بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 7 نوفمبر 2018

الإنسان بين الجبـــر وحرية الاختيار (3/2)



المعصية مفتاح فهم ثنائية الجبر والاختيار..
في الواقع، أن قضية “المعصية” و “الشر” قد طرحتا بحدة عبر مختلف مراحل تطور الفكر الإنساني في إطار ثنائية “الجبر والاختيار”، حيث شكلت معضلة استعصت على الحل. كما أن الصوفية لم تفتهم معالجة هذه القضية من مختلف جوانبها لأهميتها في تشكيل رؤية متناسقة حول المسألة، لكن دون التوغل في الشرح، واكتفوا باللجوء إلى أسلوب الستر، باستعمال لغة الرمز والإشارة بدل التوسع في متاهات العبارة، لعجز اللغة البشرية وقصورها عن تقريب المعاني الباطنية المراد شرحها لذهن العامة. وهو ما يلاحظ من خلال مقولة الجنيد التي أوردناها في الجزء الأول من هذا المبحث.../...

كما أن عديد الروايات تحدثت بإسهاب عن واقعة تناظر الحلاج مع إبليس حيث انتهى به الأمر إلى القول جهارا نهارا أن “إبليس في الجنة” من منطلق أنه رسول مكلف من ربه بغواية آدم وذريته كما يؤكد القرآن، لذلك سمّي "رسول السّيف”، إذ لا يعقل أن يتصرف إبليس من نفسه فيتحدى إرادة ومشيئة خالقه. وإبليس لم يشرك بالله ولا أنكر وجوده، بل كفر بأمر الله “التكليفي” برفضه السجود لآدم، وذلك لحكمة اقتضتها رؤية الله للحق والخلق، وقد عبّر عن بعض الجوانب الظاهرة لهذه الحقيقة اللدنية الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث المحاججة التي دارت بين آدم وموسى عليهما السلام كما سبق بسطها في الجزء الأول من هذا المبحث، فكانت هذه المعصية بالتالي مجرد سبب لأمر جلل كان مقدرا في علم الله العلي العظيم ويخضع لأرادته، فلا شيء يمكن أن يحدث في الوجود من دون علمه وأمره ومشيئته، بما في ذلك أعمال الخلق لقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات: 96. ولذلك قال الله عن إبليس أنه كان من الكافرين، أي ستر أمر ربه ولم يظهره بتنفيذه وفق ما يعطيه مفهوم كلمة "الكفر" لغة واصطلاحا، والذي يختلف عن مفهوم "الشرك".
غير أن حراس العقيدة، استنكروا على الحلاج مثل هذا القول واعتبروه هرطقة وضلال، ولم يحاول أحد منهم أن يفهم لماذا قال هذا الصوفي المتمرد على التقليد، الثائر على الجمود، والمفجّر للّغة، ما قاله بالتحديد.. حيث أنه وبغض النظر عن الأمر التكويني الذي قضى بخلق آدم واختياره ليكون الإنسان العاقل لخلافة البشر المتوحش الذي عاش قبله في الأرض، وتسخير الشيطان لإغوائه تحقيقا لمراد الله ومشيئته، لم يتساءل أحد من القدماء أو المحدثين عن معنى أن يخلد إبليس في النار على ذنب يصنف في خانة معصية أمر تكليفي؟
بل أكثر من هذا وذاك، يتبادر إلى الذهن بالتحليل المنطقي سؤال محيّر وصادم يقول: – هل يعذب بالخلود في النار من يخاف الله ولا يشرك به أحدا؟ هذا ما لا يقول به القرآن أبدا.
لم يفصح الحلاج عن معنى قوله “الشيطان في الجنة”، وهو ما يجعلنا نفترض بمنطق الأمور، لكن من دون ادعاء معرفة قصد الحلاج من قوله ما دام أنه لم يفصح عنه، أن هذا الصوفي الذي سُمّي بـ ”شهيد العشق الإلهي”، قد يكون عرف عن طريق الكشف من خلال النور الذي يقذف في الروع، أن طبيعة الشيطان الذي خلقه الله من نار، تقتضي أن يخلد فعلا في النار التي هي بالنسبة له جنّة، وأن يعذبه الله فيها بالزمهرير، وهنا يشير الصوفية إلى أن كلمة "عذاب" مشتقة من المصدر الذي هو "العذوبة"، ما يعني التلذذ بما سيلقاه من عذاب، مثل المصاب بالجرب الذي يلقى اللذة في الحك. نقول هذا لأن ذات المنطق يقول، أن حياة الشيطان في الأرض هي جحيم حقيقي جعله الله عقابا أليما له إلى يوم الدين بسبب عصيان أمر ربه التكليفي القاضي بالسجود لآدم، لأن الأرض ليست البيئة التي خلق منها وعاش فيها قبل أن يطرد من ملكوت السماء.. هذا مجرد تصور قد يكون أقرب إلى الحقيقة المنطقية وفق الرؤية الصوفية، لكنه يظل دون مستوى ما وصل إليه الحلاج من معرفة لدنيّة في هذا الشأن، والتي لا يعلمها إلا الله.
ولعل ما يؤكد هذا التصور أو هذه القراءة المنطقية إن صح التعبير، هو ما ورد في القرآن الكريم نفسه، حيث يستفاد من آياته أن الله جعل للشيطان وقبيله مهمة “الإغواء” بمثابة تكليف، باعتباره رسولا مهمته فتنة الناس، ما دامت “الفتنة” هي أساس كل تجربة أرضية، وعلى ضوء النتيجة يُعزّ الأنسان أو يهان، والشيطان لا يمكن أن يتصرف ضد إرادة الله أو من خارج مشيئته. وحيث أن الأمر كذلك، فالله تعالى هو من سمح له بفتنة العباد ومشاركتهم في الأموال والأولاد ابتلاء لهم وامتحانا لما اقتضته حكمته من الخلق بقوله: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون) الأنبياء: 35. بدليل، أن الشيطان يقول للإنسان اكفر، فإذا كفر يقول الشيطان إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين. ومعلوم أن الله تعالى لم يجعل للشيطان على عباده الصالحين من سلطان.. هذا ما أكده تعالى في محكم كتابه.
ومن جهة أخرى، نعلم علم اليقين من نصوص القرآن، أن من لا يشرك بالله لا يخلد في النار، وأن من يخاف الله من المخلوقين لا يعذب في النار. وبالتالي، قد يكون للأمر علاقة بطبيعة تكوين الشيطان النارية، هذا هو التفسير الذي يبدو أكثر رجحانا من الناحية العقلية بمقاييس علمنا، لأنه يستند إلى النص المقدس نفسه ويخضعه لتصوّر واضح يفهمه العقل بالمنطق. والله أعلم بمآل خلقه.
أما السؤال الذي تطرحه الفلسفة الإسلامية من وجهة نظر معرفية حول موضوع معصية آدم لأمر ربه القاضي بـ ”عدم الاقتراب من الشجرة” فهو: - هل للإنسان عموما (بمن فيهم الأنبياء والرسل)، إرادة حرة ليختار ما يشاء ويفعل ما يريد، متحكّما بذلك في صناعة التاريخ و مصير العالم؟
لأنه إذا كان الله هو خالق أفعالنا، وبالتالي، هو الفاعل لأفعالنا وفق النظرية القائلة بالجبر بمفهومه الغليظ، فلماذا يحاسبنا تعالى ويعاقبنا عليها؟
هذه معضلة لا يمكن حلها من دون العودة مجددا إلى مرحلة ما قبل الوجود المادي للإنسان على الأرض، لمعرفة ما حصل في عالم الذر والأنوار الرحمانية. لأن لحظة التأسيس الأولى هي التي من شأنها أن تقربنا إلى فهم رؤية الله للحق والخلق.
فبالنسبة للمرسلين مثلا، القرآن يقول إن الله هو من يختار الأنبياء والرسل لتذكير الناس بعهد ربهم وميثاقهم الذي عقدوه معه في عالم الذُرّ وأشهدهم حضوريا على أنفسهم بأنه ربهم الذي خلقهم وفق ما يستفاد من آية الميثاق الأعراف: ١٧٢. وبعد أن شهدوا على ربوبية الله لهم، عرض الأمانات على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان من ظلمه وجهله وفق ما يستفاد من الآية ٧٢ من سورة الأحزاب. وبذلك، وبرغم علم الله أن هذا الإنسان سيكون ظالما وسيتصرف في الأمانة بغباء وجهالة، إلا أنه كلّفه بمُهمّة عمار الأرض لحكمة لم يفصح عنها حتى لملائكته المقربين، وفق ما يستفاد من قوله لهم: (إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة: ٣٠.
ولهذا السبب تحديدا جاءت الرسالات السماوية وخاتمتها الرسالة المحمدية بمثابة ذكر وتذكّر وتأمّل وتفكّر، لتذكير الناس بعهد ربهم حتى لا ينسوه، وحثهم على الوفاء بمسؤولية الأمانة التي تُطوّق أعناقهم، والتي قبلوها طوعا لا كرها كشرط لخوض تجربة الحياة الأرض، وحذرهم تعالى، من حبه لهم وحرصه على نجاتهم، من عاقبة أن ينساقوا وراء إغواء الشيطان الذي يبث الكراهية والحقد والتفرقة والعداوة بينهم، وأمرهم أن يتخذوه عدوا ليختبر إيمانهم على محك الفتنة بمقدار الصبر والتقوى والمجاهدة التي يبذلونها.
فهل يعني هذا أن الإنسان “الظلوم” و “الجهول” كما وصفه تعالى بصيغة المبالغة، أعطي فرصة للتطهّر في الأرض كشرط للخلاص في الآخرة بعد أن يرقى لمرتبة الكمال التي تتمتع بها “الأعيان الثابتة” في الملأ الأعلى؟ .. بمعنى أن تنتهي التجربة المادية للعباد في الأرض لتلتحق أرواحهم بأعيانها الثابتة في السماء فتستفيق من سباتها كما يقول الصوفية استنادا إلى حديث للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الناس نيام فإن هم ماتوا استفاقوا). وهو ما يؤكده المعنى الوارد في الآية الكريمة ساعة مفارقة الروح للجسد حين تقول: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق: ٢٢. وبالتالي، هل هذا يعني أننا مجرد نسخ “فوطوكوبي” للأصول التي يشار إليها بالأعيان الثابتة وفق نظرية “الواحد الكثير والكثير الواحد” التي تعني أن الوحدة حقيقة مطلقة والكثرة مجرد وهم؟ .. هل يتعلق الأمر بما فسره الصوفية من أن الأمر يشبه لعبة الظلال والمرايا؟ .. هذا مبحث عميق ودقيق سنحاول معالجته في باب "نظرية الوجود بين الوحدة والثنائية".
لا شك أن معضلة الفهم التي تعاني منها الأمة اليوم مردها تخليها عن القرآن وتمسكها بما روجه الفقهاء من ثقافة مؤسسة على ما أصبح يعرف بـ "السنة". ومعلوم أن مهمة الرسول، أي رسول، هي تبليغ رسالة ربه، ينذر ويبشر، وهو بذلك يتمتع بأعلى درجة من الصدق والأمانة، فقد جعل الله لرسله العصمة فيما يبلغونه عنه دون زيادة أو نقصان، ودون شرح أو تأويل، بدليل أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم عندما كان العرب واليهود يسألونه عن بعض الأمور الشائكة لاختبار صدقه، لم يكن يجيب عن رأي، بل كان ينتظر نزول الوحي لمعرفة ما سيكشفه الله له حول المسألة المثارة، كقضية الروح وموعد الساعة وأهل الكهف وغيرها كثير ممّا ورد ذكره في القرآن الكريم. أمّا حياتهم كبشر فلم يكن الرسل يتمتعون بذات العصمة، بدليل الأخطاء التي ارتكبوها وغفرها الله لهم وفق ما يؤكده القرآن في عديد الآيات، والتي كان الله تعالى يربي بها رسوله المصطفى كما فعل مع غيره من الرسل من قبل عليهم السلام جميعا.
وبهذا المعنى، فالذين يقولون من الفقهاء أن الأنبياء والرسل “معصومون” حتى في ممارستهم لحياتهم الاجتماعية، إنما يهدفون إلى تحويل هذا الجانب الخاص من التجربة الإنسانية التي تخضع لظروف مكانها وشروط زمانها إلى عقيدة دينية موازية، ليتطاولوا بذلك على مساحة المقدس، ويفسروا بها القرآن بما يخدم وجهة نظرهم وأهدافهم الإيديولوجية والسياسية، وعلى رأسها تكفير المجتمع وحث الناس على العودة للعيش في الماضي زمن النبوة (وقد رأينا أنموذجا من هذا الشعار الذي رفعته داعش بقولها "خلافة على منهاج النبوة") لتشويه الإسلام وتجربة الرسول صلى الله عليه وسلم معا.
من هنا بدأ خط الانحراف الأكبر في التجربة الإسلامية حين أصر الفقهاء على وقف عقارب الزمن ضد منطق الصيرورة من خلال دعوة الأمة للعيش في ماضي لا ينتمون له ولا علاقة له بتجربتهم الزمنية، الأمر الذي ترتب عنه بحكم السنن الإلهية الناظمة لحركة التاريخ وموازين التدافع، انحرافا سياسيا تمثل في الفتنة الصغرى ثم الكبرى بعد تولي معاوية الحكم ومن بعده اليزيد، فانطلق مسلسل الكوارث والحروب والمذابح والمظالم الذي طبعت التاريخ الإسلامي باللون الأحمر، في مشهد سريالي معاكس تماما من حيث الواقع للإسلام السمح الجميل الذي بشر به القرآن. والمصيبة أن هذه الكوارث لا تزال قائمة إلى اليوم ولم يتغير الإنسان العاقل كثيرا عن الإنسان المتوحش المنقرض الذي عاش ملايين السنين قبل آدم إلا من حيث الظاهر.  
والذين يقولون إنه لا يمكن فهم القرآن من دون الاستناد إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم يتحملون قسطا كبيرا من مسؤولية ما حدث ولا يزال يحدث في العالم الإسلامي الذي كان يفترض أن ينتقل إلى أمة رائدة في مجال الأخلاق، هذا علما أن القرآن يشكل تجارب كل الأنبياء والرسل والأمم السابقة وعلى رأسها تجربة إبراهيم الخليل الذي جعلها الله سنة لكل من يأتي من بعده إلى يوم الدين بما في ذلك محمد وأمته، وبالتالي، فلا علاقة للقرآن بحياة الرسل الخاصة إلا في بعض من جوانبها التي تتساوق كعبرة في إطار معالم الطريق التي رسمها الله لعباده.
ولهذا السبب لم يُفسّر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم القرآن، وما كان له أن يفعل، وإلا لتحوّل كلام الله إلى نص تاريخي مغلق غير صالح لكل مكان وزمان كما نعتقد كمؤمنين، لأن هذه النظرة الديناميكية لكلمات الله هي التي تجعلنا نشعر بأننا أمام كلام حي لرب حي يسمعنا ويتفاعل معنا مباشرة ومن دون حاجة لوسيط، فتسري كلمات وحيه الصامتة في كياننا ووجداننا مسرى النور الذي يشحن قلوبنا بالخشوع ويفتح عقولنا على مساحات جميلة وشاسعة من التدبر والتفكر والفهم كلما استنطقناها بالخشوع والتفكر والتدبر، وبهذا يكون لقوله تعلى (إن هو إلا وحي يوحى) و (لا تعجل بالقرآن قبل أن يُقضى إليك وحيه) معناه الدقيق والعميق الذي نشعر به في الوجدان، بحيث يتحول النص الصامت إلى نص حي يشع بنور المعرفة من خلال وحي المعاني.
وهذا بالضبط هو ما يجعل لكلمة “آيــة”، من حيث أنها رمز وإشارة متضمنة في كيمياء العبارة، معنى المعجزة التي تحدّى الله المكذبين الإتيان بمثلها أو بجزء يسير منها. بمعنى أن الإعجاز يكمن في المدلول الذي يمثل عين الحقيقة التي نرى مصداقها واقعا في الطبيعة وفي أنفسنا في كل وقت وحين لقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فصلت: 53، وبالتالي، فالمعجزة لا تكمن في الأسلوب فحسب كما يعتقد أصحاب ثقافة القبور، باعتبار أن اللغة هي “وسيط” معبر عن الحقيقة بمختلف اوجهها (ظاهر وباطن وحد ومطلع)، وكل يفهمها حسب حاجته من الدين، ومستواه، ومبلغ علمه، والزاوية التي ينظر إلى الأمور منها.
وهذا يؤكد أن ما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو ذات ما جاء به الرسول موسى والرسول عيسى وغيرهم مما نعلم ولا نعلم عليهم السلام جميعا، لأن كل الكتب السماوية التي أنزلت للعباد هي مستنسخة من كتاب واحد مسطور من قبل الحق في عالم الذر، سماه تعالى بـ ”أم الكتــاب” الذي لا يمسه إلاّ الملائكة المطهرون في عليّين، وعرّفه تعالى بأنه “اللـوح المحفـوظ” الذي كتب الله فيه ما كان منذ الأزل وما سيكون إلى قيام الساعة بالتفصيل والتحديد والتدقيق، وبالتالي، فلا هروب من الله إلا إليه، شاء من شاء وأبى من أبى.
وبهذا المعنى أيضا، قد تبدو الصورة سريالية تشبه فيلم “ماتريكس” إلى حد بعيد، وكأننا أمام سوبر كومبيوتر كوني ينتج كائنات من نور (أرواح)، تنزل الأرض تباعا، جيلا بعد جيل، لتسكن في أجساد مادية بشرية، وتأدي مهمة محددة، تخضع بشكل جبري لبرنامج موضوع مسبقا، من قبل مهندس عبقري لغاية تخدم رؤيته للوجود. هذا يقرب الصورة إلى العقل، ويجعل المتابع يطرح السؤال البديهي التالي: – هل للاعبين من خيار للتحكم في البرنامج من موقعهم بهدف تغيير الدور والوظيفة والمسار ضدا في إرادة المهندس الذي وضعه ويسهر على تنفيذه من دون أن تأخذه سنة ولا نوم؟ ..
الفكر الصوفي يقول “هذا مستحيل”، لأن الإنسان لا يمكن أن يكون خالقا لأفعاله كي يتصرف بحرية وإرادة. يقول تعالى (فتبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون: 14. هذه الآية استند إليها المعتزلة للقول بعد تأويلها بما يخضع لعقيدتهم، أن الإنسان هو من يخلق أفعاله. غير أن ابن عربي يرفض مثل هذا التأويل ويقول أن: “هناك نسبة جامعة بين الحق والخلق” سماها "مقام البسط الإلهي” الذي “منه أطلق لفظ الخالق على الإنسان وإن كان الله هو الخالق على الحقيقة لفعل الإنسان” (الفتوحات 2/511). ووفق هذا القول، تكون تسمية الله لنا بـ ”الخالقين” هي من باب البسط الذي يجب أن نقابله بالأدب مع الله ونرد أفعالنا كلها إليه، وهذه هي الحقيقة ما دام الله في النهاية هو أحسن الخالقين.
لكن السؤال الذي طرحه المعتزلة ومفاده: – كيف يكون الله فاعلا لأفعالنا ثم يحاسبنا عليها، فيعذب ويعاقب؟ ..
هذا سؤال في غير محله، لأنه ينظر إلى أفعال الإنسان من الزاوية الخطأ، حيث يعتبر الأفعال من خلق الإنسان لا الله، أما لو طرح السؤال من زاوية الحق، أو من زاوية “الأعيان الثابتة في الملكوت” كما يقول ابن عربي، لأدرك المعتزلة أن (كل إنسان مسخر لما خلق له) كما يقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. وهذا يعني، أن الله تعالى يعلم الحال الذي كان عليها العبد في مقام العدم حين كان مجرد فكرة في رؤية الله للخلق، وأنه على أساس ما أعطى وأظهر هذا العبد حينها من ذاته بقبوله، حدد الله له دوره ومهمته وأفعاله، فأبرزها للوجود بهدف اختباره وهو يعلم تقينا ما الذي سيفعله في حدود مساحة الحرية الضيقة المتاحة له. وما يؤكد ما أراد الله توضيحه بقوله إن له الحجة البالغة على عباده، هو تحديدا ما يعني العلم المسبق الذي لدى الله بما سيفعله العبد وحدوده وتداعياته ونتائجه وآثاره. لذلك لا تعارض بين علم الله المسبق والخلق الذي تم بالحق، لأن حجة الخلق الواهية تتلاشى وتسقط أمام العلم الإلهي العظيم.
فأيـن ينتهـي الجبـر وأيـن تبـدأ حريـة الاختيار إذن؟

ما يتبيّن ممّا أوردناه أعلاه استنادا إلى ما يستشف من آيات القرآن الكريم ذات العلاقة، هو أن آدم لم يكن يتصرف بمحض إرادته، ولم يقم بما قام به عن سوء نية، بل بسبب النسيان كما يقول تعالى. بعكس ابليس الذي رفض أمر ربه عن كبر وغرور وتجبر. فآدم قد تواجد عن إرادة قاهرة وبتكليف محدد لخلافة البشر المتوحش الذي عاش يسفك الدماء ويفسد في الأرض قبله، وقبل بتحمل أمانة هذه المهمة العظيمة في عالم الذر قبل أن تحل روحه في المستودع المادي (الجسم البشري)، لقوله تعالى: (هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) الأنعام: ٩٨. والمستودع هو الخرقة المادية بتعبير الصوفية أو الجسد المادي بالتعبير السائد، والمستقر هو المكان والزمان الدائري الذي قُدّر للإنسان العيش فيه، وهذه أمور خارجة عن إرادة الإنسان ولا تخضع لحرية اختياره، بحيث لا يستطيع اختيار نسبه ولا مواصفات جسده ولا الموطن الذي سيولد فيه ويحمل هويته، لأن هذه كلها أمور من تدبير الله الذي له الأمر من قبل ومن بعد.
كما أن الشيطان هو الذي غرّر بآدم فتسبب في طرده حين نسى وصيّة ربه. غير أن الشيطان نفسه، لا يعدو أن يكون مجرد أداة استعملت لحكمة تتعلق بالمشيئة الإلهية كما أسلفنا، لأن الشيطان لم يكن من الممكن أن يتصرف من تلقاء نفسه – خارج مشيئة الله وإرادته – وإلا لكان أقوي من الخالق سبحانه، وهو ما لا يمكن تصوره فأحرى التفكير فيه.
وابن عربي بدوره لم يفته بحث الموضوع من مختلف جوانبه النظرية وعلى مستوى المبادئ العامة دون التركيز على واقعة بعينها، تلافيا لسوء فهم فقهاء الظاهر الذين كانوا يتربّصون به الدوائر عند كل منعطف ليتهموه بما ليس فيه.
فالمعصية بالنسبة لابن عربي الذي يؤمن بالجبر بمعناه الغليظ، تحمل في طياتها أربعة أسئلة فلسفية كبرى تضع “الأمر الإلهي” في مواجهة مفتوحة مع “الإرادة الإلهية”. وقد سبق لأستاذة التصوف في الجامعة اللبنانية، الدكتورة ‘سعاد الحكيم’ أن تطرقت لها في كتابها (معجم المفردات الصوفية – ص: 36) على شكل أسئلة استقت إجاباتها من مقولات محيي الدين ابن عربي كالتالي:
1.    هل يمكن أن يُعصي الأمر الإلهي؟
2.    هل يمكن أن يخرج فعل عن الإرادة الإلهية؟
3.    هل يعقل أن يأمر الله بفعل ولا يريده؟
4.    هل يريد الله الشر والمعصية؟
يقول ‘ابن عربي’ في معرض إجابته عن هذه الأسئلة، إن “الأمر” الإلهي ينقسم إلى شقين: أمر إلهي دون واسطة لا بد من أن ينفذ. وأمر إلهي بواسطة قد ينفذ وقد لا ينفذ. فسمّي الأول: “الأمر التكويني” وسمّي الثاني: “الأمر التكليفي.
وفي البحث عن مترادفات الأمرين نقف على التالي:
 مترادفات الأمر التكويني: أمر المشيئة – الأمر بالتكوين – الأمر الخفي.

 مترادفات الأمر التكليفي: أمر الواسطة – الأمر الجلي.
فمن الناحية اللغوية، لحروف الهمزة والميم والراء المشكلة لـ "أمر" أصول خمسة هي: الأمر من الأمور – والأمر ضد النهي – والأمر بمعنى النماء والبركة، والأمر بمعنى العلم أو العجب.
وفي القرآن، وردت لفظة “أمر” بالمعنيين الأول والثاني من الأصول الخمسة السابقة. أي بمعني الأمر التكويني والأمر التكليفي، وكمثال على الأمرين نورد الآيات القرآنية التالية:
أولا: الأمر التكويني
-       (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) البقرة: 117
-       (يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله) آل عمران: 145
ثانيا: الأمر التكليفي
-       (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) 7: 157.
-       (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن
تحكموا بالعدل) 4: 58.
يقول ابن عربي في هذا الشأن: ”فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع خارجا عن المشيئة، فان الأمر الإلهي إذا خولف هنا بالمسمى معصية، ليس إلا الأمر بالواسطة، أي الأمر التكليفي لا الأمر التكويني. فما خالف الله أحد قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة، فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة” (فصوص الحكم 1/165).
وفي سياق حديثه عن الفرق بين الأمر التكويني والأمر التكليفي يقول: “فإن أمره سبحانه برفع الوسائط (الأمر المباشر)، لا يتصور أن يُعصي لأنه بـ: “كن”. إذ “كن” لا تقال إلاّ لمن هو موصوف بلم “يكن”، وما هو موصوف بلم “يكن” ما يُتصوّر منه إباية، وإذا كان الأمر الإلهي بالواسطة يكون بما يدل على الفعل فيؤمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فيقال: “أقم الصلاة” كمن اشتق له من اسم الفعل اسم الأمر، فيطيعه من شاء منهم ويعصيه من شاء منهم” (الفتوحات 2/577).
وحول الالتباس الذي قد يُتوّهم ظاهريا بين الأمر الإلهي ومخالفته للإرادة الإلهية، يقول ابن عربي: “الأمر الإلهي لا يخالف الإرادة الإلهية فإنها داخلة في حده وحقيقته، وإنما وقع الالتباس من تسميتهم صيغة الأمر أمرا وهو ليس بأمر. والصيغة مرادة بلا شك. فأوامر الحق، إذا وردت على ألسنة المُبلّغين، فهي صيغة الأوامر لا الأوامر فتُعصى. وقد يأمر الآمر بما لا يريد وقوع المأمور به، فما عصى أحد قط أمر الله”. (الفتوحات 4/430).
أما بالنسبة للسؤال الثالث: (هل يعقل أن يأمر الله بفعل ولا يريده؟)، فنصوص ابن عربي واضحة بالنسبة لهذا الموضوع: “فالرسول والوارث خادم الأمر الإلهي بالإرادة، لا خادم الإرادة. فهو يرد عليه به طلبا لسعادة المكلف… فالرسول صلى الله عليه وسلم مُبلّغ عن ربه: ولهذا قال: شيّبتني (هود وأخواتها) لما تحوي عليه من قوله (فاستقم كما أمرت) 11: 112. فشيّبته (كما أمرت) فانه لا يدري هل أُمر بما يوافق الإرادة فيقع، أو بما يخالف الإرادة فلا يقع. ولا يعرف أحد حكم الإرادة إلا بعد وقوع المُراد، إلاّ من كشف الله عن بصيرته فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها” (فصوص الحكم 1 / 98 – 99).
وفي شرح ذلك يقول ابن عربي: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شيّبتني هود وأخواتها)، والحكم للعلم لا للأمر، وما الله بظلام للعبيد، فانه ما علم تعالى إلا ما أعطته المعلومات، فالعلم يتبع المعلوم ولا يظهر في الوجود إلا ما هو المعلوم عليه، فصح قوله: (ولا يرضى لعباده الكفر) 39: 7. والرضا إرادة فلا تناقض بين الأمر والإرادة، وإنما النقض بين الأمر وما أعطاه العلم التابع للمعلوم. فهو فعاّل لما يريد وما يريد إلاّ ما هو عليه العلم، وما لنا من الأمر الإلهي إلا صيغة الأمر. فانظر أن يُهيّئ محله بالانتظار، فإذا جاء الأمر الإلهي الذي يأتي بالتكوين بلا واسطة، فينظر أثره في قلبه أولا، فإن وجد الإنابة قد تكوّنت في قلبه فيعلم أنه مخذول، وأن خذلانه منه لأنه على هذه الصورة في حضرة ثبوت عينه التي أعطت العلم لله به. وإن وجد غير ذلك وهو القبول فكذلك أيضا. فلا نزال نراقب حكم العلم فينا من الحق حتى نعلم ما كان فيه، فانه لا يحكم فينا إلاّ بنا. ومن كان هذا حاله في مراقبته وإن وقع منه خلاف ما أُمر به فإنه لا يضره ولا ينقصه عند الله. فإن المراد قد حصل. وهو المراقبة لله في تكوينه” (الفتوحات 4 / 182).
مما سبق، يتبين أن ابن عربي في محاولته لفك التعارض المُتوهّم بين “الأمر الإلهي” و “الإرادة الإلهية”، لجأ إلى إدخال عنصر “العلم” كوسيط لإثبات أن “الإرادة” لا تخالف “الأمر الإلهي” و “العلم الإلهي” معا. ووفق هذا التفسير لم يخرج ابن عربي عن إطار “الجبريّة الغليظة” التي لا تسمح لقارئ أفكاره بمعرفة لمن يكون الحكم بالنهاية، لأن ابن عربي لا يوضح هذه المسألة، لكن بالعودة إلى القرآن الكريم وسؤال قريش الرسول صلى الله عليه وسلم: "هل لنا من الأمر شيء؟ جاء الجواب حاسما، قاطعا، ونهائيا يوضح الأمر بما لا يدع مجالا للتعارض المُتوهّم، وذلك من خلال قوله تعالى: (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الامر كله لله) آل عمران: ١٥٤.

وإلى هذا المعنى ذهبت الدكتورة ‘سعاد الحكيم’ في شرحها للأمرين التكويني والتكليفي في معجمها الصوفي حيث جاء فيه: “فالإرادة الإلهية تتبع العلم الإلهي الذي بدوره يتبع المعلوم، والمعلوم هو أعياننا الثابتة. فعندما تحكم الإرادة الإلهية ممكنا بأمر، لا تحكمه بما يخالف العلم الإلهي التابع للمكن نفسه. فعلى الحقيقة: لا يحكم على الممكن إلا الممكن. أو حسب تعبير الشيخ الأكبر فانه 'لا يحكم فينا إلا بنا'. وبذلك يكون انتظار الإنسان لأمر الله تعالى ومراقبة إرادته وسريان مشيئته في خلقه موقفا إيمانيا إيجابيا متقدما، وهو ما كان يحرص عليه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أشد الحرص"، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم (شيبتني هود وأخواتها).
هذا الكلام معناه أن لا شيء يمكن أن يتم في هذا العالم من خارج “الإرادة الإلهية” و “العلم الإلهي” معا، وأن الإنسان لا يستطيع خلق شيء من عدم، بما في ذلك أفعاله خيرا كانت أم شرا، إذ حسب تفسير ابن عربي، يصبح كل فعل إنساني من خلق الله تعالى، أمّا اكتسابه فيكون للعبد، وهو نفس الاعتقاد الذي قال به الأشاعرة في مواجهة القول بحرية الإرادة والاختيار عند المعتزلة والشيعة.
وقد ذهب الباقلاني إلى القول: “أن الإنسان هو الذي يُحوّل فعل الله، كالحركة مثلا إلى طاعة أو إلى معصية”. أي أن الإنسان لا يخلق فعله من عدم، إنما يكتسبه فقط، ويستشهد على ذلك بالقول، إن عيسى عليه السلام لم يخلق صورة الطير بمحض إرادته من لا شيء، بل خلقها من طين أوجده الله، وقدّرها على مثال سابق معروف هو هيئة الطير التي هي في الأصل من خلق الله، وأنه لم يفعل ما فعل إلا بإذن الله وعلمه وإرادته. (الاتجاه العقلي في التفسير – د. نصر حامد أبو زيد – ص: 228).
لكن لابن عربي فيما يطرحه المعتزلة والأشاعرة بشأن قضية خلق الأفعال واكتساب نتائجها رأي ديني حاسم، يندرج في إطار معنى الجبر بالمفهوم الغليظ، حيث يقول: “والأفعال والأعمال إذا لم تنسب إلى الله فقد أبعدت عن الله فوجبت الزكاة فيها وهو ما لله فيها من الحق يردّها إليه سبحانه، فإذا ردّت إليه اكتسبت حلّة الحسن فقيل أفعال الله كلها حسنة، والزكاة واجبة على المعتزلي من حيث اعتقاده خلق أعمال العباد لهم والأشعري تجب عليه الزكاة لإضافة كسبه في العمل إلى نفسه” (الفتوحات: 1/595).
ويستند ابن عربي في دعم أطروحته هذه على قوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر) 7: 54. فيقول: ”إن لله تعالى في كل موجود وجها خاصا يُلقي إليه منه ما يشاء مما لا يكون لغيره من الوجوه. ومن ذلك الوجه يفتقر كل موجود إليه… وذلك الوجه الإلهي لا يتصل بالخلق. وقال للقلم: اكتب علمي في خلقي، وما قال له اكتب علمي في الوجه الذي مني لكل مخلوق على انفراده… فهو سبحانه يعطي بسبب وهو الذي كتبه القلم من علم الله في خلقه، ويعطي بغير سبب وهو ما يعطيه من ذلك الوجه فلا تعرف به الأسباب ولا الخلق… ذلك الوجه الخاص الإلهي الخارج عن الخلق وهو الأمر الإلهي. فإن له الخلق والأمر، فما كان من ذلك الوجه فهو: الأمر، وما كان من غير ذلك الوجه فهو: الخلق“ (الفتوحات 2 / 423).
أما بالنسبة للسؤال الأخير: هل يريد الله الشر والمعصية؟ فيعتقد ابن عربي جازما أن جميع الأفعال هي خير في ذاتها ولا توصف بالشر إلا عرضيا، وأن الرحمة الإلهية أوجدت جميع الأشياء في صور أعيانها الثابتة قبل أن يوجد تمييز بين خير وشر أو طاعة ومعصية، وأن مآل الأمور كلها إلى الرحمة، بدليل قوله تعالى (قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء) الأعراف: ١٥٦. بمعنى أن عدالتي وحكمتي اجتمعتا في مشيئتي، وأني خلقت الخلق لأسعدهم ورحمتي شملتهم جميعا دون استثناء، فليس هناك أناس خلقتهم لأعذبهم، وأن كل من آمن وعمل صالحا واتقى فسأكتب له رحمتي كي لا يشقى. وأن العذاب الذي يتوعد به في قرآنه إنما يخوف به تعالى عباده لقوله: (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) الإسراء: ٥٩. عساهم يتذكرون ويعتبرون فيرجعون ويتقون.
وللتدليل على هذا المعنى الغريب على العقل الظاهري، تنقل الدكتورة سعاد الحكيم في معجمها الصوفي (ص: 100)، نصا لابن عربي تقول عنه أنه نص جريء في تصريحه ومخيف في نتائجه للمؤمن العادي، يشير فيه إلى نظرية “التبديل الإلهي”. والتبديل عبارة عن إبدال الله سيئات قوم حسنات، حتى يندم المسيء عند التبديل على أنه لم يأتي بذنوب الدنيا كلها.. وبذلك قد تفضل السيئة الحسنة.
لكن ما سر هذا التبديل العجيب ومتى تصبح السيئة أفضل من الحسنة؟
إنها التوبة.. التوبة باعتبارها إكسير عجيب يقلب صورة الفعل وصفته. فالفعل بذاته خير، ولا يوصف بالشر إلا عرضيا، وبالتوبة يزيل عنه الله صفة الشر ويكسوه كسوة الرضى التي تزيد في جماله فيفوق الفعل الحسن نفسه لقوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) الفرقان: 70. ويقول ابن عربي في هذا الصدد: “ومن الناس من يرى الندم على ما فاته من فعل الكبائر في وقت المخالفة لأنه يشاهد التبديل: كل سيئة بما يوازيها من الحسنات… فإن السوء للعمل عارض بلا شك والحسن له ذاتي، وكل عارض زائل وكل ذاتي باق… فالحسنة كشخص جميل في غاية الجمال لا بزة عليه. وشخص جميل مثله في غاية الجمال طرأ عليه وسخ من غبار فنظف من ذلك الوسخ العارض، فبان جماله ثم كسي بزة حسنة فاخرة تضاعف بها جماله وحسنه، ففاق الأول حسنا” (الفتوحات 2 / 140 – 141).
وما يدعم هذه القراءة المنطقية لابن عربي ويتناغم مع مدلول ما ورد في الآية 70 من سورة الفرقان الآنفة الذكر، هو ما ورد في الأثر من دعاء للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “اللهم بدّل سيئاتي حسنات واغسل ذنوبي كما يغسل الثوب الأبيض من الدنس بالماء والثلج والبرد”، وهو ما يؤكد كلام ابن عربي بأن الذنوب والسيئات إنما هي أوساخ عارضة، تغسلها التوبة وتتحول إلى حسنات بالمغفرة، والله يضاعف لمن يشاء بغير حساب.. وهذا سر عجيب يدركه كل من تاب وأصلح وتوكل على الله وأناب إليه الأمر في كل وقت وحين.
ذلك أن الأسماء الإلهية وفق منطق الجبر هي الفاعلة على الحقيقة من خلال صور الأعيان الثابتة التي هي عبارة عن ظلال لهذه الأعيان، وأن لا شيء يمكن أن يحدث في عالم الغيب أو الشهادة من خارج علم الله وإرادته ومشيئته حتى وان بدا الأمر عكس ذلك ظاهريا لما تعطيه الأبعاد الثلاثة للذات الإلهية والإنسانية من مماثلة (الرحمن الرحيم)، وتغاير (الرحمن الصبور)، وتضاد (الضار النافع)، بحكم أن الله خلق الإنسان على صورته التي كانت في علمه منذ الأزل حيث كان الله ظاهرا والإنسان باطنا، وأصبح الله باطنا بعد الخلق والإنسان ظاهرا. وبهذا المعنى، فالألوهة هي الوسيط البرزخي بين الله والخلق، والألوهة هي ما تعطيه أسماء الله وصفاته، أي أنها الوسيط بين الله والعالم والإنسان. فالعلم والقدرة والحياة أسماء أزلية كانت ظاهرة قبل الخلق، وغيرها أسماء تفرعت عنها بظهور مرتبة الألوهة بعد الخلق بحيث ظهرت كل مرتبة من مراتب الوجود باسم إلهي خاص يناسبها، وبظهور الإنسان توجهت عليه الأسماء كلها كما يقول ابن عربي (الفتوحات المكية: ٣ / ١٤٧). فالإنسان كان أوّلا بحكم أنه كان في علم الله الأزلي الذي هو صفة ذاتية لله ويحمل نفحة من روحه الأقدس لوقله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) الحجر: 29، ص: 72. وسيكون حيّا آخرا خالدا في الأبدية بعد البعث. ولذلك قال تعالى إنه (الأول والآخر والظاهر والباطن)، أي: الأول والآخر بعلمه وقدرته وحياته، والظاهر قبل الخلق، والباطن بعد الخلق.

وذا كانت كل مرتبة من مراتب الوجود قد ظهرت باسم إلهي خاص يناسبها كما يقول ابن عربي، فإن ظهور الإنسان قد توجّهت عليه الأسماء الإلهية كلها كما سبقت الإشارة، ووجود الأسماء الإلهية سابق على وجود الإنسان المادي، وهي بذلك تعتبر أصلية وأزلية عند الله ومستعارة في الإنسان، لذلك قال تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) البقرة: ٣١. وهذا هو معنى أن الله خلق الإنسان على صورته، لا الذاتية المتوهمة من قبل العامة، بل الصورة التي كانت في علمه حول الإنسان الذي أعاره كل أسمائه ليظهر الخلق بصفة الحق، وهو ما عبر عنه ابن عربي بالقول: "فكل اسم لهم (أي الخلق) هو حق للحق مستعار للخلق". ولولا الأسماء لما استطاع الإنسان أن يكون فاعلا، وفعله في الأصل هو فعل الله خالق الأفعال لقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات: ٩٦، أما كسب تبعات الأفعال فيتحملها الإنسان ويسأل عنها لقوله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) الأنبياء: ٢٣، ذلك لأنه "الخالق ونحن المخلوقين" (الفتوحات المكية: ٣ / ٢٦٦ – ٢٦٧).

فإبليس مثلا، عندما يدعو الإنسان إلى المعصية، لا يقوم بذلك من نفسه وفق إرادته ومشيئته، بل يفعل ذلك بإرادة الله وعلمه وبإذنه لأنه رسول السيف موكل بغواية البشر لاختبار إيمانهم، لكنه لا يملك سلطانا على عباد الله المؤمنين، وهنا يكمن المجال الضيق الذي يمتلك فيه الإنسان حرية الاختيار، بين الإيمان ليحظى بنور الله وحمايته، أو الضلال ليسقط في الظلام فينفذ إليه الشيطان، لذلك قال تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 7 – 8.  وبالتالي، فمدخل الشيطان الوحيد لغواية الإنسان هي النفس، وتحصينها بالإيمان والتقوى هو السبيل الوحيد لحمايتها من الغواية. وقد أكد القرآن أن سحرة فرعون لم يكونوا ليصيبوا أحدا بأذى إلا بإذن الله، وبهذا المعنى فكل ما يقع في الكون يكون بإذن الله ولا يعقل أن يحدث ضد إرادته أو من خارج مشيئته، والفرق يكمن في الفهم بين أهل الظاهر الذين يقفون عند حد النص، والعارفين من أهل الباطن الذين يغوصون في أعماقه ليدركوا جواهر المعاني الكامنة في كيميائه.
من هنا نخلص إلى أن قضية الجبر والاختيار تطرح على العقل تحديات صعبة لا قبل له بتجاوزها لما لها من تأثير على سلوكيات المؤمن وممارساته، وقد تحولت زمن علم الكلام إلى عقيدة مذهبية فرّقت المسلمين بين قائل بالجبر وقائل بحرية الاختيار كل من منطلق الحجج التي يؤسس عليها مقولته.  ومهما يكم من أمر، فقضية من هذا النوع والحجم لا يمكن الاستناد فيها على ما تتيحه أدوات العقل من فهم، بل لا بد من الرجوع إلى القرآن الكريم الذي يعتبر قوله في هذا الشأن القول الفصل.

والحقيقة أن هناك عديد الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها في هذا الباب، لعل أبرزها قصة الرجل الصالح التي وردت في سورة الكهف وما دار بين الخضر ونبي الله ورسوله موسى عليهما السلام. لقد وضع القرآن الكريم بهذه القصة الغريبة أنموذجا يعتبر بحق قمّة في الروعة، سواء لجهة الطرح وتبسيط المعنى لتقريب الفهم من عقول من يتدبرون القرآن من المتنورين، أو لجهة المضمون العميق والدقيق الذي تُبطنه، والذي لا يفهم سره إلا العارف بالله. وهذا الأنموذج الجميل الذي جسّد من خلاله الله تعالى معاني الخير والشر والقضاء والقدر والإرادة وحرية الاختيار في أبهى صورها، موضحا في نفس الوقت، بل ومؤكدا بما لا يدع مجالا لشك أن الأشياء ليست كما تبدو للعيان، وأن ما قد يبدو شرا مطلقا قد يكون فيه خير كثير لا يعلمه إلا الله تعالى والراسخون في العلم ممن فتح الله عليهم بنور الكشف.
فموسى عليه السلام نبي الله ورسوله، لكنه تحول فجأة إلى تلميذ يتعلم على يد رجل عادي، لكنه عبد صالح ومعلم كبير وهبه الله من العلم والحكمة ما لم يهبه لنبيه ورسوله. يتساءل موسى بمنطق الحق والأخلاق: كيف يمكن اعتبار إفساد مركب لصيادين قرويين فقراء عمل من أعمال الخير؟ كيف يمكن عدم تصنيف فعل قتل طفل بريء في عمر الزهور لم يرتكب جريمة تذكر في خانة الشر؟ كيف يمكن القبول بمساعدة قوم رفضوا إطعامهما على إعادة بناء جدار بيت قديم يكاد ينقض؟ أي منطق هذا الذي يقول بالعكس؟
لكن دهشة وحيرة موسى لم تستمر طويلا، فسرعان ما جاءه الجواب من خارج المنطق والأخلاق. الخضر لم يفعل ما فعله من أعمال ظاهرها الشر من نفسه، بإرادته واختياره، بل بأمر ربه لما في تنفيذه من امتثال وطاعة تُعبّر عن روح الإيمان وجوهر العبادة، ولما سيترتب عن ذلك من خير كثير قادم يفوق ما بدى له للوهلة الأولى من أنه شر قبيح.
وبالتالي، فالآمر هنا هو الله تعالى بشهادة القرآن، والمنفذ هو الخضر عليه السلام باعترافه، وحيث أن ما ارتكبه الخضر يعتبر شرا بالمطلق وفق العقل والمنطق والعرف والقيم والأخلاق، فأهل الظاهر هنا في معضلة حقيقية. لأن منطق الأمور من وجهة نظرهم يقتضي أن يعاقب كل من ارتكب جريمة بما يتناسب وجسامة فعلته. وهذا صحيح في الدنيا حتى تحفظ في المجتمع الأرواح والأموال والممتلكات والقيم والأخلاق، لكن كيف سيكون عليه الأمر بالنسبة لحساب الآخرة؟ أو بعبارة أخرى، كيف يجب التعامل مع هذه الواقعة التي تفصح عن حقيقة قرآنية لا يجوز تجاوزها وإن عجز العقل عن إدراك الحكمة الإلهية الكامنة فيها؟
هل ما يرتكبه الإنسان من أفعال قبيحة تتم حقا بإرادته؟ أم أن الله يملي لمن يشاء من عباده لحكمة لا يعلمها إلا هو وفق ما أكد للملائكة حين استنكروا عليه بأدب أن يجعل في الأرض من يسفك الدماء ويفسد فيها فقال (إني أعلم ما لا تعلمون)؟ هنا سر عظيم لم تفهمه الملائكة فأحرى البشر العادي.
وهنا بدأ تناطح الماعز زمن الكلام.. يتساءل بعضهم بحثا عن مخرج للهروب من المأزق: – هل ما جاء في سورة الكهف حادثة خاصة واستثنائية لا تتكرر في ملك الله، وبالتالي لا يمكن القياس عليها؟ .. يذكرهم خصومهم: أنتم بهذا المنحى ستخرقون قاعدة فقهية تعتبر من الثوابت المتفق عليها، والقائلة بأن القرآن يفهم قرآنا لا فرقانا، استنادا إلى عموم اللفظ لا خصوص السبب.. يتيه أصحاب الكلام في الكلام دون نتيجة.
يدخل الصوفي على الخط ليبدأ الرقص فوق الكلمات.. يذكرهم أن القصة في القرآن آية ورمز وعلامة، والعبرة تكمن في الأخذ بها من باب الإيمان بأن ما يقوله الله تعالى هو الحقيقة المطلقة، هذه الحقيقة تقول في تجلياتها الكثيرة أن لا شيء يمكن أن يحدث في هذا العالم من خارج علمه وإرادته ومشيئته وفق ما يعطيه الأمر التكويني في أصل الخلق. بدليل أن الله يملي حتى للكافرين فعلهم لقوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) آل عمران: ١٧٨. والمعنى واضح، فالله لا يملي لهم بقصد الخير بل ليدفعهم لارتكاب مزيد من الشر ما داموا على الكفر، وهذا يعني أن اعتقاد الكافر أن ما يقوم به من شر هو بمحض إرادته وحريته واختياره هو مجرد وهم ومحض هراء. وقس على ذلك قضية المكر حيث يقول تعالى: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) الأنفال: ٣٠. وصفة المكر وفق المعنى الذي تعطيه اللغة البشرية تحمل دلالة بذيئة يتعفف المؤمن من أن يصم الله تعالى بها، وقد حاول المفسرون القدماء الهروب من معناها اللغوي من خلال الالتفاف عليها وتأويلها تأويلا يخرجها عن معناها بالقول، إن المقصود بها هو العذاب الذي سيجازي الله به هؤلاء الماكرون. هذا تفسير لا علاقة له مطلقا بالمعنى الواضح الذي يعطيه ظاهر اللغة، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، والمكر هنا جاء بمعنى الحيلة التي تحبط شر المشركين الذين كانوا يتربصون بالرسول صلى الله عليه وسلم لتبطله وتستبدله بالنجاة فتكتمل إرادة الله ومشيئته باكتمال الرسالة لما فيها من خير للعالمين من بعده، لقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء: 107.
وهناك مثال آخر حيث يقول تعالى في محكم كتابه: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم). هذه أيضا صفة بديئة وفق ما يعطيه ظاهر اللغة من معنى، وقد نسب الله الخداع لنفسه للقول بأنه يستعمل نفس سلاح المنافقين لإحباط مؤامراتهم لما فيه خير المؤمنين وصلاحهم، فهو يواجه ما يدبر المنافقون للرسول والمؤمنين من مكائد، ليكشف للمؤمنين سوء نيتهم وخباثة أعمالهم فينقلب مكدهم عليهم من حيث لا يحتسبون، وبالتالي، فخدعتهم لله هي بعينها خدعتهم لأنفسهم من حيث لا يشعرون، إذ سرعان ما تأتي بنتائج عكسية فتنقلب آثارها عليهم من حيث لا يحتسبون.
هذا يعني أن العمل وإن بدى شرا واتخذ صفة بديئة ممن ننزهه عنها احتراما وتأدبا، إلا أنه في بعده خير يصيب المؤمنين، يدبره تعالى بمعرفته ويستعمل أحيانا نفس سلاح الأعداء لهزيمتهم. وهو نفس المعنى الذي يستفاد من الآيات التي استشهدنا بها أعلاه. فالعمل وإن بدى من ظاهره شرا إلا أن في نتائجه خير كثير لا يدركه إلا من يتجاوز ظاهر المعنى إلى صبر أغوار باطنه.
وقس على ما سبق مسألة الحرب التي هي شر مطلق لما يترتب عنها من قتل للأنفس وخراب للعمران وهدر للأموال والخيرات، لكنا تصبح خيرا مطلقا عندما يتعلق الأمر بصد الاعتداء أو مقاومة الاحتلال، وقد جعلها الله تعالى فرض عين على كل مسلم قادر، لذلك قال تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة: ٢١٦.
وتجدر الإشارة بالمناسبة إلى أن هناك حقيقة تبدو باطنة في ثنايا قصة موسى والخضر عليهما السلام، وهي أن الله تعالى، لحكمة بالغة، اختار أن يضع سره في أضعف خلقه، أي في رجل لا هو نبي ولا هو رسول، رجل من البسطاء الصالحين كما سبق القول، يمشي فوق الماء ضد قوانين الجاذبية بما وهبه الله من بركات، ينفذ أمر الله بعلمه وإذنه.. حار موسى النبي والرسول عليه السلام في أمره، واضطر في النهاية للتسليم بأنه تعلم على يده ما لم يكن يعلمه، وأن الأمور ليست كما تبدو للعيان، لأن الله يُري لعباده الصالحين بنوره ما لا يستطيع غيرهم أن يروه. وهناك حديث شهير للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم رواه مسلم والبخاري وغيرهما مفاده، أنه كلما ارتقى العبد في العبادة والمعرفة والتقرب من الله بالنوافل، إلا وكشف تعالى عنه حجب الأسرار، فيتحول الله سبحانه إلى عينه التي يبصر بها وسمعه الذي يلتقط به الإشارات، ويده التي يضرب بها، ورجله التي يسعى بها... فأين ينتهي الجبر هنا وأين تبدأ حرية الاختيار؟
يقول العبد الصالح الصافي: "الحدود بينهما (أي بين الجبر وحرية الاختيار) تشبه البرزخ غير المرئي الذي يفصل بين العوالم، عالم الغيب وعالم الشهادة"، والأمر وفق هذا الطرح متروك للمؤمن ليدركه بالتجربة بعد أن يُكمل معراجه المعرفي. لأن ما سيحدث بعد ذلك أمر لا يمكن أن يُصدّقه العقل.. قد يشبه العسل في حلاوته، لكن من لم يذقه بالتجربة لا يمكن أن يعرف روعة الإحساس بطعمه، ومن ذاق عليه أن يتكتم على السر لأن البوح به كفر، وحتى إن بلغ به الحال مبلغه فشطح على غير هداه وباح به فلن يُصدّقه الناس، لأنه لن يجد الكلمات للتعبير عن حلاوة التجربة غير لغة الرمز والإشارة بدل العبارة. وبالتالي، فإذا لم تكن السعادة الحقيقية هي التي يعيشها الإنسان العارف في حلاوة التجربة، فأي قيمة لسعادة غيرها؟
وهناك تجربة حصلت لأحد تلامذة محيي الدين ابن عربي فجاء يسأله: "يا سيدي إن القوم يسئلون عن الطريق وعلومه وأذواقه ومشاربه وفتوحاته، فبِمَ أقول لهم، فقال له: قل لهم من لم يذق طعم العسل هل يستطيع وصفه؟ فسيقولون: لا، فقل لهم: كيف يستطيع وصفه؟ فسيقولون: إذا ذاقه، قال، فقل لهم: هذا مثل ذاك". بمعنى أن الطريق وفتحه لا يستطيع الحديث عنه ولا وصفه إلا من ذاق بالتجربة، لأن العلم اللدني بخلاف العلم الكسبي الذي يتعلم الإنسان نظرياته من الكتب، لا يحصل بالجدل العقلي والبرهان الفلسفي، لأنه علم ذوقي يقول عنه تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) الإسراء: ٣٦. فبيّن تعالى أن طرق تحصيل العلم ثلاثة: السمع من الغير، والبصر في الكتب أو في الآفاق، ثم الفؤاد الذي يتلقى من الله عبر الملك الوسيط، فأثبت للفؤاد أنه وسيلة من الوسائل التي يحصل بها الإنسان على العلم اللدني عن طريق المشاهدة والذوق، فيحصل الفهم دون القدرة على الوصف لعجز اللغة عن ذلك. لكن هذا العلم الإلهي أو علم القلوب كما سماه الإمام علي عليه السلام، لا يحصل إلا لأهله من عباد الله المخلصين الذين خاضوا غماره من خلال تجربة المعراج إليه، فأعطاهم تعالى ثماره وأذاقهم لذته وأسعدهم بمشاهدة أشجاره الطيبة في جنانه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق