بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 15 نوفمبر 2018

التصوف: النشأة والتكوين (3/3)





الفرق بين الزهد والتصوف

يخلط البعض بين الزهد كما عرف عند الرهبان في الثقافة المسيحية والتصوف الاسلامي كما عرف في القرن الثاني والثالث الهجري، وهذا الخلط ناجم بالأساس عن جهل بمسار النشأة والتطور الذي عرفه التصوف الإسلامي، ما جعل هذا الأخير عرضة للانتقاد، فاتهم بأنه بدعة دخيلة على الإسلام، وهوجم بقوة من قبل فقهاء الرسوم باعتباره كفر وزندقة وشرك وعبادة للأولياء من دون الله.../...

هذا فيما يؤكد عديد علماء المسلمين باختلاف مذاهبهم، أن الزهد هو ظاهرة إسلامية أصيلة عرفت زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والجيل الأول والثاني من بعده، لكنهم بالنسبة للتصوف يختلفون بين مؤيد ومعارض.

أما المستشرقين الذي اهتموا بظاهرة التصوف، فنجد العالم الإنجليزي 'رينولد نيكلسون' مثلا، يميز بين الزهد والتصوف، فيعتبر الأول تطورا طبيعيا للميولات الروحية الناتجة عن التأملات الداخلية في القرآن الكريم، ويبرؤه من التأثير الخارجي، لكنه بالنسبة للتصوف، يرى أن جملة من المؤثرات الخارجية قد طرأت عليه في القرن الثالث الهجري (التصوف الإسلامي وتاريخه – ص: ٤).

وإذا كان نيكلسون لم يستطع تفسير ظهور التصوف باعتباره امتدادا وتطورا طبيعية لظاهرة الزهد التي اشتهر بها المسلمون زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كما يشير إلى ذلك الإمام الغزالي في (الإحياء – ج٥ / ص ٥٨ وما بعدها)، فذلك لأنه مثله مثل هنري كوربان يعتبر أن التصوف نشأ فجأة، وأنه لم يكن معروفا قبل القرن الثاني والثالث للهجرة (هنري كوربان – تاريخ الفلسفة الإسلامية – ص: ٢٨٤)، وهو ما يناقض المنطق التاريخي لنشأة وتطور أي ظاهرة فكرية كانت أم طبيعية في الوجود، لأن لا شيء يظهر فجأة من فراغ دون أن يكون نتيجة لتطور تاريخي معين.

لكن هنري كوربان وبعكس ما ذهب إليه نيكلسون، يعترف بأصالة التصوف في ذات المرجع السابق (ص: ٢٨٣) حيث يقول: إن "التصوف باعتباره شاهدا للدين الصوفي في الإسلام، هو ظاهرة روحية لا تقدر، فهو أولا وقبل كل شيء، إثمار لرسالة النبي الروحانية وجهد مستمر لعيش أنماط الوحي القرآني عيشا شخصيا عن طريق الاستبطان"، مشيرا إلى تجربة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم كسبيل روحي لمعرفة أسرار الحقائق الإلهية التاوية وراء حجب الغيب.

وشهادة هنري كوربان هذه، تؤكد أن التصوف الإسلامي لم يتأثر من حيث الأصل والجوهر بأي عامل خارجي ديني أو فلسفي، وأن هذا التأثير الذي لوحظ في دراسات بعض المستشرقين والباحثين المسلمين المتأثرين بمقولاتهم، مرده إما إلى التشابه في بعض أوجه الحقائق الدينية بين مختلف الرسالات السماوية كما يفهم من قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه) الشورى: ١٣.. أو التشابه بين بعض مقولات الصوفية التي ظهرت في وقت متأخر بعد إنزال التصوف من مرتبة التجربة الروحية إلى مرتبة النظر العقلي زمن السهروردي وابن سبعين والتلمساني وابن عربي وغيرهم من جهة، وبين بعض المقولات القديمة السابقة لزمن التنزيل من جهة أخرى.

وفي باب منشأ التصوف وتطوره، نقل الإمام الغزالي في مؤلفه (إحياء علوم الدين) عديد الشهادات عن علماء مسلمين أجلاء، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن التصوف هو ظاهرة طبيعية لتطور الزهد كما عرف زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والجيلين الأول والثاني من بعده، بدليل أن التصوف في بداياته الأولى كان يدعو إلى الزهد في الدنيا طلبا للآخرة، والمجاهدة في النفس تقربا إلى الله، كما أن تجربة العديد من أتباع الصوفية تؤكد أنهم مالوا إلي أقطابهم لما وجدوه عندهم من زهد.

وفي هذا الصدد ينقل الإمام الغزالي عن الحسن البصري قوله، إن الصوفي لا يكون صوفيا إلا إذا كان فقيها، والفقيه لا يكون فقيها إلا إذا كان زاهدا في الدنيا.. ما يؤكد الترابط القائم بين الزهد والتصوف، باعتبار الثاني جاء نتيجة لتطور الأول، لأن الصوفية وفق شهادة الحسن البصري، أخذوا حظا من علم الدراسة فأفادهم في العمل بالعلم، فلما عملوا بما علموا أفادهم العلم علم الوراثة، فهم مع سائر العلماء في علومهم لكنهم تميزوا عنهم بعلوم زائدة هي علوم الوراثة. ويعرف علم الوراثة بأنه وراثة العلم النبوي الذي يسمح لصاحبه بإنذار قومه، فصار الإنذار مستفادا من المعلم. ويشير إلى أن العالم الحقيقي الذي بلغ أكمل المراتب وأعلاها، هو الزاهد في الدنيا المتقي الذي يبلغ رتبة الإنذار بعلمه، لأن مورد العلم النافع هو الهدى ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولا، لما ورد عليه من الهدى والعلم من الله تعالى فارتوى بذلك ظاهرا وباطنا (عقلا وقلبا)، وبارتواء العقل يظهر الزهد عليه فتنقاد الجوارح في النفس والمال، وبارتواء القلب بالعلم يصبح كالبحر، "كما صار قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعلم والهدى بحرا مواجا، فظهر على نفسه الشريف نضارة العلم وريه، فتبدلت نعوت النفس وأخلاقها. ثم وصل الجوارح جدول فصارت ريانة ناضرة، فلما استتم نضارة وامتلأ ريا بعثه الله تعالى إلى الخلق، فأقبل على الأمة بقلب مواج بمياه العلوم واستقبل جداول الفهوم، وجرى من بحره في كل جدول قسط ونصيب" (الإحياء – ج٥ – ص: ٦٠ – ٦١).

وبالتالي، فالتصوف بمفهومه العام كما يستفاد من مختلف الشهادات التي أوردها الغزالي في الإحياء، ومن أقوال الصوفية الواصلين وكبار علماء الأمة باختلاف مذاهبهم، هو طريق إلى الله ومسلك لمعرفة الحقيقة الكامنة في بواطن الأشياء كلها، عن طريق العبادة والإكثار من ذكر الله، والتقوى، والمجاهدة في تنقية القلب ليتلقى العابد من الله الحقائق بواسطة العلم اللدني الوهبي، لقوله تعالى (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم) البقرة: ٢٨٢، وقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم (من أخلص لله أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه (أورده بسنده وتفسيره علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي في كنز الأعمال تحت رقم: ٥٢٧١). وأصل الأربعين يوما التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف، يعود إلى قصة موسى عليه السلام وقوله تعالى في محكم كتابه: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة) الأعراف: ١٤٢.

وتشير الآية والحديث السالفين الذكر إلى طريق الصوفية المتمثل بتصفية القلب من التعلقات الدنيوية حتى يصبح محلا مستقبلا للتجليات الإلهية فتفيض منه الحكمة والمعرفة، وهذا هو الطريق الوحيد الذي يسلكه الصوفي لتلقي المعرفة عن الله تعالى فتفيض نفسه علما وحكمة، والصوفي لا يأخذ علمه من الفلاسفة ولا من الفقهاء والمتكلمين، بل يحصل أحيانا أنه يصحح علومهم وينتقد بعضا من أفكارهم على ضوء ما حصل له من فهم بالإلهام الإلهي عن طريق الفيض الذي يحدث بمناسبة قذف النور في الروع.

أما ما يقال عن هجر المال والأولاد والأوطان، وتعذيب النفس والبدن بسهر الليالي والجوع الشديد والحرمان من طيبات الرزق والعزوف عن الزواج، والانقطاع عن الناس إلى الأماكن المظلمة المنعزلة والتزام الصمت... فهي تصرفات سلبية تؤدي إلى فساد التصور السليم، واختلال التفكير المستقيم، بالإضافة إلى علل الجسم التي لا تعد ولا تحصى، والله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) المائدة:87.  وكل هذا، لا علاقة له مطلقا بالزهد ولا بالتصوف كما عرفا في الإسلام، بل ببدعة ابتدعها المتطفلون على هذا المقام. 

فالزهد وفق ما يستفاد من الآيات القرآنية، هو عدم جعل الدنيا آخر هم الإنسان وغايته القصوى، وتعلق القلب بالله والآخرة، بمعنى، ألا تكون الحياة الدنيا الشغل الشاغل للإنسان فتنسيه الله وتصرفه عن التفكير في الآخرة والاستعداد لها بصالح الأعمال، ما دامت الحياة الدنيا مجرد رحلة عابرة وتجربة قصيرة، فيما الآخرة هي دار الحياة الحقيقية والخلود الأبدي، لكن دون أن ينسى الصوفي نصيبه الذي كتبه الله له في الدنيا.

ذلك أن الزهد بالمعنى القرآني لا يعني التخلي عمّا أحل الله للإنسان من طيبات الرزق والسعي للكسب الحلال، وبالتالي، التخلي عن دور الخلافة في عمار الأرض والعمل الصالح الذي ينفع الناس وفق مناط الأمانة والتكليف، لأن العمل هو جوهر اختبار قوة الإيمان وضعفه، والمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، والمنهى عنه من قبل الله تعالى هو جعل الحياة في الدار الدنيا مجرد لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، ونسيان أنها مجرد دار امتحان، ومساحة زمنية قصيرة يتزود فيها المقوين بصالح الأعمال التي يتوقف عليها خلاصهم في الآخرة، وهذا ما يعطيه معنى حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، وهو ما يؤكده تعالى من خلال قوله: (نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين) الواقعة: ٧٣، أي أن الدنيا هي مجرد تذكرة للعابرين ومتاع للمسافرين في رحلة الحياة القصيرة.

والزهد في الدنيا شرط التقرب من الله لينيل محبته، وهو شرط أيضا لنيل احترام الناس وتقديرهم، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس) رواه ابن ماجة وصححه الألباني.

فحقيقة الزهد في الدنيا هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حيث لم يحرموا طيبات ولا ضيعوا مالا ولا جهدا ولا وقتا فيما لا يرضي الله تعالى وينفع الناس، وقد استنكر تعالى أن يحرم النبي ما أحل الله له مرضاة لأزواجه فقال له: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم) التحريم: ١. كما نهى تعالى المؤمنين عن تحريم ما أحل لهم من طيبات الرزق بقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) المائدة: ٨٧.

ويقول ابن القيم في وصف الزهد: "وليس المراد من الزهد رفض الملك، فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء ما لهما".

كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم من أزهد البشر وله تسع نسوة وحصل على الكثير من الغنائم التي أنفقها على الفقراء تقربا لله. وكان عديد الصحابة كعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير وغيرهم كثير رضي الله عنهم ـ من الزهاد مع ما كان لهم من أموال.

ولعل أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن البصري الذي أورده الإمام الغزالي في الإحياء: "ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك".

والدارس لأعلام الصوفية الكبار على وجه الخصوص، يدرك أكثر من غيره مستوى الزهد الذي كانوا يتصفون به، لكنهم كانوا يتعاملون بإيجابية مع أهلهم وقومهم ومتطلبات عصرهم بتفاعلهم مع الواقع، واتخاذ المواقف اللازمة التي تفرضها طبيعة الظروف، بما في ذلك المشاركة الفعلية في القتال ضد الغزاة والمعتدين، دفاعا عن العرض والأرض والمال والنفس، وهي قمة التضحية والبدل والعطاء في سبيل الله، والتي تفوق بقيمتها التعبدية والأخلاقية مجاهدة النفس بالصبر والصلاة والتقوى. ولهذا السبب بالذات، نجد الكثير من الاختلافات المنهجية في سلوك الصوفية، تتفاوت حسب واقع العصر الذي عاش فيه كل منهم.

أما في بيئة السلم التي تخلو من الصدامات الدموية، فيلجأ الصوفي إلى تزكية النفس عن طريق المجاهدة بالذكر والعبادات، مرضاة لله تعالى وتقربا منه وإليه، وهي مجاهدة في حدود قدرة النفس والجسد على التحمل من دون إفراط ولا تفريط مصداقا لقوله تعالي: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها). والصوفي بحكم شغفه بطلب العلم وتزكية معرفته بحقيقة الأمور ظاهرها وباطنها - باعتبار أن المعرفة هي غاية وجوده وسر مسعاه - لا يستطيع تحصيل ذلك بالانقطاع عن الناس في الزوايا والصوامع.. بل العكس هو الصحيح، وهذا هو ما يفسر سبب سفر الصوفية وكثرة ترحالهم أثناء حياتهم من بلد إلى آخر، للاطلاع على أحوال المجتمعات، ولقاء العلماء، ومعرفة أسرار العلوم التي وصلوا إليها، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اطلبوا العلم ولو في الصين).

يقول الشيخ عبد القادر الكيلاني في هذا الصدد: "يا صاحبي الصوامع والزوايا.. ويحكم، تعبدون الخالق في صوامعكم، هذا الأمر لا يجيء بمجرد القعود في الخلوات مع الجهل.. ويلك، امش في طلب العلم والعلماء حتى لا يـبقى مشي.. امشي حتى لا يطاوعك شيء".

وبهذا المعنى، لا يمكن أن يناقض التصوف الاسلامي طبيعة الحياة نفسها، بمفهومها الايجابي الذي يحث على المعرفة والعمل والعطاء في سبيل تحقيق الهدف الأسمى والغاية النهائية من وجود الإنسان على الأرض، ألا وهي عبادة الله وفق شريعته، والامتثال لأوامره وتجنب نواهيه والتوكل عليه ليمضي في عبده إرادته ومشيئته وحكمته وعلمه، لأن الصوفي يعتقد أن هذان الأمران (العبادة وأداء الأمانة)، هما الوسيلتان للتقرب من الله ونيل رضاه، وذلك لما يوفره هذان المسلكان المتوازنان من خير في الدنيا ونجاة في الآخرة.

والتصوف الاسلامي في أصله ومنشأه، بني على أساس الزهد الذي هو أصل من أصول الشريعة كما سبقت الإشارة، ولا علاقة له بالرهبنة كما عرفت عند أتباع الاعتقاد الكنسي المسيحي، بل الزهد هو أحد مصطلحات التصوف الأولى، حتى أن الذين كتبوا في علم التصوف من الأوائل، كتبوا باسم الزهد، كالإمام أحمد بن حنبل وعبد الله بن المبارك وغيرهما.

كما أن ظاهرة الزهد ظهرت منذ عصر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كعبد الله بن رواحة وأبو ذر الغفاري وأبو الدرداء وأبو هريرة، الذين كانت لهم مدارسهم في الزهد الذي نشروه بين الناس، وعلى رأسها مدرسة الزهد الكبرى للإمام علي بن أبي طالب الذي وضع الأسس الأولى لعلم القلوب، وأخذ الزهد عنهم: الحسن البصري، وعروة بن الزبير، وأويس القرني، وعبد الله بن المبارك.. ثم إبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، والجنيد البغدادي، وأبو بكر الشبلي، وسري السقطي، وذو النون المصري ... دون أن يفوتنا التذكير بأن علماء الشيعة كانوا أول من أنزل التصوف من مجال التجربة الروحية إلى مجال البحث العقلي.

هؤلاء هم الذين أسسوا علم التصوف الاسلامي، ووضعوا أصوله وأسسه وقواعده، مستنيرين بكتاب الله الكريم، ومستأنسين بسنة رسوله الأمين.

 
ويؤكد الصوفية أنفسهم، أن ظهور هذه الفئة من العباد والزهاد في المجتمعات الإسلامية، كان بمثابة دق ناقوس الخطر، تذكيراً للمجتمع وإيقاظاً له من غفوته وضلاله، خاصةً بعد أن بدأت بوادر البذخ والترف تنتشر في حياة المسلمين كالنار في الهشيم مع اتساع الإمبراطورية الإسلامية زمن الفتوحات وكثرة المغانم، فكان لظهور هؤلاء العباد ولأقوالهم وأحوالهم أثراً تحذيرياً للمجتمع من أن يقع فريسة الترف والغفلة، وتذكيراً له بمهمته الأساسية التي هي الذكر والعبادة وأداء الأمانة والتزام التقوى والإكثار من العمل الصالح الذي ينفع الناس، وتحذيرا له كذلك، بعدم التشبث بهذه الدنيا الزائلة، ومظاهرها الزائفة التي لا قيمة لها في ميزان الله يوم القيامة.  فكان لهذا النوع من الخطاب الرباني المزلزل، أثره البالغ في يقظة المجتمع الذي كانت مظاهر الغفلة والانحلال تهدد تماسكه وكيانه. ولم يكن خير من محبة الله والاعتصام بحبله والتمسك بكتابه وسنة رسوله، تصلح كأسس متينة لبناء خطاب صادق وقوي، يقبله العقل وينفذ إلى القلب فيقيم في الروع ما تستقيم به الأنفس على صراط مستقيم.

وتذكر المراجع التاريخية أن بدايات التصوف الأولى في الإسلام بدأت بظهور تيار الأتقياء والزهاد الكبار في بلاد الرافدين، والذين أخذوا لا حقا اسم الصوفية مع ظهور مدرسة بغداد السنية، وفي مقابلها بالضفة الأخرى كانت مدرسة خراسان الشيعية، وبرغم اتفاق المدرستين حول فكرة الولاية التي تلي النبوة، إلا أن المدرسة السنية كانت تتمحور حول فكرة القطب الصوفي "الوليّ"، فيما المدرسة الشيعية ركزت على فكرة "الإمام" وارث العلم النوي.

هكذا كانت نشأة هذا التيار الروحي الذي تطور بسرعة من الزهد إلى التصوف، ولم يأتي من فراغ بسبب عوامل دخيلة عليه كما زعم منتقدوه من فقهاء الظاهر، وبعض الباحثين الإسلاميين الذين تأثروا بخط اهتمام المستشرقين في تركيزهم على أصول ومصادر التصوف الإسلامي في دراساتهم، ومدى استمداده من المعتقدات السابقة والمذاهب الروحية التي كانت منتشرة في الأمم السابقة بحكم احتكاك العالم الإسلامي بالحضارات الأخرى زمن الفتوحات، مبررين ذلك بأن التصوف كطريقة روحية متقدمة، ظهرت فجأة في القرن الثالث الهجري وليس زمن الرسالة، مع أن الموضوعيين منهم يعترفون بأن التصوف هو تطور لمبدأ الزهد في الإسلام، ويمتح من القرآن والسنة، وجوهره تجربة معراج محمد صلى الله عليه وسلم.

ونخلص مما سلف، وعلى ضوء ما يزخر به التراث الصوفي من أدبيات، أن الزهد هو مقام التقوى، فيما التصوف هو مقام المعرفة. والزهد طريق في متناول كل مسلم مفعم قلبه بالإيمان جعل من الدنيا آخر همه ومن الآخرة غايته المثلى.. أما التصوف، فطريق شاق لا يسلكه إلا من تفقه في الدين أولا، ثم جاهد في النفس ثانيا، وخاض تجربة المعراج ثالثا فحصل له اليقين وأصبح صوفيا واصلا.

أما المتصوف فنوعان: الأول، متشبه بغير صفة ومتطفل بغير علم. والثاني، تابع مجتهد يتفقه في الدين ويجهد للوصول إلى معرفة الحقيقة في مدرسة الله، عملا بقوله تعالى: (ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم) البقرة: ٢٨٢.

المراحل التي مر منها التصوف الإسلامي

 يجمع كتاب السير في الأدب العربي على أن الزهد و الورع صفتان قديمتان في البشر، عرفتا منذ القدم في الرسالات السابقة للقرآن. وبالتنزيل برز عنصر الزهد قويا بين فئة من الصحابة و المقربين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يرقى إلى مرتبة التصوف بالمفهوم الذي عرف به بعد الفتوحات.

ففي العصر الأموي اتسعت الإمبراطورية الإسلامية و عم الرخاء بعد أن تدفقت الأموال والغنائم على الحجاز والشام من كل أصقاع الأرض، فأقبل الكثير من المسلمين على حياة الترف والإسراف في اللهو والشهوات، الشيء الذي ولد ردة فعل قوية عند جانب من أفراد المجتمع الاسلامي، دفعتهم إلى التوغل في الزهد وهجر ملذات الحياة ومتاع الدنيا، ومنهم على سبيل المثال: سعيد بن جبير و الحسن البصري و عامر بن شراحيل و الشعبي و محمد ابن سيرين. لكن لم يعرف أحد من هؤلاء بالتصوف حينها، بمعنى الذهاب بعيدا في تفسير الزهد عقليا لتعليل مختلف أوجه الحياة النظرية والواقعية. (تاريخ الفكر العربي -1-  378).

 ويلاحظ أنه مع مطلع العصر العباسي، بدأ الزهد التقليدي يتحول إلى تصوف واضح، فقيل إن إبراهيم بن آدم (161 ه / 777 م)، كان من أبناء الملوك، فهجر أبهة الدنيا، واشتغل فلاحا يأكل من عرقه، ويعبد الله ويجاهد فيه حق جهاده حتى استشهد في بلاد الروم. ثم ظهرت بعده رابعة العدوية (185 ه / 801 م) شهيدة العشق الإلهي، وهي الوليّة الصالحة التي كانت تعبد الله ليس خوفا من ناره ولا طمعا في جنته بل حبا فيه كما كانت تقول. ومن المأثور عنها قولها: "حبي لله لم يدع في قلبي مكانا لكره إبليس". (نفس المصدر السابق – ص: 379).

 وظهر بعد ذلك أبو علي شقيق البلخي (194 ه / 810 م) الذي تأثر بطريقة إبراهيم بن أدهم في تفضيل العمل على العلم، وكان أول من تكلم في التوكل. ثم اشتهر بعد ذلك ببغداد معروف الكرخي (200 ه / 816 م)، من خلال مقولته: "لو كان من حب الدنيا ذرة واحدة في قلوب العارفين ما صحت لهم سجدة واحدة" نفس المصدر السابق – ص: 379).

 ويبدأ دور ثان من التصوف ببغداد  وعلى رأسه بشر الحافي (227 ه / 840 م)، وسمي بالحافي وفق ما يُروى، لأن أحد نعليه انقطعت فحملها إلى اسكافي يطلب تصليحها، فقال له الاسكافي: "ما أكثر كلفتكم – أيها الصوفية – على الناس".. فألقى بشر بالنعل من يده، و خلع الأخرى من رجله، و أقسم ألا يلبس بعدها نعلا أبدا.

وبعده ظهر الصوفي المعروف ذو النون المصري (245 ه / 750 م) الذي اشتهر بشدة حثه على الفقر ومهاجمته لمن يفضل الإقبال على الدنيا وملذاتها، فاتهمه خصومه بالزندقة ومحاولة تهديم المجتمع، فاستدعاه الخليفة المتوكل إلى بغداد وسجنه مدة من الزمن ثم أعاده إلى مصر.

 ومع قدوم أبا يزيد طيفور بن عيسي البسطامي (261 هـ / 875 م) الشهير، تحولت الصوفية لأول مرة من ظاهرة زهد شخصي إلى فلسفة تخضع للنظر العقلي، ومن أقواله: " عرفت الله بالله، و عرفت ما دون الله بنور الله". وإليه ينسب القول: "ما في الجبة إلا الله" التي قالها جوابا على أعرابي في السوق سأله عما يحمل في جبته. وقوله أيضا: "سبحاني ما أعظم شأني"..  وهي أقوال تسببت في وسمه بالكفر واتهامه بالزندقة من قبل "حراس العقيدة" الذين كان يسميهم الصوفية بـ: "فقهاء الرسوم"، في إحالة ضمنية على المعنى الذي يفيد وقوفهم عند ظاهر النص دون الغوص في باطنه لفهم جوهره الروحاني.

ويأتي دور ثالث في تاريخ التصوف الإسلامي عرف بالشطح والتطرف اللفظي، و من أشهر ممثلي هذا الدور أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج (309 هـ / 922 م)، وفي أقواله وسلوكه العام الكثير من الشطح بل وبعض من مظاهر التطرف الكيدي للسلطة القائمة.  ومن أشهر أقواله: " أنا الحق " و " الشيطان في الجنة ".

وينتمي إلى هذا الدور أيضا علي بن محمد المزين (328 هـ / 940 م)، وكان يقول بالمشاهدة (للعزة الإلهية)، ويعتقد أن المريد - وهو السالك حديثا في طريق التصوف - لا يمكنه أن يصل لوحده و أن عليه الاتصال بشيخ يدله على الطريق. ومن هنا نشأت لأول مرة، ظاهرة "الشيخ والمريد" التي تطورت فيما بعد إلى زوايا، بعضها اشتهر بممارسة العديد من مظاهر الشعوذة و الانحلال النفسي و الانحطاط الأخلاقي. 

وبرز أيضا في هذا الدور أبو بكر دلف بن جحدر الشبلي (334 هـ / 966 م)، الذي اشتهر بقوله: " أنا النقطة التي تحت الباء" والتي قال بها قبله الإمام علي عليه السلام كما سبقت الإشارة في مطلع هذا المبحث.  ويقال أن الشبلي كان من أتباع الحلاج ثم أنكره بعد ذلك. ومن  الذين تأثروا بالحلاج، محمد بن عبد الجبار النفري (354 ه / 965 م)، و كان يري أن الصوفي يتصل بالله في الدنيا، لأن رؤية الله في الدنيا هي من باب الاستعداد لرؤيته في الآخرة. (نفس المصدر – ص 380)، وهو قول غريب تضحضه فلسفة التصوف نفسها استنادا إلى المفاهيم التي تعطيها الآيات القرآنية ذات الصلة التي تنفي إمكانية رؤية الله في الدنيا والآخرة ما دام الله تمدح نفسه بقوله (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) الأنعام: ١٠٣. وهي نفس عقيدة المعتزلة في نفي إمكانية رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة.

والحقيقة أن التصوف طريقة غريبة و معقدة جدا، أثارت في مرحلة ظهورها العلني سواء في بغداد بالعراق أو خراسان بإيران، الكثير من اللغط حول شرعيتها، والشكوك حول أصولها، و التساؤلات حول المنابع التي تستلهم منها منطقها الغامض الذي لا يخضع لظاهر النص من قرآن وسنة، بل يتجاوزه -  دون نكرانه -  للوصول إلى أعماق معانيه الباطنة. وذهب الأمر ببعض منتقدي الصوفية، حد تكفير أهلها والتشكيك في أصلها الإسلامي.

وبرغم مقولة " نيكولسون: "بأن الصوفية المسلمون كانوا يتمتعون بحرية تعبير لم يعرفها إخوانهم المسيحيين"، إلا أن هذه الحرية المزعومة كلفتهم الكثير من الضحايا، أشهرهم على سبيل المثال: الحلاج (922م) الذي انتهى به الأمر إلى الموت  صلبا، فقطعت أطرافه ثم وزعت على أركان العالم الاسلامي الأربع ليبقي عبرة لمن يعتبر. ومقتول شهاب الدين شهر واردي (1191م) معلم الإشراق الفارسي.  والشاعر التركي حروفي نسيمي الذي دفن حيا في  أليبو  سنة (1417م) بسبب أشعاره المتمردة.  وقبله ببضع سنين قتل شيخه وأستاذه فضل الله أسطر بادي مؤسس "حركة حروفي". 

لكن اليوم، و بعد ظاهرة الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي التي أثارت اهتمام الباحثين في الغرب قبل العالم العربي والإسلامي بشكل لافت، وباستثناء بعض التيارات الاسلاموية المتطرفة، كالأصولية الوهابية والسلفية الجديدة (New age)، تغيرت الأمور، وأصبح أغلب المسلمين في العالم  يقرون بأن التصوف مولود شرعي إسلامي. غير أن هذا الاعتراف، جاء متأخرا جدا، بعد أن اكتشف علماء الغرب منذ القرن التاسع عشر الميلادي، القيمة الحقيقية والأهمية العظيمة التي يكتسيها هذا الفكر الروحي على المستوى الإنساني الكوني، والذي ظل لقرون طويلة يحارب الجهل والإقطاع بسلاح اللغة، مستعملا الرمز والإشارة بدل صريح العبارة من باب التقية خوفا من تربص فقهاء السلاطين بالصوفية.

      وكما سبقت الإشارة، فقد عرف التصوف حضورا مميزا في العالم الإسلامي، حيث تطور بشكل ملحوظ داخل الفكر السني الأشعري، وكذلك داخل الفكر الشيعي سواء في إطار المذهب الإسماعيلي أو الاثنى عشري. إلا أنه وبسبب الأمية والجهل والتخلف وظروف الاستعمار الذي هيمن على البلاد الإسلامية بعد سقوط الخلافة العثمانية وتقسيم العالم الإسلامي إلى إمارات وممالك ضعيفة، فاسدة ومستبدة،  تحول التصوف إلى لعبة في صراع القوى تحت يافطة الزوايا التي يقوم عليها شيوخ دهات متمرسون، يجهدون في استقطاب المريدين لأسباب عصبية لا علاقة لها بالتصوف الحقيقي كتجربة روحية فردانية، فتحولت بعض من هذه الزوايا إلى قوى فاعلة ومؤثرة يحسب لها حسابها في قرار الحرب والسلم وفي لعبة السياسة التقليدية، كبديل عن الأحزاب المعارضة، في بيئة لم تكن تعرف للشورى بالمفهوم القرآني أو الديمقراطية بالمفهوم الغربي من معنى: (السياسة الدينية في المغرب العربي – المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي – السنة 4 – العدد 13/14 -1991/1992).

هكذا إذن، تحولت بعض الزوايا الصوفية، من فضاء للحرية النقية، والممارسة الأخلاقية السامية، والتجربة الروحية الطاهرة المبنية على التأمل والتجريد، إلى مستنقع للفساد والدجل والشطح والحركات الهستيرية، ونشر فكر التواكل والحث على الخطيئة وقبول الاستعباد... أو بعبارة أخري، تحولت الصوفية لدى بعض الزوايا إلى عنوان للجهل و التخلف والفساد في الأرض. هذه الظاهرة السيئة والسلبية جدا، لم تنتهي بعد من عالمنا الإسلامي، ولا زالت بعض من تجلياتها تظهر في المواسم التي تنظم في بعض الدول العربية، كمصر و المغرب و العراق على سبيل المثال..  ناهيك عن الاستغلال السياسي الذي يتم لهذه الزوايا من قبل بعض الأنظمة المستبدة لتثبيت شرعيتها الدينية، وقد رأينا كيف أن الزاوية النقشبندية في العراق تحالفت مع المتمردين البعثيين والإرهاب الوهابي (داعش) لتمزيق جغرافية وهوية هذا البلد العربي الأصيل.

 وعلى ضوء ما نعرفه عن فشل إيديولوجية الإسلام السلفي الأصولي اليوم، سواء على المستوى النظري أو العملي من خلال تحالف القائمين عليه مع الغرب الصهيو أطلسي في حربه على الإسلام باسم محاربة الإرهاب،  يمكن التأكيد أن المستقبل سيكون للتصوف على مستوى النخب ابتداء، وسنرى عودة قوية للتجربة الصوفية الفردانية البعيدة عن ثقافة الزوايا و منطقها المتخلف الذي وظف لخدمة السياسة.  ولعل القادم من السنين، ينبأ بعودة هذه الطريقة الوجدانية النقية في أبهى صورها وأسمى مبادئها و أنبل سبلها ومسالكها، لأن الجميل في التصوف هو صفائه وأخلاقه وروحيته البهية المشرقة، التي تأبى التدجين، أو التكيف مع الأوضاع الفاسدة، أو الارتباط بالسلطة الاستبدادية القائمة، وتترفع عن الاستغلال السياسوي للقواعد الشعبية من أجل تحقيق أهداف مشبوهة.

كيف لا والتصوف هو مرتبة الإحسان في الإسلام؟





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق