بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 11 نوفمبر 2018

الإنسان بين الجبـــر وحرية الاختيار (3/3)


إن الإنسان الكامل، وفق ما يستفاد من قصة الخضر وموسى عليهما السلام في سورة الكهف، يكون مجبرا في اختياره يتصرف بأمر الله ونوره، لأنه يتبع عينه الثابتة في علم الله العلي العظيم كما يقول ابن عربي، ليخلص إلى نتيجة قاطعة حاسمة مؤداها، أن هذا الأمر دليل على أنه ليس في الوجود فاعل إلا الله تعالى، وأفعال العباد بجملتها (خيرا كانت أم شرا) منسوبة الوجود والاختراع إلى الله تعالى بلا شريك ولا معين لقوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) الأنبياء: ٣٥... / ...

وبالتالي، فكل الأفعال على الحقيقة من خلق الله، وله بها على العباد الحجّة البالغة لقوله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)، وهذه إشارة لطيفة لكنها قاطعة لوضع حد لمن يتطاول على الله بالسؤال في مجال الأفعال، لأن الاعتقاد بأن الأفعال (خير أو شر) هي من خلق البشر شرك فاضح يتعارض مع ما ورد في القرآن الكريم من نصوص صريحة وواضحة في هذا الشأن.
ومرد الإشكال وأساسه، أن أهل السنة والجماعة، وإن كانوا ينسبون الأفعال إلى الله تعالى بما فيها أفعال العباد، إلا أنهم يُصرّون على التمييز بين أفعال الخير وأفعال الشر بالرغم من أن الخير من طبيعة التكوين فيما الشر هو وسخ عارض يبدّل حسنة بعد التوبة كما سبق القول، وذلك لأنه من وجهة نظر فقهاء هذه الطائفة، لا يمكن أن يأمر الله بالشر أو يرضى بالمعصية لعبادة. كما أنهم وفي جمعهم لأسماء الله الحسنى لا يشيرون إلى بعض الأسماء والأوصاف الإلهية التي تجسد “الشر” ظاهريا، حيث ذهب الله تعالى بعيدا في الحديث عن “مكر” الله الذي يفوق مكر الماكرين، وكيف أنه يملي للظالمين، ويخدع المنافقين، وينتقم من المجرمين وما إلى ذلك من الأسماء والصفات التي نغفل عن الخوض فيها تأدُّبا مع الله. لكن وهذا أمر مهم، فإن العامة لو أدركوا هذه الحقيقة لانتهى البعد الأخلاقي من حياتهم، بسبب أن المؤمن العارف عندما يفتح الله عليه بهذا السر العظيم يكتمه، ولا يتحدث به للناس، ويذوب في كنف الله بالعبادة والمحبة وعمل الخير حمدا وشكرا وامتنانا لأنه أنعم عليه بفضل المعرفة اللّدنية فأذاقه من حلاوتها ورأى ما لم يراه غيره من الناس، بخلاف الإنسان العادي الذي إن كشف له هذا السر بالنقل من دون تجربة ذوقية يقينية فقد يتحول إلى بشر غير عاقل، لذلك جعل الله الطريق إليه شاقا وعسيرا، وسماه “المعرفة”، بحيث يستحيل على الإنسان العادي الذي لم يسلك معراج المعرفة أن يفهم الأمور على حقيقتها، بأبعادها الوجودية الظاهرة والباطنة، والتي مؤداها: أينما تجلى الخلق في الظاهر فثم يكمن الحق في الباطن، وأن الكثرة وهم ولا وجود إلا لله، ولا وجود لشيء معه أو من خارجه، وأن الأمر كله له من قبل ومن بعد. لذلك جعل الله من لطفه لعباده مخرجا يتمثل في التوكل، شريطة إبداء حسن النية والأخذ بالأسباب، ليتولى الله بعد ذلك التصرف بمعرفته وبما يصلح للعبد أكثر بكثير مما يعتقد الأخير أنه صالح له، لقوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا) الطلاق: ٣.

وجوهر المسألة، بالنسبة لفقهاء النقل، أنهم يحكمون على الأمور من حيث الظاهر (كما تبدو للحواس الخمس التي يعتمدها العقل في الفهم)، فيسقطون في الفخ، ويستعصي عليهم فهم الحكمة الربانية الخفية الباطنة في طبيعة الأفعال خيرا كانت أم شرا، لأن حقيقة الأشياء هي بخلاف ما تبدو عليه ظاهريا، وهذا سر عظيم لا يكشفه الله تعالى إلا للمقربين المخلصين من عباده الذين سلكوا تجربة المعراج وعادوا من رحلة “الفناء” في الله، التي تعني البحث عن المعرفة القلبية في رحاب الله حد الذوبان فيه، من دون “اتحاد” أو “حلول”، لأن من لا وجود له لا يمكنه أن يتحد بالله أو أن يحل الله فيه كما تعتقد الكنيسة المسيحية، ما دام ما نحن عليه وما نراه ونلحظه هو مجرد صور وظلال للأعيان الثابتة في الملأ الأعلى، وبالتالي، فلا وجود لموجود في هذا الوجود إلا الله الواجب الوجود بشرط لا شيء على الإطلاق، وأن الصور التي تتصرف من خلالها الأسماء والصفات الإلهية في العالم ليس لها وجود مستقل أو خارج عن الله وإلا لما أصبح لمفهوم (لا إله إلا الله) من معنى، وبالتالي، فهي تعمل من خلال الأسماء والصفات الإلهية المودعة بها بشكل مقيد وتشكل مرتبة الألوهة التي هي الوسيط البرزخي بين الله والإنسان والعالم، فلا يستطيع كائن من كان أن يتصرف بإرادته ومشيئته من خارج إرادة الله ومشيئته.
ويؤكد هذا المعنى بما لا يدع مجالا للشك قوله تعالى: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما) الإنسان: ٣٠. وقوله أيضا: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله...) الكهف: ٢٣ – ٢٤.
القضـــاء والقـــــــدر
أما الاختلاف القائم بين الأفرقاء في موضوع القضاء والقدر، فيعود في جانب منه، إلى الأساس المفاهيمي الذي انطلق منه هذا الفريق أو ذاك للوصول إلى النتيجة التي يعتبرها تمثل عين الحقيقة، ومعلوم، كما يقول ابن رشد، أن كل من ينطلق من مقدمات خاطئة يصل حتما إلى نتائج خاطئة.
والملاحظ في هذا الصدد، أن التعسف في التأويل بغرض البحث عن سند داعم لهذا الرأي أو ذاك من النص، هو الذي ولّد الاختلاف الذي تحوّل إلى خلاف ففرقة فصراع نتيجة كثرة المذاهب والمدارس والفرق والتيارات الفكرية الدينية، وهذا أمر لا علاقة له بالحقيقة الدينية التي تتحول إلى ضحية على مذبح هواجس الإيديولوجيات خدمة لمصالح سياسية بحثة.
ومهما يكن من أمر، فالبحث في موضوع الجبر والاختيار يتطلب بعد معرفة طبيعة الخير الثابتة وطبيعة الشر العرضية الطارئة كما سبقت الإشارة، تحديد مفهوم القضاء والقدر كما عرّفهما تعالى في قرآنه، لا وفق ما تفسير أصحاب البيان استنادا إلى النقل، أو أصحاب البرهان استنادا إلى العقل، والذي لا يتوافق بالضرورة مع المراد من الكلام الإلهي.
وبالاستناد إلى المفاهيم التي يعطيها النص القرآني في الموضوع وفق منهجية الرسول صلى الله عليه وسلم التي تقول: إن (القرآن يفسر بعضه بعضا)، يستفاد من عديد الآيات أن “القضاء” هو أمر نهائي مبرم لا راد له، وليس في مقدور الإنسان التأثير في مجرياته بالدعاء إلا لجهة طلب اللطف فيه، كأن يقول المؤمن (اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه). ذلك لأن القضاء هو بأمر “كن”، ومن يكون بأمر” كن” لا يستطيع أحد في هذا العالم تغييره أو الإفلات منه، وقد عرّفه الصوفية والأشاعرة والشيعة على أنه من “أمر التكوين” في أصل الخلق بدليل قوله تعالى: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) 2: 117. وقوله (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) الإسراء: 4. وقوله أيضا: (يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله) 3: 145.
وبهذا المعنى، فلا وجود لصراط في الوجود إلا الصراط المستقيم وإن تعددت الطرق والمسالك التي هي بعدد أنفاس الخلائق، وكل ما خلق الله في هذا الوجود على صراط مستقيم، بدليل قوله تعالى: (إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) هــود: 56.
وبالتالي، فمن أراد إدراك الحقيقة في الأمور كلها، فعليه خوض التجربة المعرفية من كتاب الله، لأنه إذا كانت الطريق إلى الله تنتهي في الدنيا بالموت الجسدي، فإن الطريق في الله تمر عبر السباحة المعرفية في آياته بلا حدود ولا قيود لاكتشاف بعض من كنوز أسراره، وجواهر معانيه، ودرر حكمه. وهذا ما يميّز بين العلم العقلي الذي يكشف عن الظاهر بأدوات المنطق، والمعرفة القلبية التي يكشف الله من خلالها لعبده الحقائق الكامنة وراء صور الأشياء، فيفهمها العارف بخلاف الظاهر الذي تبدو عليه، ذلك أن القرآن وإن كان نصا صامتا، إلا أن استنطاقه يحوّله إلى وحي حي ينفذ نوره إلى قلب الدارس في مدرسة الله، لأن الإنسان بالنهاية هو الذي يقرأ كلام الله فينوب عنه في النطق بأحرفه وكلماته وآياته.
أما القدر، فمرده إلى التقدير الذي يعني أن الله وضع في الكون معادلات رياضية دقيقة تحكم حركة الخلايا الصغيرة كما حركة أكبر الكواكب في المجرات الكونية العظيمة وفق نظام واحد حسب ما أكد ذلك العالم ألفريد أينشتاين، ووضع تعالى القواعد الصحيحة التي تحكم عالم الأسباب الذي هو من مجال التكليف، حيث أن كل من اكتشف هذه المعادلات وأخذ بها وتعامل معها بشكل صحيح، يكون قد أخذ بالأسباب الموجبة التي توصل إلى النتائج المرجوة، ومن لم يأخذ بها عاش جاهلا، ضعيفا، عاجزا، مخذولا، وفاشلا. والطريق الموصلة إلى ذلك هي “المعرفة” سواء منها العقلية أو القلبية أو هما معا (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، ولذلك قال تعالى لعبده “اقرأ”، فكان أوّل أمر في أول آية من أول سورة نزلت في القرآن، لإبراز أهمية القراءة باعتبارها المفتاح السحري الموصل إلى المعرفة الظاهرة أولا ومن ثم النفاذ عبرها إلى المعرفة الباطنة أخيرا، لأن لكلّ حاجته التي يبحث عنها في الدين، والإنسان يطرح الأسئلة على النص الديني الصامت بقدر حاجته إلى أجوبة مقنعة، قد لا يتاح له الحصول عليها بالعقل إلا ما له علاقة بالشريعة، أما غيرها من قضايا الخلق والحق فمجالها نور الوحي الذي يقذف في الروع.
وإذا كانت المعرفة العقلية هي من مجال الشرع كما يجمع على ذلك الفقهاء، فهذا يعني أن ظواهر الأمور تُأخذ من جانب العقل وتقوم على أساس مبادئ الأخلاق التي يحث عليها الشرع والتي تدخل جميعها في مجال “أمر التكليف” أي “العبادة” بمفهومها العام. أما بواطن الأمور، أو المغامرة المعرفية لفهم مجال “أمر التكوين”، فهو من مجال القلب الذي وحده يستطيع الوصول إلى الحقيقة من خلال نور المعرفة الذي يقذفه الله في قلب العبد الذي طهّر بالمجاهدة قلبه وأخلص عبادته وعمله لله.
وبالخلاصة نستطيع القول، إن أي حديث عن الإرادة وحرية الاختيار يجب أن يراعي مسألة القدرة من جهة، وقضية الحدود الموضوعة للحرية من جهة أخري، على ألا ننسى أن القدرة التي يتمتع بها الإنسان هي هبة محدودة من الله تعالى، وكذلك الإرادة هي بدورها مقيدة في حدود القدرة الموهوبة. وحيث أن الأمر كذلك، فإرادة الإنسان في ممارسة حرية الاختيار وقدرته على ذلك تظل بلا معنى، لأنه عندما تتدخل القدرة الإلهية القاهرة لتثبت شيء أو تُغيّر مسار شيء آخر، يصبح كل ما نفهمه أو نعتقد أننا نفهمه عن الحرية والإرادة مجرد وهم يتلاشى وسراب يتبخر.
الجبر وحرية الاختيار فـي الفكـر الإسلامـي
لقد خضع مفهوم “الإرادة وحرية الاختيار” عند الانسان إلى بحوث كثيرة من قبل علماء الكلام والفلاسفة والمفكرين الاسلاميين وغير الإسلاميين على مدار قرون طويلة، وانتهى البحث فيها إلى مذاهب وآراء شتى تختلف باختلاف النظرة “الثابتة” أو “المتحركة” التي لدى كل فريق عن ماهية الله ذاتا وموضوعا ورؤيته للحق والخلق.
فالأشاعرة مثلا، ذهبوا إلى أن الانسان كائن مُجبر، لا يملك القدرة على الاختيار، لأن الأفعال تجري عليه كما يجري الماء في النهر، وليس للماء حرية ولا إرادة في اختيار الجريان في النهر، بل يجري بقوة قاهرة خارجة عن ذات الماء. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن قدرة الماء على الإحياء، إذ بدونه لن يكون للحياة وجود لقوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، لكن السؤال هو: - هل للماء قدرة ذاتية على الإحياء أم أنها قدرة الله التي وضعها في الماء فولّدت الحياة بعلمه وإرادته ومشيئته؟ وعلى هذا المثال يتم قياس الأفعال التي تنسب إلى الإنسان في حين أنها من خلق الله تعالى يجريها بواسطة خلقه من خلال أسمائه وصفاته الفاعلة، فيكون بذلك الله هو الفاعل على الحقيقة.
أما المعتزلة الذين رفعوا شعار “التوحيد والعدل”، فكانوا أول من طرح هذه الإشكالية للنقاش المفتوح مع خصومهم الأشاعرة، حيث اعتبروا مبدأ “الجبر” الذي يقول به الأشاعرة معارضا لعقيدة التوحيد التي تؤمن بعدل الله تعالى، وتُنزّهه عن الظلم، وبالتالي، يتساءل المعتزلة: – كيف يُجرّد الخالق سبحانه الانسان من الاختيار، ويجري عليه أفعاله، ثم يحاسبه عليها، وهو لا يملك القدرة على الفعل والترك فيما فرض عليه، بل ما قيمة الأمر والنهي من قبل الله تعالى إذا كان الانسان لا يملك القدرة على الاختيار؟
وخلاصة القول، أن الفريقين لم يصلا إلى نتيجة قاطعة حاسمة ومقنعة بالنسبة لجمهور العامة، لأنه إذا كان القول بالجبر أثار استياء العديد من المؤمنين المعتزلة، فإن القول بحرية الإنسان المطلقة أثار الكثير من التعارض بين إرادة الله وإرادة الإنسان لدى المؤمنين الأشاعرة.
وتفاديا لهذا الموقف، ذهب المعتزلة للقول في محاولة تلفيقية لرفع التعارض بين الإرادة الإلهية وإرادة الإنسان: إن “كل شيء بقضاء وقدر إلا المعاصي”. غير أن هذه المقولة “المُبتدعة” تحوّلت في يد الأشاعرة إلى سلاح ضد خصومهم، وصل حد تكفيرهم، من منطلق أن القول بحرية الإرادة الإنسانية يؤدي إلى أن يقع في ملك الله ما لا يريده. وأعطوا مثالا على ذلك بقولهم، إذا كان الله لا يريد الكفر لأنه قبيح، والكفر يقع من الإنسان بإرادته الحرة المختارة، فمعنى ذلك أن الكافر قد اختار الكفر خلافا لإرادة الله ومشيئته. لأن مثل هذا القول وفق ما يؤكده الأشاعرة، يؤدي إلى نسبة الضعف والغفلة لله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولأنه لو كان في سلطان الله تعالى ما لا يريده لوجب أحد أمرين: إما إثبات سهو وغفلة أو إثبات ضعف ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده (ابو حسن الأشعري: اللمع- ص: 24). وبالتالي، لا يرى الأشاعرة في إرادة الله لكفر الكافر أو خلقه له فيه أي نقص أو شك في عدالته، لأن الذي يتصرف في ملكه لا يُسأل عما يفعل والناس يسألون.
ويذهب الأشاعرة في دعم مقولتهم هذه انطلاقا ممّا قاله تعالى من أنه لا يحب الكفر لعباده، لكنه لم يقل “لا يريده”، لأنك قد لا تحب شيئا ولكنك تضطر لفعله، كدفن عزيز قضى، أو شرب الدواء المر وأنت كاره له، وما إلى ذلك…كما أن الله الذي هو منتهى الكمال في خلقه وصفاته وأفعاله لا يمكن أن يخلق في ملكه ما لا يريده. والأساس لديهم هو وجوب التفريق بين الله والإنسان، لأن الله لا يسأل والإنسان يسأل كما سبقت الإشارة.
فقصة موسى والخضر عليهما السلام التي تحدثنا عنها بإسهاب، تضع مبدأ “العدل” الذي يحرص على تظهيره المعتزلة في خبر كان بالنسبة للبشر، وتجعله متعلقا بعلم الله وإرادته ومشيئته، وهذا هو عين العدل. بمعنى أن ما نراه ظلما قد لا يكون كذلك في حال فهمنا حقيقته الباطنة ومراد الله من أفعال عباده في سياق التجربة الأرضية، لأنه هو المُدبّر لشؤون كونه وخلقه بمعرفته ووفق تقديره، والإنسان لا يعدو أن يكون مجرد أداة تتصرف في حدود ما أراد لها الله أن تنجزه حسب مشيئته وتحت رقابته. وبهذا المعنى، فالإنسان محكوم عليه بأن يكون حرا في حدود إرادة الله ومشيئته، فيكون الفاعل في الحقيقة هو الله، ومن يعتقد بأن الإنسان موجود مستقل في هذا الوجود، وأنه قادر على التصرف بحرية وإرادة، فعليه مراجعة عقيدته حتى لا يسقط في الشرك بالمفهوم الغليظ كما يقول الأشاعرة.
لأنه بالنسبة لهذه القصة القرآنية العجيبة (قصة الخضر وموسى عليهما السلام)، يكون “الأمر” أمر الله و “الإرادة” إرادته تنفيذا لمشيئته سبحانه من طريق الفعل الإنساني الذي ظاهره الشر والمعصية، لكن حقيقة أبعاده تطفح بالخير والعدل والرحمة… أي أن الله هو الفاعل على الحقيقة، ينفذ إرادته التي هي في غايتها خير وعدل من خلال أفعال خلقه التي قد تبدو لنا في ظاهرها شرا، وذلك من خلال صفات الألوهة (الأسماء الحسنى) التي أودعها الله في خلقه بشكل مقيد ومحدود وسخرها لهم لتنفيذ مهمة التكليف بالتوكل وفق ما تقتضيه إرادة الله و علمه طوعا أو كرها، ما دام الإنسان قد شهد على نفسه حضوريا بالعبودية للرب (آية الميثاق)، وقبل بحمل أمانة التكليف قبل خوض التجربة الدنيوية بمحض إرادته.
والحقيقة، تعتبر قضية الجبر والاختيار من أخطر القضايا التي طرحت تحديات كبرى على الفكر الإسلامي بمختلف مذاهبه ومدارسه لارتباطها بحرية إرادة الإنسان الذي يفترض ظاهريا أنه يتمتع بها من جهة، ولما تثيره من جدل حول تعارضها من عدمه مع العلم والإرادة والمشيئة الإلهية من جهة ثانية.
أما من زاوية الرؤية الشمولية، وهذه مسألة غاية في الأهمية لما يترتب عن فهمها من تداعي عديد المقولات الكلامية في هذا الشأن. بمعنى، أنه كان هناك دائما في الفكر الإسلامي تعارض بين زاوية النظر “الذاتية” التي يحاول كل طرف الانطلاق منها لإثبات أطروحته الفكرية بهدف تعزيز منظومته الإيديولوجية، وبين زاوية النظر “الموضوعية” التي يقتصر همُّها على معرفة الحقيقة حتى لو تطلب الأمر، لاعتبارات خطيرة سنأتي على ذكرها، عدم البوح بها. لأنه من دون معرفة الحقيقة لا معنى للحرية، وحدها الحقيقة تحرر الإنسان. هكذا تتحول الحرية الحقيقية إلى مجال “المعرفة”، ولكي يكون الإنسان حرا يجب أن يكون عارفا (والعارف هو أسمى درجة من العالم). وهذا هو نهج الصوفية الذين يبحثون عن الحقيقة من أجل الحقيقة حتى لو تعارضت مع الفهم العام السائد لدى الناس، بل حتى لو صدمت ما اعتبره الفقيه الأنباري والفقيه الحيثمي “إيمان الجهال” الذين يأخذون دينهم بالوراثة ميت عن ميت بدل القناعة.
وإذا كان هذا هو حال الصوفية، فإن أهل السنة والجماعة والمعتزلة والأشاعرة يمكن تصنيفهم في خانة الباحثين عن الحقيقة من منطلق النظرة “الذاتية” النسبية خدمة لمذهب أو تيار فكري يدافعون عنه.
أما الشيعة، فيبدو الأمر أعقد مما يتصور الكثيرون، لأن المذهب الشيعي لم يقم على الشريعة فحسب كما هو حال مذاهب أهل السنة والجماعة، بل قام أيضا على “الفلسفة النبوية” التي طورها الإمام علي كرم الله وجهه وورث سرها بعده الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام وبقية الأئمة الكبار من بعدهم وصولا إلى الإمام الغائب، وفق العقيدة الجعفرية الاثنا عشرية.
بمعنى، أن أئمة الشيعة لا يختلفون كثيرا عن الصوفية الذين يعتبرون “الشريعة” بوابة ومدخلا لولوج عالم” الحقيقة”، لكنهم يختلفون في الطريقة. ومعنى المعنى، أن هناك مستويين للحقيقة، حقيقة ظاهرة أوضحتها الشريعة وهي المعتمدة في المذهب كمنهج وسلوك، وحقيقة باطنة تمثل اللغز الخفي أو سر الأسرار، والتي لا يدرك جوهرها إلا من عاش تجربة المعراج إلى الله من العباد الواصلين. لكنها في كل الأحوال “حقيقة” لا تقال لأنها ليست من مستوى إدراك العامة لما قد تثيره من فوضى.
يقول الإمام الخميني في حديثه عن الحقيقة الغائبة: “ولعلك بعد المصابيح الماضية، المستنيرة بالأنوار الإلهية، المنورة لقلبك، والنفثة الروحية النافحة في روعك، عرفت كيفية ارتباط هذه الخليفة الكبرى بالأسماء الحسنى والصفات العليا، وأن ارتباطها بها ارتباط افتقار ووجود، كما أن ارتباط هذه بها ارتباط تجلٍ وظهور، فإن الحقيقة الغيبية الإطلاقية لا ظهور لها بحسب حقيقتها”. وهذا بالضبط هو ما قاله الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في شرحه للعلاقة بين الإنسان والله حيث قال: “أنت قلبه وهو مقلوبك”. وهذه هي عين الحقيقة الصوفية التي تقول إن الله كان ظاهرا في العماء قبل الخلق، فلما أراد أن يُعرف خلق الإنسان، فأصبح الإنسان ظاهرا والله باطنا.
وبالرغم من أن كل فريق من الفرق الكلامية كان يلتزم للتدليل على مقولاته بالنص المقدس من قرآن وسنة، إلا أنهم كانوا يختلفون في المقاربة من زاوية التفسير بالنقل عن السلف، أو التأويل بالعقل من خلال الاستعانة بأدوات اللغة من مجاز وكناية ومحكم ومتشابه وما إلى ذلك..
سوف لن نتطرق هنا لموقف السلفية التكفيرية والوهابية من قضية الجبر والاختيار، لأن لا وجود لفكر لدى هذه الطائفة يمكن أن يكون محط اهتمام الباحثين عن الحقيقة، ومجمل ما كتب في الموضوع عندهم هو تكرار واجترار لما قاله مفسروهم وفقهائهم الكبار وتلامذتهم من بعدهم، وبالتالي، نحن هنا أمام سنة الفقهاء لا سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم المفترى عليها. لأنه عندما تطرح إشكالية ما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن “العماء”، عن أبي رزين أنه قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا عز وجل قبل أن يخلق الخلق؟ قال: (كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء) رواه الترمذي تحت رقم: (3109) وابن ماجة تحت رقم: (182) والإمام أحمد تحت رقم: (15755). والعماء هو فضاء لا وجود فيه لهواء بسبب انعدام الحركة قبل خلق الأجرام والكواكب والسماوات والأرض، وهو الأمر الذي لم يستسغه الظاهرية فاتهموا خصومهم الشيعة والصوفية بأنهم جعلوا “معبودهم معلق بالهواء قبل خلق عرشه”. إلى هذا الحد وصل الجهل بالوهابية والسلفية التكفيرية في التهجم على المؤمنين المخالفين لهم في الرأي، ومن هذا الباب بدأت مسيرة التكفير الذي هو نتاج طبيعي للجهل والجمود.
وقد يكون من المفيد في هذا السياق إعطاء مثل بسيط عن طبيعة تفكير فقيه سلفي كابن تيمية الذي حاول تفسير حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول: "كان الله ولا شيء معه ثم خلق العالم"، فلا يخلو:
-       إمّا أن يكون خلقه في نفسه، وانفصل عنه، وهذا محال، تعالى الله عن مماسة الأقُذار وغيرها.
-       وإمّا أن يكون خلقه خارجا عنه ثم دخل فيه، وهذا محال أيضا تعالى أن يحل في خلقه.
-       وإمّا أن يكون خلقه خارجا عن نفسه الكريمة، ولم يحل فيه، فهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره، ولا يليق بالله إلا هو. (مجموع الفتاوي: 5 / 152).
والمصيبة أن الاحتمال الثالث الذي يُرجّحه ابن تيمية يسقطه من حيث لا يدري في الشرك بالمفهوم الغليظ، لأنه يفترض وجود مادة من خارج الله خلق منها تعالى العالم. والسؤال هو" مّن أوجد هذه المادة؟ من أين؟ وكيف؟ .. ولو كان ابن تيمية طرح هذا السؤال لفهم معنى "لا إله إلا الله" بالعمق المطلوب، ولما ذهب هذا المذهب المخالف للعقل والنص، ولرجّح دون مواربة الاحتمال الأول الذي قال به الصوفية وحاول ابن تيمية دحضه من دون أن ينجح في ذلك. وسنعود لبحث هذا الموضوع بإسهاب في باب "الله ذاتا وموضوعا".
وبالعودة إلى أصل المشكلة ونقطة بداية التفرقة التي قسمت ظهر الأمة، يعتبر “معاوية” مؤسس “أهل السنة والجماعة” هو أول من قال بالجبر بمفهومه الغليظ وفق ما يشير إلى ذلك القاضي عبد الجبار في القرن الرابع الهجري، وهو أحد كبار رؤوس المدرسة المعتزليّة، حيث قال: “إن أول من قال بالجبر وأظهره معاوية، وأنه أظهر أن ما يأتيه بقضاء الله وخلقه، ليجعله عذرا فيما يأتيه، ويوهم أنه مصيب فيه، وأن الله جعله إماما وولاّه الأمر، وفشى ذلك في ملوك بني أمية” (المغني 8/21855(.
والعقدة هنا من الناحية المنهجية، تكمن في المقدمة التي ينطلق منها كل فريق للوصول إلى النتيجة التي يريد تسويقها باعتبارها تمثل الحقيقة المطلقة. وعند هذا المستوى من الجدل، يتداخل مفهوم الحق والخلق، والقضاء والقدر، والعلم والإرادة، والشر والخير، والجبر والاختيار، فتكبر المعادلة لتصبح بحجم الوجود، على شاكلة المتتالية الهندسية التي يرسم بدايتها فقيه وتكبر كالصدى مع أتباعه ثم أتباع أتباعه إلى ما لا نهاية.
وإذا كان كبار علماء الشيعة يبطنون ما لا يظهرون في مجال الجبر والاختيار من باب التقيّة، بحيث نجدهم بما في ذلك الإمام الخميني الذي تأثر بالفكر الصوفي وبمدرسة السهروردي وابن عربي فيما يستشف من كتاباته، يرفضون إطلاع الناس على الحقيقة لأنها لا تقال، ومن شأن البوح بها أن يؤدي إلى هدم قانون السببية أولا، ثم انهيار النظام الاجتماعي ثانيا، وهدم الشرع ثالثا، وهي الأسس الثلاث التي يستند إليها المعتزلة في تبرير حرية الإنسان وإرادته في أفعاله، فالمشكلة هنا ناجمة من عدم التفريق بين الناس من حيث مستويات العلم، بين الذين يعلمون فيحمدون ويشكرون ويتقون، والذين لا يعلمون وقد يذهبون مذاهب خطيرة في حال عرفوا الحقيقة قبل أن تطهّر نفوسهم من طبيعتها الحيوانية.
يقول الإمام الخميني في شأن الحقيقة الخفية: “فالأسماء والصفات من الحجب النورية التي وردت: أن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة، وها هنا أسرار لا رخصة في إظهارها”. لأن من شأن إظهارها وفق رأيه إحداث الزلزلة في الأسس الثلاثة التي تحدث عنها المعتزلة وأقاموا عليها عقيدتهم العقلانية التي تزعم أنها ترى بالعقل ما لا يقاس بما يمكن أن يدركه القلب من خلال نور الفيض والعرفان.
وهذا “التبرير” الذي أشار إليه الإمام الخميني بالنسبة للمعتزلة، يصب في صلب مبدأ العدل من حيث الظاهر، باعتبار أن الشعار الإيديولوجي الذي قامت عليه هذه المدرسة هو “التوحيد والعدل” كما هو معلوم. كما أن قضية “خلق الأفعال” تعتبر الأصل الثاني من الأصول الخمسة التي تقوم عليها عقيدتهم الفكرية، ذلك كون الله عادلا يقتضي منه أن يعاقب المسيء ويثيب المحسن، أي أن يحقق وعده للمؤمن ووعيده للكافر. ومن أجل ذلك، لا بد من أن يكون الإنسان حرا مختارا في فعله مسؤولا عنه، وفق منطق الأمور.
هذه النظرة تبدو موضوعية من الناحية العقلية، لكن المشكلة تكمن في علاقة كل من الله والإنسان بطبيعة الفعل، وبالتالي، هل يجوز القول بتعدد الفاعلين على شاكلة تعدد الخالقين والقرآن يؤكد أن البشر لا يخلقون شيئا وهم وأفعالهم يُخلقون؟ ثم، هل فعل الإنسان خيرا كان أم شرا يطال مجال الاجتماع الإنساني الأرضي فيؤثر فيه سلبا أو إيجابا أم يطال مجال الله ويؤثر فيه أيضا، وهو الخالق والمحيط والمدبر لشؤون كونه وخلقه بمعرفته ووفق رؤيته التي لا نعرف عنها إلا النزر القليل جدا مما أفصحت عنه بعض آياته؟ إن من شأن الجواب على مثل هذه الأسئلة أن يهدم المبدأ المعتزلي من أساسه.
وهو ما حصل بالفعل، عندما أدرك ابن رشد متأخرا أن الله لا يدرك بالعقل، وأن الأفعال خيرا كانت أم شرا هي من خلق الله، جعلها فتنة لاختبار إيمان الناس، وأن حرية الإرادة والاختيار لدى الإنسان لا يمكن أن تخرج عن مشيئة الله وعلمه وإرادته، لأن الله هو من يتصرف في ملكه من خلال أسمائه وصفاته. وهو ما يفسره الصوفية بأن الله قبل الخلق كان ظاهرا في سكون (في العماء)، وعندما خلق الخلق أصبح باطنا (يدير الكون من وراء حجب كثيفة من النور والظلام)، وهذا هو معنى: “أنك أنت قلبه وهو مقلوبك” كما يقول ابن عربي، والتي على أساسها تم وضع نظرية الظلال والمرايا. أما الاعتقاد بأن الإنسان موجود مستقل عن الله (معه أو من خارجه) ويتصرف بحريته ومحض إرادته، فهذا هو الشرك بمفهومه الغليظ وفق ما يؤكد الصوفية.
قد نتقاسم مع القاضي عبد الجبار هاجسه المشروع فيما له علاقة بانهيار النظام الاجتماعي القائم على “الواجب” والمسائلة على قدر المسؤولية، وهذا هو جانب الشرع المتعلق بأفعال البشر كما تبدو من ظاهرها خيرا كانت أم شرا، وبالتالي، فهي (أي الأفعال البشرية) لا تأثر في الله، ولا تغيّر من مشيئته، ولا تبدل من إرادته وعلمه لأنها تقع بمعرفته وإرادته ووفق مشيئته. أما “قانون السببية” الذي تحدث عنه المعتزلة في زمانهم، فلم يعد له من معنى بعد نتائج البحوث التي وصلت إليها الفلسفة والعلوم الاجتماعية، منذ أن استبدل الفيلسوف ‘كانط’، “السبب” بـ "الغرض” الذي يحكم الأفعال. بدليل أن ليس كل من يأخذ بالأسباب يصل إلى نفس النتيجة على ما هو ثابت بالتجربة، وهو مجال يخرج عن قدرة وفهم وتحكم البشر. أما الشرع الذي يعني الجانب التنظيمي لحماية المجتمع، فنعم، غير أنه يجب ألاّ يفوتنا بالمناسبة أن الأمر هنا له علاقة بالمستوى الأدنى الذي هو مستوى العامة والدهماء وسواد الأمة حيث الجهل والفقر والعنف والجريمة، والأمر يختلف في المستويات العليا الأخرى حيث يُغيّر العلم والمعرفة نمط الحياة وأسلوب العيش وطريقة التفكير بل والخطاب والمعاملة.
والحقيقة أن انتصار الإمام أبي حامد الغزالي على ابن رشد في المسائل العشرين المتعلقة بالإلهيات لم يكن انتصارا للنقل على العقل كما يحلوا لأنصار التيار المعتزلي الادعاء، بل لأن الإمام الغزالي (الفقيه الصوفي) كان يفرق في العلم بين ما يمكن أن يصل إليه العقل باجتهاداته الكسبية، وبين ما لا يدرك إلا بالعلم اللدني الذي يقذف في الروع، لأن مجال العقل هو الشرع، في حين أن مجال الإيمان هو القلب، وهو مستعصي على الإدراك بالحواس لأنه من عالم الباطن.
والغزالي في جوابه على إشكالية التوحيد والشرع المتضمنة في سؤال: من يخلق الفعل ومن يكتسب نتائجه؟ لم يأتي بشيء من عنده، بل استند أساسا إلى عديد آيات القرآن الكريم ليدحض ما قال به المعتزلة في مجال حرية الإرادة والاختيار.  يقول الإمام الغزالي حول هذا الموضوع في "الإحياء"، موضحا طبيعة الأفعال وحقيقة الفاعل ما يلي: " فإن الفاعل بالحقيقة واحد، فهو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد، ولم نقدر أن نذكر من مجاز التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد.. وكل ذلك ينطوي تحت قول: (لا إله إلا الله)، وما أخف مؤنته على اللسان، وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب، وما أعز حقيقته ولبّه عند العلماء الراسخين في العلم، فكيف عند غيرهم.. فإن قلت: فكيف الجمع بين التوحيد والشرع؟  ومعنى التوحيد أن لا فاعل إلا الله تعالى، ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد، فإن كان العبد فاعلاً فكيف يكون الله تعالى فاعلا؟ وإن كان الله تعالى فاعلا فكيف يكون العبد فاعلا؟ ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد، ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه! فقال تعالى في الموت: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) السجدة:11، ثم قال عز وجل: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) الزمر:42. وقال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) الواقعة:63، أضاف الحرث إلينا، ثم قال تعالى: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا..) عبس:25-28، فأضافه إلى نفسه. وقال عز وجل: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) مريم:17، فنسب النفخ لجبريل الذي وصفه بروح الله، وفي آية أخرى يقول (فإذا نفخت فيه من روحي) فنسب النفخ إليه. وقال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) التوبة:14، فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه! والتعذيبُ هو عين القتل! بل صرح وقال تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) الأنفال:17، وقال تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) الأنفال:17، وهو جمع بين النفي والِإثبات ظاهراً، ولكن معناه: وما رميت، بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً، إذ رميت، بالمعنى الذي يكون العبد به رامياً؛ إذ هما معنيان مختلفان. وقال الله تعالى: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) العلق:4-5، ثم قال: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) الرحمن: 2، وقال: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) الرحمن:1-4. وقال: (إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) القيامة:19، فأكد أن من سيبيّن معنى القرآن لمن يتقرب إلى الله بتدبره هو الله نفسه. وقال: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) الواقعة:58- 59، وهذا يعني أن حتى المنيّ الذي يقذفه الإنسان خلال عملية الجماع من خلق الله (إحياء علوم الدين 4/221). فماذا بقي للإنسان بعد هذا؟
ويمكن القول إن كل ما أورده الإمام الغزالي مفصلا في هذا الباب جاء مختصرا في قوله تعالي: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات: ٩٦، وهي من الآيات المحكمات، فيما الآيات التي تتحدث عن الأفعال جاءت تفصيلا لها. يؤكد ذلك ما رواه أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن اللّه خالق كل صانع وصنعته) ذكره الثعلبي وخرّجه كذلك البيهقي من حديث حُذَيفة حيث قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (إن اللّه عز وجل صنع كل صانع وصنعته فهو الخالق وهو الصانع سبحانه). وإلى نفس المعني ذهب الصوفي العطار مفصحا عن ماهية سر الأسرار فقال: "الآن سأقول لك ما لا يقال.. اعلم يا أخي، أن النقش هو النقاش".

موقف العلم من ثنائية الجبر والاختيار
لم يسبق أن طُرحت إشكالية الجبر وحرية الاختيار على العلم التجريبي من قبل، لأنها لم تكن من مجال بحثه باعتبارها عقيدة دينية يصعب تأكيدها أو نفيها. لكن اكتشافات علماء بيولوجيا الدماغ الأخيرة أحدثت ثورة معرفية غير مسبوقة في هذا الباب.
يقول البروفيسور سيرغي سافلييف المتخصص في هذا المجال بمعهد بحوث بيولوجيا الأعصاب بموسكو خلال لقاء له مع قناة روسيا اليوم بتاريخ ٠٩ غشت ٢٠١٧، أنه وقبل المسيح عليه السلام بـ ٣٠٠٠ سنة، وفق ما تم اكتشافه من كتابات على أوراق البردي، كان الفراعنة يهتمون بدراسة الدماغ ويسجلون أقسامه ويصفون السحايا ويقيسون بنيته ويدرسون أسس التفاعل بين أجزائه. وخلال قرون طويلة بعد ذلك، اهتم العلماء بالبحث في كيفية تشكل الدماغ البشري وتطوره وآليات عمله وكيف يتخذ هذه القرارات أو تلك ولماذا يقوم الإنسان بهذا الخيار أو ذاك والدور الذي يلعبه الدماغ في كل ذلك؟

ووفق آخر ما تم التوصل إليه في هذا المجال، فإن الدماغ يتكون من قطاعات مسؤولة عن غرائزنا وأخرى تمنحنا القدرة على التقييد الذاتي أو الاجتماعي. أي أن هناك منظومتين: المنظومة الحوفية التي تتضمن كل أجزاء الدماغ حيث موطن الغرائز الفطرية والشعور والذاكرة ومناطق التحكم اللاإرادي الخارجة عن سلطة الإنسان من جهة، ومنظومة شبه مستقلة بمثابة شبكة للتفاعلات الاجتماعية والمعارف الذاتية والخبرات الفردية. هذه المنظومة الثانية تكمن في غشاء الدماغ الأمامي على مستوى الجبهة تحديدا وتتحكم في الغرائز الكامنة في المنظومة الحوفية بالإشارات الكهرومغناطيسية. وقد خلصت البحوث المخبرية إلى أن القرارات التي تتخذ على مستوى القشرة الدماغية الأمامية تعمل غالبا بشكل متعارض مع موطن الغرائز في المنظومة الحوفية، وهي التي تساعد الشخص على التمييز بين الخير والشر والصواب والخطأ والحق والباطل واتخاذ هذا القرار أو ذاك.

وبالنتيجة، يؤكد فريق علماء بيولوجيا الأعصاب الروسي، أن دماغنا يتشكل فطريا، ونحن لا نستطيع التأثير على الطريقة التي بني بها، وهو ما يؤكده تعالى بقوله (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم: ٣٠. (لاحظ التماثل في الآية بين "الوجه" بالتعبير المجازي و "الفطرة" التي تعني الغرائز الطبيعية لما سيأتي شرحه لاحقا).

وقد مر تطور الدماغ عبر مراحل طويلة قدرت بملايين السنين (٢٠ مليون سنة) قبل أن تظهر لدى الإنسان آليات مستقلة للاصطفاء الدماغي، حيث كان لا بد من ظهور عوامل عديدة في آن واحد: - أولا: ظهور خصائص فردية في السلوك مرتبطة بتكوين بعض من أجزاء الدماغ وحجمها – ثانيا: إظهار الفردية في السلوك لدى بعض الناس كان من المفروض أن يكون مهما للغاية للبقاء على قيد الحياة. وقد حدث هذا على ما يبدو مع نهاية ما يسمى بـ "عصر الجنة"، أي إبان ظهور النسخة الأولى لما أصبح يعرف علميا بـ "الهومو سابينس" أو "الإنسان العاقل"، أي آدم الذي اصطفاه الله من بين البشر البدائيين المتوحشين وجعله يخلفهم في الأرض، وهنا بدأ التحول نحو تنازع البقاء اجتماعيا، بحيث تحولت حياة الإنسان من فردية كما كان الحال لدى الإنسان البدائي قبل آدم (الأنا)، إلى حياة اجتماعية منظمة تطورت من أسرة صغيرة إلى عائلة فقبائل وعشائر وشعوب مختلفة كما هو عليه الحال اليوم (نحن). وتعتبر الغرائز هي الأساس الذي مهد لهذا التنظيم، لأنه بظهور القشرة الدماغية الأمامية لدى الإنسان العاقل، تحول إلى كائن اجتماعي ينازع من أجل البقاء لتوفير الطعام ضمانا للعيش، والجنس للحفاظ على النوع بالتكاثر، والأمن لضمان سلامة المجموعة واستمرارها، ما يعني أن غشاء الدماغ الأمامي هو المسؤول عن توجيه الغرائز الكامنة في الدماغ والتحكم فيها.

وبالتالي، فإن النزاعات السياسية والعرقية والدينية التي نراها اليوم خير دليل على التطور المستمر للدماغ فيما أصبح يعرف علميا بـ "الاصطفاء الصناعي"، بحيث يبرز بشكل جلي لدى الناس الذين يتميزون بقشرة دماغية أمامية متطورة تلائم الحياة في بنية اجتماعية معينة، فيبرزون بين الآخرين. أما الذين لا يتوافقون مع هذه البنية الاجتماعية المعينة فتتم إبادتهم، لأن هدف هذه الظاهرة التي عرفتها البشرية خلال مختلف مراحل تطورها هو "الاصطفاء الصناعي" الذي يكون هدفه النهائي بناء مجتمع خال من النزاعات والسلوكيات الإجرامية ويتميز بالتسامح العرقي والديني.

لكن المشكلة تطرح على مستوى من تختاره المجموعة لقيادتها وكيف تختاره، لأنه في غياب آلية الاختيار الجماعي العقلاني نشأت النزعة الشمولية الإيديولوجية والدينية والسياسية لبناء المجتمع وفق تصور خاص لا مجال فيه لحرية الفكر وآليات تجنب الخلاف من خلال تنظيم الاختلاف، وبسبب ذلك برزت ظاهرة عدم قبول الناس إلا وفق انتماءاتهم العرقية أو الدينية، ما فتح الباب على مصراعيه لحروب الإبادة التي عرفتها الإنسانية باسم الدين حينا والإيديولوجيا أحيانا، حدث هذا منذ القدم ولا يزال يحدث اليوم برغم تطور المجتمعات وتبني الدول لشعارات من قبيل حقوق الإنسان وحوار الحضارات. هذه الظاهرة بحد ذاتها توضح أن الإنسان لا يزال يعيش بدايات التطور الأولى ولمّا ينضج بعد ليصبح في مستوى "الإنسان الكامل".

وبقراءة خطية للتاريخ الديني المسيحي والإسلامي على سبيل المثال، نكتشف أنه في العصور الوسطى حدثت إبادات بحق كل من رفضوا دفع الإتاوات للكنيسة فاتهموا بالهرطقة، ونفس الشيء حصل زمن الخلافة المسماة بـ "الراشدة" في حق من رفضوا دفع الزكاة فيما أصبح يعرف بـ "حروب الردة". ويمكن القول إن التطهير الديني الذي عرفته أوروبا في عصر الظلام هو ذاته الذي عرفه العام الإسلامي زمن الفتوحات وحكم الإمبراطوريات الأسرية من الأموية إلى العثمانية، مع فارق لافت، يكمن في أن التطهير الديني الذي قامت به الكنيسة والإقطاع في أوروبا كان أشد ضراوة ووحشية من الذي قام به تحالف الإقطاع والفقهاء في العالم الإسلامي. وبالنتيجة، أدى هذا التاريخ الأسود إلى تحول المجتمعات الأوروبية اليوم إلى مجتمعات عقلانية وعلمانية من دون أن يعني ذلك الكفر بالدين الذي تحول إلى مسألة شخصية بين العبد وربه، فيما لا يزال العالم الإسلامي يتوق لإعادة إحياء نظام الخلافة الدينية برغم كل ما حصل، وبرغم أن هذا النظام لا علاقة له بالدين من قريب أو بعيد كما أوضحنا بتفصيل في موضوع "الدين و الدولة" المنشور على هذا الموقع، وأكدته تجارب اليوم من خلال ظاهرة الجماعات الإسلامية المتطرفة كالقاعدة وداعش وأخواتهما باختلاف الأسماء والمسميات، والتي شوّهت الإسلام وسمعة المسلمين في العالمين.

ونجاح هذه الجماعات المتطرفة في استقطاب الأتباع يعود وفق علم بيولوجيا الأعصاب إلى اللعب على الغرائز الفطرية لتوفير طاقة الدماغ إلى أقصى الحدود، أي تعطيل منظومة القشرة الدماغية عن العمل بحيث لا تعود تتحكم في اختيارات الإنسان العقلانية. وذلك من خلال وعد المنتسبين بالسعادة الأبدية في الجنة وما ينتظرهم فيها من طيب عيش. أي العزف على الوثر الحساس للشباب، والمتمثل في إشباع الغرائز بالوعود الوهمية من طعام (الحصول في الجنة على ما لذ وطاب دون جهد وعناء)، وجنس بلا حدود ولا قيود (70 حورية لكل شهيد)، والعيش في أمن وسلام دون خوف أبد الآبدين.. وهذه هي الغرائز التي حكمت تطور التجربة البشرية منذ أول الخليقة وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها. وبالتالي، فمثل هذه الوعود التي تلقى قبولا لدى المحرومين والمظلومين من الشباب عموما، تولد لديهم شعورا بالرغبة في الانتقام، والاعتقاد الخاطئ بأن استشهادهم ضد الكفار والمنافقين حتى من بني جلدتهم، سيضمن لهم الانتقال السريع ودون حساب للعيش في النعيم الدائم المقيم بلا شقاء أو معاناة نتيجة ما يفرزه الدماغ من مادة "الأندورفين" التي تعطي للإنسان شعورا بالسعادة والارتياح، وهي مادة مخدرة طبيعية يفرزها الدماغ لدى الإنسان عند ممارسته لطقوس دينية معينة يشعر بعدها بالرضا والطمأنينة والارتياح.

ولعل أهم ما وصل إليه هذا العلم من نتائج، تكمن في أنه أصبح بمقدور علماء بيولوجيا الدماغ دراسة شخصية الإنسان بشكل دقيق ووضع توصيف "بروفايل" علمي لها يحدد طبيعتها وخصائصها وميولاتها وقدراتها. ومن شأن مثل هذا النوع من الدراسات، إن سُمح بها، أن تساعد المجتمعات على اختيار حكامها وممثليها، بل وبإمكانها أن تضع لوائح لكبار الأدمغة والعباقرة والأذكياء في المجتمع حسب الاختصاصات، الأمر الذي سيساعدها على انتقاء أفضل القيادات وأحسن العقول المنتجة القادرة على حل معضلاتها المستعصية.

لكن المشكلة تكمن في أن الماسكين بالسلطة ومن ورائهم بيوتات المال ومجمعات الصناعات العسكرية ومجتمعات المخابرات والشركات العابرة للقارات اليوم، لن تسمح بمثل هذه الدراسات، لأنا ستظهر عدم نجاعة الأنظمة المسماة بالديمقراطية في الغرب التي لعبت على غرائز الناس ووعدتهم بالرفاهية فحوّلتهم من حيث لا يشعرون إلى زبائن لمنتجاتها الاستهلاكية باللعب على غرائزهم الفطرية. كما أن من يتحكمون في الشعوب العربية والإسلامية من قادة، وبسبب تمسكهم باستغلال الدين في السياسة، يرفضون مثل هذه الدراسات التي من شأن نتائجها أن تكشف للناس ضعفهم وغبائهم وعدم مسؤوليتهم، وبالتالي، سيحرمون من السلطة والمال، وسيمنعون من توريثهما لأبنائهم.

ويبدو وفق الخلاصة التي وصل إليها فريق العلماء الروس في هذا المجال، أن لا حل للعالم اليوم ومستقبلا إلا باعتماد هذا النوع من الدراسات التي تصب نتائجها في مصلحة المجتمعات بالضرورة. من هنا نفهم سبب إصرار تحالف الإقطاع والفقهاء في العالم العربي والإسلامي على إشاعة الجهل واحتكار إنتاج المعنى في المجال الديني. ويسجل التاريخ الإسلامي أنه وبسبب هذا الوضع الذي تم فيه استغلال الدين في السياسة، برزت النزعة الفكرية لدى ثلة من العلماء المسلمين، فقرروا الانطلاق مما يمكن أن يصل إليه العقل من خلاصات بعيدا عن منظومة المفاهيم التي أنتجها التراث، فازدهرت العلوم بكل أنواعها وبرزت الحضارة الإسلامية حينها في أبهى صورها، خصوصا زمن الأندلس، لكن هذا العصر الذهبي لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما عادت هيمنة النزعة الإيديولوجية الدينية السنية المغلقة، فهزم العقل وانتصر النقل وعادت المجتمعات الإسلامية للعيش مرة أخرى زمن الجاهلية.

هذا لا يعني أن الأمر له علاقة بالدين الذي هو بريء مما يتهمونه به براءة الذئب من دم يوسف، بل باستغلال الدين في السياسة من قبل الإقطاع وفقهاء السلاطين من جهة، وابتعاد الناس عن القرآن واتباعهم لدين ملوكهم كما يقول ابن خلدون. وبالتالي، فالنزاعات والصراعات والحروب الدموية التي عرفها العالم الإسلامي طوال تاريخه لم تكن بسبب الدين بقدر ما لها علاقة بسوء فهم العامة للدين والدنيا معا، الأمر الذي ساعد على استغلالهم وتحويلهم إلى حطب لحروب الإقطاع العبثية.

اليوم تتكشف حقائق غاية في الأهمية، فبمقارنة النتائج التي توصل إليها علم بيولوجيا الدماغ مع المعطيات القرآنية نستطيع الوقوف على الحقيقة المدهشة التالية:

إن علم بيولوجيا الأعصاب أكد ما سبق للقرآن وأن أوضحه من حقائق تتمثل في أن معصية آدم لربه كانت النقطة الفاصلة بين مرحلة البشر الحيواني الذي عاش قبل آدم من جهة، ومرحلة الإنسان الجديد الذي أصبح بمقدوره أن يختار بين الطاعة والعصيان من جهة ثانية، وتعتبر هذه الواقعة بداية ظهور الخصائص الفردية في السلوك وفق ما تجمع عليه الرسالات السماوية الثلاث. بمعنى أن ظاهرة عصيان آدم لربه كانت بداية تفعيل الإنسان للحدس في دماغه وظهور ازدواجية السلوك، بين الانقياد الغريزي الفطري الذي تتحكم فيه المنظومة الحوفية الحيوانية المشكلة لمكونات الدماغ، والغشاء الدماغي الأمامي الذي ظهر لأول مرة مع آدم من خلال حادثة العصيان، والتي أفرزت هذه الازدواجية لأول مرة في الدماغ بين ما "أريد" التي تعبر عن الغرائز، وما "يجب" التي تكبح السلوك وتوجهه، لتبدأ بعد ذلك مسيرة الإنسان مع ثنائية الخير والشر والنور والظلام أو الإله والشيطان داخل وعي الإنسان.

وتكمن أهمية هذا الاكتشاف العلمي الكبير في أنه يؤكد وجود ارتباط بين نتائج البحوث المخبرية التي أجريت على الدماغ وفلسفة السلوك الدينية. وهذا يعني علميا وعمليا أن الصراع بين الخير والشر يجري في الدماغ بالتحديد بغض النظر عن عقيدة صاحبه.

وبالمحصلة، أصبح من الممكن علميا قياس السلوك السلبي أو الإيجابي للإنسان برد الأول إلى عمل المنظومة الحوفية التي هي مستودع الغرائز الحيوانية بامتياز، والثاني إلى عمل الغشاء الدماغي الأمامي الذي يعمل كميزان لقياس الأمور وكبح السلوك واتخاذ القرارات المناسبة. وهذا هو ما يجعل الفرق قائما بين الحيوان والإنسان. ويلاحظ في هذا الصدد أيضا، أن الأطفال يتصرفون وفق ما تمليه عليهم منظومتهم الحوفية (أي وفق الغرائز البدائية)، في حين أن الأمور تتغير بتقدمهم في العمر ومرورهم لمرحلة الشباب حيث تبدأ النزعة الثورة لتغيير الواقع القائم واستبداله بواقع أفضل منه من منطلق الأوهام الطوباوية. وكلما تقدم الإنسان في العمر كلما أصبح محافظا ورصينا وعقلانيا أكثر فأكثر. هذه أمور نعرفها بالبداهة من واقع تجاربنا اليومية قبل أن يكون لدينا تفسير علمي لها.

ويفسر العلماء سلوك الإنسان على أساس عاملين: الأول: حنين الإنسان للعيش في النعيم الذي افتقده بخروجه من الجنة. والثاني: إصراره على التعايش مع الواقع برغم مرارته أملا في تغييره نحو الأفضل.

فمثلا، عندما يفكر الإنسان في المال يتبادر إلى ذهنه خياران: - الأول: أن يحصل عليه بالطريقة السهلة (الطريقة الإجرامية) عبر السرقة ليعيش حياة مريحة يحقق فيها كل ما يطمح إليه من سعادة دون اهتمام للعواقب. والثاني: أن يحصل عليه بالطريقة (الأخلاقية) الصعبة من خلال العمل الذي فيه تعب ومعاناة، ويتطلب من الإنسان استهلاك ما قدره ٢٥ في المائة من الطاقة، وهي طاقة هائلة مقارنة بحجم الدماغ الذي لا يشكل سوى ١ / ٥٠ من حجم الجسم. وهذا يعني، أن المنظومة الحوفية (الغرائز) توجه الإنسان نحو الشر، في حين أن الغشاء الدماغي الأمامي يوجه الإنسان نحو الخير والكسب المشروع برغم الطاقة المطلوب استهلاكها في سبيل ذلك. وهناك العديد من الدراسات التي أجريت على مجموعات بشرية مختلفة أكدت أن سلوك المجرم محكوم بانقياده إلى المجموعة الحوفية "أريد"، وسلوك الإنسان السويّ محكوم بالغشاء الدماغي المتطور الذي يملي عليه السلوك في إطار "الواجب" أي المشروع من وجهة نظر دينية وأخلاقية.

والمفارقة تكمن في أن نتائج هذه البحوث تؤكد أن المنظومة الحوفية كما الغشاء الدماغي الأمامي يعملان بشكل فطري تماما، وأن ميول بعض الناس الغريزية أو ميول البعض الآخر الرصينة لها علاقة بتطور وقوة نشاط القشرة الدماغية. وبهذا المعنى، فتصرفات الإنسان الرصينة محكومة بمدى نجاح الإنسان في تهذيب هذه القشرة بالمعارف والتجارب المكتسبة في إطار المنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها فيتأثر بها ويؤثر فيها. وهنا يأتي عامل الثقافة الدينية الذي يلعب دورا محوريا في تغذية هذه القشرة بالقيم والأخلاق التي تمد الإنسان بالقوة القادرة على كبح جماح المنظومة الحوفية الغريزية. وهذه القشرة الدماغية تحديدا هي التي تتحكم بقناعات الإنسان ومواقفه وتصرفاته، وهي نفسها التي تدفع الفلاسفة ليكتبوا سخافات عن الميتافيزيقا وحرية الإرادة والاختيار.

وفي هذا الإطار يمكن فهم كل ما أنتجه الغرب من أفلام تركز في مجملها على دور البطل الخارق (السوبر مان أو رامبو) الذي يقاوم الشر من أجل أن يسود الخير.. هذه تفاهات أكد علم الإجرام من خلال دراسة عديد الحالات أن المجرم لا يكون مجرما باختياره بل بالفطرة، بسبب أن قشرته الدماغية الأمامية لم تتطور بالعلم والمعرفة والتجربة الإيجابية نتيجة البيئة والظروف الاجتماعية غير المساعدة التي عاش فيها، وبهذا المعنى يعتبر المجتمع (الأسرة والدولة) مسؤولا عما يفعله أبنائه ما دام هو المسؤول عن تربيتهم وتكوينهم وضمان العيش الكريم لهم.

وبالمحصلة، تم اليوم الجواب بشكل حاسم، على السؤال الذي كان يقول: - لماذا يبرز الإنسان بخلاف غيره من الثدييات بشكل خلاق ومميز؟ والجواب يكمن في تطور غشاء الدماغ الأمامي وما حمله هذا الغشاء منذ نهاية عصر الجنة من معلومات أولية زرعت فيه بالفطرة، ويتعلق الأمر هنا بالأسماء التي وهبها الله له لميّزه بالمعرفة عن بقية المخلوقات بما في ذلك الملائكة.

هذه الخلاصة البالغة الأهمية وضعت حدا لنظرية داروين عن أصل الأنواع والتطور باعتبارها نظرية علمية صحيحة، بمعنى أنها لم تسقط النظرية بالكامل، لكنها حوّلتها إلى نظرية نسبية لجهة اشتراك وتماثل الإنسان والحيوان في النواحي البيولوجية البنيوية، أي الجانب الآلي، لكن اكتشافات علم بيولوجية الأعصاب الأخيرة أكدت وجود تنافر مطلق بين الإنسان والحيوان من الناحية الواقعية. ومعنى ذلك وفق ما يشير إليه رئيس البوسنة علي عزت بيجوفيتش في مؤلفه القيم (الإسلام بين الشرق والغرب – ص: 83)، أن التماثل الذي تحدث عنه داروين "لا نجده قائما بين الإنسان والحيوان، فالحيوان كائن بريء بالطبيعة، من دون خطايا، وهو محايد من الناحية الأخلاقية كأنه شيء من الأشياء. أما الإنسان، فليس كذلك أبدا. فمنذ اللحظة التي تأنّس فيها الحيوان (أي تحول البشر البدائي إلى إنسان عاقل) في المقدمة السماوية الدرامية (عالم الذر)، أو من اللحظة المشهودة المعروفة بـ "نهاية عصر الجنة"، لا يستطيع الإنسان أن يختار أن يكون حيوانا بريئا. لقد أطلق سراحه دون أن يكون له الخيار في العودة دون تجربة دنيوية قاسية. ولذلك، فمنذ تلك اللحظة المشهودة لم يعد ممكنا للإنسان أن يختار بين أن يكون حيوانا أو إنسانا، إنما اختياره الوحيد أن يكون إنسانا أو لا إنسانا". وبهذا المعنى لم تعد حياة الإنسان بسيطة بل أصبحت جد معقدة، بعد أن تحول إلى إنسان مشوش، ولا سبيل له للخروج من هذه الدوامة إلا بسلوك طريق واحد لخوض غمار المجاهدة الأخلاقية وما فيها من مآسي ومعضلات وإحباطات ونقمة وقسوة وخبث الطوية، لقوله تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 7 – 8. وهذه أمور لا يعرف الحيوان شيئا عنها، وهذا هو معنى ولادة الإنسان ما بعد عصر الجنة ليبدأ عهدا جديدا من الصراع القاسي مع النفس في سلم الرّقي والسّمو إلى أن يبلغ درجة "الإنسان الكامل"، وفي هذا ليس له من خيار سوى أن يرتقي ما دام لا يستطيع أن يكون حيوانا بريئا لانتفاء التماثل بينه وبين الحيوان. أي أنه محكوم عليه أن يكون إنسانا أو لا إنسان كما قال علي عزت بيجوفيتش. فقضية الخلق بالنسبة له، هي في الحقيقة، قضية الحرية الإنسانية، فإذا قبلنا أن الإنسان لا حرية له، وأن جميع أفعاله محددة سابقا، إما بقوى جوّانية أو برّانية، ففي هذه الحالة لا تكون الألوهة ضرورية لتفسير الكون وفهمه. ولكن إذا سلمنا بحرية الإنسان المقيدة في حدود معينة ومسؤوليته عن أفعاله، فإننا بذلك نعترف بوجود الله إما ضمنا وإما صراحة، فالله وحده هو القادر على أن يخلق مخلوقا حرا يتصرف وفق مشيئة الله تنفيذا لمخططه، فالحرية لا يمكن أن توجد إلا بفعل الخلق في إطار مخطط الخالق.

وهذا يعني وفق كارل جاسبرز: أنه "عندما يكون الإنسان واعيا بحريته، فإنه في الوقت نفسه يصبح مقتنعا بوجود الله. فالله والحرية لا ينفصلان (...) فإذا كان الوعي بالحرية ينطوي على وعي بالله، فيتبع ذلك أنه يوجد علاقة بين إنكار الحرية وإنكار الله". والسؤال هو: إذا كان الله والحرية لا ينفصلان، فكيف يمكن أن يستقل الإنسان بحرية أفعاله عن إرادة الله ومشيئته؟ .. وهي الحقيقة التي تفطن لها الفيلسوف جون بول سارتر فقال قولته الشهيرة: "الإنسان محكوم عليه أن يكون حرا "، هذه حقيقة مفروغ منها، لكن يبقى السؤال: أين تبدأ وأين تنتهي حريته في ملك الله؟ .. الصوفية يقولون: "لا حرية لإنسان إلا في كنف الله".

وهنا يأتي الدين ليلقي الضوء على ما عجز العلم عن اكتشافه. يقول تعالى: (وعلّم آدم الأسماء كلها) البقرة: ٣١. وقوله: (علم الإنسان ما لم يعلم) العلق: ٥، وغيرها كثير مما تحيل العلم إلى الله الذي علم الإنسان كل ما يعلم وهو قليل على كل حال مقارنة بعلم الله العظيم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الإسراء: ٨٥، وبفضل هذا القليل من العلم وصل الإنسان إلى ما هو عليه اليوم ولا يزال يصبو إلى ما هو أكثر وأفضل.

لكن ما يلفت النظر في الآية ٣١ من سورة البقرة، من وجهة نظر قرآنية، هو أن اللغة لم تتطور من إشارات ورسوم فحروف وكلمات كما هو السائد من الفهم، لأن الاكتشافات المتعلقة بالحفريات على الصخور وفي الكهوف القديمة وفق علم الأركيولوجيا، كانت على شكل رسوم تعود للإنسان البدائي الذي لم يكن يعرف الحروف قبل عصر التدوين، وقد ظهرت الحروف لأول مرة مع ظهور آدم الذي أنبأ الملائكة بأسماء المسميات التي عرضها الله عليهم. ومن العجيب أن القرآن يبدأ عديد الآيات بأحرف هجائية لا يعرف أحد معناها حتى الآن، ويعتقد أنها كانت أصل اللغة التي تكلم بها آدم، أي العربية، وأنها أحرف من نور على أساسها تشكلت اللغة الأم وأم كل اللغات، أي العربية. بدليل أن اللغة العربية هي أغنى اللغات في العالم ولها 16 ألف جذر، في حين أن اللغة العبرية تعتبر الثانية ولها 2.500 جذر فقط، وهي لغة فقيرة ومحدودة وعديد كلماتها من أصل عربي. كما أن عمرها لا يتجاوز 4.000 سنة، في حين أن عمر اللغة العربية يناهز 8.000 سنة أي منذ ظهور الإنسان العاقل (آدم)، وهي اللغة الأقدم المعروفة حتى الآن، وعديد الأدلة العلمية المكتشفة ترجح أنها كانت اللغة التي اختارها الله لتكون وعاء لكل اللغات البشرية التي تفرعت عنها. بدليل أن عديد المفردات اللاتينية وغيرها مشتقة من اللغة العربية، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى أو يسعها المقام. بل حتى اللغة الهيروغليفية زمن الفراعنة تضمنت عديد الكلمات من أصل عربي فصيح، ومنها "حنيف" مثلا التي تعود لنبي الله إدريس الذي هو ثالث أبناء آدم عليهما السلام ولد بعد حادثة مقتل هابيل. واسمه يعني "هبة الله" أو "البديل" عن الابن المقتول.  وكان من الموحدين الذي جاء بأقدم معتقد سمي بالعقيدة الصابئة التي تعتبر الرسالة السماوية الأولى، وبذلك صنف إدريس بأنه أول رسول بعثه الله لقومه بالحكمة ورفعه الله مقاما عليّا لقوله تعالى: (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا * ورفعناه مقاما عليّا) مريم: ٥٦ – ٥٧. ويذكر التراث أنه أول من خط بالقلم ورسم لقومه قواعد تمدين المدن، وأول من خاط الثياب التي استعملها الناس بدلا من الجلد الذي كان يلبس من قبل. وبعد الطوفان جاء جيل جديد من ذرية نوح ومنهم إبراهيم الخليل عليه السلام ليبدأ دور جديد من وارثي عهد النبوة والرسالة والإمامة من أبناء إسحاق وإسماعيل عليهما السلام.

وخلاصة القول، أنه إذا كان ما كشفه العلم وما أكده القرآن قبل ذلك من حقائق يتطابقان من حيث النتائج، فإن ليس للإنسان من إرادة ولا حرية اختيار إلا ضمن مساحة ضيقة لا تسمح له بالتصرف من خارجها، أي في كنف الله، وبالتالي، يستحيل أن يتجاوز تصرفه علم الله وإرادته ومشيئته، ما دام كل ما يأتيه هو بأمر الله تعالى لا بأمره، فإذا اختار الهدى هداه الله وأخذ بناصيته إلى صراط مستقيم، وإذا اختار الكفر أضله الله وأخذ بناصيته إلى الهلاك. هذا أقصى ما يمكن للإنسان فعله.
وهنا نأتي لقمة الإعجاز في القرآن، حيث ذكر تعالى الناصية في آيتين في معرض حديثه عن الإنسان بقوله: (كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة) العلق: ١٥ – ١٦. والناصية وفق معجم المعاني هي "مُقدّم الرأس" والناصية هي رأس الشارع، وامتلاك الناصية هو القدرة على البلاغة ومسك العنان وزمام الأمر، وامتلاك ناصية الأمر هي أخذ السلطة، وعقد ناصيته تعني أنه تهيأ للشر. وليس صدفة أن يعبر القرآن عن الناصية بالمعنى الذي يفيد أنها مستودع القرار. لذلك نهى تعالى أبو جهل عن تحريضه ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال إن ناصيته ناصية كاذبة في مقالها وخاطئة في أفعالها وتصرفاتها، وأنه حتى لو استحضر أهل ناديه من المشركين الذين يستنصرونه فسيدعو تعالى ملائكة العذاب ليأخذوه من ناصيته إلى النار.

وبذلك يكون القرآن قد حدد الناصية التي هي تعبير مجازي عن الغشاء الدماغي الأمامي تحت الجبهة مباشرة وفق ما اكتشفه علم الأعصاب اليوم، باعتبار الناصية هي المسؤولة عن القرارات التي يتخذها الإنسان والأفعال التي يقوم بها. لاحظ أن الإنسان حين يخطئ بشكل عفوي يضرب بيده بطريقة غرائزية جبهته من دون أن يدري أنها فعلا المنطقة المسؤولة عن الخطأ الذي ارتكبه. ولاحظ أيضا أن من فوائد السجود الذي تبث علميا أنه يتيح للعابد التخلص من الشحنة الكهرومغناطيسية السلبية التي تتجمع في ناصيته، فيفرغها على الأرض ويتخلص منها ومن ثم يشعر بالارتياح والطمأنينة.. فسبحان الله العلي العظيم.

وهذا يعني بالنتيجة، أن الإنسان لا يستطيع التحكم في شيء خيرا كان أم شرا من خارج المنظومة الحوفية الغرائزية التي تشكل دماغه، وهذا هو الحد الأقصى المتاح له في مجال الاختيار، وليس غريبا والحال هذه أن يكون أول أمر نزل من أول آية في أول سورة من الوحي هو أمر "اقرأ"، لأن بالقراءة والعلم والمعرفة يُغذي الإنسان ناصيته (شبكة الدماغ الأمامية) بما تحتاجه من أدوات تساعده على التحكم في منظومته الحوفية الحيوانية التي تمثل النفس الأمارة بالسوء، لتتحول رويدا رويدا إلى نفس عاقلة لوامة تراجع صاحبها في كل وقت وحين ليصحح أخطائه، إلى أن تتطهر وتنتهي إلى مرتبة النفس الكاملة الطاهرة الزكية الراضية المرضية، فيقول لها تعالى: الآن ادخلوا في عبادي وادخلي جنتي.

ومعنى المعنى وفق الصوفية، أن تجربة الإنسان الأرضية، هي عبارة عن سفر نحو المجهول في عباب بحر بلا شاطئ، فوق مركب تحرك شراعه أنفاس المهاجر بلا بوصلة، وليس له من سبيل للاهتداء إلى مرفئ الأمان، إلا إذا عرف كيف يهتدي بالآيات، وكيف يقرأ مواقع النجوم، لقوله تعالى: (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) النحل: ١٦. أما حرّيته، فتنحصر في المسافة التي يتحرك فيها فوق مركبه الصغير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق