بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 12 نوفمبر 2018

في مفهوم التصوف


انعتاق الروح من قبضة التشدد

لا يوجد للتصوف مفهوم محدد ولا منهج معين،  ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن التصوف كطريقة للوصول إلى الحقيقة تختلف بعدد أنفاس الخلائق، باعتباره تجربة فردانية خاصة أكثر منها تجربة جماعية، لذلك لم يفرز التصوف مدرسة فكرية أو مذهب إيديولوجي في مواجهة المذاهب الأخرى القائمة، بل من الطرق الصوفية من نشأت وعاشت في أحضان المذهب السني باختلاف توجهاته وهي الغالبية من الناحية العددية، و أخري تحت عباءة المذهب الشيعي بتعدد اتجاهاته وهي الأقلية بسبب التقية.../...

و يمكن القول أن الطريقة الصوفية كتجربة، هي أقرب إلي المغامرة الروحية الفردية منها إلى الاعتقادات الجماعية المؤسسة على ثوابت الفكر الطائفي والمذهبي، والتي تخضع في عمومها إلى تأثير السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وتعتمد الإكراه النفسي عبر لعبة الترغيب والترهيب، و لا تتوانى في اللجوء إلى آليات الاستبداد الفكري قصد استقطاب الأتباع والمحافظة على الموقع كلما اقتضت الضرورة ذلك.

 والتصوف بهذا المعني العام، لم يأتي من فراغ، بل ولد من رحم المذاهب الإسلامية الكلاسيكية المعروفة، ونشأ في ظل الشريعة، متماهيا مع الأوضاع القائمة بتعقيداتها المتشعبة، من دون صدام مع أحد بفضل سياسة التقية.  غير أنه مع ذلك، يعتبر بمثابة ثورة تحررية متقدمة ضد الإكراه الديني، والتدجين العقائدي، والاستبداد المذهبي الذي اشتهرت به كل مدارس الفقه من دون استثناء. لكنه ثورة سلمية، هادئة، عميقة وصامتة، لا يهمها قلب أنظمة الحكم القائمة، ولا تسعى إلى إقامة سلطة دينية بديلة، بل همها الأساس هو تحرير الإنسان من ظلم أخيه الإنسان والتحليق به عاليا في عوالم المطلق، حيث نور الله ورحمته الواسعة، أساسها ومنطلقها القبول بالآخر كما هو لا كما يجب أن يكون عملا بقوله تعالى (لا إكراه في الدين) البقرة: 256، وقوله تعالى (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف: 29، وهدفها الأسمى التغيير من الداخل عبر إشاعة ثقافة الانفتاح على العالم والتعايش مع الآخر المختلف، عن طريق الاحترام والمحبة والتعاون والتخلق بأخلاق الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم لبلوغ مرتبة الإحسان، عملا بقوله تعالي: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات: 13..
 
 وبمعنى أكثر دقة، يمكن تعريف التصوف بأنه السبيل إلى إدراك "الحقيقة"، سواء كانت هذه الحقيقة "حكمة"، أو " نور" أو "معرفة". وهذا المصطلح "الحقيقة" وفق ما يراه الباحث الإسلامي هنري كوربان في كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية – ص:39)، يدل في جملة مدلولاته، على "المعنى الحقيقي" للإيحاءات الإلهية، أي المعنى الذي في حال كونه "حقيقة"، فهو "جوهرها" أيضا، وهو بالتالي "معناها الروحي". ومثل هذا التوصيف، يفترض بالضرورة أن للحقيقة وجها آخر هو ظاهر المعاني التي يوحي بها النص المقدس، وهذا الوجه هو الذي عرف في الثقافة الإسلامية بالشريعة. وبذلك فالنفاذ إلى المعنى الروحي أو الجوهري للحقيقة الإلهية لا يمكن أن يتم إلا عبر المرور من بوابة الشريعة - كما يقول الصوفية ـ باعتبارها الطريقة الوحيدة لولوج الباطن من بوابة الظاهر، حيث تكمن عوالم الأسرار الربانية الثاوية وراء حجب الستر، والسبيل إلى إدراك الحقيقة هنا، لا يكون إلا من طريق المحبة الإنسانية الخالصة، والعشق الرباني الذي تختلف مستوياته باختلاف مجاهدات الصوفي الجسدية والنفسية.

أما الغاية القصوى أو النهائية عند الصوفي، فتعتبر حقيقة غير قابلة للوصف باللغة البشرية أو الإدراك بالأدوات العقلية، فلا الفلسفة قادرة على أن تحيط بمفاهيمها، ولا العقل بقادر أن يحدد ماهيتها بآليات المنطق، بل تعرف فقط ببصيرة القلب التي تجليها كصورة في مرآة صافية عن طريق الكشف الذي يتجلى من خلال إشراقة القذف في الروع. وهذا هو معنى التجربة الروحية التي تفضي إلى المعرفة القلبية.  والقلب حسب المفهوم الصوفي هو الوعاء الذي ينضب بالحب، والمرآة التي هي مجلى كل الحقائق السامية الوجودية والمعرفية، من حيث هو عرش الرحمن. ولقد جاء في الأثر حديث قدسي مفاده، أن الله خلق السماوات والأرض فلم تسعه، ووسعه قلب الانسان الذي اتخذه عرشا له.

ويطرح هذا الحديث القدسي إشكالية عويصة على الفكر الكهنوتي المسيحي والإسلامي المذهبي معا. فالكنيسة التي اعتمدت مبدأ أن لا خلاص من خارجها كما هو الحال بالنسبة لأهل السنة والجماعة الذين يؤكدون بناء على حديث مشبوه منسوب للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، أنهم الفرقة الناجية وما سواها في النار، فقد جاءت اكتشافات نسخ عتيقة هي الأقدم للإنجيل مكتوبة على الجلد باللغة الآرامية (لغة المسيح عليه السلام)، سواء في البحر الأحمر أو تركيا لضرب عقيدة الكنيسة الكاثوليكية وعقيدة أهل السنة والجماعة معا، من خلال التأكيد على حقيقتين:

-       الحقيقة الأولى تقول: أن المسيح عليه السلام لم يصلب كما تزعم الأناجيل الأربعة المعتمدة من قبل الكنيسة، وأنه لم يكن ابن الله بالمعنى الحرفي بل كان نبيا ورسولا، وأنه بالفعل صعد إلى السماء على قيد الحياة قبل أن يتوفاه الله، وأن يهوذا إسكاريوت هو من شبه لجند الروم فصلبوه بدلا منه، وأنه بعد المسيح عيسى بـ 700 سنة سيأتي نبي اسمه أحمد ليبشر بالإسلام. وهذه بالتحديد هي الرؤية القرآنية. وهو ما أثار قلق الكنيسة التي ترفض إلى اليوم الاعتراف بما ورد في هذه المخطوطات من حقائق تقلب رأسا على عقب عقيدتها التي وضعتها في مؤتمر نيقية، وهو المجمع المسكوني الأول من بين سبعة عقد قبل نزول القرآن لتثبيت العقيدة الكنسية بسبب ما طالها من تضارب وتعارض بين الفرق في مختلف أقطار المعمور، على شاكلة ما فعله معاوية حين اعتبر عقيدة أهل السنة والجماعة هي العقيدة الإسلامية الصحيحة وفرقته هي الفرقة الناجية وما سواها في النار.

-       الحقيقة الثانية تقول: أن المسيح عليه السلام قال: إن مملكة الله لا توجد تحت الحجر (بمعنى الكنيسة) بل في صدر الإنسان ومن حوله، ومن اكتشف سر المحبة لن يموت أبدا. وهو المعنى الذي يتطابق مع الحديث القدسي المذكور أعلاه، والذي يؤكد أن عرش الرحمن هو قلب الإنسان، وأن الله ليتخذ من هذا القلب عرشا لهن يجب أن يطهره الإنسان بنور المحبة ويطرد مساحات الظلام التي يبث فيها الشيطان الحقد والكراهية والبغضاء.

وهذا ما يؤكده الصوفية حين يقولون، إن الاهتداء إلى الحقيقة المنشودة، يكون فقط عبر النور الداخلي الذي يزداد في القلب وهجا كلما تحرر الصوفي من تعلقه بهذا العالم الوهم... وهذه المجاهدة تعرف في اللغة الصوفية بعملية "صقل مرآة القلب" عن طريق الذكر. يقول تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) الرعد: 28، والاطمئنان لا يكون إلا بالمعرفة الحقيقية التي تنير عتمات الظل في القلب، وتطرد كل أوجه الجهل من العقل. والصوفي لا يصل إلى درجة الكشف التي يحصل فيها على المعرفة الباطنية إلا بعد رحلة شاقة وطويلة من التطهر، ناشدا دائما وأبدا الهدف الأسمى، ألا وهو كشف "حجب الجهالة" التي تحيل بينه وبين معرفة الحق من خلال مشاهدة الحقيقة عارية بلا حجاب والذوبان في المطلق إلى ما لا نهاية.

 وحيث أن الأمر له بعد باطني عميق، فإنه من المستحيل تحليل التجربة الصوفية تحليلا موضوعيا، لأن الكلمات لا يمكن أن تحيط بأبعادها أبداً، ما دامت الألفاظ تظل على الشاطئ كما يقول الصوفية.. بل حتى أعمق وأدق المناهج العلمية المرتبطة بعلم النفس التطبيقي مثلا، تظل عاجزة عن سبر أغوارها العميقة. ويظل الفهم الوحيد الممكن للظاهرة، هو من خلال تحليل بنية نظامها الفلسفي كما يقول العالم الفرنسي الشهير "هنري كوربان"، ملاحظا أن معرفة التجربة الصوفية تمر حتما من خلال دراسة تجربة كل صوفي على حدة بسبب الطابع الفرداني لكل تجربة. 

ومن بعض تعاريف الصوفية المتداولة، قولهم: "الصوفي من صفى قلبه لله" أو "الصوفي من لا يملك شيئا ولا يملكه شيء" أو "التصوف طلب الحقائق"... و لعل شيخ الإسلام الإمام الغزالي، كان أحسن من عبر عن صعوبة تحديد مفهوم الصوفية حين قال في (المنقذ – ص: 58 – 60): " فابتدأت بتحصيل علمهم من كتبهم مثل 'قوت القلوب' لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد و الشبلي وأبي يزيد البسطامي... حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية و حصلت ما يمكن تحصيله من طريقتهم بالسماع،  وظهر لي أن أخص خصائصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق و الحال وتبدل الصفات".

هذه  إذن هي الحقيقة التي يقر بها كل صوفي وإن اختلفت تجربته الروحية، ولا يخالف ابن عربي هذه الحقيقة حيث يقول في (الفتوحات المكية جزء 3  ص 360): " ولقد آمنا بالله و برسوله وما جاء به كله مجملا و مفصلا مما وصل إلينا من تفصيله و لم يصل إلينا، أو لم يثبت عندنا. فنحن مؤمنون بكل ما جاء به في نفس الأمر. أخذت ذلك عن أبوي أخذ تقليد و لم يخطر لي ما حكم النظر العقلي فيه من جواز و إحالة ووجوب. فعملت على إيماني بذلك حتى علمت من أين آمنت وبماذا آمنت، وكشف الله بصري و بصيرتي و خيالي فرأيت بعين البصر مالا يبصر إلا به، ورأيت بعين الخيال ما لا يدرك إلا به، ورأيت بعين البصيرة مالا يدرك إلا بها، فصار الأمر لي مشهودا، والحكم المتوهم بالتقليد موجودا. فعلمت قدر من اتبعت، وهو الرسول المبعوث لي محمد صلي الله عليه وسلم. وشاهدت جميع الأنبياء كلهم من آدم إلى محمد صلى الله عليهم وسلم، وأشهدني الله تعالى المؤمنين بهم (أي بالأنبياء)  كلهم حتى ما بقي منهم أحد ممن كان وهو يكون إلى يوم القيامة، خاصهم وعامهم، إلا شاهدته. ورأيت مراتب االمؤمنين كلها فعلمت أقدارهم. واطلعت على جميع ما آمنت به مجملا مما هو في العالم العلوي. وشهدت ذلك كله فما زحزحني علم ما رأيته وما عاينته عن إيماني، فلم أزل أقول وأعمل ما أقوله وأعمله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لعلمي ولا لعيني ولا لشهودي، فواخيت بين الإيمان والعيان".

وعلى غرار تجربة الغزالي الروحية، يؤكد ابن عربي في النص أعلاه، انتقاله من الإيمان الموروث عن الآباء بالتقليد إلى حالة المعاينة والكشف مع العزوف الكامل عن النظر العقلي وآلياته ومقولاته، ويقسم ابن عربي هنا مستويات الإدراك ووسائل المعرفة بين الإدراك الحسي بالبصر و معرفة الخيال ومعاينة البصيرة، ويقول أنه بفضل هذه المستويات مجتمعة، انكشفت له تجارب الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم الصلاة و السلام، واطلع على مآل المؤمنين جميعا في إطار نفس عقيدة التوحيد بغض النظر عن اختلاف الرسل والرسالات، أو بمعنى أصح، في إطار نفس الدين الإلهي الواحد من نوح إلى محمد مرورا بكل الأنبياء والرسل عليهم السلام جميعا، ويشير ابن عربي إلى أن الكشف  يكون على قدر منزلة العارف، مشروط بمواظبته واجتهاده وصدق مسعاه وإخلاص نيته وعمله لله ليفتح عليه بنور المعرفة اللدنية ليرى الأمور كما هي على حقيقتها لا كما تبدوا للحواس.

من هذا المنطلق، يكون التصوف هو مقام "الإحسان" الذي هو المستوى الثالث في البناء الإسلامي، ذلك أنه بعد الإسلام الذي يبدأ اعتقادا ثم يتحول بالقناعة إلى يقين والذي يتحول بدوله بالمشاهدة الغيبية إلى إحسان.  يقول تعالى في سورة البقرة – آية 4. (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)، فالآخرة غيب لا يمكن مشاهدتها للإيمان بها إيمانا يقينيا، لكن بلوغ درجة الإحسان في عبادة الله لا تُمكّن فقط من رؤية الآخرة التي هي غيب رؤية مشاهدة، بل تمكن الصوفي من رؤية الحق في الأشياء كلها وفي نفسه، فيحصل له اليقين، مصداقا لقوله تعالي: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق) سورة فصلت – آية 53.    

ويقول بعض الصوفية، أن مستوى الإحسان عايشه الصحابة رضوان الله عليهم في علاقتهم بالرسول عليه الصلاة والسلام، وانتقلت أسرار هذا المقام إليهم روحيا من خلال رابط المحبة والتعلق بشخصه الكريم.  فكما أن أسرار مستوى الإسلام تنتقل بالتلقين والاستماع من فكر إلى فكر، وأسرار مستوى الإيمان تنتقل بالعمل والإتباع من سلوك إلى سلوك، فأسرار مقام الإحسان تنتقل من قلب إلى قلب بالمحبة الإلهية من خلال الولاء لله ورسوله والذين آمنوا.

وفي الواقع، يرد غياب الإحسان على مستوى الممارسة في سلوك المسلمين لغياب وسيلة التواصل لديهم التي هي المحبة، وتؤكد المدرسة الصوفية القادرية أن مثل هذا الوضع، أدى الي إنتاج إسلام مبتور بدون روح، ذلك أنه عندما حاول المخلصون ترميم الجزء المتداع من البناء الاسلامي (طابق الإحسان) نعتوا بالصوفية، وتم تقديم سلوكهم انطلاقا من تصور قاصر لإسلام بمستويين فقط (إسلام وإيمان)، واتهموهم بمحاولة إضافة للإسلام ما ليس منه. وتؤكد من جهة ثانية، أن الحقيقة الصوفية التي اكتشفها العارفون بالله، ما هي إلا تفصيل لما أجمل في الشريعة، وان معارضة النص القرآني أو الحديث بالحقيقة الصوفية، يرجع إلى معارضة الجزء (الحقيقة الصوفية) بالكل (الشريعة)، باعتبار أن علاقة الحقيقة الصوفية بالنص القرآني أو الحديثي هي علاقة تضمن واستغراق (الثاني للأول)، لا علاقة تضاد وتنافر كما يحاول الإيهام بذلك بعض ممن يوجد خارج التجربة الصوفية، لأن التعارض – إن وجد – فهو تعارض بين سوء تأويل النص القرآني أو الحديثي و/ أو النص الصوفي، أو بين سوء تأويل النص الصوفي والنص القرآني أو الحديثي، خصوصا إذا علمنا أن اللغة الصوفية هي لغة إشارية لا دلالية، أي أنها تشير إلى الحقيقة عن بعد ولا تدل عليها، لأن الدلالة الحقيقية للنص الصوفي لا يمكن فهمها إلا بالتجربة الوجدانية الذوقية الفردانية. 

إن التصوف حسب أدبيات الصوفية، هو "القلب النابض" للإسلام وكمال بنائه، لأن العبادة بدون محبة لله ومعرفة به تجعل منها "طقوسا شكلية" فارغة بلا معنى، والتصوف يمثل "الرصيد الشعوري" غير المدون من السنة النبوية لعدم قابليته للتدوين، ذلك لأن أحوال الرسول عليه الصلاة والسلام الباطنية ساعة حصولها لا تدون في الكتب ولكنها تدرك بالتجربة الوجدانية من خلال اتباع تجربته الروحية المتمثلة في مغامرة المعراج تحديدا وما تتطلبه من مجاهدة وإعداد نفسي كبير.

إن الصوفي العارف، يؤمن أن إدراك الحقيقة يقينا لا يتأتي من طرق المعرفة الواعية من تقليد وحس وعقل، إنما بالإلقاء من الله تعالى لقوله في محكم كتابه: (وليعلم الذين أوتوا العلم انه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم) الحج: 54، حيث يقذف الله نوره في قلب الصوفي فينكشف له الحجاب ليري الأشياء كما هي على حقيقتها لا كما تبدو للعيان.  أما كيف يحصل الكشف الرباني، فيقول تعالى في هذا الشأن: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) 42: 51، والخطاب هنا يشمل البشر عامة، أي الخلق في حالته البدائية الأولي، والمخاطب  الذي هو الله يستعمل بالمناسبة صفة "العلو" للتنزيه المقترن بصفة "الحكمة" الخفية الكامنة وراء المشيئة الإلهية، الأمر الذي يوضح بجلاء ما يقصده تعالى من خطابه، وإلى من يتوجه به، والصفة التي يتوجه بها إليه.. فما بالك إذا تعلق الأمر بالإنسان المؤمن أو بخاصة الخاصة من أولياء الله المقربين؟.

 وفي الأثر حديث للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يا ربي، أرني الأشياء كما هي) أي على حقيقتها لا كما تبدوا في شكل الصور التي تظهر بها، وما يؤكد هذا المعنى الذي يفيد أن ما نراه من أشياء لا يعدوا عن كونه وهما لصور خادعة غير حقيقية تشبه إلى حد بعيد لعبة الظلال والمرايا، هو قوله تعالى للإنسان بعد الموت: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق: 22، بمعنى أن ما كنت تراه في الحياة الدنيا لم يكن الحقيقة، وأن الموت كشف عنك الحجاب فأصبحت تري الأشياء على حقيقتها التي خلقت عليها ابتداء في الأعيان الثابتة بالملأ الأعلى. 

وعن الحياة الدنيا التي لا تمثل بالنسبة للقيامة بمقياس الإدراك الحقيقي أكثر من لحظة تعارف قصيرة، يقول تعالى: (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم) يونس: 45، وأنه بعد الموت يأتي البعث الذي هو بمثابة اليقظة الفعلية، فيشاهد الإنسان الأشياء على خلاف ما كان يراها في الدنيا. وفي سياق نفس المعنى، للرسول صلى الله عليه وسلم حديث آخر يقول: (الناس موتي،  فإذا ماتوا انتبهوا) أو (استفاقوا) وفق رواية أخرى. ومصداق ذلك قوله تعالي:  (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الأنعام: 122. وبالتالي، فالذي يرى بنور الله غير الذي يرى بالحواس.

وعلى هذا الأساس، فلا حياة إذن في هذه الدنيا من غير نور الله، فمن دونه الموت وان بدى كالحياة... لذلك، فالصوفي لا ينخدع بالصور الكاذبة، لأنه في معراجه الدائم إلى الله يبحث عن نور الحق،  ليرى به حقيقة الأشياء كما خلقها الله تعالى على طبيعتها.. ويستشهد الصوفي عموما في الدفاع عن صحة مسلكه الروحي وصواب طريقته التعبدية بالحديث القدسي الشهير الذي نصه: ( إن الله تعالى قال: من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب، و ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي" مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليه، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن،  يكره الموت و أنا أكره مساءته). (حديث رقم: 1640). وهذا هو الدليل الحسّي اللطيف لمعنى أن يري الصوفي الحق في ذاته كما سبقت الإشارة.

 أما "التردد" الوارد في آخر الحديث، فهو تعبير مجازي ليس إلا، لأنه ليس من صفات الله تعالى ولا يليق بمقامه سبحانه، وهو الذي إذا قضى شيئا فلا راد لأمره ولا مانع لقضائه، خاصة عندما يتعلق الأمر بكتاب الموت والحياة، لكن حب الله لعبده الذي يتقرب إليه بذكره وعبادته جعله يكره مساءته بقبض نفسه، الأمر الذي يفيد درجة الحب الإلهي الكبير الذي يكنه لمحبوبه المغمور بأنواره والمشمول برحمته وعطفه الخاص وحمايته..  هذا هو الصوفي الحقيقي الذي أنزله الله منزلة "الولي" المقرب إليه وآذن بالحرب كل من عاداه.

مما سلف، نخلص إلى أن الصوفي المجتهد في حب الله، لا يحكم على الأشياء بمقاييس الحس الخادعة التي تتعامل مع الصور والمجسمات متجاهلة الجوهر، ولا بمقاييس العقل النسبية القاصرة عن الاهتداء إلى معرفة الحقيقة الكلية الجامعة.. الصوفي كائن غريب، يكفر بما يراه (بمعنى أنه يستر ما يراه) و ينكر كل المقاييس المألوفة، بل ويلغي حسه وعقله ووجوده الافتراضي ليدخل في مقام الاضطراب والحيرة المسمى في اللغة الصوفية بـ"الحال"، والذي يسميه أهل الظاهر تأويلا بـ"الضلال"، بالرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يفتر عن القول: (ربي زدني فيك حيرة)، لأن في الحيرة يطرح سؤال المعرفة ويتذوق الإنسان طعم الشوق والتوق للقاء المحبوب.  والصوفي يعيش في مقام حيرته لا يخرج منها حتى يصل إلى مرحلة "الوجد"، فيقذف الله نور الحقيقة في قلبه، ومن ثم يستعيد ثقته في نفسه وإيمانه بالضرورات الحسية والعقلية على أساس من يقين تام لا يعرف للشك طريقا.. هذا هو الإيمان الحقيقي المبني على اليقين الذي لا يحصل إلا لمن بلغ درجة الإحسان، فذاق حلاوة حب الله في كنفه..  إنها رحلة تبدأ بالسباحة الصاخبة فوق الماء ضد موج البحر الهادر،  ثم تتحول بالمجاهدة إلى الغوص الهادئ في الأعماق، فأعماق الأعماق،  وتنتهي أخيرا  بالمشي المتسكع فوق سطح الماء ضدا في قوانين الطبيعة، حين تتحكم الروح في الجسد فيفقد الأخير ثقله وظله.

لكن من جهة أخرى، يرى بعض الباحثين في مجال التصوف، أنه لا يمكن سلخ المتصوف كانسان عن واقعه المعاش واعتبار أن أفكاره تتجاوز عصره و يطبعها الإطلاق والشمول، لأن الصوفي إنسان قبل كل شيء، وبالتالي فالكثير من أفكاره ومواقفه، هي بالمحصلة نوع من التعبير الايجابي عن تفاعله مع واقع المجتمع الذي يعيش فيه و يحاول فهمه ومعالجة قضاياه. وبعبارة أخري، للصوفي حياة تاريخية مقيدة بشرط الوجود، وهو بالتالي إنسان ككل الناس، لكن ما يميزه عن بقية الناس، هو أن له تجربة روحية خاصة، تتمثل في محاولاته التحررية المتكررة، لكسر قيود الزمان والمكان، والهروب من قيد الجسد، وسجن اللحظة التاريخية، نحو عوالم المطلق اللامتناهي.. فمن الطبيعي والحال هذه، أن يعبر كل صوفي عن تجربته في إطار ما يسود مجتمعه من عقائد وأفكار وأحداث معاصرة له، فيكون سلوكه بالتالي، عبارة عن ردة فعل تعبر عن تفاعله الايجابي مع الواقع الذي يعيش فيه ويتعايش معه. وإذا كانت التجربة الصوفية هي واحدة في جوهرها، فان الاختلاف بين صوفي وآخر راجع بالأساس إلى تفسير التجربة ذاتها التي يمر بها الصوفي للوصول إلى الحقيقة والكمال الروحي، وذلك تبعا للأحوال والمقامات التي يتواجد فيها كل على حدة، والصوفية أنفسهم يقولون في هذا الصدد، أن المسالك إلى الله هي بعدد أنفاس السالكين.
    
ويوضح ابن عربي هذه الإشكالية بشكل دقيق فيقول: "إن لكل موجود خيط يربطه بالحق، وخيط يربطه بعلته المباشرة. الخيط الذي يربط الموجود بالحق هو الخيط الناظم للوجود بأسره من أعلاه إلى أدناه، فهو خط الحقيقة السارية في الوجود  - وحبل الله المتين الذي يعتصم به الجميع - والخيط الذي يربط كل موجود من الموجودات بعلته وسببه هو الخيط النسبي الخاص بهذا الموجود وحده. ووحدة الوجود  - بالمعني الذي يحمله هذا المستوي من الفهم - هي وجه آخر لوحدة الكلمة التي يمثلها فلك النبوة من أوله إلى نهايته، وللكلمة كما للموجودات جانبان: جانب الإطلاق والشمول، وجانب التعيين في التاريخ والحدوث. إن كل الأنبياء عليهم السلام ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم، يمثلون هذين الجانبين: الجانب الكوني الروحاني بوصفهم تجليات للكلمة الإلهية، والجانب التاريخي بوصفهم رسلا مبلغين كلمة الله بلغات أقوامهم ومشرعين لهم في زمانهم. ففي شخصية آدم (الإنسان الكامل)، هناك صورة الله و صورة الكون معا، وهناك شخصية (آدم) التاريخي أبو الإنسان العاقل، ذي الجسد المادي المكون من العناصر الطبيعية الأربعة (الماء – الحرارة – التراب – الهواء). وفي شخصية محمد صلى الله عليه وسلم هناك – الحقيقة المحمدية – السارية في الوجود بأسره، والتي تتجلي وجوديا ومعرفيا في الأنبياء بدءا من آدم وتنتهي بظهور محمد (التاريخي) الذي ولد بمكة عام 570 م".   (هكذا تكلم ابن عربي – د. نصر حامد أبو زيد – ص: 74/75).

وعلى هذا الأساس يزعم الباحث المشار إليه أعلاه، " أنه ما دام لتجربة ابن عربي بالمثل جانبان، جانب التجربة الروحية الكونية، وجانب التجربة التاريخية، فمن المنطقي أن نحلل خطابه المعبر عن تجربته الروحية من نفس المنظور الذي صاغه هو للحقيقة، فنري في تجربته بعدها الروحي الكوني، ولكن ليس في علاقته الجدلية مع تجربته ككائن تاريخي ثقافي، بل ككائن اجتماعي سياسي. ويضيف الباحث متسائلا: "أليس ذلك أقرب إلى طبيعة الأمور وأصوب من تجاهل الكائن التاريخي لحساب التجربة الروحية، التي مهما تعالت وسمت لا تستطيع كلية أن تغادر أرضها التي ترويها وتمنحها الاستمرار؟".

لكننا نعتقد أن مثل هذه المقاربة التي يحاول من خلالها د. نصر حامد أبو زيد وغيره - مع احترامنا لجهدهم جميعا - دمج التجربة الروحية في التجربة التاريخية للوصول إلى خلاصة مفادها أن الأولى هي وليدة الثانية ونتيجة طبيعية لها، بمعني أن الواقع التاريخي للكائن هو الذي يروي التجربة الروحية ويمنحها الاستمرار. وهو استنتاج غريب، لأن الاستناد إلى مقولة ابن عربي حول الجانب الروحي والجانب التاريخي في حياة الأنبياء منذ آدم إلى محمد عليهم السلام، لا تدعم مثل هذه الخلاصة، والصحيح من وجهة النظر الدينية والمنطقية، هو أن تجربة الرسول محمد التاريخية كغيره من الرسل قد تأثرت بالحكمة المتضمنة في الجوانب الروحية للوحي الإلهي، لكن العكس لا يسمح بمجرد افتراضه فبالأحرى مناقشته ومحاولة إثبات موضوعيته.. بمعني أن التجربة التاريخية لنبي أو رسول ليست هي المولدة للتجربة الروحية، فنقول مثلا، أن ظروف مولد ونشأة وحياة الرسول وواقع مجتمعه الموضوعي تعتبر من العوامل الرئيسة التي دفعته إلى خوض التجربة الروحية لاستقدام الوحي من فضاء مطلق خارج الزمان والمكان بهدف تقويم مشاكل مجتمعه وعصره. لأن مثل هذا القول المشبوه ليس له من هدف حقيقي سوى محاولة إثبات أن القرآن منتج ثقافي ونص تاريخي، وهو ما لا يستقيم ولا يسلم به مؤمن، لأن الإنسان بالنهاية هو الذي يحتاج إلى الدين وليس العكس، كما أن التاريخ البشري الدائري هو جزء من التاريخ الديني القدساني وليس العكس.

وبالتالي، فكون الرسول صلى الله عليه وسلم أو ابن عربي قد كانت لهما في الحياة بعض المواقف التاريخية الخاصة فهذا لا يغير من جوهر القضية شيئا، بل فقط يذكرنا بطبيعتهم البشرية وحقيقتهم الزمنية التاريخية، من دون أن يعرض تجربتهم الروحية الصافية للنقد السلبي أو المسائلة التشكيكية  التاريخانية المبطنة في الطرح الموضوعي، خاصة بالنسبة للرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم.. إن مثل هذا التحليل الذي يستند إلى المنهج المادي في تحليل الخطاب يستدرجنا للتسليم بأن النص القرآني نص مخلوق زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما لا يعتقد به المؤمنون بالخطاب الإلهي الذي يسمو فوق المكان ويتجاوز مسارات الزمان، خصوصا إذا علمنا أن القرآن لم يقتصر على ذكر الرسول محمد فحسبن بل ذكر كل الأنبياء والرسول عليهم السلام جميعا لإبراز شمولية، وإطلاق، وكونية، ووحدة العقيدة الإسلام عبر مختلف العصور والدهور.

لأنه إذا كان محمد الانسان قد أخطأ في قضية تتعلق بالزراعة التي ليست من اختصاصه كما حدث له مع مزارع النخل مثلا، فهذا لا ينسحب على مصداقيته كرسول فيما بلغه بأمانة عن ربه بشهادة القرآن، من منطلق القول بأن تجربته هي وليدة عصره وذات طبيعة تاريخانية كا زعم أبو زيد.  لقد تفطن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الإشكالية في حينه وحسم فيها بالقول: " أنتم أدري بشؤون دنياكم".  وهذا الكلام يضع حدا فاصلا لجهة تلافي الخلط بين ما هو تجربة بشرية موضوعية وتاريخية من جهة، وبين ما هو تجربة دينية روحية ولدنية خالصة، تأثر في النفس وتهذب الأخلاق وتوفر للإنسان الطمأنينة القلبية وسعادة الدنيا والخلاص في الآخرة في كل زمان ومكان. 

وكون ابن عربي سبق واتخذ موقفا حاسما من دار الحرب على غرار ابن تيمية لجهة تحريم عيش المسلم في كنف الاحتلال الصليبي بالقدس الشريف قبل تحريرها من قبل صلاح الدين الأيوبي ببضع سنين، فهذا لا يعني أنه يتناقض مع مبادئه الروحية وشعار دين الحب الذي رفعه في "ترجمان الأشواق" لفائدة موقف متشدد ومتعصب من الصليبيين الغزاة، بل العكس هو الصحيح، فابن عربي الصوفي الذي يسع قلبه الناس أجمعين هو بالنهاية مسلم يؤمن بالشريعة، بل أكثر من ذلك هو فقيه متبحر في الفقه وأصوله، وعالم بأحكام الشرع.. أما "دين الحب" عنده، فلا يمكن أن يعني بحال من الأحوال التفريط في الأسس و الثوابت التي يؤمن بها كل إنسان حر شريف، كالحق في الأرض والحرية والولاية الإسلامية لصالح التعايش مع الظلم والتسامح في الحق واحترام المعتدي والمغتصب للأرض والمال و العرض.. وإلا لأصبح ما يعتقده كمؤمن ضربا من العبث، والله يقول: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) البقرة: 251.

إن من يثير مثل هذا الجانب الواقعي التاريخي في حياة ابن عربي للقول بتعارضه مع الجانب الروحي الصوفي، لا يمكن أن يفسر لنا بموضوعية لا الروحي ولا التاريخي. ولهذا السبب بالذات، ما انفك الباحثون العلمانيون يقولون بتاريخانية النص المقدس وفق التعبير الحديث والذي لا يختلف في شيء عن مقولة "خلق القرآن" التي قال بها المعتزلة قديما قبل ظهور ثنائية القدم والحدوث وفهم معنى الدهر والزمن والمكان وتعدد مستويات الخطاب المقدس بين الظاهر والباطن والحد والمطلع في تدرجاته صعودا ونزولا بين النسبي والمطلق. 

وقياسا على ذلك، فانه من غير المقبول القول بقراءة إيديولوجية للفكر الصوفي، لأن التصوف أساسا ليس فكرا ينتج إديولوجيا بقدر ما هو كشف للحقائق الباطنية، ولا ينتظم في مدرسة فكرية أو مذهب عقائدي لتصنيفه في هذا التيار أو ذاك، أو تدجينه في هذا المذهب أو الآخر. الالتصوف يبدأ كطريق إلى معرفة الله ثم يتحول بالممارسة إلى مسلك في الله من دون بداية ولا نهاية، تماما كمن يسلك الصراط المستقيم المرسوم على شكل دائرة تتحرك في الاتجاه المعاكس لسيره، فتقرب له المسافات البعيدة بنفس القدر الذي تبعدها عنه، فتزيد بذلك من حيرته، ومعاناته مع لوعة عشقه، وحرقة شوقه للوصول إلى هدفه ولقاء محبوبه، ومن ثم الذوبان في ذات وحدته...  إنها تجربة وجدانية عميقة من الداخل، تسبر أغوار مجاهيل الآفاق البعيدة الثاوية وراء حجب الجهل، فتنتج رؤية إسلامية شاملة تضم إلى أبعادها الوجودية الظاهرة بعدا باطنيا تعجز اللغة البشرية عن وصفه أو مقاربته بشكل عقلاني كما أشار إلى ذلك الصوفية أنفسهم مثل الغزالي وابن عربي وغيرهم كثير... ومن دون خوض التجربة الصوفية عمليّا، لا يمكن لكائن من كان الحديث عنها وادعاء دراستها علميا، إن مثل هذا الكلام لا يعدو أن يكون محض هراء.

وحتى لا يفهم هذا الكلام خطئا، فنحن لا نعني بما سلف، عزل الصوفية كظاهرة عن دائرة حركة التاريخ الاسلامي وتداعيات أحوال الأمة جراء الحروب الخارجية والصراعات الداخلية، فالمتتبع للفكر الصوفي عبر مختلف مراحله التاريخية الطويلة، يفهم لماذا بدأت هذه التجربة الدينية بالتقوى والورع والزهد في الدنيا والبعد عن السياسة، ثم تبدلت من تجربة معرفية فردية إلى تجربة جماعية في إطار نظام الزوايا المغلق، الذي له طقوسه الخاصة ووظيفته المبتدعة.. ومن ثم  تطورت إلى اتجاه نفسي وعقلي متطرف في أحيان أخرى، يبوح ظاهريا بالمحرم فيصدم الإيمان الشعبي السائد، وانتهت إخيرا إلى طريقة روحية هادئة، تسعى إلى الحصول على اليقين لمعرفة الحق (سر الأسرار) والحقيقة (اللغز الخفي) عن طريق الكشف اللدني في لحظة صفاء.

إن التصوف أولا وأخيرا، يمثل تجربة وجدانية خاصة، وبحكم طبيعته الفريدة هذه، لا يمكن أن يكون "شيئا" مشتركا بين الناس جميعا كما هو الحال في نظام بعض الزوايا التي تستغل التصوف لاستقطاب الأتباع من أجل أهداف سياسية. ونحن بقولنا هذا لا نعمم، إنما نشير إلى بعض أوجه الفساد والانحلال القائم في بعض المواسم التي تنظمها بعض الزوايا التي تدعي التصوف.  ولهذا السبب يقول الصوفية دون حرج بأن "عدد الطرق إلى الله هي بعدد أنفاس الخلائق"، تأكيدا منهم على الخصوصيات الفردية التي تصنع الفروق بين الصوفية بشكل عام، واستحالة مطابقة تجربة صوفية لتجربة صوفية أخرى بشكل خاص.  فالتصوف وفق تأكيد القوم، هو من علوم الذوق لا الحس العام.. ويحكى أن تلميذا لمحي الدين ابن عربي قال له يوما: "إن الناس ينكرون علينا علومنا، ويطالبوننا بدليل عليها.  فقال له الشيخ الأكبر ناصحا: إذا طالبك أحد بالدليل والبرهان على علوم الأسرار الإلهية، فقل له: ما الدليل على حلاوة العسل؟  فلا بد أن يقول لك: هذا علم لا يحصل إلا بالذوق. فقل له آنذاك: هذا مثل ذاك".

وتجدر الإشارة في ختام هذا التعريف العام، أن المتتبع لتاريخ التصوف، لا يمكن أن يتجاهل انخراط العديد من السالكين والمريدين على حد سواء في حملات الجهاد التي كانت تقام ضد الاستعمار الذي عرفته البلاد الإسلامية في النصف الثاني من القرن الماضي، ونخص بالذكر على سبيل المثال لا الحصر، زعماء كبار كالأمير عبد القادر الجزائري وغيرهم من المجاهدين الأبرار... وهي كلها تجارب تاريخية موضوعية لا تتعارض مع التجارب الصوفية الروحية، كما لا تنفي الواحدة الأخرى. وهذا ما يؤكد أنه لا تعارض بين الشريعة و الطريقة، باعتبار أن الأولي تعبر عن ظاهر التدين المتمثل في الشريعة، في حين أن الثانية تغوص في أعماق المقدس بحثا عن الحقيقة. وكما لا يمكن الولوج إلى الباطن من دون العبور من الظاهر، فكذلك، لا يمكن الحديث عن الطريقة الصوفية لمعرفة الله ذاتا وموضوعا من دون الالتزام بالعبادات والمناسك التي أقرتها شريعته تعالى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق