بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 25 سبتمبر 2018

القـــرآن بيــن التفسيــــــر و التأويــــــل



لا شك أن أكبر معضلة واجهت المسلمين عبر التاريخ هي مسألة فهم القرآن الكريم بين التفسير والتأويل، وكل ما نلحظه من تصرفاتهم بالأمس أو ممارساتهم اليوم هو نتيجة طبيعية لهذا الفهم الذي يختلف حسب منهج كل فريق في بحثه عن المعنى المراد من كلام الله، بين من اعتمدوا "النقل" عن السلف بدعوى أنهم الأقرب إلى فترة النبوة وأحسن من فسروا الخطاب الإلهي على ضوء سنة نبيه، وبين من اعتمدوا "العقل" وأدوات "التأويل" مستعينين في ذلك بما وصلت إليه الفلسفة في زمانهم.../...

والفرق بين المنهجين يكمن في أن منهج التفسير بـ"النقل" يهدف إلى الوصول إلى معنى النص عن طريق تجميع الأدلة التاريخية واللغوية التي تساعد على فهمه فهما "موضوعيا"، أي كما فهمه المعاصرون لنزول الوحي من خلال المعطيات اللغوية التي يتضمنها وتفهمها الجماعة  بحكم التداول. أما التفسير بالرأي أو "التأويل"، فقد نظر إليه من قبل أهل السنة والجماعة على وجه الخصوص، على أنه تفسير "غير موضوعي"، لأن المفسر وفق قولهم، لا يبدأ من الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية، بل ينطلق من موقفه الراهن محاولا أن يجد في النص الديني (القرآن) سندا يدعمه. ولهذا أطلق على أصحاب الاتجاه الأول، وهم الفقهاء: "أهل السنة والجماعة"، في حين اعتبر أصحاب الاتجاه الثاني، وهم الفلاسفة والمعتزلة والشيعة والمتصوفة: "أهل الضلال" ووصل الأمر ببعض الفقهاء المتشددين حد تكفيرهم وحرق كتبهم كما حصل مع ابن رشد والحلاج وغيرهم كثير...

وإذا عدنا للثرات نفسه، فسنكتشف أن هناك تعريفات عديدة وردت في شأن فهم النص، منها من يعتبر أن التفسير والتأويل مترادفان بمعني واحد، ومنها من يعتبر التفسير أعم من التأويل لكثرة استعماله في الألفاظ، ومنها من يعتبر التفسير بمثابة بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازا، في حين يعنى التأويل بتفسير باطن اللفظ. وقد ذكر الذهبي مجمل هذه التعريفات نقلا عن أبو عبيدة والراغب والماتردي والثعلبي. وذهب آخرون إلى أن التفسير يتعلق بالرواية، في حين أن التأويل هو تفسير ما يبطنه اللفظ من إشارة. وقال بعض الصوفية أن: "التفسير هو بيان المعاني التي تستفاد من وضع العبارة، والتأويل هو بيان المعاني التي تستفاد بطريق الإشارة".

 أما من حيث المعنـــى و المدلـــــول:

       فالتفسير: لغة، هو توضيح المعنى الذي جاء به النص بأحسن وجه وأدق وصف.

    والتأويل: لغة، هو ترجيع الشيء إلى الغاية المرادة منه، أي الرجوع إلى أصل وحقيقة المعنى الأول الذي أراده المتكلم بالكلام. وهذا هو المعنى اللغوي الذي يعطيه مصطلح "التأويل" أي العودة إلى المعنى "الأول"، وهو ذات المعنى الذي يؤكد عليه القرآن الكريم في أكثر من آية وسياق، بسبب أن الخطاب الإلهي عام لكل الناس، لكن المعنى العميق لا يمكن أن يفهمه إلا الذين أتاهم الله العلم وفتح عليهم بالفهم.

وفي الأثر، أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعى لابن عباس فقال: ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل). وكون رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل كلمة "التأويل" بصريح العبارة، الأمر الذي يدحض مقولات "أهل السنة والجماعة" بحصر التفسير بمنهج النقل، لأنهم لو كانوا فعلا "أهل سنة" وأتباع "السلف الصالح" كما يدعون، لما حاربوا "التأويل" ولكانوا أول من اقتدى بسنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم واعتمدوا هذا المنهج باعتباره أحسن منهج يمكن من خلاله فهم المراد من الخطاب الإلهي، بدل الاستكانة إلى النقل الذي يعني الجمود والتكلس والتخلف، وهو ما يتعارض جملة وتفصيلا مع الاعجاز القرآني حين جعل الله القرآن صالحا لكل زمان ومكان، لأن التفسير يغلق النص على معاني محددة غير قابلة للتغيير، فيما التأويل يفتح النص في كل مرة على الأسئلة الجديدة والمتجددة.

كما أن معطيات التاريخ تدحض حجة أصحاب نظرية "التفسير بالنقل"، وفي هذا الصدد تجذر الاشارة إلى أن التمايز بين الاتجاهين "النقلي" و "العقلي" لم يكن حاسما بالوضوح الذي تطرح به القضية على المستوى النظري، فلم تخل كتب التفسير بالمأثور من عديد الاجتهادات التأويلية، حتى عند المفسرين القدماء الذين عاصروا في بواكير حياتهم نزول النص  وفق ما ذكر الطبري في "جامع البيان في تأويل آي القرآن"، وما أشار إليه كذلك السيوطي في "الاتقان في علوم القرآن"، والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا الباب.

كما أنه ومن جانب آخر، لم تغفل كتب "التأويل" الحقائق التاريخية واللغوية المتصلة بالنص كما يدعي أصحاب التفسير بالنقل.. ذلك أن للمعضلة بعدها "الميتافيزيقي" الماورائي، والذي لم يتنبّه له القدماء تنبها واضحا كما يلاحظ ذلك د. نصر حامد أبو زيد في "إشكاليات القراءة وآليات التأويل"، وهذه المعضلة هي: "كيف يمكن الوصول إلى المعنى 'الموضوعي' للنص القرآني؟.. لم يزعم أي من الفريقين قديما إمكان هذا، غاية الأمر أن المؤوّلة كانوا أكثر حرية في الفهم وفتح باب الاجتهاد، بينما تمسك أهل السنة والجماعة – وإن لم يقرروا ذلك صراحة – بإمكان الفهم الموضوعي على التغليب" أي ترجيح معنى على آخر، وإذا لم يكن هذا هو عين التأويل فما معنى التأويل؟.

وعودة إلى دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم وقول ابن عباس عن نفسه بعد ذلك: "أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله". فالتأويل هنا يحيل على الفهم الناتج عن العلم بحقيقة الأمور، أي التفقه في الدين الذي يصل حد معرفة حقيقة المعاني الظاهرة والباطنة المتضمنة في كلام الله تعالى. غير أن كلام ابن عباس الذي يحيل على ما ورد في الآية: 7 من سورة آل عمران حيث يقول تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)، لا يمكن أن يأخذ على إطلاقه، لأن بعض المعاني لم تتكشف في عصره إلى أن ساعد العلم لاحقا على إضائة بعض من جوانبها، كما أن كل ما يتعلق بالغيب لا يعلمه إلا الله تعالى ولا يظهره لأحد إلا لمن ارتضى من رسله، بدليل قوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) الجن: 27، مثل ما هو الحال في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام في سورة الكهف، وابن عباس لم يكن رسولا. ناهيك عن أن مدلول الآية 7 من سورة آل عمران التي يحتج بها ابن عباس، يفيد انحصار العلم بالتأويل فيه لله تعالى و اختصاصه به مع استثناء قلة من المقربين الخاصة وخاصة الخاصة ممن فتح الله عليهم بالفهم. وبالمحصلة، يقول الإمام الطباطبائي في تفسيره لهذه الآية (الميزان في تفسير القرآن): "فالمحصل من الآيات الشريفة أن وراء ما نقرؤه و نعقله من القرآن أمرا هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد و المتمثل من المثال،  وهو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم، وهو الذي تعتمد و تتكئ عليه معارف القرآن المنزل ومضامينه، و ليس من سنخ الألفاظ المفرقة المقطّعة ولا المعاني المدلول عليها بها، و هذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه و نعوته عليه. وبذلك يظهر حقيقة معنى التأويل، ويظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسّه الأفهام العادية و النفوس غير المُطهّرة".

ولمقاربة مفهوم "التفسير" و "التأويل" من النص الديني نفسه، علينا معرفة كيف عالج النص القرآني هذه المسالة المختلف عليها بين المسلمين قديما وحديثا؟

مفهوم التفسير والتأويل من القرآن الكريم:

وردت مفردة " تفسير" في القرآن الكريم مرة واحدة فقط من خلال الآية: 33 من سورة الفرقان، حيث قال تعالى: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا). ومفاده: توضيح الحقيقة بأحسن وجه وأدق وصف يقرب الصورة المراد تبليغها إلى الأذهان من خلال الأمثال التي يضربها الله تعالى في خطابه، ليدركها العامة لما للمثل من مكانة محورية في الثقافة الشعبية التي يقوم عليها العقل الجمعي للناس.

أما مفردة " تأويل"، فقد وردت لأهميتها في خمسة عشر آية من القرآن الكريم ضمن سياقات مختلفة، منها: التحذير من تحميل المتشابه في القرآن معنى غير الذي يتضمنه المحكم. ونصح المؤمنين بالرجوع إلى الله ورسوله لتأويل ما استشكل عليهم في حالة الاختلاف بينهم فيما يتعلق بتطبيق الشرع. وبمعني مصداق القول بواقع الحال يوم الدين وتنبيه المكذبين بالرسل والمشككين في كلام الله من عاقبة يوم يظهر الله فيه حقيقة كلامه. وجاء بمعني تفسير الأحاديث وكشف المعنى الباطن للرؤيا كما في سورة يوسف عليه السلام وما وهبه الله من قدرة على تفسير الرؤيا. وجاء بمعني العدل في الكيل والاستقامة على الصراط المستقيم فيما يتعلق بحقوق الناس من باب التأويل الحسن للأفعال بمعنى ترجيح الفعل الأفضل. وجاء بمعني عدم استباق الأمور والحكم عليها قبل معرفة الحقائق الخفية الكامنة وراء ظاهر الأفعال وردّها في حالة الصعوبة إلى الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ومثال ذلك ما ورد في قصة موسي والخضر عليهما السلام في سورة الكهف، كما سبقت الإشارة.

القـــرآن و التــــــراث:

وإذا كانت الغاية من الرسالة هي إيصال كلام الله إلى عباده، فإن أقوال الرسول - أي رسول – هي بالنهاية أقوال مبيّنة لمجمل ما ورد في كلام الله من تعاليم، دون الخوض في التفاصيل الدقيقة للمعاني التي تعطيها آليات الفهم، وإلا لأصبح النص مغلقا لا يقبل التحدي بآليات التفكيك والتحليل والتدبّر، ولن يكون بالتالي صالحا لكل مكان وزمان كما نعتقد كمؤمنين. فمهمة الرسول وفق ما يحدده مدلول الاسم، هي تبليغ رسالة السماء إلى قومه بأمانة دون زيادة أو نقصان، وليس تشريع ما لم يأمر به تعالى، أو سن ما يخالف جوهر الدين وطبيعة الرسالة، كما حصل مع الرسالات السابقة لمّا حرّف الأحبار والرهبان تعاليم السماء، لأهداف لا علاقة لها بالدين بقدر ما كانت تخدم أهواء الساسة واكراهات السياسية لقوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) البقرة: 79. ولهذا السبب بالذات، أنزل الله تعالى القرآن وتكفل بحفظه ليكون حجة عليهم وعلى الذين يأتون من بعدهم إلى قيام الساعة فقال: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر: 9. وتعهد سبحانه بجمعه وقرآنه وببيانه لقوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه) القيامة: من 17 إلى 19.

ولهذا السبب تحديدا، نهى الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم أصحابه عن تدوين أقواله التي عرفت فيما بعد بـ"علم الحديث"، لكن، وكعادة المزورين حين اصطدموا بحديث للرسول رواه أبي سعد يقول: (لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه)، زعموا أنه حديث منسوخ لأنه يتعارض مع قوله (اكتبوا لأبي شاة)، وهو رجل من اليمن طلب من الصحابة يوم فتح مكّة أن يكتبوا له خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا علما أن أهل الحديث كتبوا عشرات آلاف الأحاديث ونسبوها إلى النبي إلا خطبه التي تجاهلوها بالمطلق، ولم يصلنا منها إلا خطبة الوداع. والغريب أن الذين أباحوا كتابة الحديث يتجهالون الشق الثاني من حديث النهي المذكور أعلاه، والذي يقول (ومن كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النار)، ويبررون ذلك بالقول، إن النهي كان بسبب الخوف من أن يختلط كلام الله بكلام رسوله، لكن بعد أن اكتمل القرآن لم يعد هذا المنع قائما.

وللتذكير، فالرسول صى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، وبعد أن اكتمل القرآن، لم يقل للحاضرين في حينه أن يبلغوا عنه القرآن والحديث بالمطلق، بل قال بصريح العبارة (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا، كتاب الله)، ولم يذكر لا سنته كما زعم أهل السنة والجماعة، ولا عثرته كما زعم الشيعة.

خصوصا وأن الله تعالى أمر عباده بالاكتفاء بالقرآن وتدبر معانيه عملا بقوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد: 24. فالقرآن وفق ما يؤكد صاحبه، لم يفرط في شيء (ما فرطنا في الكتاب من شيء) الأنعام: 38. وجاء تبيانا لكل شيء (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) النحل: 89. وكاملا غير منقوص لقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) المائدة: 3. وفيه ما يغني عن غيره من المراجع في شؤون الدين والدنيا معا لقوله عز وجل: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) المائدة: 38. وحذرهم الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم من يسيروا على نهج من استبدلوا التوراة والإنجيل بكلام الكهنة، وأكد لهم تعالى أن الرسول سيبرئ يوم القيامة ممّن أدار لكتاب الله ظهره واستبدله بكلام غيره لقوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان: 30.

لكن، رغم أمر الله وتحذير رسوله الأعظم، أصبحنا كلّما أردنا الحديث عن الدين، إلا وخضنا في القرآن والتراث (من سنة وأقوال الفقهاء) بشكل متلازم، دون التفريق بين سنن الله وحياة رسله وشريعة الفقهاء، الذين نصبوا أنفسهم حراسا للعقيدة. من هنا نشأ سوء الفهم الكبير حول الدين والدنيا معا، فتولّدت جرّاء ذلك حدود دموية، رسمتها الطوائف والمذاهب، ودق متاريسها الاختلاف بين المسلمين أتباع نفس الرسالة وبينهم وبين المسلمين أتباع الرسائل السماوية السابقة برغم تنبيه الله لهم باجتناب ذلك، خاصة في ما هو بيّن وواضح في كتابه العزيز لقوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) آل عمران: 105. ويحدد بالتالي موقفهم السلبي من الآخرين: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً) النساء: 94. والله تعالى يقول: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 62. فجعل عباءة الإيمان شاملة للجميع، وليس فقط لأتباع الرسالة المحمدية.

    -    فعن أي إسلام يتحدث الفقهاء..؟

لقد يسبق للمسلمين الأوائل خلال عشرات السنين بعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن عرفوا شيئا اسمه "الفقه" باعتباره علما منتجا للتشريع، ولا "الكلام" باعتباره جدلا يتناول المفاهيم الدينية من وجهة نظر عقلية. كما أنهم لم يعرفوا "العرفان الصوفي" بالمفهوم الذي تطور به في أواخر القرن الثاني للهجرة، اللهم إلا نزر يسير من بواكير الزهد والوجدان الروحي الذي يغلب عليه الطابع الاجتهادي الدفاعي عن المبادئ الإسلامية الأساسية، كما عرف في بداياته الأولى عند الأئمة الشيعة انطلاقا مما أسموه بـ "الفلسفة النبوية" أو "علم القلوب" الذي وضع أسسه الامام علي كرم الله وجهه.  

ويعتبر المعتزلة أقدم من زاول "علم الكلام" كما هو معلوم، فأقاموا ما عرف في التاريخ الاسلامي بـ 'المدرسة المعتزلية'، وهي مؤسسة اتسمت في بداياتها بالطابع الديني التأويلي على أساس عقلي، ثم سرعان ما تحولت إلى إيديولوجيا سياسية تسعى إلى فرض قناعاتها على المعارضين بواسطة سيف السلطة. فحاولت معالجة قضايا دينية كبري معالجة عقلية بحتة، في حين أن طبيعة هذه القضايا الحساسة، لارتباطها بمبدأ التوحيد الذي يقتضي معرفة الله ذاتا وموضوعا، تتمنّع عن الإدراك العقلي بحكم ضيق مساحته ومحدودية أدواته، بالإضافة لتناولها لقضايا كبري تهم مبدأ العدل الذي يقوم عليه اجتماع الأمة، ويعتبر الغاية من كل اجتماع. من هنا نشأ الخلاف المعروف بين رواد هذه المدرسة من "أصحاب الرأي" والمدافعين عن منهج النقل وتحريم استعمال العقل من "أصحاب النقل"، المنضوين تحت لواء "أهل السنة والجماعة" كما سماهم معاوية ابن أبى سفيان، أو "أهل السنة وأتباع السلف الصالح" كما اصطلح على تسمينهم تلامذة ابن تيمية. وهي المدرسة التي اعتمدت منهج تفسير القرآن بالمأثور، وضرورة الوقوف عند المعنى الظاهر الذي تعطيه لغة القرآن في التفسير، دون اللجوء إلى التأويل، ومنهم الظاهرية والمجسّمة... ثم دخل على الخط الأشاعرة، فحاولوا في البداية لعب دور توفيقي بين الفريقين، إلا أنهم لم يسلموا من نقد المعتزلة لهم، فتحولوا بالتالي إلى خصوم شرسين، يحاربون المعتزلة بسلاحهم، أي باللجوء إلى سلاح التأويل استنادا إلى آليات المحكم والمتشابه والكناية والمجاز وما إلى ذلك من قواعد الكلام التي برع فيها المعتزلة بشكل لافت. ومعلوم أن أبو الحسن الأشعري، مؤسس المذهب الأشعري كان معتزليا في الأصل، فانقلب على مذهبه وخرج إلى مسجد البصرة ثم نادى في الناس بأعلى صوته: "من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي.. أنا فلان بن فلان، كنت أعتقد بمذهب الاعتزال، وكنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا تراه الأبصار منكرا أن تكون لله صفات إيجابية.. وأنا تائب مقلع، معزم الرد على المعتزلة، مخرج لفضائحهم ومعايبهم". ويقال أن سبب هذا التحول في قناعات الأشعري مرده إلى رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات في منامه، وأنه سمع في نفسه هاتفا داخليا يدعوه إلى الهداية النبوية.

وقد بلغت المدرسة المعتزلية أوج ازدهارها في العصر العباسي، من أيام خلافة "المأمون" إلى عهد "المتوكل"، مرورا بـ "المعتصم" و "الواثق"، حيث فرض مذهبهم بالقوة، باعتباره المذهب الرسمي للدولة وفق ما يخبرنا التاريخ.  لكن في عهد المتوكل عام  846 م، أعلنت الحرب على هذه المدرسة، فأقصي رجالاتها وتم تقريب أهل السنة والجماعة من بلاط الخليفة، فكانت بداية النهاية. ودق آخر مسمار في نعشها، عندما أعلن الإمام أبو حامد الغزالي الحرب عليها بلا هوادة، إلى أن هاجم آخر معاقل المعتزلة وحصنها المنيع في حينه، الفيلسوف الكبير ابن رشد، فانتقد في كتابه "تهافت الفلاسفة" شروح ابن رشد للمسائل العشرين المتعلقة بالإلهيات، ورد عليه هذا الأخير بكتاب "تهافت التهافت".. فكان ما كان ممّا سجله التاريخ من حرق كتب ابن رشد واضطهاده وطمس آخر معالم المدرسة المعتزلية التي لم يعد بمقدورها الدفاع عن قناعاتها في مواجهة الفكر الأشعري السني، والفلسفة النبوية الشيعية، وحقائق العرفان الصوفي.. فوضعت سلاحها وانسحبت من حلبة الصراع إلى الأبد...

والحقيقة، أن أصل الاختلاف بين الفرق المتكلمة وسببه، يعود بالأساس إلى التصور الذي كان لدى كل فريق عن ماهية الله تعالى، إذ من منطلق النظرة السكونية أو الدينامية التي كانت لدى كل واحد منهم عن ماهية الله ذاتا وموضوعا، تولدت الشروح والتفاسير المختلفة لمبادئ الدين وأسسه، وتطورت المفاهيم حول القضايا الرئيسة المرتبطة بالوجود والمعرفة، كالتوحيد والعدل، والوعد والوعيد، ومرتكب الكبيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من المساءل الكبري التي عرفها تاريخ الكلام.  فالتوحيد وان كان يمثل جوهر العقيدة، ويعتبر المبدأ الأساسي الذي يجمع عليه الجميع، إلا أن هذا الإجماع لم يكن يعني أن كل الفرق الإسلامية تتفق حول مفهومه. فهناك كما يقول هنري كوربان في (تاريخ الفلسفة الإسلامية – ص:176) من له نظرة سكونية (Statique) للكائن الإلهي لا دينامية (Dynamique) كما كان الحال عند المعتزلة مثلا، حيث أنها (أي النظرة): "تقتصر على الكائن المطلق ولا تمتد إلى نطاق الكائن غير المطلق، وتؤدي في النهاية إلى نفي الصفات الإلهية وإلى إثبات خلق القرآن ونفي كل إمكانية لرؤية الله في الآخرة". وفي المقابل كان هناك المجسمة من أهل الظاهر الذين يقولون برؤية الله في الآخرة، وأن لله سبحانه وتعالى عما يصف الجاهلون حواس وأعضاء على شاكلة الإنسان، وكانوا يسمون المعتزلة بـ "المُعطّلة"، أي بمن عطّلوا صفات الله لحساب حرية الإنسان وإرادته ومسؤوليته عن أفعاله، في حين سمّي أهل السنة والجماعة بمن فيهم الأشاعرة بـ "الصفاتية"، بحكم أنهم كانوا يؤمنون بأن لله صفات فاعلة في الوجود. إلا أن بعض السلف قد بالغ في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات.

أما الأشاعرة، فاقتصروا على تعريف الصفات من حيث دلالة الأفعال عليها، وحمل ما ورد حول الحواس والأعضاء على المجاز من باب تقريب المعنى للعوام، باعتبار أن القرآن نص يحمل أكثر من دلالة (ظاهر وباطن وحد ومطلع)، ويخاطب الجميع بأسلوب مفتوح، يحتمل أكثر من وجه، وهو ما يتناسب مع فهم الناس كل حسب حاجاته ومستوى علمه وقدرة فهمه وإدراكه. ولهذا السبب قال الإمام علي عليه السلام (القرآن حمّال أوجه).. وقد لعبت هذه النتائج الخطيرة دورا مهما في الفكر الإسلامي، ودفعت بالأمة الإسلامية إلى مراجعة نفسها، لغاية أن تعي من جديد القيم الدينية الأساسية والثابتة الواجب التشبث بها والدفاع عنها.  

وقد عرض الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين – ص: 216) لمبدأ توحيد المعتزلة بقوله: "إن الله واحد ليس كمثله شيء وليس بجسم.. ولا شخص ولا جوهر ولا عرض.. ولا يجري عليه زمان.. ولا يجوز عليه الحلول في الأماكن ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم.. وليس بمحدود ولا والد ولا مولود.. ولا تدركه الحواس.. ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه.. ولا تراه العيون.. ولا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأوهام.. شيء لا كالأشياء. عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء. وأنه القديم وحده لا قديم غيره ولا اله سواه.. ولا معين له على إنشاء ما أنشأ ولم يخلق الخلق على مثال سبق".

ووفق هذا التعريف، كان الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة يتمحور حو مجموعة قضايا  أساسية أبرزها:

      -   القضية الأولي: تتعلق بالصفات كما سبقت الإشارة، حيث لم يستسغ الأشاعرة قول المعتزلة بأن ذات الله هي مجردة من كل صفة، نظرا إلى أن الصفة وفق تصور المعتزلة، "تلحق بالشيء" بعد أن تكون له "ذات"، وصفات الله إن لحقت الذات كانت الذات "ناقصة" قبل وجودها فكملت بها، والله سبحانه وتعالى كامل الكمال المطلق.. وان قيل بأن الصفات قارنت الذات في الوجود، كانت بهذا المعني قديمة قدم الذات، ولا يجتمع قديمان في الوجود. يقول الشهرستاني في هذا الصدد: "فالذي يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد، القول بأن الله تعالى قديم، والقدم أخص وصف لذاته، ونفوا الصفات القديمة أصلا فقالوا: "هو عالم لذاته، قادر لذاته، حي لذاته، لا بعلم، وقدرة، وحياة... لأنه لو شاركته الصفات في القدم لشاركته في الألوهية".

غير أنه من اللافت أن ينتبه مُعمّر وهو أحد رءوس المعتزلة الكبار، وبخلاف طائفته، إلى إشكالية القدم من أساسه، فينكر أن "يكون الله موصوفا بالقدم، لأن ذلك يشعر بالتقادم الزماني، ووجود الله ليس بزماني"، (تاريخ الفلسفة في الإسلام – ص: 144). وهذا قول صحيح يتساوق بشكل تام مع الحقيقة الصوفية وفق ما ذهب إليه العرفان الاشراقي، فالله تعالى لا يوصف بالقديم وكلامه ليس محدثا، بل هو أول وآخر وظاهر وباطن، لأن في البدء كانت الكلمة، والكون كله مخلوق بكلمة "كن"، وكل ما يحدث هو إما قضاء مبرم لا راد له، أو قدر يتغير بمشيئته، لأنه هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، محيط بكل شيئ ومدبر للكون وشؤون الخلق، وهذا هو مفهوم العدل الإلهي الشمال. أما القدم، فصفة إنسانية لها علاقة بمفهوم الزمن التاريخي، لا تنسحب على الله الذي لا يجري عليه زمان ولا يحده مكان، لأنه هو من يحرك الكون فيُولّد الزمن والمكان والأحداث والتاريخ بعلمه وإرادته، ولا شيئ يمكن أن يخرج عن مشيئته لقوله تعالى: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما) الإنسان: ٣٠. وهذا هو ميزان الله لمعرفة حقيقة الأشياء التي يستحيل أن يدركها ميزان العقل الذي حاول المعتزلة تأليهه ورفعه فوق مرتبة الوحي من خلال القول أن القرآن نص تاريخي مخلوق.

وما عدا هذا التفصيل المميّز المتعلق بالقدم والحدوث، فان المعتزلة كافة، اتفقوا على نفي التشبيه عن الله سبحانه وتعالى من كل وجه: "جهة، ومكانا، وصورة، وجسما، وتمييزا، وانتقالا، وزوالا، وتغييرا، وتأثرا".  ويعلق الشهرستاني على هذا الرأي بقوله: "والفرق بين قول القائل "عالم بذاته لا بعلم"، وبين قول القائل: "عالم بعلم هو ذاته"، أن الأول نفي الصفة، والثاني أثبت ذاتا هو بعينه صفة، هي بعينها ذات". ويعلق دي دوبري في كتابه (تاريخ الفلسفة في الإسلام - ص: 117)، على هذا الرأي بما مفاده، أن تسمية الصفات وجوها للذات الإلهية، هو نفس ما فعله النصارى من قبل، وكان سهلا على المعتزلة وغيرهم ممن كانوا متأثرين بفلسفة ذلك العصر، أن يؤولوا الصفتين (السمع والبصر) تأويلا ينفي عنهما الصفة الحسية.. كما أولوا رؤية الله يوم القيامة.. لأنهم كانوا في الجملة يعتبرون السمع والبصر من أعمال الروح.

أما بالنسبة للأشاعرة، فالقضية محسومة، اذ لا يعقل أن تكون هناك ذات من غير صفات، وأن أي كائن يفقد وجوده إذا فقد صفاته، فكيف برب الوجود؟، وماذا نفعل بكل تلك الصفات التي ذكرها الله في القرآن وامتدح بها نفسه؟ وقد جاءت بأكثر من صورة.. في صورة الفعل – ماضيا ومضارعا – وفي صورة المصدر ومشتقاته من اسم "فاعل" وصيغ المبالغة منه. يقول القاضي الأشعري  أبو بكر الباقلاني في الصفات: "والدليل على أن الله متكلم بكلام قديم، ومريد بإرادة قديمة.. أنه تعالى مالك، والمالك من له الأمر والنهي في ملكه" (الله ذاتا وموضوعا – عبد الكريم الخطيب – ص:420 وما بعدها).  ويقول أبو حامد الغزالي ردا على الذين ينكرون أن تكون لله "ماهية" فيقول: "وجود بلا ماهية ولا حقيقة.. غير معقول. فلا نعقل عدما مرسلا، إلا بالإضافة إلى موجود يقدر عدمه.. أي نفترض عدمه بعد أن كان موجودا.. ولا نعقل موجودا مرسلا إلا بالإضافة إلى حقيقة معينة، لا سيما إذا تعين في ذات واحدة. فكيف يتعين واحد متميز عن غيره – وهو ذات الإله - بالمعني.. ولا حقيقة له؟ فان نفي الماهية نفي الحقيقة، وإذا نفيت حقيقة الوجود لم يعقل الوجود. فكأنهم قالوا: وجود ولا موجود. وهو متناقض" (تهافت الفلاسفة - ص: 48).

ومرد هذا الإشكال يعود لكون المعتزلة كما الأشاعرة لم يدركوا ماهية الله الحقيقية ليؤسسوا عليها منطقهم الصوري، وهو الموضوع الذي ستناوله بتفصيل في باب "الله ذاتا وموضوعا".

      -   القضية الثانية:  تتعلق بـ "خلق القرآن": حيث جاءت كنتيجة طبيعية لمقولة "نفي الصفات" الايجابية عن الله تعالى، ومن تلك الصفات "الكلام" والقرآن كلام الله، وبالتالي فالقرآن وفق رأيهم مخلوق، أي حادث.. لأنه لو كان قديما لكان لله صفة الكلام، ولكانت تلك الصفة قديمة، ولا يجتمع قديمان كما أشرنا.. فالقول بأن القرآن مخلوق، ينفي صفة القدم عن القرآن، ويجعله خلقا مما يخلق الله.. والخطير في الأمر، أن الدولة اشتركت في هذه المحنة إلى جانب المعتزلة بقوتها وسلطانها، وأصبح القول بخلق القرآن سياسة رسمية مفروضة بالقهر، وكان من معارضة الإمام أحمد بن حنبل لهذا القول أن تسببت له في الكثير من الضر والأذى. (نفس المرجع السابق – ص:428). 

ولقد أثار القاسم الرس المعتزلي قضية خلق القرآن عند تأويله لقوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليما) النساء: 164. حيث رأى وبخلاف المشبّهة الذين ذهبوا إلى أن الله تعالى عما قالوا علوا كبيرا، يتكلم بلسان وشفتين، وأن كلامه لموسى عليه السلام خرج منه كما يخرج الكلام من المخلوقين، وهو قول ينمّ عن جهل فظيع بطبيعة الله سبحانه وتعالى. في حين أن معنى كلام الله لموسى عند أهل الإيمان والعلم وفق رأيه: "أنه أنشأ كلاما خلقه كما شاء سبحانه، فسمعه موسى عليه السلام وفهمه". وهو ما يعتبر دليلا على أن كلام الله بما في ذلك القرآن ليس بقديم، بل مخلوق في وقته وظروفه (رسالة العدل والتوحيد 1/109). وقد ينطبق مثل هذا القول على طبيعة لغة التواصل البشرية المحدثة، لكنه لا يصدق على الكلام الإلهي الأزلي، المعبر عن علم الله الأول عن طريق الوحي الذي هو رموز وإشارات من نور تنفذ إلى القلب فيعقلها، ومن ثم تترجم بلغة القوم المتداولة في زمانها، وواضح أن الخلط القائم بالنسبة لهذه القضية، مرده عدم التفريق بين الإشارة الإلهية وترجمتها إلى اللغة البشرية.

وهذا ما لم ينتبه له المعتزلة من وجهة نظرنا، لأن اللغة الإلهية هي لغة إشارية صامتة، أي رسالة رمزية خفية، وبالتالي، لا يمكن أن تكون بحال من الأحوال لغة شبيهة بلغة البشر التواصلية التي تتطلب النطق بالأحرف والكلمات. وهذا ما أنكره القرآن بالمطلق. فوفق ما أورده القرطبي من أسباب نزول الآية موضوع المجادلة، أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة وتوجه بالدعوة إلى اليهود للدخول في الإسلام، أجابوه باستفزاز وتحدي قائلين: "ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك". فجاء رد الله سبحانه وتعالى حاسما ينكر ما ادعوه، ويوضح حقيقة وطبيعة كلام الله: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء انه عليّ حكيم) الشورى: 51.. وبما أن موسى عليه السلام بشر مخلوق اختاره الله نبيا ورسولا، فبالتالي لا يمكن أن يُستثنى من قاعدة الوحي باعتبارها لغة إلهية إشارية على شكل وميض من نور ينفذ إلى القلب فيحصل به الفهم المراد. ولقد حدد سبحانه وتعالى طبيعة كلامه بأنه وحي، أي وميض عبر إشارات سريعة من نور على ما عرّفه الراغب، وأن شكل هذا الكلام (الوميض) لا يتم إلا بطرق ثلاث وفق ما ذكره د. محمد عابد الجابري في مدخله إلى القرآن الكريم (ج: 1 – في التعريف بالقرآن - ص:100):

-         الأولى: مستوى الوحي بمعني الإلهام و "التسخير"، سواء تعلق الأمر بالجماد مثل قوله (وأوحى في كل سماء أمرها) فصلت: 12. أو بالحيوان كقوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) النحل: 68. أو بالإنسان كقوله: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) القصص: 7. وهو النوع الذي كان مشهورا عند العرب باسم "الإلهام".

-        الثانية: مستوى الكلام من وراء حجاب بين الله وعبده، كما كان الشأن مع موسى عليه السلام، قال تعالى: (وكلم الله موسى تكليما) النساء: 164. وهذا النوع يعرفه اليهود كما عرفه العرب ما قبل الإسلام عن طريقهم، ويدخل فيه من معهود العرب، الكهانة والسحر والعرافة وما أشبه، مما يكون نوع من الإنباء  بواسطة "حجاب" مثل قراءة الكف والفنجان. وهي اللغة التي كانت سائدة في المجتمع في عهد موسى كما يستنتج محمد عابد الجابري في معالجته لهذه المسألة.

-       الثالث: مستوي الوحي عن طريق وسيط، بأن يبعث الله ملاكا رسولا، هو جبريل عليه السلام ينقل كلام الله إلى الانسان الذي اختاره الله رسولا إلى البشر. وهذا النوع لم يكن للعرب علم به، لا في معهودهم الخاص، ولا فيما كان يمكن أن يعلموه بواسطة أهل الكتاب. لأن مفهوم الوحي عند هؤلاء غيره زمن القرآن.

ودليل أن كلام الله سبحانه إلى موسى عليه السلام كان وحيا من وراء حجاب، نجده في سياق الآية 163 و 164 من سورة النساء، حيث يقول تعالى: (إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً  *  وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً) النساء: 163 – 164. وواضح أن مخاطبة الله لجميع أنبيائه ورسله من دون استثناء، سواء الواردة أسمائهم في القرآن الكريم  أو أولائك الذين لم يذكرهم، كانت عن طريق الوحي بواسطة، أي من خلال جبريل عليه السلام، باستثناء موسى عليه السلام الذي كلمه تعالى وحيا من وراء حجاب. وبذلك يكون مفهوم (تكليما) الواردة في آخر الآية هو من باب المجاز الذي يحيل على معنى الوحي المباشر من غير وسيط وليس على الكلام المباشر بالمفهوم البشري، خصوصا وأن الله تعالى امتدح نفسه بأن ليس كمثله شيء، وبالتالي، لا يمكن أن يشبه البشر لا في الكلام ولا في السمع ولا في البصر.

أما ما قيل حول "الحدوث" أو خلق القرآن، فطبيعة كلام الله الذي هو نور دائم تنفي مثل هذا القول كما أسلفنا. لأن كلمات الله وان كانت صامتة في انتظار من يستنطقها، فهي حيّة لا تموت، تنبض بالحركة في كل وقت وحين، باعتبارها حبل الله المتين الذي يتفاعل الانسان من خلاله مع ربه، فيحيي به قلبه، وينير عتمات الجهل الكامنة في عقله. يقول تعالى في هذا الشأن: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها...) الأنعام: 122. وواضح أن النور الذي يتحدث عنه تعالى في قرآنه يعني وحيه. وبهذا المعني، لا يكون الكلام مخلوقا بالمفهوم الزمني التاريخي، لأنه نور صادر عن الله الذي هو نور السماوات والأرض. أما مدلوله، فسابق في علم الله العلي العظيم، ومصداقه متضمن في اللوح المحفوظ قبل وجود الخلق. فلا تبديل لكلمات الله إلى أن يرث الأرض ومن عليها، وكل ما يمكن أن يتغير من عصر إلى آخر هو فهمنا لهذا الكلام وليس الكلام نفسه، وهذا هو عين الإعجاز.

أما الصوفية، فنجد أن لابن عربي مفهوم خاص ينفي من خلاله ثنائية "القدم والحدوث" التي قال بها المعتزلة، سواء على مستوي الصفات الإلهية أوعلى مستوى العالم، انطلاقا من الموازاة التي يقيمها بين اللغة والوجود من جهة، واللغة والقرآن من جهة أخرى.  يقول الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه (فلسفة التأويل – دراسة في تأويل القرآن عند ابن عربي – ص: 336): " وإذا كانت الموجودات هي كلمات الله، وكلامه قديم محدث، فالموجودات الكلمات لها وجه إلى القدم من حيث وجودها السابق القديم في علم الله في صورة الأعيان الثابتة، ولها وجه إلى الحدوث من حيث ظهورها في أعيان صور الموجودات الحسية. هذان الجانبان للوجود ينعكسان في مفهوم ابن عربي للغة.  وإذا كانت دلالة اللغة الإنسانية – ظاهر اللغة الإلهية – دلالة اتفاقية وضعية عرفية، فان دلالة الكلمات الإلهية – باطن اللغة الإنسانية – لا تقوم على الوضع والاتفاق، بل تستند إلى أعيانها ومعانيها الثابتة في علم الله القديم".  وهو ما أكده ابن عربي بقوله: " فتحدث المعاني فينا بحدوث تأليفها الوضعي. وما وقع فيها الوضع في الصور المخصوصة إلا لذاتها لا بحكم الاتفاق ولا بحكم الاختيار، لأنها بأعيانها أعطت العلم الذي لا يتحول والقول الذي لا يتبدل" (الفتوحات المكية 4 / 65).

ومفاد هذا الكلام، أن القرآن، هو كلام الله القديم بالمعنى المجازي للقدم من حيث المدلول المستقر في علمه تعالى منذ الأزل، وكلامه المحدث من حيث الترجمة إلى اللغة البشرية زمن نزول الوحي، أي لسان القوم الذي نزل به الكلام وفق شروط الزمن المحدث (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) إبراهيم: 4. غير أن القدم والحدوث هنا لا يكونان إلا بالمفهوم الوجودي العقلي لا بمفهوم الزمن التاريخي القدساني الذي لا يقاس بالزمن الدائري الذي تولده حركة الكواكب والأجرام في الكون، أي بمعنى المرتبة المنطقية التي يحكم بها العقل، فيقدم مثلا الحياة على العلم، والعلم على الإرادة، والإرادة على الفعل، والفعل على النتيجة...الخ... وبذلك، ينجح هذا النوع من التفسير العرفاني، في حل إشكالية القدم والحدوث من جذورها، ويضع حدا نهائيا  للجدل الخطير الذي نشأ بين المعتزلة والأشاعرة حول معضلة قدم أو حدوث "كلام الله"، التي عرفت في التاريخ الاسلامي بمحنة "خلق القرآن"، وتطورت في العصر الحديث تحت مسمي " تاريخانية النص"، لنزع طابع الأزلية والإطلاق عن القرآن، وإخضاعه بالتالي لمبدأ النسبية، مثله مثل باقي النصوص البشرية التاريخية. وذلك، بناء على مقولات أطلقها المستشرقون من أمثال "جوزيف فان ايس" الذي يصفه الدكتور محمد أركون بالعالم الكبير، ويحلو له الاستشهاد بأقواله في كتاباته، لجهة التأكيد على صحة أطروحة المعتزلة القائلة بخلق القرآن. غير أن المستشرق المذكور يحتاط في اختيار ألفاظه ويزنها بدقة لتلافي الخلط بين المعنى واللفظ في القرآن الكريم، فيقول في دراسة له بعنوان: (القرآن كنص – 1996 – ص:180 وما بعدها): "بصفتي مؤرخا وغير مسلم، فإنه لا ينبغي عليّ أن أسأل من هو على صح ومن هو على خطأ... في الواقع أن من يعتقد أن تلاوة القرآن غير مخلوقة يضحي بالعقل". وواضح أن التلاوة المشار إليها في نص المستشرق لا تعني خلق المعاني، بل تفيد الترجمة إلى اللغة العربية لكلام الهي سبق وأن قيل لأقوام آخرين في رسالات عديدة سابقة لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم بلغات مختلفة. فإذا كان خلق القرآن يفيد ترجمة المعاني الإلهية من زمن إلى آخر باللغة البشرية، فنحن أمام صيرورة وجودية لحقيقة ثابتة اسمها "التوحيد" تجدد نفسها في كل مرة، عن طريق رسائل مترجمة إلى لغات بشرية مختلفة، شملت كل البشر من دون استثناء.. فعن أي تاريخ يتحدث أركون وغيره؟ هل هو تاريخ المعاني أم تاريخ اللغات التي كتبت بها عبر مسار الخلق من نوح إلى محمد عليهم الصلاة والسلام جميعا؟.. هذا هو السؤال الذي يتجنب الإجابة عنه كل من يقول بتاريخانية النص المقدس، في إحالة ضمنية إلى كل النصوص المنسوبة إلى الله تعالى من توراة وإنجيل وقرآن، مع تحفظنا بالنسبة للتوراة والإنجيل، بسبب التحوير الذي طال نصوصها من قبل الأحبار والرهبان قديما، فأضاع تركيبة ألفاضها الأصلية وأثر بالتالي في نقاء معانيها، ونحن نعرف أنه تم استبدال لغة الوحي التي نزلت بها التورات والإنجيل بلغات بشرية كتبها رجال الدين وتصرفوا في تراكيبها ومعانيها وفق أهوائهم.

      -   القضية الثالثة : التي طرحها المعتزلة ضمن أصول مذهبهم، تتعلق بنفي رؤية الله في الدنيا والآخرة. ولقد عرفت هذه القضية جدلا واسعا وعميقا بين المعتزلة وخصومهم الأشاعرة.  وهو نقاش أورده مختصرا الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه "الاتجاه العقلي في التفسير – دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة – ص: 190 وما بعدها"،  حيث أشار إلى نفي المعتزلة لمسألة الرؤية عن الله لارتباطها بنفي "الجسدية" عنه تعالى، كما سبق وأشرنا. وفي الوقت الذي كان المعتزلة ينفون الرؤية عن الله في الدنيا والآخرة، كان الأشاعرة يؤكدون حقيقة رؤيته في الآخرة. غير أنه وأثناء مناقشتهم لقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) برزت إشكالية المعنى الذي يحيل عليه تأويل كلمة "الأبصار". ذلك أنه ومع اتفاق الطرفين وتسليمهم بحقيقة أن معنى "لا تدركه الأبصار" تفيد استحالة أن تلحقه الأبصار أو تحيط به  من ناحية الإبصار بالرؤية، لا الإدراك العقلي  بمعني "الفهم" كما حاول الأشاعرة الإيهام بذلك في البداية، إلا أن الشطر الثاني من الآية يفيد أنه سبحانه "يُدرك الأبصار"، وهو ما يوحي – وفق اتهام الأشاعرة للمعتزلة - بالقول أن الله تعالى يرى نفسه بنفسه باعتباره من المُبصرين، بالرغم من نفي الجسدية عنه تعالى. وفي الوقت الذي يعتبر الصوفية أن الله سبحانه بهذا القول إنما يرى نفسه بنفسه ما دام أن لا شيء يوجد معه أو من خارجه،  كان المعتزلة ينفون هذا القول ويحاولون الرد على هذا الإشكال المثار بدليل عقلي فحواه: "أن الله تعالى وان كان مُبصرا، فإنما يري ما تصح رؤيته، ونفسه يستحيل أن تُري – بسبب أنه تمدح بنفي الرؤية عن نفسه مدحا يرجع إلى ذاته، وما كان نفيه راجعا إلى ذاته فان إثباته نقص، والنقص لا يجوز على الله تعالى".

ولا يكون هذا الإشكال واردا على مفسر معتزلي كالزمخشري لأنه لم يتأول "الأبصار" على أنها "المّبصرون" كما فعل القاضي عبد الجبار، وإنما البصر عنده "هو الجوهر اللطيف الذي ركّبه الله في حاسة النظر وبه تدرك المُبصرات، فالمعني أن "الأبصار" لا تتعلق به ولا تدركه لأنه متعال أن يكون مبصرا (برفع الميم و فتح الصاد) في ذاته، لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة مقابلة أو تابعا كالأجسام والهيئات، (وهو يدرك الأبصار) وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك، (وهو اللطيف) يلطف عن أن تدركه الأبصار، (الخبير)  بكل لطيف يدرك الأبصار، لا تلطف عن إدراك وهذا من باب اللطف". والزمخشري بهذا التفسير اللغوي البلاغي، كما يقول د. نصر حامد أبو زيد، إنما نأى بنفسه عن الإشكال الذي يثيره تأويل "الأبصار" بالمبصرين، لكنه من الناحية المعرفة لم يحل الإشكال. وغريب أن يلجأ الزمخشري إلى نفس آلية التأويل عند المتصوفة، والتي اشتهر بها بشكل خاص ابن عربي والغزالي، بأن يربط كلمة "الأبصار" موضوع الآية بالصفة التي استعملها تعالى في مخاطبة خلقه، وهي بالمناسبة ليست اسما للذات الجامعة، إنما صفتان من صفات الألوهة: "اللطيف" و "الخبير"، مما ينفي عن "الإبصار" مسألة رؤية الذات الإلهية، ويحصرها في صفة  "الخبير" الذي يلطف بعباده من أن تدركه أبصارهم، وهو الذي يدرك جواهر الأبصار بلطفه.

غير أن محيي الدين ابن عربي بالنسبة لهذه الآية تحديدا، لا يتأول المعنى تبعا لصفات المخاطب الواردة فيها كما يفعل عادة، بل يربط "الإبصار" بالوجود، فيعتبر أن قوله "لا تدركه الأبصار"، يحيل إلى استحالة أن تدركه الأبصار من خارج الوجود، لعدم وجود شيء مع الله أو من خارجه يمكنه أن يحيط به فيبصره.  وهو "يدرك الأبصار" من داخل الوجود الواحد الذي لا وجود فيه لغيره، أي أنه يدركها ويلحق بها، باعتباره النور الذي تبصر الأشياء كلها عن طريقه، ويستحيل أن يُري شيئا من دونه. ومعنى هذا الكلام، أن الأشياء تُبصر وتُرى لأن هناك من يلاحظها.. وبذلك، يكون الاعتقاد بوجود شيء من خارج وجود الله، يمكن أن يدرك الله بالإبصار، ضربا من ضروب الشرك الغليظ، نستغفر الله من أن نسقط فيه، وأن الله سبحانه وتعالى يبصر بعيون عباده.. ففي هذا يتفق المعتزلة والصوفية، ويختلف معهم الأشاعرة خاصة، وأهل السنة والجماعة عامة.

وحول ما ذهب إليه الأشاعرة من إمكانية رؤية الله في الآخرة دون الدنيا، فقد قال المعتزلة باستحالة ذلك، نظرا لأن آية "الأبصار" من الآيات التي تمدح الله بها نفسه مثل (لا تأخذه سنة ولا نوم)، فلا يعقل مثلا أن لا تأخذه سنة ولا نوم في الدنيا ويحصل العكس في الآخرة، فهذا مما لا يقبله عقل ولا يُجوّزه منطق. ومن الدلائل التي يشهرها  المعتزلة في وجه خصومهم في هذا الصدد، طلب موسى الرؤية من الله تعالى بقوله (رب أرني أنظر إليك) الأعراف: 143. فأخبره الله باستحالة ذلك بالمطلق لقوله تعالى: (لن تراني) نفس الآية. وبيّن له استحالة ذلك من خلال تجلي نوره العظيم كالصاعقة للجبل الذي أصبح دكا، فخر موسى صعقا، ولما استفاق أدرك طبيعة الله تعالى واستحالة رؤيته فقال: (سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) نفس الآية.

ومهما يكم من أمر، فالمهم بالنسبة لهذه الفترة التي عرفت طفرة نوعية في تطور الفكر الإسلامي ليس معرفة من كان على حق ومن كان على باطل، لأن الحقيقة المطلقة لا يعرفها إلا الله، في حين أن الحقيقة التي يزعمها المفكر لا تعدو كونها حقيقة نسبية تمثل وجهة نظره انطلاقا من فهمه للنص على ضوء واقعه المعاش، وبهذا المعنى، يكون بذل الجهد لمعرفة الحقيقة أهم من الوصول إلى الحقيقة نفسها.

قد لا نختلف مع من يقولون بأن المعتزلة مثّلوا الفكر التنويري في الإسلام مقارنة مع الفكر الجامد والمغلق الذي كان يمثله "أهل السنة والجماعة"، فقد انطلق المعتزلة في ثورتهم الثقافية ضد خصومهم من مسلمة تقول، إذا كان الخطاب الإلهي صالح لكل مكان وزمان، فمن باب أولى أن تتتم دراسته بالعقل أخذا بالإعتبار تغيّر الظروف التاريخية بين زمن النشأة والتكوين والأزمنة اللاحقة، مما يفرض على الدارس ما اصطلح على تسميته خطأ بـ"عقلنة الوحي"، لأن العقلنة مفهوم بشري ينسحب على الفكر الإنساني لا الخطاب القرآني.

ولعل أهم ما حاول المعتزلة إرسائه من خلال مقاربتهم العقلانية هذه، هو تحرير الوحي من معتقل الفقهاء إلى فضاء التداول الإنساني، باعتباره خطابا موجها للناس لا للفقهاء، وليس من حق هؤلاء احتكار انتاج المعنى. لكن المفارقة أنهم (أي المعتزلة) وبمجرد ما تم لهم التمكين حتى ارتكبوا نفس الخطأ الذي ارتكبه خصومهم من "أهل السنة والجماعة"، بمحاولة فرض أفكارهم بقوة السلطة، ما ألّب عليهم الخصوم الذين تربصوا بهم الدوائر، إلى أن انتهى الأمر بهزيمة الفكر المعتزلي زمن ابن رشد على يد الإمام أبو حامد الغزالي كما هو معلوم، فانسحبوا من حلبة الصراع وتركوا الساحة فارغة لخصومهم إلى يوم الناس هذا.

من هنا جاءت بعض محاولات المفكرين الحداثيين لمعاودة إحياء الفكر المعتزلي في الزمن الحالي فيما أصبح يشار إليه بـ "علم الكلام الجديد"، لكنها ركزت على إعادة طرح نفس القضايا القديمة دون أن تقدم جديدا للخروج من الملآزق التي ولّدتها وجعلت العامة بسبب الجهل ومحدودية الفهم ينفرون من الفكر المعتزلي الذي كان يرقص من حيث الظاهر على حافة "الكفر" كما يعتقد "أهل السنة والجماعة".

ويمكن القول، أن من أعاد إحياء ما يمكن تسميته بـ"علم الكلام الجديد" في العصر الحديث هو المفكر الإيراني عبد الكبير سروش، بطرحه لنظرية ثورية تساعد على تجديد المعرفة أسماها "القبض والبسط النظري للشريعة" أو "نظرية تطور المعرفة". وهي النظرية التي اثارت جدلا واسعا في إيران والعالم العربي بما قدمته من منهج جديد تزعم أنه سيساعد على إعادة طرح القضايا الإسلامية القديمة ومحاولة فهمها على ضوء ما وصلت إليه العلوم ومناهج البحث الحديثة.

يرى سروش أن الأجزاء المختلفة للمعرفة البشرية هي في تعاط مستمر في ما بينها، وإذا ما شهد العلم إبداعاً فإنه يترك تأثيره على علم الفلسفة، وأن تحوّل الفهم الفلسفي يغير فهم الشخص حول الإنسان والكون، وعندما يأخذ الإنسان والكون وجهاً آخر فإن المعرفة الدينية تأخذ معنى جديداً أيضاً. وهو يعتبر أن نظريته تعتمد من جهة على الفكر الديني التقليدي، وتأخذ بنظر الاعتبار من جهة أخرى مكتسبات الفكر وتطور المعرفة البشرية، وبالتالي فهي منهج لطرح جديد وعصري للدين، وأن التحوّل والتطوّر في المعرفة الدينية ليسا ناجمين عن المؤامرة والخيانة ووسوسة الشيطان، بل من لزوم التغييرات القهرية في الكون، وحركة الذهن، وسعة استيعاب الفهم، وطموحات الفكر وتطلّعات الروح البشرية المعادية للجهل.

وخلافا لمطهري وشريعتي، لا يعد سروش المجتهدين من رجال إحياء وإعادة بناء الفكر الديني، لأن الاجتهاد لدى فقهاء الشيعة الأصوليين هو تغيير في الفروع وليس تحوّلاً في المبادئ والأصول، ولذلك فسروش يرى أن المستنير الحقيقي في إعادة بناء الفكر الديني هو الشخص الذي يجيز الاجتهاد في الأصول أيضاَ، وهنا جوهر المسألة، لأنه إذا لم يتم التدقيق في الأصول لاتخاذ النتائج كمرجع للحقيقة فكيف يمكن الاجتهاد في الفروع والقول أن ما تم التوصل إليه يعد من صميم الدين القوين، ومعنى المعنى، أنك إذا لم تعرف من هو المتكلم أولان فكيف لك أن تفهم ما الذي أراده من كلامه؟. إن الأمر المهم في منهج سروش هو المقارنة التي يجريها بين هذه النظرات من مختلف الجهات كالرؤى، والسبل، والمناهج التي تطرح لإحياء الدين، والمنهج المعرفي، وعلم الإنسان، وعلاقة الدين والدنيا، وعلاقة العلم والدين، ودوافع دراسة الفكر الديني، وسر خلود الدين ورسالته، والمصلحين الدينيين.

يسعى الدكتور عبد الكريم سروش في نظرية القبض والبسط لتقديم "مشروع نظرية تفسيرية (هرمنيوطيقية) معرفية (ابستمولوجية) تستلهم المنهج الكانطي في التميز معرفياً بين الشيء لذاته والشيء لذاتنا، فتُميّز بين الدين والفكر الديني أو المعرفة الدينية التي هي قراءة موضوعية للدين تتسائل حول طبيعة العلاقة بين المعرفة الدينية وبقية المعارف البشرية الأخرى. كما تفترض أن الدين تابت بينما المعرفة الدينية ظاهرة بشرية متغيرة ونسبية كشأن المعارف الأخرى. ويؤكد سروش على أنه يؤمن بنسبية المعرفة لا نسبية الحقيقة (وهذه نظرية فلسفية ثورية جديدة ظهرت مع نظرية النسبية التي قال بها العالم أينشتاين)، فالمعرفة الدينية تتسم بالتحول والنسبية لأنها مرتبطة بألوان المعرفة الإنسانية الأخرى ومتأثرة بها. ولا يخفي سروش استفادته من نظريات فلسفية وابستمولوجية كما عند جاستون بشلار ونظرته إلى تاريخ العلم بوصفه تاريخاً لأخطاء العلم، وغروفيتش ونظريته حول الأطر الاجتماعية للمعرفة، ومفهوم الباراديغم عند توماس كوين. ويكفي أن نلاحظ أن التهمة الرئيسة التي يواجهها سروش والاتجاه الذي يمثله هي الدعوة إلى الأخذ بالمناهج العلمية الحديثة في تكوين المعرفة الدينية بالرغم من أن مقاربته تختلف عن مقاربة معاصريه الحداثيين من أمثال محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وغيرهما الذين يعتمدون التاريخية  أو التاريخانية كمنهج لإعادة فهم النص.

ينطلق سروش من مبدأ بشرية المعرفة الدينية التي يعرفها باعتبارها "بناء إنساني يتطور بالضرورة وباستمرار بحسب الفهم المتغير للعالم، فبينما لا يتغير الدين في حد ذاته يتغير الفهم الإنساني له والمعرفة المرتبطة به. فالمعرفة الدينية ليست إلهية من منطلق الموضوع الديني الذي تعالجه ولا يسوغ أن نخلطها والدين في حد ذاته". لأجل ذلك يسعى سروش إلى "كشف أوليات الفهم الديني وكيفيته، وتوضيح أوصاف المعرفة الدينية بالنسبة إلى سائر المعارف البشرية وتحديد العلاقات القائمة بين المعرفة الدينية والمعارف البشرية، وأخيراً توضيح سر تحول المعرفة الدينية وثباتها تاريخياً".

وهو في ذلك يهدف إلى ما يلي:

-        أولاً: محاولة وضع معنى النص الديني في أفق الفهم التاريخي المتحول.

-        ثانياً: أنسنة الدين، بمعنى جعل الدين من أجل الإنسان لا بمعنى الأنسنة التي طرحها الفكر الأوروبي مستبعدا الدين عن الثقافة.

-        ثالثاً: فرض المعرفة الجديدة بالإنسان والمجتمع والطبيعة على من يتصدون لصناعة المعرفة الدينية.

يقول سروش: "إذا تعرضت المعارف البشرية غير الدينية للقبض والبسط فلا بد أن يتعرض فهمنا للشريعة إلى القبض والبسط أيضاً، أحياناً بصورة ضعيفة وخفيفة، وأحياناً بصورة شديدة وقوية".

إن تأكيد سروش على ترسيخ مبدأ بشرية المعرفة الدينية مدخل من شأنه وضع حد للتصادم الموهوم بين هذه المعرفة وباقي المعارف العلمية والفلسفية، على أن هذه المعارف غير الدينية هي أسئلة مرتبطة بالأفق التاريخي للإنسان، والمعرفة الدينية تتضمن إجابات لها، فكلما اختلفت الأسئلة وازدادت عمقاً ازدادت الحاجة إلى أجوبة أكثر فأكثر، من هنا فإن أي تغيّر في معارف العصر العلمية والفلسفية يستدعي تغيّراً بالضرورة في المعرفة الدينية.

يميّز سروش بين الذاتي والعرضي في الشريعة، وهو يرى أن الإعدادات اللغوية والثقافية والحضارية قد ساهمت في تشكيل أعراض الدين الإسلامي كما نفهمه اليوم، ولأنها إعدادات متغيّرة من ثقافة إلى أخرى فهي ليست من ذاتيات الدين، فيقول في هذا الصدد: "إن لبوس الثقافة القومية من لغة وأذواق وأساليب حياة ونقاط ضعف وقوة عقلية وخيالية وعادات وتقاليد ومألوفات ومسلمات فكرية وخزين لغوي ومفاهيمي يضيف على جسد العقيدة والفكر ويخلع عليه نواقصه وكمالاته لا محالة"، ليصل بعد ذلك إلى أن ما هو جوهري في الإسلام هو المتجاوز لكل تلكم الإعدادات المستلة من ثقافة خاصة بلحظة الوحي، وأن من شأن التأكيد على ذلك الثابت الجوهري ضمان شمولية الرسالة ومستقبليتها من دون أن يعني ذلك مصادرة الأعراض وإلغائها، لكنه يشترط إخضاعها لمجهر العلوم الإنسانية بغية فهمها واكتشاف قدرتها على الخروج من دلالتها الضيقة إلى محيط عالمي ومن ظرفها التاريخي إلى رحابة المستقبل.

وقد أثارت هذه الأطروحة جدلاً واسعاً في الوسط الديني الشعي والسني على حد سواء، مما دفع العديد من المفكرين والشيوخ للرد والنقد، وأبرز نقاده هو الشيخ صادق لاريجاني الذي اتهمه بأن ما ذهب إليه هو في غالبه تكرار لطروحات بعض فلاسفة الهرمنيوطيقا مثل غادامير الذين شددوا على فكرة أن الإنسان موجود تاريخاني وأن فهمه للامور يتكون في أفق تاريخي بشري، لذلك فهو فهم ناقص وهذه أفكار كان غادامير وإلى حد ما هايدغر من أبرز من روّج لها. بيد أن سروش في نظر لاريجاني لا يشير أبداً إلى الذين أخد عنهم هذه الآراء. ويرى لاريجاني أن هذه المسلكية التي اتبعها سروش في الاستعانة بالآليات المنهجية التي استقاها من التداول الغربي لا يمكن إسقاطها بشكل عمودي على تداول مغاير كالتداول الإسلامي، لأن "تلك المفاهيم والأدوات حين تبتسر من بيئتها تفقد معانيها ولن يكون من الممكن التوفيق بينها وبين التقاليد المحلية".

والسؤال الذي تطرحه نظرية سوروش بغض النظر عن مآخذات منتقديه هو: - هل إدراكنا للمراد من خطاب الدين لنا يعتبر إداركا صحيحا؟..

الجواب يعرفه الجميع، وبالنسبة لسوروش، فإن الإدراك الصحيح للدين هو الإدراك المطابق للواقع، وهي ذات القاعدة التي يقول بها المناطقة فيما له علاقة بالدال والمدلول أو المعنى والمصداق، وبالتالي، لا بد من وجود "واقع" و "إدراك"، وأن يكون هذا الإدراك مطابقا لذلك الواقع. ولو كان الفهم الصحيح للشريعة لدى المسلمين هو الشريعة ذاتها، للزم أن ينزل الله شرائع متعددة بعدد من لهم فهم صحيح للشريعة. وهنا تكمن المعضلة، لأنه بالنسبة لسروش، فبالرغم من أن المعرفة الدينية تتأسس على الدين وتكون بمثابة المرآة التي تعكسه، إلا أنها ليست من الدين ذاته. وهذا صحيح جدا، خصوصا حين نراجع مقولات التراث على ضوء نص القرآن في أمور كثيرة تخص العقيدة والشريعة، ونكتشف التعارض والتضارب في مجالات كثيرة.

ومرد ذلك، أن مقاصد الشريعة تمت تجزئتها من قبل فقهاء كالشاطبي لتشمل مجالات عديدة، ما أفقدها الرؤية الكلية لمقاصد الدين كما وردت في القرآن الكريم، وأصبح جوهر الخلاف بين المذاهب هو على التفاصيل الصغيرة المتعلقة بالعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، في حين أهملت الكليات الأساسية الجامعة للأمة والتي على أساسها تقوم العقيدة من جهة، ومقومات الاجتماع الإنساني التي مناطها الأخلاق النبيلة من جهة ثانية، والتي من دونها لا يمكن للإنسان أن يبلغ مرتبة الإحسان التي هي أعلى مرتبة دينية بعد الإسلام والإيمان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق