بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 13 نوفمبر 2018

التصوف: النشأة والتكوين (3/1)



الأصول التاريخية للتصوف

يقول العالم هنري كوربان، أن التصوف ظهر لأول مرة لدى كبار أساتذة الصوفية الشيعة، متأثرين في ذلك بـ "الفلسفة النبوية" أو ما يعرف بـ "علم القلوب" لدى التيار الشيعي، وذلك قبل ظهور ما يسمى بالمذاهب، وفي المقابل، تبدو "الصوفية السنية" أقرب إلى هوى المستشرقين من "الصوفية الشيعة" حسب هذا التصنيف الطائفي (الفلسفة الإسلامية – ص: ٢٨٣ - ٢٨٤) .../...

وتشير المراجع التي اعتمدها هنري كوربان في تأصيل الظاهرة إلى أن التصوف نشأ فجأة من خلال جماعة من الشيعة الروحانيين من أهل الكوفة في أواخر القرنين الثاني والثالث للهجرة، وتطور من خلال الجهد الكبير الذي بدله حيدر آملي واستمر تأثيره في الأوساط "الشيعية" إلى اليوم، كما أن أول مدرسة عرفت بالتصوف هي "المدرسة الإسماعيلية"، لكن واقع الأمر يؤكد أن العدد الأكبر من الصوفية في العالم الإسلامي اليوم ينتمي إلى العالم "السني"، بحكم الكثرة العددية لأتباع هذا المذهب، نتيجة الظروف السياسية التي أدت إلى انتصار تيار "أهل السنة والجماعة" زمن معاوية على تيار "شيعة" آل البيت.

وإذا كان الصوفية "السنة" يجهرون بانتمائهم لهذه الظاهرة، فإن إخوانهم "الشيعة" يبدون أكثر تكتما وحرصا على الإنكار، بسبب التضارب القائم على مستوى الولاية بين "الإمام الغائب" و "القطب" الحاضر، وبالتالي، لا يمكن القبول بأن يتولى القطب الصوفي مقام الولاية عند الشيعة.

يضاف إلى هذا المعطى، مسألة التقية التي تميز بها الشيعة، خوفا من تربص فقهاء الظاهر المتحالفين مع الإقطاع الذي حكم العالم العربي والإسلامي لفترات طويلة، وأدى إلى مجازر مأساوية ارتكبت في حق بعض كبار الصوفية بسبب فتاوى تكفيرية. لكن ذلك لم يمنع “الشيعة" من التكلم باللغة الصوفية في حلقاتهم الضيقة، والتبشير بالحكمة اللدنية في مجالسهم الخاصة، إلا أنهم كانوا يرفضون البوح جهرا بانتمائهم لهذا الاتجاه الروحي الذي لا يسير في دربه إلا الخاصة وخاصة الخاصة (المرجع السابق – ص: ٢٨٥ - ٢٨٦).

غير أن الإمام الشيعي اللبناني موسى الصدر، يخالف هذا الاستنتاج، بزعمه أن "كلمات فقهاء الشيعة ومحدثيهم ومتكلميهم وحتى فلاسفتهم، مليئة بنفي أي شبه بين التشيع والتصوف، مؤكدا أن التصوف مدرسة مستقلة عالمية، تسربت إلى الشيعة بعد أن غزت العالم الإسلامي كله، حتى أن التصوف الآن يعد مفتاحا لانفتاح جميع المعتقدات السماوية والمذاهب على بعضها البعض، ولا يختص بالتشيع تبعا ولا سندا" (المرجع السابق – ص: ٢٤)..

وهو ما لا يصمد أمام الحقائق التاريخية التي تؤكد عكس ما ذهب إليه الإمام الصدر كما سبقت الإشارة. لأن ظهور التصوف فجأة لدى جماعة من الشيعة الروحانيين من أهل الكوفة في أواخر القرنين الثاني والثالث للهجرة كما تشير إلى ذلك المعطيات التاريخية التي تؤصل للظاهرة، لا يعني أن التصوف ظهر من فراغ، بل الأمر يعني بزوغ ظاهرة التصوف بهذا الاسم الذي اشتهرت به لأول مرة في التاريخ الإسلامي، لكن منابعها الأساسية تعود لزمن هرمس النبي الذي يعد من كبار الأنبياء، ويقال أنه هو نبي الله إدريس عليه السلام وفق ما ذكره صاحب (الملل والنحل – ج٢ – ص ٤٥)، وذكره أيضا ابن النديم في (الفهرست – ص: ٨٠٧)، وجاء أيضا في تاريخ الفلسفة لـ: دي بور – ص: ٢٣ – ٢٤)، وهي المراجع التي استند إليها هنري كوربان في تأصيل الظاهرة، حيث يقول:

"ليس من العجب أن يكون الشيعة أول من "تهرمس" في الإسلام، فالفلسفة النبوية عند الشيعة، من جهة، قد تبادر إلى ذهننا، تلقائيا، إلى أي طبقة نبوية ينتمي "هرمس". فهو لم يكن رسولا مشرعا مكلفا بأن يعلن للناس عن شريعة جديدة، بل إن دوره في تاريخ الرسل القدساني، هو دور نبي أرسل لكي ينظم الحياة في المدن المتحضرة ويعلم أهلها الأمور التقنية والفنية. كما أن علم العرفان الشيعي، من ناحية أخرى، يدرك كذلك نوع المعرفة الشائعة عند الأنبياء العاديين الذين سبقوا الإسلام (كهرمس مثلا) وعند الأئمة والأولياء عامة، في دور الولاية الذي تلا دور النبوة. وهو ما يوصف بإلهام سماوي يكاد يفوق الرسالة النبوية المشرعة قدرا. وتظهر الفلسفة الهرمسية، فعلا، وكأنها حكمة لدنية، أي فلسفة نبوية" (تاريخ الفلسفة الإسلامية – ص: ١٩٨).

ومعلوم أن الهرمسية هي عقيدة الصابئة، والتي يقول الشهرستاني حسب ما ورد في (الملل والنحل – ج ٢ – ص: من ٥ إلى ٤٥)، أن أهل السنة يعتبرونها عقيدة لا تتفق مع الإسلام لأنها عقيدة تستطيع التكيف مع الدين من دون حاجة لرسول يأتي بشريعة.

والسؤال هو: - إذا كانت عقيدة الصابئة لا تتفق مع الإسلام كما يفهمه فقهاء أهل السنة والجماعة، فكيف نفهم إذن قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: ٦٢؟ ... ألا تعني هذه الآية الكريمة بوضوح لا لبس فيه، أن الحقيقة الدينية عند الله هي أكبر من أن تختزل في الشريعة التي يعتقد فقهاء الرسوم أنها جوهر الدين وأساس الإيمان في الدنيا وشرط الخلاص في الاخرة؟ ...

من المهم الإشارة بالمناسبة، إلى أن د. محمد عابد الجابري، كان قد أخذ بحديث (خلق الله آدم على صورته) في مؤلفه الشهير "نقد العقل العربي"، للقول بتميّز العقل الشيعي الفارسي عن العقل السني العربي نظرا لأخذه بـ "الغنوصية الهرمسية"، (نسبة إلى هرمس الذي تقول عديد المراجع الإسلامية أنه النبي إدريس عليه السلام)، وأن النبي هرمس كان أول من قال بخلود النفس لأنها من أصل إلهي قبل أفلاطون بقرون، ما يؤكد أن الفلسفة اليونانية هي من تأثرت بتعاليم "هرمس الحكيم" وليس العكس، وبذلك يكون القول بأن التصوف الإسلامي قد تأثر بالفلسفة اليونانية في رؤيته لله والكون والإنسان قول باطل لا أساس له من سند.

والذين انتقدوا د. محمد عابد الجابري في نسبته الغنوصية لدى الفلاسفة المسلمين والصوفية إلى الفلسفة الهرمسية، بزعم أن أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد، كان سبّاقا للقول بالأصل الإلهي للنفس، وأنها خالدة، ويمثل الموت لحظة تحرر وانعتاق لها من الجسد الفاني.. وبالتالي، فمن حوّل هذا الاعتقاد إلى حقيقة مشاعة في الفلسفة اليونانية والهلنستية على حد سواء هو أفلاطون حسب زعمهم.. إنما ينم عن جهل بالتاريخ وبالحقيقة الدينية معا.

ذلك أنهم يخلطون بين هرمس أو إدريس النبي عليه السلام الذي بعثه الله قبل الطوفان الذي حدث زمن نوح عليه السلام من جهة، وهرمس الحكيم الإغريقي الذي عاش في القرن الخامس الميلادي، وأمضى حياته في الإسكندرية، وكان من أتباع الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، كما كان أقرب إلى المدرسة الإسكندرية منه إلى المدرسة الأثينية (نسبة إلى أثينا اليونانية) من جهة أخرى (تاريخ التراث الإسلامي – الجزء الثاني – الهوامش والمراجع ٤٢ – ص: ٢٣١).

وقد يكون هذا الخلط ناجم عمّا ذكره ابن النديم لهرمس الحكيم الإغريقي من مؤلفات حول الفلسفة الأفلاطونية وفلسفة أرسطو، وذكر له الكندي أيضا كتابا يتضمن مقالات مميزة في التوحيد، كتبها لابنه، وأخذ بمضمونها عديد من الفلاسفة من بعده (دائرة المعارف البريطانية – ج١١ – ص: ٣١٢ - ٣١٣).

أما هرمس النبي، فقد ذكر عدد لا يستهان به من العلماء، مسلمين ومستشرقين، نقلا عن مصادر كتابية موثوقة، أن هرمس هو نفسه أخنوخ النبي الثالث الوارد ذكره في التوراة، أو النبي إدريس المذكور في القرآن، وأنه هو من أحيى تعاليم آدم وشيت حيث جاء بعدهما مباشرة، وكتب مقالات كثيرة في التوحيد على الصخور قبل الطوفان.

وفي هذا الصدد، يشير د. عبد الكريم الخطيب في كتابه (الله ذاتا وموضوعا – ص:334) نقلا عن المؤلف أ.س. رابوبرت - فيما أورده في كتابه (مبادئ الفلسفة – ص: 166 – ترجمة أحمد أمين) ما مفاده، أنه على هرم في هيكل "ايزيس" بجهة "صا الحجر" من أعمال مصر القديمة، عثر على نقش قديم يعود لفترة ما قبل الطوفان يقول:

"أنا كل شيء كان.. وكل شيء كائن.. وكل شيء سيكون... 
ومحال على من يفني أن يزيل النقاب الذي تنقب به من لا يفني

ويشير المؤرخون إلى أنه في فترة ما قبل الطوفان، كان النبي هرمس (إدريس)، هو الوحيد الذي يكتب فوق الرمل وفوق الصخر الحكم اللدنية التي كان يتلقاها من السماء، وأن مضمون النقش الذي عثر عليه بهيكل "إيزيس"، يؤسس لنظرية "كل شيء" التي قال بها فلاسفة اليونان، أو نظرية "وحدة الوجود" التي قالت بها الغنوصية، أو نظرية "الواحد الكثير والكثير الواحد" التي قال بها الصوفية الصوفية، واستدل كل فريق على نظريته بطريقته الخاصة. وهي ذات النظرية التي اشتغل عليها العالم الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكينغ الذي قال بنظرية "الانفجار العظيم"، وصاحب كتاب "تاريخ الزمان الموجز" والذي استعرض فيه النظريات الكبرى عن الزمان والكون بأسلوب ميسّر بسيط يسهل فهمه.

وتعليقا على هذا الاكتشاف المدهش والنوعي في المجال المعرفي (نظرية كل شيئ)، خلص الدكتور خضير عباس في احدى مشاركاته المثيرة على موقع الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، إلى أن الأخبار المتداولة عن مسار النظرية العلمية الجديدة المسماة بـ "نظرية كل شيء" لصاحبها العالم البريطاني ستيفن هوكينغ صاحب نظرية 'الانفجار العظيم' و'تاريخ الزمن الموجز'، أوصلتني إلى قناعة مفادها: "أن نظرية كل شيء صوفية المبدأ، والذي يهمني في هذا هو أن هذه النظرية في حال اكتمالها والبرهنة على صدقها علميا، سيشكل دليلا آخر على صدق النهج الصوفي. لأنها ستثبت لي ولغيري ما قاله كبار الصوفية من أمثال الشيخ ابن عربي والحلاج والسهروردي وابن سبعين عن "وحدة الوجود".. وان الموجود حقا وصدقا هو الله سبحانه وتعالى، وان ما يوصف بالوجود عداه فهو محض تجليات (أبعاد) لأسمائه الحسنى جل وعلا في مستوى الألوهية التي هي الوسيط بين الله والعالم والإنسان. وبالتالي سأفقد الحجة التي تبرر لي عدم تقيدي بهذا النهج، لأنه سيثبت علميا وعمليا، أن ما قالوه هو ليس مجرد خيال صوفي يصف الله بما لا يليق، لأن الحقائق العلمية لا يمكن دحضها بالادعاءات الفارغة".

ومعلوم أن "نظرية كل شيء"، أثارت في الغرب بعدا جديدا من النقاش الجاد والعميق، وهي إن صحت نتائج الاختبارات التي تجري اليوم للتأكد من صدقيتها، فستقلب كل المفاهيم المعرفية سواء منها العلمية، أو الفلسفية، أو الدينية التي لدينا حول الله والعالم، والله والإنسان رأسا على عقب، وبشكل دراماتيكي لم يسبق له نظير في تاريخ البشرية، والتي يبدو أنها لا تزال تخطو خطواتها الأولى في مجال العلم والمعرفة.

وإذا كان النقش الذي عثر عليه على هرم في هيكل "ايزيس" بجهة "صا الحجر" في مصر القديمة وضعه هرمس النبي كما يُعتقد، فستسقط كل معلوماتنا عن تاريخ الأهرامات، وهو ما أشار إليه العالم عبد الواحي يحيى نقلا عن العالم روني غنينون (توفي سنة ١٩٥١)، والذي كتب مقالا مثيرا حول الأهرام بعنوان "تابوت هرمس" يقول فيه: "إن كل واحد من الأهرامات الثلاثة المعروفة بمصر ينطوي، من حيث شكله وأبعاده، واتجاهاته وبنيته، على أمهات علوم الحكمة المناسبة للأنبياء الثلاثة الذين عاشوا قبل الطوفان، فأولهم لآدم، والثاني لابنه شيت، وثالثهم الهرم الأكبر لإدريس" عليهم السلام، مشيرا إلى علاقة لفظة "هرمس" بـ "هرم".

وبذلك، لم يكن الهرم نفسه قبرا لملك من الملوك الفراعنة كما يعتقد، بل رمزا للحكمة الهرمسية التي ظهرت قبل أفلاطون بكثير.

والسؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة هو: - كيف عرف أرسطو هذه الحقيقة الدينية الغيبية التي تقول بأن النفس ذات أصل إلهي؟ هل كان ذلك بجهده العقلي التأملي أم بتأثير من مقولات دينية قديمة كانت سائدة في عهده؟
نقول هذا لسببين:

-       الأول: معرفتنا اليقينية اليوم بحدود العقل ودوره وطريقة عمله التي لا تتجاوز عالم المحسوسات الذي هو عالم الملك.. وبالتالي، فكيف لأفلاطون أو غيره أن يدرك الحقيقة الغيبية التي هي من عالم الملكوت؟

-       الثاني: أن من ينتقدون الصوفية ويتهمونهم بالتأثر بالمقولات الفلسفية اليونانية في طروحاتهم المعرفية، يتجاهلون أن الحقائق الدينية التي أوحاها الله لأنبيائه (النبي إدريس – هرمس - نموذجا) كانت سابقة للمقولات الفلسفية، وأن الحقيقة الدينية تكون وهبية، بخلاف الحقيقة الفلسفية ذات الطبيعة الكسبية.

وعودة لما قاله الإمام الصدر في نفيه لأية علاقة بين التصوف والتشيع لا تبعا ولا سندا، فقد ذهب في تبرير ذلك حد نفي الرمزية في القرآن، مؤكدا أنه كتاب جاء لهداية البشر، كل البشر، على اختلاف درجات معرفتهم، وأنه نزل بلغة عربية ظاهرة لا رمز فيها ولا غموض (تاريخ الفلسفة الإسلامية – ص: ١٢).

وواضح أن الإمام الصدر حاول من خلال هذه المقولة – وإن بطريقة ملتبسة – نفي التأويل الباطني عن التشيّع، زاعما أن علماء الشيعة قيّدوا الظاهر والباطن في إطار الحقيقة الدينية الواحدة التي يكشف عنها النص المقدس، لأن اختلاف المعاني لا يعني اختلاف الحقيقة بقدر ما يفيد اختلاف مستويات الفهم لدى المتعاطين مع الخطاب.

والحقيقة أن مثل هذا الطرح يعني أن الرجل نزل بمستوى التفكير من المنزلة الرفيعة التي اكتسبها التيار الشيعي الأصيل انطلاقا من الفلسفة النبوية أو علم القلوب، إلى مستوى التفكير في الإطار المذهبي لإعطاء الانطباع أن الشيعة لا يختلفون عن إخوانهم السنة في طريقة تفسير القرآن، برغم الحديث الشهير الذي يستندون إليه لشرعنة التأويل، والقائل: (إن للقرآن ظاهرا وباطنا، ولباطنه بطن إلى سبعة أبطن أو سبعين بطنا).. والذي يقول الإمام الصدر أن الشيعة يفهمونه بطريقة مغايرة لما يعطيه اللفظ من معنى، لأن كلمة سبعة أو سبعين هي كناية عن الكثرة والانسجام، وتفيد أن مراحل معاني القرآن الكريم متعددة، لكنها في النهاية، تفيد نفس الحقيقة الدينية.

وهنا سيكون من المفيد القول، أنه إذا كان معنى الظاهر لا يختلف عن الباطن، فمن العبث التفريق بين الروح والجسد، بين العقل والقلب، بين الشريعة والحقيقة، بين الأشياء الحسية التي تدرك بالعقل، والأشياء الروحية التي لا تدرك إلا بنور الوحي الذي يقذف في الروع.. نقول هذا، لأن اختلاف المعنى بين الشريعة والحقيقة هو اختلاف في مجالات البحث وفي مستويات الفهم معا، من دون أن ينفي ذلك الاتصال القائم بينهما، باعتبار الشريعة هي البوابة الإلزامية لولوج عالم الحقيقة بالجهد والمجاهدة. لكن القول باتحادهما في نفس المعنى، يحوّل القرآن بالضرورة إلى نص مغلق لا يحتاج لمن يفهمه بعد أن تم تفسيره من قبل السلف بالطريقة العجيبة والغريبة التي وصلتنا، ويفقد الباحث عن الحقيقة شرعية تدبر النص التي حث الله عباده عليها بقوله: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد: ٢٤.. ما يفيد أن التدبر هو سعي دائم لمعرفة الحقائق الدينية من ظاهر الخطاب مقارنة مع ما أودعه الله من حقائق علمية في الإنسان والكون.. هذا السعي لا يمكن أن يؤدي لنتيجة إلا إذا كان دائما، مستمرا، وتراكميا، كما هي طبيعة كل العلوم.

وغير خاف على فطنة أحد، أن التسليم بالمعنى الحرفي الذي يعطيه الخطاب القرآني له خطورته البالغة على عقيدة التوحيد والتنزيه، لما سيترتب عن ذلك من عبث اتهام بعض الأشاعرة القدماء الذين قالوا بالتجسيد عند شرحهم لقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) طه: ٥. أو اتهام كل من يعتقد من فقهاء الرسوم بأن لله أيادي وأرجل ووجه وسمع وبصر وخلافه من معاني التجسيم بالشرك، ما دام هو نفسه تعالى يتحدث عنها في القرآن بصريح العبارة، لأن المطلوب وفق ما ذهب إليه الإمام موسى الصدر، هو فهم القرآن في حدود ما تعطيه معاني الكلمات من مدلول في أصل تكوينها من دون حاجة لتأويلها، وهذا أمر لا يستقيم لا عقلا ولا دينا، وله خطورته البالغة على مفهوم عقيدة التوحيد نفسها.

ومن المفيد الاستشهاد في هذا المقام بما قاله الفيلسوف دانتي، فبالرغم من أنه غير مسلم، إلا أنه اعتذر للمسلمين بسبب تجسيده للمعاني الروحية التي أوردها في كتابه الشهير "الكوميديا الإلهية" استنادا إلى ما يعطيه النص الديني من ظاهر المعاني، فيقول: "إن الأمر يتطلب الكلام على هذا النحو – أي تجسيد المعاني – لأن فطنتك لا تستطيع – من غير طريق الأشياء الحسية – أن تفهم ما قد تحيله إلى العقل فيما بعد.. ولهذا، فالكتاب المقدس ينزل إلى مستوى قدرتك في الفهم، ويجعل لله أقداما وأيادي.. لكنه يقصد بذلك معنى آخر" (فلسفة الحياة العامة – ص: ٢٣١).

وقد شرح الفيلسوف الهندي شانكار مثل هذا الموقف السطحي من الله الذي لا يقول به إلا الجهال، بأن جعل له وجهان، وجه ظاهر يعرفه عامة الناس في تصوراتهم الحسية حسب ما يبدو لهم.. ووجه باطن لا يعرفه إلا الفلاسفة والحكماء.. ولتوضيح ذلك يقول: " إن القصور الطبيعي للحس والعقل الذي تسببه لهما أعضاء الحس وصور التفكير العقلي، يحول بيننا وبين إدراك الروح الواحد الصمد، الذي يكمن وراء الأرواح والعقول الجزئية والفردية.. فنفوسنا المنعزل بعضها عن بعض، والتي نراها بالإدراك الحسي، والتفكير العقلي، لا تقل بطلانا عن خيالات الزمان والمكان.. إن الفروق بين الأفراد، والتمييز بين الشخصيات، مرتبطان بالجسم والمادة، وهما من خصائص عالم التغيير، وهذه النفوس التي لا تزيد عن كونها مجرد ظواهر زائلة، ستمضي بانقضاء الظروف المادية التي هي جزء منها.. أما الحياة الكامنة وراءها، والتي نحسها في دخائلنا حين ننسى الزمان والمكان والسببية والتغير، فهي جوهرنا الصميم، وحقيقتنا الأصيلة".

والحديث هنا هو عن الإله الواحد بعينه، المسمى لدى الهندوس بـ “براهما". أما تعدد الآلهة، بل وتعدد العقيدة نفسها حول الله، فيفسرها الفيلسوف شانكار بأنها نتيجة تتفرع عن عالم الظواهر والجهل. لذلك هناك دائما فريقين، فريق العامة وفريق المتدينين الفلاسفة، ولكل منهما إله يتصوره ويعبده، فالعامة يتصورن الله محسوسا مجسدا، والفلاسفة يتصورون الله مستترا وراء الموجودات كلها. (الله ذاتا وموضوعا – د. عبد الكريم الخطيب – ص: ٢٣١ إلى ٢٣٣).

وهو ما أشار إليه ابن عربي في الفتوحات المكية ورسالة الأحادية بقوله، إنه من المستحيل أن يعبد أحد من الناس الله في أحاديته، لأن "الأحادية تلغيه"، معللا ذلك بالقول، ألاّ أحد في هذا العالم يستطيع عبادة الله بكل أسمائه وصفاته، فالمريض يعبد الله الشافي، والفقير يعبد الله الغني، والضعيف يعبد الله القوي، والمظلوم يعبد الله المنتقم، والمذنب يعبد الله التواب.. وهكذا بالنسبة لكل أسمائه وصفاته كل على حدة.. بمعنى أن العبد يتوجه إلى اسم أو صفة من أسماء وصفاة الله الحسنى، وفق حاجته والحالة النفسية التي يوجد عليها في حينه، ويستحيل أن يتوجه إلى الله بكل أسمائه وصفاته من خلال استحضارها دفعة واحدة في عقله وقلبه، وهذا هو معنى أن "الأحادية تلغيه".

وحيث أن انتقاد التصوف لا يقتصر فقط على بعض فقهاء الظاهر لأسباب إيديولوجية لا علاقة لها بالحقيقة، بل وتبناه أيضا بعض الباحثين الإسلاميين المتأخرين، متأثرين في ذلك بكتابات بعض المستشرقين حول الموضوع، فمن المفيد الإشارة إلى ما لاحظه الباحث نصر حامد أبو زيد في دراسته (فلسفة التأويل عند ابن عربي – ص: ١٤)، حيث قال: "وإذا كان من الممكن تفسير نظرة المستشرقين للفلسفة الإسلامية من خلال منظور تأويلي معرفي على أساس أنهم ينطلقون في فهمهم للتراث الإسلامي من إطار تراثهم المعروف إلى تراثنا المجهول بالنسبة لهم، فإن تفسير موقف الباحثين العرب والمسلمين يحتاج لمزيد الكشف والإيضاح. والواقع أن كثيرا من هؤلاء الباحثين قد خضعوا بدرجات متفاوتة للمنظور الذي انطلق منه المستشرقون وإن اختلفت النتائج التي توصلوا إليها طبقا لاتجاهاتهم الفكرية الخاصة".

وبسبب الخلط القائم بين الفلسفة والتصوف، فقد ذهب البعض حد إنكار وجود ما يسمى بالفلسفة الإسلامية على أساس أن الروح الإسلامية بطبيعتها ليست روحا فلسفية لأنها تنكر الذاتية التي هي أصل قيام المذاهب الفلسفية، كما زعم ذلك عبد الرحمن بدوي في مقدمة كتابه (التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية)، متأثرا بدراسات بعض المستشرقين الذين حاولوا فهم التصوف الإسلامي على ضوء مناهج الفلسفة الغربية الحديثة، نافين أن يكون في الإسلام شيء اسمه فلسفة أصيلة.

والحقيقة، أن ما استنتجه عبد الرحمن بدوي في دراسته للترات اليوناني في الحضارة الإسلامية والذي انكر على أساسه وجود ما يسمى بالفلسفة الإسلامية لأن الفلسفة بطبيعتها ذاتية وفق قوله، هو محض هراء، وذلك للأسباب التالية:

- السبب الأول: أن الفلسفة، سواء كانت يونانية أو إسلامية، فهي بالنهاية تسعى إلى نفس الهدف المتمثل في معرفة الحقيقة، لكن بالطريقة التأملية، ومن تم محاولة الاستدلال عليها بالطريقة البرهانية المنطقية. وهنا تجذر الإشارة إلى أن المدرسة الكلاسيكية القديمة، كانت تهتم بالمعرفة الكليّة التي تتناول حقائق الوجود الكبرى كالله والكون والإنسان، وفي هذا تلتقي مع الفلسفة الإسلامية التي كان لها نفس الاهتمام لتحقيق نفس الهدف الذي هو المعرفة الكلية لحقائق الوجود في ابعاده الثلاثة.

وإذا كانت الفلسفة الحديثة قد غيّرت من هدفها، فاستبعدت الدين من مجال بحثها لصعوبة إدراك الحقائق ذات الطبيعة الغيبية (الميتافيزيقية) بالعقل، واتجهت نحو التركيز على الحقائق الجزئية التي تهم الإنسان وواقعه الموضوعي من أجل تحريره من الفكر الديني الأسطوري والخرافي كما تدّعي، فلا يمكن بالتالي البناء على التعريف الحديث للفلسفة للحكم على الفلسفة الإسلامية بمعيار الذاتية والموضوعية، خصوصا وأن الدراسة التي يقترحها بدوي، تزعم إمكانية القيام بمقارنة بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة اليونانية باعتبار أنهما يتقاطعان في الأهداف الموضوعية الكبرى، بل وفي كثير من جوانب المهنج العقلي أيضا. متجاهلا الفرق الجوهري المتمثل بينهما، والذي يكمن في أن الفلسفة الإسلامية كانت أكثر حظا حين توفر لها النص المقدس الذي اشتغلت على أرضيته، في حين أن الفلسفة اليونانية كانت تستعين بثرات الحكمة القديمة من زمن هرمس في مصر ومن تراث الهند وبلاد فارس القديمة، وبالتالي فإذا كانت المنطلقات مختلفة فالنتائج ستكون أيضا مختلفة بالضرورة.

- السبب الثاني: أن الفلسفة اليونانية لم تكن تركز على المنطق فحسب في سبر أغوار عالم ما وراء الطبيعة الذي لا يدرك بالعقل، بل وعلى الحس والوجدان أيضا، وإلا كيف يمكن تفسير مقولات أفلاطون وأرسطو وغيرهما في مجال الله والكون والإنسان بالعقل؟.. وكون الفلاسفة المسلمين قد أخطؤوا حين ركزا على العقل واستبعدوا الحس والوجدان، فذاك كان نقطة ضعف جعلتهم يدورون في متاهات من المعاني المجردة التي لا يستطيع العقل البرهنة عليها ويرفض القلب أن يطمئن إليها، وهذه هي أهم نقطة ضعف ميزت فلسفتهم.

- السبب الثالث: ما أنتجته الفلسفة الإسلامية من علوم كثيرة نافعة، كانت في زمانها فروعا من علم الفلسفة الأم، ولم تستقل عنها إلا في العصر الحديث بعد الثورة الصناعية، حيث اتخذ كل علم طريقه الذي يميّزه عن بقية العلوم. فإغفال هذا الجانب للقول أن لا فلسفة في الإسلام ليس من الموضوعية في شيئ، بل هو ظلم كبير في حق علماء كبار يدين العالم لهم بما أنتجوه في مجال الفلك والطب والرياضيات والهندسة والكيمياء وغيرها انطلاقا من الفلسفة... ولولا الخوارزمي على سبيل المثال لا الحصر، لما عرف العالم شيئا إسمه الكومبيتر وعلوم الذرة والفضاء اليوم. وبالتالي، فإذا كانت العلوم تكمل بعضها بعضا، فإن الفلسفة هي التي أنتجت الرؤى العظيمة والأفكار الكبرى التي اتخذتها العلوم الفرعية مجالا مستقلا لبحثها التجريبي، وقد ساهم الدين في توجيه المعرفة بشكل فعّال لا ينكره إلا جاهل أو جاحد، باعتباره مصدرا للحقيقة الكلية وينبوعا لا ينضب لكل الحقائق الجزئية.

- السبب الرابع: أن الفلسفة الإسلامية كانت أوفر حظا من الفلسفة القديمة، لما توفر لها من مادة خصبة أتى بها النص المقدس كحقائق إلهية لا يرقى إليها الشيك، وكان على الفلاسفة أن يبدلوا الجهد العقلي الجبار للبرهنة عليها.. وكان الفيلسوف الكندي أول ما حاول استخدام المنطق في دراسة القرآن الكريم، فوفّق في بعض الجوانب الجزئية، ولم يوفق في الجوانب المتعلقة بالحقائق الكلية التي لا تخضع أصلا لمجال البحث العقلي.. وهنا يأتي دور الصوفية.

وتكمن خصوصية الصوفية في معرفة الحقائق الكلية، لذلك رأيناهم اختصروا الطريق وتركوا العقل جانبا بعد أن اكتشفوا أن مهمته لا تتجاوز التعاطي مع ظاهر الشريعة، وذهبوا بعيدا يبحثون عن الحقيقة في عالم الملكوت بمجاهدة النفس وصقل القلب حتى تكشفت لهم فأدركوها، وعندما حاولوا إنزالها إلى مستوى النظر العقلي، صدموا بمحدودية اللغة التي لا تستطيع التعبير عنها من جهة، وبموقف فقهاء الرسوم الذين سارعوا إلى تكفيرهم واستباحة دمهم، بدعوى أن ما يزعمونه مخالف لظاهر الإسلام الذي حوّلوه من دين إلى إديولوجيا، فشوهوا جانبه الروحي المشرق الجميل، واستغلوه سلاحا لنشر الكراهية وتكفير التفكير وإشاعة القتل والفتن والفساد في الأرض. وكل ذلك، باسم إقامة شريعة الفقهاء لتكون بديلا عن شرع الله، فطغى الظلم وغاب العلل، وانتشرت الكراهية بديلا عن المحبة، وأشهر سلاح التكفير في وجه التفكير، وتحولت المجاهدة من إنتاج ما ينفع الناس إلى إنتاج ما يضرهم ويهدد أمنهم وسلامتهم وطريقة عيشهم، فضاع الدين وضاع الإنسان.

وإذا كان الصوفية يؤمنون بأن الشريعة هي البوابة لولوج الحقيقة بالنسبة لمن له القدرة على المعرفة كما سبقت الإشارة، فإن الأمر يختلف بالنسبة للعوام الذين لا تشفي نفوسهم الضعيفة وعقولهم الجامدة سوى الشريعة. أما من هو كفء لمعرفة الحقيقة الروحية، فمورده هو البحث في الباطن حيث توجد طبقات من المعاني العميقة النبيلة التي تتفتح حسب استعدادات النفس للفهم والإدراك.. من هنا، فإنه من العبث البحث عن التوفيق بين الدين والفلسفة، وبالتالي، بين الفلسلة والتصوف، لاختلاف نهجهما في الوصول إلى الحقيقة، أما اتفاقهما في الهدف فلا يعني الوصول إلى نفس النتيجة، لأن من ينطلق من مقدات خاطئة يصل بالضرورة إلى نتائج خاطئة كما يؤكد ابن رشد نفسه.

ونحن بهذا لا ننكر فضل الفلسفة على الإنسانية نظرا للدور التنويري الكبير الذي لعبته حين اتخذت من البحث عن الحقيقة بشأن الله والكون والإنسان رهانا لرفع مستوى وعي الإنسان بربه وعالم الطبيعة ونفسه بهدف تحريره من الخوف والخرافة والوهم، وهو الدور الذي لا يمكن أن يقوم به التصوف باعتباره تجربة روحية فردانية من مجال الذوق، يصعب أن يتقبلها من لم يخضها ليدرك حقيقة معناها بالمشاهدة العينية، فما بالك بالعوام؟.

والمفارقة العجيبة الغريبة، تكمن في أن الفلاسفة من حيث أنهم فلاسفة يبنون مقولاتهم على أساس من برهان، فلا يقبلون ما لا يقاس بالاستقراء العقلي ولا يدرك بالاستدلال المنطقي، فإن معظمهم – باستثناء الملحدين منهم - عند الحديث عن الله يتحولون إلى متصوفة يؤمنون بالله إيمان تسليم، ولا أدل على ذلك من قول الفيلسوف ديكارت، حين أعلن أنه لا يستطيع تقديم دليل عقلي على وجود الله، لكن وجود الله عنده أوثق من المعادلات الرياضية.. والسؤال الذي يطرحه هذا الإقرار المثير هو: - هل كان ديكارت فيلسوفا أم صوفيا؟

ومرد الخلط الذي ظهر بين الفلسفة والتصوف يعود لمنتصف القرن الثالث الهجري، حين أنزل ذو النون المصري (٢٤٥هـ - ٨٥٩م) العرفان الصوفي من مرتبة التجربة الروحية الذوقية إلى مرتبة النظر العقلي، فبدأ الخلط بين الفلسفة والتصوف، كما أصبح "العرفان" مصطلحا متداولا في التصوف الإسلامي برغم أصل الكلمة اللاتيني (الغنوص). ثم جاء بعده أبو يزيد البسطامي (٢٧٠هـ - ٨٧٥م) بنظرية الفناء، القائلة بفناء الإنسان عن نفسه لا شعوريا بذات الله.

لكن ما أثار سخط فقهاء الرسوم على الصوفية هو ما نسب للحلاج (توفي سنة ٣٠٩هـ - ٩٢٢م) من قول بالحلول والاتحاد، أي حلول الذات الإلهية في الإنسان واتحاد طبيعة هذا الأخير مع الطبيعة الإهية حتى تصبح الحقيقة واحدة. وهو ما اعتبر شطحا غير مقبول لأنه خروج عن السائد والمألوف في المنظومة الفقهية من مفاهيم. وهو الأساس الذي أدى إلى القول، بأن التصوف الإسلامي  مستمد من الفلسفلة اليونانية القديمة.

ومرد هذا الإشكال، بغض النظر عما تعطيه اللغة البشرية من معاني ظاهرة لا تعبر عن حقيقة المدلول، يعود إلى معضلة فهم معادلة "الله – الإنسان – العالم"، حيث انقسمت الآراء بين فريقين:

-       الأول: فريق فقهاء الظاهر الذي يقول بوحدانية الله وأنه هو خالق العالم والإنسان فجأة من عدم بأمر "كن"، وكأن الأمر يتعلق بساحر يخلق الأشياء من عدم بعصى سحرية، سبحانه وتعالى عما يصف الجاهلون، لأن مثل هذا القول تدحضه نظريات العلم التي تؤكد أن كل الموجودات في الكون بما في ذلك الإنسان خضعت لمعادلة النشأة والتكوين والتطور عبر مراحل، والله تعالى يقول في كتابه عن خلق الكون: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) الأعراف: ٥٤ وغيرها، ولا يعلم إلا الله مقدار اليوم الكوني مقارنة بالزمن الأرضي. وقال أيضا عن خلق الإنسان: (وقد خلقكم أطوارا) نوح: ١٤، وليس دفعة واحدة. والخلق هنا له علاقة بالنشأة الأولى في الخلية التي انقسمت وتكاثرت لقوله تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) النساء: ١.

وهناك حديث للرسول صلى الله عليه وسلم يذكر أن الله خلق قبل آدم ألف أو مائة ألف آدم حسب بعض الروايات، وهو الحديث الذي ينكره فقهاء الظاهر لأنه يتعارض مع القرآن الذي يقول وفق رأيهم أن أول الخليقة كان آدم.. وإذا كان الأمر كما يزعمون، فماذا نفعل بقوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)... والاصطفاء هنا يفيد الإختيار من بين العالمين وليس من بين الأقوام زمن نوح وآل إبراهيم وآل عمران فما بالك بزمن آدم؟ .. لأنه  لو سلّمنا جدلا بما يقوله فقهاء الرسوم من أن الإختيار كان من بين أقوامهم الذين هم أصلا ليسوا المخاطبين بـ"العالمين" وفق منطوق الآية، فكيف نفهم الأمر بالنسبة لآدم إذا كان فعلا هو أول الخليقة؟.. وإذا كان بعض الفقهاء لجؤوا إلى حيلة لغوية لتجاوز هذه المعضلة من خلال القول أن الإشارة هنا هي إلى خلق الجن الذي كان سابقا لخلق آدم واختياره من بينهم، فإن العقل والمنطق يرفضان أن يختار الله آدم من فئة الجن التي لا تنتمي أصلا إلى فئة البشر.

ثم نأتي لآية الخلق التي قال فيها تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) البقرة: ٣٠. وحيث أن الملائكة لا يعلمون الغيب بدليل قوله تعالى (إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة: .. فسؤالهم الاستناري لا معنى له سوى أنهم كانوا على علم واطلاع تام بتجربة الخلق الأول الذي كان يشبه الحيوان في تصرفاته خلال مراحل تطوره الأولى قبل أن يصل إلى مرتبة الكمال التي وصلها آدم المسمّى بالإنسان الكامل أو الإنسان العاقل الذي جاء ما بعد عصر الجنة. وما يؤكد هذا المعنى هو قوله تعالى: ( أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد) ق: ١٥. كما أن فريق الظاهر – وهنا تكمن المعضلة – لا يقدم تفسيرا مقنعا حول أصل المادة وعلاقتها بالله.

-        الثاني، فريق الصوفية الذي يقول بأن الله هو الوجود كله من عرشه إلى فرشه، وأن الله لم يخلق هذا العالم من عدم أو من مادة كانت موجوده معه من خارجه، بل من نفسه، ويستند هذا الفريق في دعم نظريته هذه على حديث صحيح ورد في عديد المصادر عن أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله، ثم قرأ: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيئ عليم).

من هنا يخلص الصوفية إلى أن الوجود هو الله تعالى دون سواه، وأن العالم والإنسان هما صفات للذات الإلهية، بمعنى أنهما مظهر الله الخارجي. فالله قبل الخلق "كان ولا شيئ معه" كما يقول الحديث النبوي المشهور، أي أنه كان ظاهرا لنفسه من دون وجود شيئ معه أو من خارجه، وحين خلق الكون والإنسان أصبح هو باطنا والعالم والإنسان ظاهرين، وهذا لم يغير من طبيعته لأنه الآن "كما كان لا يزال" كما يؤكد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في ذات الحديث، أي أنه لا يزال موجودا بذاته بلا شرط شيئ أو وجود شيئ معه أو من خارجه على الإطلاق، وهو ما يفيد أن كل الموجودات هي تجليات لأسماءه وصفاته، ولا وجود حقيقي لها في عالم الملك، بل هي تجليات للأعيان الثابتة في عالم الملكوت والجبروت.

وبذلك يتجلى مستوى الألوهة من خلال الصفات التي وضعها الله في الإنسان، والتي هي نسبية ومقيدة  لديه، لكنها مطلقة لدى الله، وقد وهب تعالى كل صفاته للإنسان الذي اختاره لحمل أمانة التكليف، ليقوم بتنفيذ رؤيته تعالى للحق وفق مشيئته التي لا يستطيع الخروج عنها كائن من كان، لقوله: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله)، وهي الآية التي تكررت في سورة الإنسان: ٣٠ وفي سورة التكوير: ٢٩. كما سبق معنا القول في موضوع "الإنسان بين ثنائية الجبر وحرية الإختيار".





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق