رده على عبده موسي (ع). وبهذا المعني يكون سبب وجود العذاب في الحقيقة هو عدم وجود سبب للرحمة. ويتضح مما تقدم أن سعة الرحمة ليست سعة شأنية، وأن قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء) ليس مقيدا بالمشيئة المقدرة بل من لوازم سعة الرحمة الفعليّة، لأن الظاهر من الآية أن المراد بالرحمة، الرحمة العامة الشاملة، وهي تسع كل شيء بالفعل من دون استثناء، وقد شاء الله ذلك فلزمها، فلا محل لتقدير (إن شئت)، خلافا لظاهر كلام جمع من المفسرين (الميزان في تفسير القرآن – 156).  ولهذا السبب بالذات، يبتعد الصوفية عن إصدار الأحكام الجاهزة في قضايا تتعلق بالمعتقدات كما يفعل المتطرفة من أهل السنة والجماعة (الوهابية والسلفية الجديدة)، بل يردون أمرها إلى الله احتراما لقوله تعالي: (إن الذين امنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد) الحج:17. لاحظ أن الله ذكر المجوس هنا أيضا، وهي إشارة لطيفة إلى أن أصل المعتقد هو سماوي، فافهم هذا. لأن هذا القول الكريم مفاده: أن لا حق لأحد، كائن من كان، أن يحكم على عقيدة أحد من الناس، غير الله سبحانه وتعالى صاحب الدين، له الحكم واليه ترجع الأمور.


التصوف والتأثير اليوناني

     يعتبر التشابه في القول مع الاختلاف في التصور من المبادئ التي استند عليها أعداء الصوفية للقول بتسرب المذهب الأيوني اليوناني إلى التصوف الاسلامي، حيث أنه يقول بالاعتقاد بالشمول، أي: "أن جميع أوجه الطبيعة مظاهر للألوهة، وأن الوجود كله في الحقيقة هو الله". ويعتبر الفيلسوف والعالم الرياضي "فيثاغورس" هو القائل بأن: "وراء هذا العالم المادي عالما روحانيا تشتاق إليه النفوس، ولكن لا يصل إليه إلا من قوّم نفسه بالتبري من العجب والتجبر والرياء وغيرها من الشهوات الجسدانية".  كما أن أرسطو هو صاحب المبدأ الشهير، القائل بأن: "الله هو الغاية التي ينجذب إليها العالم في تطوره نحو الكمال". مثال الشمعة والفراشة التي تحوم حول النور إلى أن تحترق به وتذوب فيه.

يقول المفكر والفيلسوف رينولد صاحب كتاب التصوف: " لكني على يقين من أننا إذا نظرنا إلى الظروف التاريخية التي أحاطت بنشأة التصوف بمعناه الدقيق، استحال علينا أن نرد أصله إلى عامل هندي أو فارسي ولزم أن نعتبره وليد اتحاد الفكر اليوناني والديانة الشرقية أو بعبارة أخرى وليد اتحاد الفلسفة الأفلاطونية الحديثة والديانة المسيحية." (المدخل إلى التصوف الاسلامي - أبو الفيض المنوفي – ص: 28/44). وهو كما يبدو، مجرد رأي لا أساس علمي له بالمرة.

ويري بعض من منتقدي التصوف، أنه وبسبب ازدهار الترجمة في العصر العباسي، بصم الفكر الإغريقي طابعه على الثقافة العربية الإسلامية وأثر على تعاليم المتكلمين، كما أثرت المدرسة الأفلاطونية الحديثة على الصوفية. ويدور مذهب أفلاطون حول الله والنفس والعقل، فالله جوهر المذهب وهو المحبوب المبدع الذي تشتاق إليه الصور العليا وهو قديم لا يتغير، وأن الجواهر العقلية قد فاضت وتفاضلت مراتبها نتيجة اختلافها قربا أو بعدا من النور الأول الذي فاضت منه. والنفس جوهر كريم، وهي نقطة تدور حول العقل، والعقل جزء يهيم باشتياق إلى الله، أي إلى "النور الأول" وأصل كل الأنوار.  والحكماء هم اللذين يريدون الحكمة ويسعون إليها فتتشوق نفوسهم إلى صانعها الحكيم.  ومن هنا قيل إن الله هو المعشوق الأول ذو جمال مطلق.  والصوفي أيضا يريد هذا الجذب، ويسعي إلى نور الله الذي فاضت منه نفسه، وعقله، وروحه، وإيمانه.. ليحقق ذاته فيه. أما ما ينتقده فقهاء الرسوم في الحكمة الأفلاطونية، فهو قول هذه الأخيرة أن الله هو "نور أول"، ويعتبرون مثل هذا التعريف كفرا فادحا من جهلهم لطبيعة الله، هذا في الوقت الذي يقول الله تعالى عن نفسه في الآية 35 من سورة النور ما نصه: (الله نور السماوات والأرض). فهل بعد هذا الجهل من جهل؟

واتهم أهل الظاهر الصوفية كذلك، بالأخذ من المذهب "الاسكندراني" لصاحبه "أفلوطين" (204 - 261 م)، القائل بأن النفس تحاول في أثناء حياتها أن تتصل لحظات بالملأ الأعلى (الملكوت)، إذا قامت بمنهاج معين من الرياضة النفسية.  قال أفلوطين: " يجب على النفس أن تتحرر من شهوات الحياة وأن تدمن التأمل في الله. عندئذ تدخل في حالة من الذهول ويتم لها الاتصال بالعلة الأولى لوجودها – أي بالله - فتخسر النفس حينئذ وجودها الجزئي وشعورها الشخصي وتتبدل بهما شعورا بالسعادة والاطمئنان لأنها تكون قد أصبحت مع الله شيئا واحدا ". (تاريخ الفكر العربي – د. عمر فروخ – ج 1 – ص380/381).  

وبما أن مثل هذا التعريف لا يختلف في شيء عن ماهية "النيرفانا" كما عرفتها الفلسفة الهندوكية والبوذية، فهل نسمح لأنفسنا بالقول إن أفلوطين قد تأثر بهما.  ويذهب أفلوطين إلى حد القول بأن الله هو الأول والآخر ومنه يصدر كل شيء، وأن الاتصال بالله والفناء فيه هو الهدف الحقيقي وهو غير متناه، منزه عن كل صفة، وبهذا قال كذلك المعتزلة فاعتبروا أن الصفة لا تلحق إلا بالذات الناقصة، ولذلك قالوا إن الله لا يمكن أن يكون إلا ذاتا وصفة في نفس الوقت باعتباره الكمال عينه. وأن الله هو أسمى من الجمال والحقيقة والخير، فالعالم فيض من الله ولم يخلقه لأن الخلق يتطلب الإرادة والشعور. (الأدب في التراث الصوفي، ص 206 - 207).

إن مثل هذه المبادئ نجدها كذلك عند بعض الصوفية الكبار من أمثال ابن عربي وابن الفارض والحلاج والسهروردي وابن سبعين وغيرهم، ممن تغنوا بالحب الإلهي، والسكر الروحي، ووحدة الوجود والإشراق.  فالحب الصوفي في النهاية هو حب وجداني يهيم بالجمال ليصل إلى معانيه الروحية... وهذا لا يعني أن الصوفية أخذوا هذا النوع من الإحساس الروحي الفياض من المذهب الاسكندراني.  كما أن أفلوطين بالإضافة إلى القواسم المشتركة التي تجمع مقولاته بالفكر المعتزلي خاصة، والفكر الصوفي الاسلامي عامة، يتفق مع المتصوفة على الأقل في النظرة الشمولية، ونظرية الفيض والإشراق والمعرفة والفكر، ومع ذلك فالخلاف واضح بينه وبين الصوفية، لكون الفلسفة اليونانية وثنية تؤمن بتعدد الآلهة وإن كانت تؤمن بوجود إله واحد كبير يحكمها، وتعتقد بتناسخ الأرواح، في حين أن التصوف مبني على عقيدة التوحيد الحنفية. كما أن الاتصال سلبي غير شخصي عند أفلوطين، في حين أنه ايجابي وشخصي عند المسلمين. (التصوف في الإسلام -  ص 32 وما بعدها - عمر فروخ -  بيروت 1947).


التصوف والتأثير الصيني

والاتهامات لا تكاد تقف عند حد، بل أكثر من ذلك، فقد اتهموا الصوفية بالأخذ من العنصر "الصيني" أيضا، ويعتبر الدكتور عمر فروخ أول من أشار إلى هذه العلاقة في كتابه (التصوف في الإسلام – بيروت 1947 – ص: 39 – 45)، حيث ذهب إلى القول: "إن تنظيم التصوف في الإسلام يرجع إلى أسس وقواعد صينية للفيلسوف ' لي آره أو لاوتسه ' الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد" (وهو نفس القرن الذي عاش فيه مؤسس البوذية)، فألف كتابا سماه (تآو) أي (الطريق). ويجمع الصينيون في هذه الكلمة (تآو) مدارك متعددة في الأخلاق وفلسفة الحياة، وهي عندهم: أقدم من السماوات والأرض، أي أنها الحقيقة القصوى: كل شيء بدأ منها، وهو موجود فيها، وإليها يرجع، لا يحيط بها وصف، ولا تدرك بالبصر ولا بالسمع ولا بالعقل.  والرجل 'التاوي' يعتقد أن الإنسان في الحياة الدنيا في سفر. أما الحصول على (تآو) أو الاتصال بها لأجل نيل الرضا والطمأنينة، فيكون إذا نجا الإنسان من شرك المادة - بفتح الشين والراء -، أي من 'سجن 'الجسد' ومن حواجز 'المكان والزمان' بأن ينصرف بعقله عن الدنيا، بترك الزهو وهجر الشهوات وبالتواضع بين الناس ونفض اليد من حب الطموح والثروة. عندئذ يمر 'التاوي' في ثلاث مراتب تسمي مقامات: حيث يبدأ بتزكية نفسه حتى يتجرد من جميع شهواته، ثم يصل إلى الإشراق حينما يصبح إتيان الفضائل فيه سجية، ثم يتم له الاتصال بـ (التآو) فيتحد بالوجود ويستطيع حينئذ أن يعرف كل ما في العالم من غير أن يخرج من بيته". وهو ما يسميه الصوفية بـ "الحال".

لكن في خضم حماسة هذا الاكتشاف، ينسى الدكتور فروخ عنصرين أساسين من شأنهما قلب كل استنتاجاته المجانبة للصواب. العنصر الأول: يتعلق بمصدر الفلسفة الصينية نفسها ومفهوم "تآو" أو "الطريق" كما تسمى. فإذا قارناها بجوهر الاعتقاد الديني سواء منه الإبراهيمي أو الموسوي أو العيسوي أو المحمدي، بل وحتى بأساس الفلسفة الهندوسية والبوذية والإغريقية واليونانية وغيرها...  ألا نستنتج أن هناك عناصر جوهرية مشتركة بينها جميعا، وأن مصدر الإلهام وينبوع الإشراق لا يمكن أن يكون بالنهاية إلا إلهيا، بغض النظر عن بعض الجزئيات التي تصنع الفروق بين رسالة وأخري في إطار نفس الدين السماوي المنزل من نفس الإله.  أو لم يقل سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء:  163  إلى 165. وبالتالي، فاستثناء شعوب الصين قبل الميلاد من هذه القاعدة الإلهية العامة ينتفي مع مبدأ العدل الإلهي والصفة التي امتدح بها نفسه حين أعلن أنه رب العالمين جميعا.

ثم ألم يقل الله في شأن العبادة: (وقضي ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) الإسراء: 23؟. بمعنى أن قضائه وحكمه، بل وأمره التكويني في أصل الخلق وإلى أن تبدل السماوات غير السماوات والأرض غير الأرض، ألزم جميع الخلق بعبادته طوعا أو كرها من دون استثناء، وبالتالي، يستحيل القول بإمكانية عبادة إله غيره.  ودليل ذلك قوله سبحانه: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف: 40. وهو ما يعني صراحة أن ما يُعتقد أنه يُعبد من دون الله لا وجود له أصلا، إنما هي أسماء اخترعوها لا ذوات ولا صفات فاعلة لها... إنها "لا شيء” ما دام من الناحية النظرية والعملية، الله وحده هو الاسم والمسمى، ولا وجود لاسم أو مسمى من خارجه أو معه.. والكل يعبد الله بأمر تكويني قاهر، لقوله: (إن كل من في السماوات والأرض إلا أتى الرحمن عبدا) مريم: 93. وهو ما يفيد انتفاء خيار الإرادة الإنسانية بالمطلق في مسألة العبادة.  وقال كذلك: (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وان من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان حليما غفورا) الإسراء آية 44.

وبعد هذا، يصبح من الواضح لمن يمتلك أبسط مقومات التفكير المنطقي الإقرار بأن لا شيء على الإطلاق يمكن أن يخرج عن مجال عبادة الله في الكون، وكل اعتقاد يخالف هذا القضاء الإلهي المبرم لا يعدو كونه أوهاما في أوهام.. ولهذا السبب بالذات قال البسطامي: "ما في الجبة إلا الله" أو بعبارة القرآن: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) البقرة 115.  ويؤكد ذلك أيضا قوله تعالى: (ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم واليه ترجعون) القصص 88.

أما العنصر الثاني الذي أغفله المنتقد عن قصد أو من دونه، هو استحالة أن يكون التصوف في الإسلام قد أخذ أسسه وقواعده التنظيمية من أسس وقواعد الفلسفة الصينية لسببين وجيهين على الأقل:

-       السبب الأول: ومفاده، أن التصوف لا يقوم على أسس تنظيمية كما هو الشأن بالنسبة للفلسفة الصينية، ولا تعرف له قواعد عقلية.. إنه فقط طريقة ذات مسالك عديدة ومتعددة، تختلف من شخص إلى آخر ومن جماعة إلى أخري، أو بعبارة أكثر دقة: التصوف سلوك: أي عمل واجتهاد فردي لا علم كسبي، بل معرفة لدنية باعتبارها الغاية المنشودة بالنسبة للسالك وليست الوسيلة كما يعتقد بعض المنتقدين للتصوف.
-        السبب الثاني: أن في النصوص الإسلامية من قرآن وحديث وحكم نبوية، ما يغني عن كل مصادر الكون مجتمعة، لمن أراد التزود قصد سلوك طريق المقوين (المسافرين) إلى الله بغاية معرفته والقرب منه.. لكن قبل ذلك، على السالك أن يعرف نفسه أولا، مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من عرف نفسه فقد عرف ربه)، وطلب العون من الله لهدايته بنور العلم الرباني (وقل ربي زدني علما) طه:    114. لأنه من غير ذلك، سيظل الإنسان يدور في دائرة مفرغة من غير اتجاه، وهذه هي الحيرة بعينها، أي الضلال وفقدان البوصلة.

يتبــــــع...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق