بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 15 نوفمبر 2018

التصوف: النشأة والتكوين (3/2)



إشكالية التوفيق بين الأحادية والخلّة
بمجيئ محيي الدين ابن عربي تغيرت صورة التصوف في الإسلام بسبب أطروحاته الجريئة حول معنى "الأحادية" ونظرية الوجود بين الوحدة والثنائية، وقوله أن نظرية الإتحاد والحلول التي قال بها بعض الصوفية كالحلاج وابن سبعين، لا تفيد ما تعطيه اللغة من معنى سطحي مجرد، فالحلول وفق تأويله، لا يشبه الحلول المادي (الجسم في الجسم)، أو "العرض في العرض"، أو "العلم في المعلوم"، أو "الفعل في المفعول"، بل يعني الوصول أو الإتحاد المتخيل لرؤية الصوفي لمحبوبه، وشعوره بالقرب منه، والإحساس بلذة الوصول الروحي أكثر منه الوصال الجسماني الذي يعطيه ظاهر الكلام (ابن عربي – الديوان – دار الكتب العلمية – بيروت ١٩٩٦ – ص: ٣٦٣).../...


وكمثال على ذلك، قصيدة الحلاج الشهيرة "يا نسيم الروح" التي تعبر عن "المشيئة الواحدة"، بلغة شعرية رائعة الجمال تجسد قمة الشعور الوجداني "الحال" الذي يعيشه الصوفي هائما في عشق محبوبه الذي هو الله، وهو مستوى من مجال القلب لا العقل، وقد جاء فيها:

يا نسيم الروح قولي للرّشا *** لم يزدني الورد إلا عطشــــــا
لي حبيب حبه وسط الحشا *** إن يشأ يمشي على خدي مشى
روحه روحي وروحي روحه *** إن يشأ شئت وإن شئت يشا

وبسبب ما تعرض له الحلاج من محنة حولته لـ "شهيد العشق الإلهي"، لعدم اقتناع فقهاء الرسوم بشطحاته، ذهب ابن عربي لتذكير القوم، بأن اللغة الصوفية التي تشبه إلى حد بعيد اللغة الشعرية بتركيزها على التشبيه والكناية والمجاز وغيرها من الأدوات للإفراج عن مكنونات القلب بلا قيود أو حدود، لا يمكن أخذها من ظاهر الكلام. لكن برفضهم لهذا التبرير،  أشهر في وجه فقهاء الظاهر آية قرآنية شكلت بحق معضلة المعضلات في التفسير، وذلك لقوله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) النساء: 125.

وقد طرحت كلمة "الخليل" بالقعل تحدّيا غير مسبوق على المفسرين الذين يعتمدون المعنى اللغوي الذي تعطيه الكلمة، بسبب أن مفردة خليل تضرب منهجهم هذا في الصميم.  ذلك أنه إذا كان أصل الخليل لغة هو "الصاحب الحميم"، و "الرفيق الوفي الملازم" كما يتم تفسير الكلمة خطأ.  فالتخلل هو امتزاج الشيء بالشيء، كما في حالة الماء والخمر مثلا، حيث يعنى الامتزاج والاختلاط استحالة تمييز الواحد عن الآخر لفرزه، وهو ما يحيل على مفهوم "الاتحاد" الذي يطرح أكثر من إشكال لجهة تعارضه مع مفهوم "التوحيد" كما عرف ظاهريا في التراث الإسلامي، حيث لا يمكن القبول بأن يكون لله صاحب ولا ولد، ولا أن يحل الله في بشر أو يتحد معه مخلوق.  وكل ذلك، مع التسليم بأن له ما في السماوات والأرض من دون أن يكون له شريك في الملك أو الحكم من خارجه أو معه، وهذا هو معني "لا إله إلا الله". 

وحيث أنه لا خلاف حول هذا المفهوم الذي تعطيه شهادة "لا إله إلا الله": - فما معنى أن يسمي الله إبراهيم خليلا؟ ... 

بالبحث في التراث، من خلال أمهات التفاسير التي بين أيدينا: (الطبري، الزمخشري، الطبرسي، الرازي، القرطبي، ابن كثير، البيضاوي، المحلي والسيوطي، الشوكاني، العياشي وغيرهم...)، نكاد لا نجد شرحا شافيا لكلمة "خليل" الواردة في الآية 125 من سورة النساء.  والحقيقة أن ما من مفسر لاحق إلا ونقل عن السابق شيئا مما أورده، هذا فيما تخلى بعض فقهاء الظاهر عن منهج التفسير اللغوي واستعانوا بمبضع التأويل لرد ما أثير من تناقض حول المفهوم، لأنه لا يمكن أن يكون إبراهيم صاحبا ورفيقا لله، هذا أمر يرفضه مبدأ التوحيد جملة وتفصيلا .. فما الحل إذن؟ وكيف يمكن تجاوز هذه المعضلة اللغوية العويصة؟ ..

حاول البعض عبثا، تأصيل المعنى بناء على عدد من الأساطير والخرافات التي لا نجد لها في كتاب الله أصلا ولا في سنة رسوله تفصيلا. وقد بلغ اليأس بفئة منهم حد القول، إن الجملة في الآية اعتراضية ولا محل لها من الإعراب (هكذا...)، وكأن الله سبحانه وتعالى يتكلم لكيلا يقول شيئا، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وهو الذي وضع كلمات، بل وأحرف القرآن بميزان الذهب كما يليق بسعة علم جلاله.

وخلاصة القول، أن مفهوم الخليل قد أخد العديد من المعاني عند المفسرين، كالولي، والحبيب، والمساير في الطريق، والمتبع للشرع، والمتخلق بخلق الله، والإمام... الخ... وهي في مجملها أوصاف مشتركة بين الأنبياء والرسل جميعا، بل وبعضها تخص المؤمنين أيضا. وبالتالي، فإننا لا نكاد نجد تفسيرا متفردا يعطي لمفردة "الخليل" مدلولها الحقيقي الذي خص الله به أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام. ومرد ذلك، يعود في اعتقادنا إلى إشكالية المعنى الذي تفصح عنه الكلمة، والذي لا يستقيم مع السائد من المفاهيم اللغوية لتعارضها مع مفهوم التوحيد من زاوية النظر المادية.

وهنا يدخل ابن عربي على الخط ليصول ويجول ويقول في شرح معنى الخليل: "قال الله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا، وقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا،  ولكن صاحبكم خليل الله، والمخاللة لا تصح إلا بين الله وبين عبيده، وهو مقام الوحدة والاتحاد (وفق ما يعطيه المدلول)، ولا تصح المخاللة بين المخلوقين، وأعني المخلوقين من المؤمنين، ولكن قد انطلق اسم الأخلاء على الناس مؤمنيهم وكافريهم، قال تعالى (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين)، فالخلة هنا المعاشرة، وقد ورد أن المرء على دين خليله، وقيل في مقام الخلة قد تخللت مسلك الروح مني، وبذا سمى الخليل خليلا، وإنما قلنا لا تصح الخلة إلا بين الله وبين عبده، لأن أعيان الأشياء متميزة، وكون الأعيان وجود الحق لا غير، ووجود الشيء لا يمتاز عن عينه، فلهذا لا تصح الخلة إلا بين الله وعبيده، خاصة أن هذا الحال لا يكون بين المخلوقين لأنه لا يستفاد من مخلوق وجود عين، فاعلم ذلك، واعلم أن شروط الخلة لا تصح بين المؤمنين ولا بين النبي وتابعيه، فإذا لم تصح شروطها لا تصح هي في نفسها، ولكن في دار التكليف فان النبي والمؤمن بحكم الله لا بحكم خليله ولا بحكم نفسه، ومن شروط الخلة أن يكون الخليل بحكم خليله، وهذا لا يتصوّر مطلقا بين المؤمنين ولا بين الرسل وأتباعهم في الدار الدنيا، والمؤمن تصح الخلة بينه وبين الله ولا تصح بينه وبين الناس، لكن تسمى المعاشرة التي بين الناس (اصطلاحا) إذا تأكدت في غالب الأحوال خلة، فالنبي ليس له خليل ولا هو صاحب لأحد سوى نبوّته، وكذلك المؤمن ليس له خليل ولا صاحب سوى إيمانه، كما أن الملك ليس هو صاحب أحد سوى ملكه، فمن كان بحكم ما يلقى إليه ولا يتصرّف إلا عن أمر إلهيّ فلا يكون خليلا لأحد ولا صاحبا أبدا، فمن اتخذ من المؤمنين خليلا غير الله فقد جهل مقام الخلة، وان كان عالما بالخلة والصحبة ووفّاها حقها مع خليله وهو حاكم فقد قدح في إيمانه لما يؤدى ذلك إليه من إبطال حقوق الله، فلا خليل إلا الله، فالمقام عظيم وشأنه خطير والله الموفق" (الفتوحات:  2 ص 22).

وواضح من كلام ابن عربي، أنه يعتبر مقام "الخليل" مقاما عظيما وشأنا خطيرا سمّاه بدون مواربة "مقام الاتحاد"، لأن الخلة كما يقول لا تصح بين الناس، بل فقط بين الله وعباده، واستشهد بحديث للرسول صلى الله عليه وسلم حول الموضوع ليقطع الشك باليقين، ويضع فقهاء الرسوم أمام معضلة لم يجدوا لها من حل سوى بتجاهل المعنى اللغوي الذي يعطيه ظاهر الآية كما سبقت الإشارة، والهروب من مواجهة المعنى بإنكار الجملة – وليس الكلمة فحسب - من خلال القول: "إن الجملة في الآية اعتراضية ولا محل لها من الإعراب" (هكذا ببساطة)، وهم بذلك من حيث يدرون أو لا يدرون، يتهمون الله سبحانه وتعالى بالحشو في الكلام. 

ويستفاد من نص ابن عربي، أن الخلة هي في حقيقتها مقام "اتحاد" بين الله والعباد، وهو ما لا يمكن التسليم له به من قبل فقهاء الرسوم وحراس العقيدة، الذين يعتبرون مثل هذا القول كفرا وهرطقة، لأن الإسلام يقول بالتوحيد لا بالاتحاد، هذا في الوقت الذي يطرح فيه القرآن مفهوم "الخليل" باعتباره حقيقة عارية مجردة، ليجوهر به المعنى الحقيقي للتوحيد في الإسلام، والذي يعني أن لا وجود في هذا الوجود إلا لله الواجب الوجود، والاعتقاد بوجود الإنسان مع الله أو من خارجه هو عين الشرك بالمفهوم الغليظ وفق ابن عربي.

أما سر التوحيد الكامن في علاقة الاتحاد التي تربط بين الله وعباده وفق ابن عربي، فتفهم في إطار "نظرية الواحد الكثير والكثير الواحد"، مرموز إليها بعملية "التخلل" القائم بين الله وإبراهيم عليه السلام، وبين الله وعباده كما قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، لأن مفهوم لا إله إلا الله نفسه يؤكد أن لا وجود في الوجود إلا لواجب الوجود الذي هو الله وحده دون سواه، وبالتالي، يعتبر القول بوجود شيء آخر معه أو من خارجه تقويض لمفهوم التوحيد وهدم لعقيدة الأحادية في الإسلام.

غير أن مثل هذا الكلام المرفوض من فقهاء الرسوم والممنوع تداوله في الثقافة الإسلامية السائدة لدى العامة، والصادر عن صوفي عارف بخبايا الأمور وبواطن الأسرار كالشيخ الأكبر، يبوح بالكثير دون أن يفصح عن شيء يذكر فيما له علاقة بالمعنى اللغوي المجرد الذي تعطيه الكلمة، خصوصا إذا علمنا أن الله لا يقبل الصديق ولا الصاحب، لذلك أشار ابن عربي إلى أن المقام عظيم وشأنه خطير دون مزيد من تفصيل، وكأن ابن عربي بموقفه هذا، يريد أن يستأثر بالمعني اللطيف لنفسه، ويرفض أن يتقاسمه مع غيره من باب التقية.  فهل الأمر يتعلق فعلا بما يقال عن أنه اللغز الخفي وسر الأسرار الذي لا يدرك بالعقل، بل فقط بالذوق؟ ... وهل الأمر يتعلق باختلاف مستويات الاتحاد بين أحادية الله المطلقة والثنائية المتجلية في مستوى الألوهة؟ ...

الجواب يصعب استنباطه من تعابير ابن عربي، لأن هذا العالم بما هو عالم – والتعبير لابن رشد – ليس قصده إظهار الحقيقة مجردة للعيان، بل التستر وراء لغة الرمز والإشارة، تلافيا لإثارة الشكوك وتحيير العقول، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تحدثوا الناس بما لم تصله عقولهم).

وبسبب ما أثارته أقوال الصوفية المستفزة من استنكار لدى فقهاء الظاهر المتحالفين مع الإقطاع وما آل إليه مصير بعضهم كالحلاج الذي تحول إلى "شهيد العشق الإلهي" كما سبق القول، نصح الغزالي صوفية عصره بعدم البوح بما يصلون إليه من حقائق لدنيّة أثناء "الحال"، لعدم قدرة العامة على استيعابها، وبسبب محدودية فهم فقهاء الرسوم للحقائق اللدنية التي تتجاوز إطار ظاهر الشريعة، كما حرّم بعض الصوفية البوح بالأسرار اللدنية لما تسببه في أذهان العامة من تشويش، وشبّه الغزالي مثل هذا البوح بإطعام الرضيع لحم الطير وجسده غير مستعد له بعد.


الفرق بين الفلسفة والتصوف

وإذا كان موقف فقهاء الظاهر من مقولات الصوفية موقف متطرف، يحاول فهم أقوالهم بمنطق القياس استنادا إلى ما يعطيه ظاهر الكلام من أحكام، فإن بعض الباحثين الإسلاميين لا يختلفون عنهم في المنهج، حيث يزعمون أن التصوف تأثر بمقولات الفلسفة القديمة، وتحديدا "نظرية الفيض" و"ماهية النفس" عند أفلاطون. هذا فيما تؤكد بعض المواقف التاريخية عدم صوابية هذا الزعم، ولنا في منظارة الغزالي وابن رشد، ولقاء محيي الدين العربي وابن رشد المثال الواضح على الفرق القائم بين الفلسفة والتصوف.

لقد عرف التاريخ الإسلامي بالفعل، نقاشات حادة حول هذه المسألة، خصوصا ما له علاقة برؤية الله يوم القيامة، لكن بين المعتزلة والأشاعرة، ولم يكن للصوفية يد فيها، إلى أن انتقد الإمام أبو حامد الغزالي علانية الفيلسوف الأندلسي أبو الوليد محمد ابن أحمد ابن رشد من خلال كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة" الذي تناول فيه المسائل العشرين في الإلهيات، ورد عليه ابن رشد بكتاب "تهافت التهافت"، انتقد فيه مزاعم الغزالي حول تهافت إلهيات الفلاسفة، وعاب عليه إخراج هذا النوع من المواضيع الحساسة إلى النقاش العلني.

كما أن محيي الدين ابن عربي نفسه، لم يأتي بجديد في هذا الباب، بل كل ما فعله، هو إخضاع مقولات الفكر المعتزلي والأشعري للتأويل الصوفي، نافيا ما اتهمت به الصوفية في هذا الباب، معللا ذلك باختلاف مستويات الفهم بين الفقيه والفيلسوف والمتكلم من جهة، وبينهم وبين الصوفي من جهة ثانية.

وتركيز ابن عربي كما كل الصوفية على أن المعرفة اللدنية لا تكتسب إلا من خلال تجربة المعراج التي هي تجربة ذاتية خاصة بكل سالك، يحيلنا على ثنائية العقل والقلب وإشكالية الجمع والفرق بينهما .. وهي القضية التي اسالت مدادا كثيرا في الغرب والشرق بمناسبة لقاء قطبين من أساطين الفكر الإسلامي زمن الأندلس. ويتعلق الأمر بلقاء ابن رشد الفيلسوف الذي يعتمد على النظر العقلي والمنطق االبرهاني في بحثه عن الحقيقة، متأثرا في ذلك بمقولات فلاسفة اليونان القدماء، محاولا إيجاد نقط الربط بين مقولاتهم وبين ما وصل إليه الصوفية من حقائق.. وبين ابن عربي الصوفي الذي يستمد قناعاته من الذوق والمشاهدة القلبية، وقد دار بينهما حديث مقتضب بلغة الرمز والإشارة عبر عنه ابن عربي بالقول:

"ولقد دخلت يوماً بقرطبة على قاضيها أبي الوليد بن رشد وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله به عليّ في خلوتي، فكان يُظهر التعجّب مما سمع فبعثني والدي إليه في حاجةٍ قصداً منه حتى يجتمع بي فإنه كان من أصدقائه وأنا صبيّ ما بقل وجهي ولا طرّ شاربي. فعندما دخلت عليه قام من مكانه إليّ محبةً وإعظاماً؛ فعانقني وقال لي: نعم! قلت له: نعم. فزاد فرحه بي لفهمي عنه، ثم إني استشعرت بما أفرحه من ذلك فقلت له: لا! فانقبض وتغيّر لونه وشكّ فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ قلت له: نعم ... ولا، وبين "نعم" و "لا" تطير الأرواح من موادّها والأعناق من أجسادها. فاصفرّ لونه وأخذه الأفكل وقعد يحوقل، وعرف ما أشرت به إليه" (الفتوحات المكية: ج١ – ص: ١٥٣).

والملاحظ، أن هذه الإشارات والكلمات القليلة بين ابن رشد وابن عربي، هي محاولة للتعبير بالرمز والإشارة عما يستحيل توضيحه بالعبارة، لأن الأمر يفوق قدرة الفهم والإدراك لدى الإنسان العادي، لأنه يتعلق بمسألة غيبية محجوبة عن الحواس بما في ذلك العقل. ومرد ذلك، أن العالم بتنوعه وكثرته وتعدده اللانهائي يعطي الكثير من الحقائق النسبية بالنسبة لقائليها، لكن الحقيقة النهائية تظل هي الله الواحد الأحد في عالم متكثر ومتعدد. هذه الحقيقة البسيطة يختزلها إسم الله "الصمد"، والذي يعني أن الله كيان بسيط موجود بشرط لا شيئ، وأنه قائم بنفسه، غني عن غيره، بلا جسم ولا صورة، ليس له حد ولا مطلع، لا يخلو منه موضع ولا يسعه مكان، وللصمد مفهوم واسع ينفي عن الله تعالى كل تجسيد أو تشبيه أو تحديد، والمعضلة تكمن في كيفية الربط بين هذا الواحد الصمد وهذه الكثرة المشهودة، وهي المعضلة التي وجد لها ابن عربي حلا يقول بوجود مستوى الألوهة، وهو مستوى الأسماء والصفات الفاعلة في الوجود كله.
ويشرح ابن عربي العلاقة القائمة بين الوحدة والكثرة من خلال رسم بياني يجسد الدائرة والمركز، فيقول إن النقطة في مركز الدائرة تشير إلى الحقيقة الكلية، وهي صورة الحق الغيبية، بينما محيط الدائرة هو مجموع المخلوقات أو مجالي الصور الحسية المشهودة، وأمّا ما هو بعد هذا المحيط فهو بحر العدم أو الباطل المستحيل الوجود (الفتوحات المكية: ج٣ – ص: ٢٧٥).

أما العلاقة القائمة بين مركز الدائرة والمحيط أو الوحدة والكثرة بتعبير ابن عربي، فتتجلى من خلال الأسماء والصفات المشتركة بينهما في مستوى الألوهة الفاعلة في عالم الملك، والتي هي مطلقة بالنسبة إلى الله ونسبيّة مقيدة بالنسبة للمخلوقات كما سبق القول، باستثناء النور الذي هو اسم الله الأعظم الذي خص به نفسه دون سواه وفق ما يفهم من الآية ٣٥ من سورة النور (الله نور السماوات والأرض) وبالتالي، فالله هو مصدر كل الأنوار. وغاية الصوفي ومناه هو الذوبان في هذا النور والفناء فيه من خلال المعراج إليه، أي عودة الصورة الحسية إلى جوهرها الأصل الذي فاضت عنه.

وتوضيح معنى نقطة المركز في الدائرة التي استند إليها ابن عربي لشرح أطروحته حول الواحد الكثير والكثير الواحد، نجد أن أول من قال بها هو اللإمام عليّ عليه السلام حين سئل عن معنى قوله: (العلم نقطة كثّرها الجاهلون، وأنا النقطة تحت الباء)، فقال: (كل ما في القرآن في الفاتحة، وكل ما في الفاتحة في البسملة، وكل ما في البسملة في الباء، وكل ما في الباء في النقطة، وأنا النقطة تحت الباء).

والمراد بالنقطة هنا وفق تفسير علماء الشيعة من أهل العرفان، ومنهم الشيخ ابن أبي جمهور: "النقطة التي تميّز بين العابد والمعبود، والرب والمربوب ظاهريا، أما من حيث الجوهر، فالوجود في الحقيقة واحد، وإنما تكثّر وتعدد عند التقييد والتنزيل، وإنما نسبت الإضافات بقيد الإمكان، ولهذا يقولون: التوحيد إسقاط الإضافات، لأنه عند اسقاط النقطة التمييزية لا يبقى شيء إلا الوجود المحض، ويضمحل ما عداه، وأشار الإمام عليّ إلى ذلك بقوله: (كثّرها الجاهلون) لأنهم يلاحظون تلك الاضافات فيعتقدون تعدد الواجب الوجود (الله) وتكثّره، حتى اختلفوا في كونه متواطئاً أو مشككاً، وذلك عند أهل التحقيق جهالة، لأنه ينافي التوحيد الذي هو مقتضى الوجود ولازمه الذاتي، لأن الوحدة من ذاتيته، والتعدد أمر عارض له، فمن نظر تحقيق العالم إلى تلك النقطة، وعلم أن التمييز إنما هو بسببها لم يعتقد تكثر الوجود البتة، ولا خروجه عن وحدته الصرفة، فبقي عالماً لم يخرج إلى الجهل، فهذا معنى قوله عليه السلام: (العلم نقطة) يعني: أن معرفة تلك النقطة والتحقيق بها هو حقيقة العلم الذي عقل عنه أهل الجهل". ويذكر أن البسطامي أيضا قال بنفس المقولة عندما سأله الناس عن من يكون، فقال "أنا النقطة التي تحت الباء". وعلى هذا الأساس قامت نظرية الواحد الكثير والكثير الواحد، لأن النقطة هي التي تبدأ منها كل كلمة وينطلق منها كل رسم وإليها ينتهي كل شيء يدور حولها.

وهذا هو معنى النقطة والدائرة التي قال بها ابن عربي، وأيدت مقولته هذه النظرية العلمية التي تحدثت عن الانفجار العظيم الذي انطلق من نقطة تشكل منها الكون برمته وتمدد ولا يزال إلى أن ينتهي بتقلصه وعودته إلى طبيعته الأولى ساعة الفناء ليبدأ خلق جديد. ويستدلون على ذلك بأن حجم الأرض الحقيقي في حال عودته إلى أصله لن يتجاوز حجم بيضة. والمقالات عن هذا الموضوع أكثر من أن تحصى.
وعودة للقاء ابن رشد وابن عربي، فمعلوم بالنسبة لدارسي فكر ابن رشد، أنه لم يكن ينطلق من الحقائق القرآنية لدعم مقولاته، بل كان يسعى للربط بين فكر أرسطو والفكر الإسلامي، في محاولة للتدليل على أن العقل فادر على الوصول إلى الله من دون حاجة لرسالة سماوية، لكنه هزم أمام الغزالي فتخلى عن منهجه واستقال من مجال الفكر إلى الأبد.

كما أن الفيلسوف الأندلسي ابن ميمون اليهودي سار على درب ابن رشد وقلده في منهجه، فكتب مؤلفه الشهير "دليل الحائرين" باللغة العربية وطور مذهبه في الفلسفة العقلية، محاولا الربط بين الفلسفة اليونانية والدين اليهودي، ومن هذا الجهد أصبح الغرب يتحدث اليوم عن منظومة الثقافة اليهودية – المسيحية المشتركة بقواسمها الثلاثة، سواء على مستوى الإنجيل بعهديه القديم (زمن موسى) وعهده الجديد (زمن عيسى)، أو بسبب تفاسير رجال الدين اليهود والمسيحيين للشريعة الموسوية والعيساوية، مضاف إليهما ما قام قدمه من اجتهادات فلسفية ولاهوتية في هذا المجال.

أما بعض الباحثين المعاصرين الذين يتهمون الصوفية بأخذ مسلكهم من الفلسفة، فيزعمون أن القوم تبنوا "النظرية الأفلاطونية المحدثة"، وهي التسمية التي لم تطلق على هذه المدرسة الفلسفية إلا في القرن التاسع عشر الميلادي، حيث أصبحت تعرف بـ "مدرسة الصوفية الفلسفية". وتقوم على الأقانيم أو المبادئ الثلاثة كما تطرحها نظرية الفيض عند أفلوطين (مفهوم الفيض عند أفلوطين وموقف فلاسفة المسلمين منه - الرسالة الأولى في الفلسفة – تاريخ الفلسفة – د. حسن حسن كامل إبراهيم – ص: ٢٤٨) وتقول النظرية:

1-                بوجود الواحد أو "الموجود الأول"، والذي ينعت بعدة أسماء كالمطلق الخيّر، واللامتناهي، أو الأب بالمفهوم الأنطولوجي – لا اللغوي - الذي يثبت الوجود إلى الله عز وجل، وهو أول الأقانيم الثلاثة في العقيدة الكنسية، وهو الغاية أو الهدف الذي يطمح إليه الكل، ومن الواحد يكون الفيض الأول الذي هو الفكر أو العقل الإلهي.

2-                أن الفكر الإلهي أو العقل الأول يترجم إلى أكثر من معنى: عقل إلهي، فكر أو مبدأ عقل الروح، وهو واسطة بيننا وبين الواحد الذي تعد معرفته فوق قدرتنا، لأنه عقل كلّي يتضمن جميع العقول الجزئية، والوحدة الكاملة للعقول الإلهية، والمعرفة في لغة أفلاطون هي المثل، والمثل هي العلل القديمة أو الصور العقلية لكل ما هو محسوس، وهذه النظرية تأثر بها ابن سينا وغيره من الفلاسفة المسلمين.

3-                ومن العقل الإلهي تصدر النفس الكلية أو الروح الكل، وللعقل الإلهي فعلان: إلى أعلى تأمل الواحد (الأحادية)، وإلى أسفل التكوين أو الإيجاد (الكثرة)، لذلك، فالنفس الكلية بواسطة جزئها الإلهي تتأمل العقل الإلهي بواسطة جزئها الهابط أو المبدأ العقلي، ويتكون الكون أو العالم المدرك المحسوس على غرار النماذج المعقولة، وبالنفس الكلية تكون كل النفوس، وبذلك تكون نفس الإنسان نفس الكل. ويؤكد هذا المعنى بشكل دقيق قوله تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) لقمان: 28.

والدارسون لفلسلة أفلوطين، وبالرغم من اعترافهم بأن مدرسته الفلسفية تعتبر الأكثر نضوجا من بين المدارس الأخرى، إلا أن الموضوعيين منهم يردون ذلك لتأثره بمصادر عديدة كالعقلانية الأرسطية اليونانية، والمثالية الأفلاطونية، والفلسفات الشرقية القديمة كالهندية والفارسية، بالإضافة لتأثره بالبيئة المصرية التي ولد فيها حيث قضى ردحا طويلا من عمره يتعلم في مدرسة الإسكندرية، فخرج بأطروحة تقدم نظرية شاملة حول الميتافيزيقا.

ولعل أبرز نجاحه يتمثل في الجهد الذي قدمه عن النفس والطبيعة والمادة والأنفس الجزئية، باعتبارها (أي النفس) تمثل الأقنوم الثالث في نظريته حيث يقول: "أما المادة، فهي آخر سلسلة الموجودات وأدناها، وهي تنشأ عن النفس التي تود دائما أن تحاكي المبدأ الأول في فيضه.. دفق الواحد وفيضه تظل متمثلة حتى آخر الموجودات متنقلة من موجود إلى الأدنى منه.. في امتداد قوة الواحد إلى مراحل الوجود". وقد وصل علماء روس مؤخرا إلى دراسة حول نشأة الكون والحياة تؤكد أن المادة لم تكن موجودة قبل الإنفجار العظيم، وأنها عبارة عن غبار تولد من قوة الإنفجار الذي حمل معه مكونات الحياة الأولى.

وبسبب ما ذكره عن النفس اعتبر البعض أن أفلوطين هو من طور "نظرية وحدة الوجود" و "نظرية الواحد الكثير والكثير الواحد"، والتي يقول بها الصوفية بمفهوم مشابه، نظرا للتماهي القائم بين المعتقدات الصوفية الإسلامية والتفسير الأنطولوجي للوجود.

وإذا سلمنا بمنطق القياس الفلسفي هذا، فهل نعتبر ما قاله ابن عربي عن وحدة الأديان في ترجمان الأشواق كان بدعة من القول، وأنه تأثر باليهودية والمسيحية وغيرهما من المعتقدات القديمة؟.. يقول ابن عربي في القصيدة:

لقد صار قلبي قابلا لكل صورة  ***  فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف  ***  وألواح توراة ومصحف قـــــــرآن
أدين بدين الحب أنّى توجّهت  *** لراكائبه فالدين ديني وإيمانــــــي

وبذلك، يكون ابن عربي من خلال تجربته الصوفية قد نظر إلى كافة المعتقدات باعتبارها دينا واحدا، يقوم على المحبة التي تعتبر المشترك بينها جميعا، ويدعو الإنسان إلى إحياء ذلك الحب من خلال مخاطبة القلب فيه الذي هو عرش المحبوب، أي الرحمن على العرش استوى. وحديثه عن "بيت أوثان" وإن كان يفهم منه محبة غير الموحدين، فالله تعالى قد أكد في قرآنه أن ما في الأرض إلا عابد لله لقوله تعالى: ما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون، وكون المشركين كانوا يعبدون الأصنام، فهذا لا يعني أنهم لم يكونوا يعبدون الله، بل يعبدونه بطريقتهم الخاطئة لقوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) الزمر: 3، وبالتالي، فالله وحده هو من سيحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون، وفق ما يؤكد في نفس الأية. بل حتى الفلاسفة اليونان الذين كانوا يعتقدون بتعدد الآلهة، كانوا يقولون بوجود إله واحد يحكمها كلها، وتبين أن هذه الآلهة هي أسماء الألوهة التي نعتبرها كمسلمين أسماء الله الفاعلة بينه وبين الإنسان والعالم وإن اختلفت المسمّيات. وبذلك ما في هذا العالم إلا عابد لله وإن اختلفت الطرق والمسالك، وهو وحده سيحكم يوم القيامة على عباده، ما دام الإيمان من مجال الباطن الذي لا يعلمه إلا الله.

نقول هذا لأن ابن عربي بحديثه عن العبادة ينظر إلى أن جميع الصور تمثل الحقيقة الإلهية الواحدة، وبالتالي، فالصوفي يجد الله في كل الأديان وإن اختلفت الشرائع والطقوس والمناهج من أمة إلى أخرى، وهذا ما يؤكده القرآن أيضا لقوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) هود: ١١٨. والإختلاف هو ابتلاء من الله لعباده، بدليل قوله تعالى: (لكل أمة جعلنا شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم) المائدة: ٤٨. 

وبالتالي، فلا غرابة في أن تأخذ "النظرية الأفلاطونية المحدثة" من الفلسفة القديمة كما من المعتقدات اليهودية والمسيحية وغيرها، لأنها وضعت في القرن التاسع عشر الميلادي كما سبقت الإشارة، هذا فيما العرفان الصوفي ظهر قبل ذلك بقرون، وبالتالي، يستحيل أن يكون الصوفية قد تأثروا بهذه النظرية الفلسفية، بل العكس قد يكون صحيحا من الناحية المنطقية وإن كنا لا نملك دليلا عليه.

ونخلص من ذلك إلى أن من عادوا للكتابة عن النظرية الأفلاطونية القديمة وسموها بـ "المحدثة"، إنما أرادوا أن يعيدوا إحياء الميتافيزيقا أو ما وراء الطبيعة في حلة جديدة، بعد أن أصبح اهتمام الفلسفة منذ ديكارت وإلى اليوم منصب على مجال المعرفة بدل ما وراء الطبيعة الذي لا وجود له إلا في أذهان الأغبياء، لأن لا شيئ يوجد من خارج الله تعالى ما دام الوجود كله من عرشه إلى فرشه هو الله وحده دون سواه.

وفي هذا الصدد، يشير الدكتور محمد أركون في أركيولوجيته البحثية إلى ضرورة التركيز على تاريخ مقارن للأديان التوحيدية بدل البحث في مجالات أخرى بعيدة عن الدين، فيقول إن "بيت القصيد في المقام الأول، هو الانتقال من دائرة تكون فيها المعرفة والسعادة مستحيلتين إلى دائرة تكونان فيها ممكنتين" (محمد أركون: نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية: ترجمة وتقديم هاشم صالح: دار الساقي بيروت لبنان، الطبعة الأولى ٢٠١١: ص: ٢٧٣ - ٢٧٤). وهذا لن يتأتى إلا بالتركيز على مصدر العبادة دون سواه، أي الله، لأن الإختلاف سببه الشريعة لا العبادة، ما أدى إلى فشل الإنسان في الحصول على السعادة.

وهو ما سنأتي على تفصيل القول فيه في موضوع "العوامل الخارجية الدخيلة على التصوف الإسلامي"، ذلك لأن الحقيقة الدينية واحدة، ومصدرها علوي، وصلت للإنسان عبر الوحي الذي يوحيه الله تعالى للرسل والأنبياء والأولياء والبشر جميعا كما أكد في قرآنه، والحكمة ليست حكرا على إنسان دون آخر ولا أمة دون أخرى، لأن مصدرها واحد هو الله، وأن الإختلاف هو فقط على مستوى الشريعة التي تخضع لشروط المكان وظروف الزمان، ولهذا السبب نلاحظ أن الصوفي يجد الله في كل المعتقدات، ولا نقول الأديان لأن الدين عند الله واحد من نوح صعودا إلى محمد هبوطا مرورا بكل الأنبياء والرسل ممّا نعلم ولا نعلم عليهم السلام جميعا.

وهو ما يؤكده ابن عربي في ترجمان الأشواق، بما يفيد أن جميع المعتقدات الدينية هي وسائط لحب الذات الإلهية لأنها تتعلق في المحصلة بدين واحد تطور عبر الشريعة إلى أن استقر في الرسالة المحمدية باعتبارها متممة لنفس الدين ومكمّلة لمكارم الأخلاق، ولهذا فاليهودي أو المسيحي الذي هو في الأصل مسلم بشهادة القرآن، لا يحتاج فعلا لتغيير دينه، لأن الرسالة المحمدية لم تنسخ ما سبقها من رسالات كما يعتقد بعض فقهاء الرسوم بل نسخ بعض الشرائع التي لم تعد تواكب تطور المجتمعات وصحح ما طرأ عليها من تزوير وتحوير وانحراف.

وبالتالي، فتشابه بعض الحقائق أو الأفكار بين معتقد وآخر، لا يعني بالضرورة أنها منقولة عن مصدر بشري أرضي، وإلا لقلنا مثلا أن الإسلام تأثر بالحقائق النبيلة الأربعة التي قال بها 'غوتاما بوذا'، وهذا ما لا يقبله عقل ولا منطق.  لأنه إذا كان التأثير والتأثر بالأفكار البشرية مسألة لا يمكن استبعادها في المجال العلمي والفلسفي عموما، لأن المعرفة تراكمية بطبيعتها، فإنها في المجال الديني تظل تمتح من نفس المصدر العلوي المشترك الذي هو الله بلغة الدين، أو العقل الأول بلغة الفلاسفة، مع اختلاف في طريقة الوصول إلى الحقيقة، بين العلم الكسبي الذي يحصل عن طريق التأمل العقلي لدى الفلاسفة، أو العلم اللدني الوهبي الذي يحصل عن طريق الفيض لدى الصوفية.
وعموما، يمكن الحديث عن موضوع الوجود والمعرفة في الفلسفة، بتقسيم المقولات الفلسفية حول الله إلى مرحلتين أساسيتين:

-       المرحلة القديمة: وتعرف بالمرحلة الكلاسيكية، حيث كان اهتمام الفلسفة المركزي ينصب على الماورائيات أو الميتافيزيقا في الفلسفة الإغريقية وبعض من مدارس الفلسفة الإسلامية التي تاثرت بمدرسة أفلاطون وغيره، إلى أن اكتشف الفلاسفة أنفسهم أن لا وجود لشيئ اسمه "ما وراء الطبيعة" أو "الميتافيزيقا"، ما دام الوجود كله من عرشه إلى فرشه هو الله الذي يمثل حقيقة الوجود المطلقة وكل ما سواها نسبي، وهذا الإكتشاف الذي جاء متأخرا جدا، سببه نظرية النسبية التي قال بها العالم أنشتاين. الأمر الذي يؤكد أن الفسلفة هي من تأثرت بالدين لا العكس.

-       المرحلة الحديثة: وتبدأ نظريا مع منهج الشك الذي أخذه الفيلسوف ديكارت المسيحي (١٥٩٦ - ١٦٥٠) حرفيّا عن العالم والفيلسوف الصوفي المسلم أبو حامد الغزالي (توفي في العام ١٠٥٩) ونسبه إلى نفسه من دون أن يشير إلى اسمه. وبذلك يكون الغزالي بحق، هو من غيّر توجّه الفلسفة جملة وتفصيلا، لكن عدم مواكبة الفلاسفة المسلمين لأفكاره الثورية في زمانه بسبب شيوع الفكر المعتزلي في الأوساط الإسلامية آنذاك وخوضه في الماورائيات بدل مجال المعرفة، ترك الميدان فارغا ليملأه بعد ذلك بزمن طويل فلاسفة الغرب.

 فالغزالي الذي عاش في العالم الإسلامي في القرن الحادي عشر (ستة قرون قبل ديكارت)، يرجع له الفضل الحقيقي في وضع أول منهج فلسفي ومعرفي علمي يقوم على الشك كطريق لمعرفة الحقيقة. ويتطابق منهج ديكارت مع منهج الغزالي بشكل دقيق يثير الكثير من التساؤل حول المصدر الذي استند إليه الفيلسوف الفرنسي في وضع منهجه العقلي، والذي اعتبر بإجماع الفلاسفة والمفكرين الغربيين بمثابة بداية جديدة لعهد جديد، نقل الفلسفة من اهتمامها بمجال الوجود الذي لا يدرك، أي لميتافيزيقا"، إلى الاشتغال على حقول المعرفة الإنسانية بالأدوات العقلية. الأمر الذي يؤكد أن الغزالي كعالم في الفقه وفيلسوف وصوفي، كان يميز بين الشريعة والحقيقة والطريقة، ويفصل بين المعرفة الصوفية اللدنية من جهة والمعرفة الفلسفة العقلية والعلمية من جهة أخرى.
وأوجه الاشتراك بين المنهجين تكمن في العناصر الخمسة التالية: ١- الشك المنهجي.  ٢- التحرر من التقليد. ٣- وضع القواعد المنهجية للبحث. ٤- تحديد وسائل البحث. ٥- التأمل والاستنتاج .. ومن ثم الوصول إلى الحقيقة المنشودة

لقد استعمل كل من أبي حامد الغزالي وديكارت من بعده، نفس الخطوات العلمية في بناء "منهج الشك" للوصول إلى الحقيقة كما أصبح معروفا اليوم، غير أن المنطلقات الذاتية والموضوعية لدى كل واحد منهما كانت مختلفة. وحيث أن النتائج ترتبط بالمقدمات وتتأثر بالمنطلقات، فطبيعي والحال هذه، أن تكون نتائج بحث كل منهما مخالفة للآخر في أوجه عديدة.

فالغزالي كمسلم، انطلق من إيمانه الراسخ بوجود الله من هدي القرآن والسنة، فجاءت جميع خطواته نابعة من هذا الإيمان.  وشك الغزالي كان بكل ما هو موجود من أجل الوصول إلى الحقيقة، أي الوصول إلى معرفة الله التي هي غاية الباحث الفلسفي والصوفي على حد سواء وان اختلفت الطريقة، ومعرفة الله لا تعني بالنتيجة فكرة الاتحاد بالمفهوم الفلسفي ولا الحلول بالمفهوم الكنسي، بل تعني الثنائية من خلال تجلي الله في مخلوقاته (الواحد الكثير والكثير الواحد)، وتمكينهم من صفاته الفاعلة في الوجود لينوبوا عنه ويقوموا مقامه وفق مقتضيات أمانة التكليف، لأنه بالنسبة للغزالي الصوفي كما غيره من الصوفية، لا موجود في هذا الوجود إلا لله الواجب الوجود بلا شرط شيء، فلا شيء يوجد قبله أو بعده ولا من خارجه أو معه لقوله تعالى (هو الأول والآخر والظاهر والباطن).

وحيث أن الأمر كذلك، فلا يمكن أن يتحد به أو أن يحل هو في من لا وجود له أصلا، ما دام الوجود برمته من عرشه إلى فرشه هو مجرد تجلي للأعيان الثابتة في علم الله العلي العظيم. لذا، أفضى الغزالي صوفيا موازنا بين العقل والقلب، العقل باعتباره أداة ضرورية من أدوات الشرع، والقلب باعتباره مصدرا للمعرفة الروحية اللدنية التي لا تدركها الحواس ولا تحيط بها آليات العقل.
والحقيقة عنده تعتبر يقينية قطعية لا تقبل الشك، وتتجلى في وجود الله دون سواه، وقدرته المطلقة على الفعل وفق مشيئته (وما تشاءون إلا أن يشاء الله). والبحث خارج هذه الدائرة الوجودية التي مركزها النقطة (أي بداية البدايات ونهاية النهايات)، يعتبر كفرا أو بدعة كما أكد على ذلك في مؤلفه "تهافت الفلاسفة".

والغزالي كابن عربي، والسهروردي، والتلمساني، وغيرهم من العلماء المسلمين الذين أنزلوا التصوف من مرتبة التجربة الروحية إلى مرتبة النظر العقلي، يؤمن بالجبر بمفهومه الغليظ، ولا يترك للإنسان حرية للاختيار إلا في نطاق محدود جدا، وفق ما يتبين من مقولاته عن الأفعال المدعومة بآيات واضحات من القرآن، والتي سبق وأن أوردناها في موضوع "الإنسان بين ثنائية الجبر وحرية الإختيار". 

غير أن هذا التوجه الصوفي لدى الغزالي الفقيه والفيلسوف والصوفي المسلم، لا يجعله يقلل من شأن العقل" كما ذهب إلى ذلك بعض من منتقديه، حيث اتهموه بأنه عطل العقل ووأد الفلسفة بعد انتصاره على ابن رشد من خلال معالجته للمسائل العشرين في كتابه (تهافت الفلاسفة)، إذ كيف يكون ذلك وهو من وضع منهج الشك الذي نقل الفلسفة من مجال الميتافيزيقا إلى مجال المعرفة في عهد ديكارت كما سبقت الإشارة؟ .. فالغزالي يفرق بدقة العالم العراف بين الفلسفة والتصوف، فهو يؤمن بأهمية العقل وجدواه، لكن في الحدود التي خلق من أجلها، أي في مجال الشرع والطبيعة، في حين أن معرفة الحقيقة اللدنية من قبل الصوفي تكمن في مساحات اللامحدود وآفاق المطلق التي تفوق طاقة العقل ومجاله، لأنها من مجال الغيب، ولا تدرك إلا بالمجاهدة النفسية التي يحصل بها  الفيض أو الكشف القلبي، تماما كما حدث مع إبراهيم الخليل عليه السلام الذي جاهد في معرفة الله فلم يدركه بالعقل، فساعده تعالى بأن كشف له أسرار ملكوت السماوات والأرض بالفيض القلبي، فرأى من الأسرار ما رأى، وفق ما يؤكد ابن رشد نفسه.

أما ديكارت، فقد انطلق من إيمانه بمسلمة ذاتية تقول أنا المفكر أي (أنا أفكر إذن أنا موجود)، والتي تجد جذورها الإبستمولوجية في الفكر اليوناني القديم، كما يؤكد ذلك دمحمد عابد الجابري من خلال محاضرة ألقاها في معهد العالم العربي حول "القيمة الإبستمولوجية لفهم العقل الغربي المبني على الأنا"، التي لا تتحقق إلا من خلال فكرة الآخر"، والذي يتم اختياره وتشكيله وفق صورة نمطية ليلعب دور تحديد وترسيخ بنية الذات". لذا جاءت جميع خطوات ديكارت من الشك إلى الحقيقة تأكيدا لهذا الأنا المفكر" الذي اعتبره النقطة أو مركز الدائرة ومنطلق الوجود، لدرجة أن شك ديكارت بكل ما هو موجود من خارج هذا "الأنا المفكر".

وبالتالي، فلا يمكن لهذا الأنا المفكر" المتناهي أن يدرك بصورة يقينية الله اللامتناهي بالبرهان العقلي كما يعترف بذلك ديكارت نفسه. ويستشرف من مقولاته انه آمن بوجود الله، وحاول البرهنة على ذلك، إلا أنه كُلما اعتقد أنه تملك الحقيقة اليقينية، إلا وداعبه الشك من جديد، وحرّضه على التشكيك فيما أصبح يعتقد أنه حقيقة نهائية وصل إليها عن طريق الاستدلال العقلي والبرهان المنطقي الموضوعي.

وبذلك، يمكن القول أن منهج ديكارت تحول إلى نوع من العبث الذي وصل حد الشك في كل شيء بما في ذلك الشك في الشك نفسه. ومرد ذلك أن تطبيقه لهذا المنهج، وبخلاف تطبيق الغزالي، اعتمد طرح الأسئلة إلى ما لا نهاية بدون أن يكون له مرجع علوي يستند إليه، وبذلك لم يتمكن من الحصول على أجوبة يقينية، لأن اليقين في مجال الإلهيات لا يحصل من منطلق الذات بالبرهان العقلي، بل بالإيمان القلبي فقط، ما دام القلب هو بيت العرفان و عرش الرحمن والمرآة التي إذا صقلت أصبحت جاهزة لتلقي نور الإشراق والتجلي الوهبي. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق