بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 24 سبتمبر 2018

الدين بين الفرصة والكارثة



مع ثورة المعلومات التي انفجرت في عصر العولمة، وما رافق ذلك من تحولات هائلة ومتسارعة على كل الصعد، اكتشف المواطن العربي أن المنظومة السنية القائمة التي كان يعتقد أنها تمثل له فرصة للتحرر والإنعتاق، تحولت فجأة إلى أداة للتخريب والهزيمة والانكسار.../...

سقط القناع عن القناع، وفتح لصوص الدين والحكام العرب الصهاينة الباب واسعا لأشرش هجمة تدميرية قام بها الغرب الإستعماري بقيادة إمبراطورية روما الجديدة، حيث استهدفت الأوطان والإنسان، وفجرت الهويات القومية والدينية، في إطار ما أصبح يعرف بصراع القيم، والذي اتخذ من الإسلام عدوا، ومن الفتن والفوضى الخلاقة تكتيكا، ومن الحروب الناعمة استراتيجية، ومن الإرهاب سلاحا، لدرجة أصبح الإسلام في نظر الغرب دين عنف وكراهية وإرهاب، وسمعنا مدير المخابرات الأمريكية 'بومبيو' الذي عينه ترامب وزيرا للخارجية يصف الإسلام بـ "السرطان".

فعاد الحديث بقوة عن التغيير...

ومن سنة الله في الخلق، أن التغيير هو السبيل الوحيد للخلاص عندما تشتد المصائب والأزمات، وتبلغ مبلغا يفجر الأوطان والهوات، مصداقا لقوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فمن أنفسكم. وهذا يعني أن الخطر الخارجي ما كان ليمثل تهديدا للعرب لولا ركوصهم لزمن طويل في الأزمات، أزمات بنيوية مركبة، سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، بل وأخلاقية على وجه الخصوص.. بعد أن وصلت كل مشاريع التغيير التي وعدت بها الحكومات التقدمية الانتهازية والأصولية الرجعية إلى طريق مسدود، ولم تعد الشعارات تستهوي الناس، ولم يعد أحد يصدق خطابات الأحزاب والجماعات الإسلامية المعارضة على حد سواء.

لأن الأزمة مستعصية على كل النظريات والنماذج والبرامج والمقاربات، فقد تعاطى المثقفون معها، كل من موقعه ومجال اختصاصه، من منطلق أزمة العقل وأزمة الفكر وأزمة الهوية، وجلهم يرى أن لا حل للخروج من المعضلة بغير اعتناق العلمانية، أو دين ما بعد الحداثة الذي لا يؤمن إلا بالإنسان المتفوق "السوبير مان"، على رأي الفيلسوف نيتشيه الذي أعلن موت الإله ونهاية عصر الأديان، فانفرط العقد وفتحت أبواب الجحيم على مصراعيها، فخرج فرنسيس فوكوياما ليعلن من جهته نهاية التاريخ وانتصار النظام الديمقراطي الغربي والأيديولوجية الإقتصادية الليبرالية، وجاء صموئيل هنتكتون ليقول بدوره، أن صراع الحضارات هو الطاحونة التي ستسحق الثاقافات، خصوصا تلك المبثقة عن الديانات، كالإسلام الذي يرفض الحضارة الغربية وتتبناه حكومات سلطوية رجعية فاسدة وفاشية.

وتعتبر أزمة الهوية هي الأخطر، بحيث أنها إذا انفجرت أدت إلى سقوط كل التوابث والمبادئ والقواعد والنماذج والولاءات والمرجعيات التي تتشكل منها قيم المجتمعات، ولن يعود بعد ذلك لمفاهيم من قبيل الدولة الوطنية، أو القومية العربية، أو الوحدة الإسلامية من معنى، بعد أن تحولت الدولة إلى سلطة تقودها شرذمة من اللصوص بعقلية العصابة بتحالف مع الكهنوت، وبعد أن تحولت القومية العربية إلى مجرد شعار طوباوي بالنسبة للعروبيين، وعنصري بالنسبة للقوميات الأخرى، وتحول شعار الإسلام هو الحل إلى رهان خاسر لدعوة القطيع من أجل العودة إلى معتقل المذهب وسجن الجماعة، في محاولة غبية لتكرار نفس أخطاء الماضي التي أدت إلى النتائج الكارثية التي تعيشها الأمة اليوم، بسبب إلغاء العقل، وتكفير التفكير، وتشجيع الخنوع، والحث على الإستسلام، والتواكل دون أخذ بالأسباب الحقيقية للتغيير من أجل الإقلاع والنهوض.

وحيث أن التغيير لا يأتي من فراغ، وحيث أن الله لن يبعث رسولا جديدا لينقذ الأمة ممّا هي فيه من بأس وكدارة، فلا بد من ثورة مفاهيمية جديدة تحرر العقل من كل المعتقلات الأصولية القديمة والمتجددة باستمرار، من منطلق فكر جديد، برؤية مغايرة، وعلى أساس منهج نقدي مختلف عن المناهج التي تعاطت مع التراث بالتقديس والتبجيل والإطناب، وعلى رأسها ما يتعلق بالمعتقدات والممارسات الدينية الخاطئة، باعتبار أن الدين كان، ولا يزال، وسيظل، المحفز الأساس للتغيير، وهو ما فهمه الغرب الإستعماري بالعمق المطلوب، فاستثمر بخبث وذكاء في أدواته المحلية المتصهينة العميلة، ومرتزقة الإسلام السياسي، والتنظيمات التكفيرية الجهادية، لتدمير العالم العربي والإسلامي من الداخل، وذلك من خلال تبني شعارات متجذرة في ثقافة الأمة من قبيل إقامة الخلافة وتطبيق الشريعة.

لقد آن الأوان ليدرك العرب الحقيقة، والحقيقة تقول، أن ما يعيشونه اليوم من أزمات، هو أثر من آثار لصوص الدين الذين نجحوا خلال عصور ودهور في تخريب العقل وسرقة الإرادة، بعد أن استبدلوا شريعة السماء بشريعة الفقهاء، وصنعوا من الحاكم إلها منزها كما كان الحال زمن فرعون، وأصبغوا على منظومتهم الدينية الرجعية رداء القداسة، وفرضوا على الأمة تبجيل الكهنوت، وتعظيم السلف الذي لم يكن كله صالحا إلا من رحم الله، وهو ما يؤكده قول الرسول صلى الله عليه وسلم لإبي بكر رضي الله عنه حين سأله وهو يشهد للمؤمنين الذين قضوا في معركة أحد بالجنة: قال الرسول: (هؤلاء أشهد عليهم) فسأله أبو بكر: ألسنا يارسول الله إخوانهم أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا، فقال الرسول: (بلى، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي). فبكى أبو بكر ثم قال: إننا لكائنون بعدك؟. الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ واستنكره فقهاء الرسوم خوفا من أن يفتح الباب على مصراعيه لنقد تجربة الخلافة. وهذا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يصبغ القداسة على من سيأتي من بعده، ولم يكن يوزع صكوك الغفران ويعد الناس بالجنة إلا لمن شهد لهم في حياته، وهو لا يعلم الغيب ولا يدري ما الذي سيحدثه أصحابه من بعده، وهذا مجال من إختصاص الله تعالى دون سواه، هو أعلم بمن اتقى من عباده.

وبالتالي، فلا سبيل لخروج الأمة اليوم من هذا المأزق إلا بإعادة النظر في المنظومة الفقهية القائمة، انطلاقا مما تعطيه محصلة التجربة من انتكاسة، والبحث عن حلول ناجعة في النص المؤسس (القرآن) الذي يعتبر المرجع الأعلى للحقيقة بدل الرهان على إعادة اجترار الموروث من ثقافة القبور، أو استبداله باستيراد النماذج الغربية الجاهزة التي لا تصلح إلا في التربة التي ولدت ونمت فيها.. ونقصد بذلك نموذج إسلامي أصيل مستنبط من النص القرآني دون غيره من النصوص اللهم إلا ما لا يتعارض مع الخطاب القرآني من أقوال الرسول، لإعادة إنتاج المعنى الصحيح الذي من شأنه أن يأدي إلى الفهم السليم للتجربة، بدل التمسك بظلال المعانى التي أنتجها فقهاء القشور، فطمسوا بذلك الزمن حين رهنوا الحاضر للماضي وحجبوا عن الناس رؤية المستقبل، فحرموا الأجيال المتعاقبة من تجاربهم الخاصة، وفرضوا عليهم نمطا من الفهم باسم المقدس، وطريقة من العيش تنتمي لزمن غير زمانهم، وبالنتيجة، أصبح المسلم يعيش بوجهين: وجه للحاكم في النهار، ووجه لله في الليل.

وبهذا المعنى، فالتغيير يجب أن يبدأ من كنس هذا الفكر الأصولي الرجعي من عقول الناس، واستبداله بفكر جديد انطلاقا من فهم مختلف للقرآن، يتماشى مع متغيرات الواقع، ويصالح الإنسان مع نفسه ومع واقعه ومع الآخر المختلف عنه، لأن جوهر الدعوة القرآنية تتمثل في الوحدة التي لا تقام إلا في ظل الحرية والاختلاف، حيث يتحول الإنسان إلى قيمة كما أراده الله أن يكون، لا إلى عبد يعيش في مزرعة مولاه بلا حرية ولا إرادة ولا عقل ولا تفكير كما أراد الفقهاء له أن يعيش، مشترطين عليه التنازل عن حظه في الدنيا مقابل دخول الجنة في الآخرة، وهذا لعمري عين الضلال.

هنا يكمن رهان التغيير الحقيقي، رهان الخروج من خندق الذاكرة نحو عوالم الخيال الخلاق حيث فضاءات الخلق والإبداع، ما دام الله نفسه كل يوم هو في شأن وكل يوم هو في خلق جديد.. وهي مهمة المثقفين  قبل الفقهاء، ولا سبيل إلى ذلك إلا من خلال منهج جديد يفضي إلى نظرية جديدة في التفسير والفهم، تعيد تفكيك التراث وتحليله على ضوء قراءة مغايرة للدين، وفق منهج مختلف عن المناهج المعهودة، وهي عملية أركيولوجية ضرورية، من شأنها أن تفضي إلى نتائج صادمة تكشف للناس أن ما كانوا يعتقدون أنه أصلا لا يعدو كونه فرعا، في حين تم تغييب الأصل بالكامل لأنه يتعارض مع المعنى الذي أرادوا إنتاجه لأهداف سياسية لا علاقة لها بدين الله من قريب أو بعيد.

نقول هذا، لأن من كانوا يراهنون على شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، سيفاجؤون به وهو يجيب ربه حين سيسأله عن أحوال أمته، وكيف تحولت من أحسن أمة أخرجت للناس إلى أسوء أمة في العالمين؟ فيقول: (وقال الرسول يا ربي إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان: ٣٠، والمعنى واضح لا يحتاج لشرح.

وهذا هو معنى أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء كما تنبأ بذلك محمد صلى الله عليه وسلم، وحين سئل عما يجب عمله في هذه الحالة قال: (إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن) الأصول: ٥٩٠.

أما لماذا القرآن وليس السنة؟.. فقد أوضح ذلك بقوله: لأن (كتاب الله، فيه نبأ من كان قبلكم، ونبأ من كان بعدكم، وحكم ما كان بينكم، وهو الفصل وليس بالهزل، ما تركه جبار إلاّ قصم الله ظهره، ومن طلب الهداية بغير القرآن ضل، وهو الحبل المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم، وهو الذي لا يلبس على الألسن، ولا يخلق من كثرة القراءة، ولا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه) مستدرك الوسائل: ج٤ – ص: ٢٣٩ – باب٢ – ح٤٥٩٥.

وهو ما يتساوق مع قوله تعالى بأن القرآن هو الكتاب الذي أنزله الله ليخرج به العباد من ظلمات الجهل إلى نور العلم فيهديهم إلى صراط العزيز الحميد.. من هنا ضرورة التفريق بين العلماء الذي يعتمدون العقل لكسب العلم الرباني ونشره من مصدره الرئيس الذي هو القرآن، وبين الفقهاء الذين يعتمدون التكسب من التراث باسم سنة السلف لنشر الجهل طمعا في رضى الحكام.

ومعركة المثقف اليوم هي مع هذا النوع من الكهنوت الجاثم على عقول الناس وقلوبها، ليقف ضد التغيير حائلا بين الأمة ومستقبلها.

وهذا لعمري هو أعظم أنواع الجهاد، لقوله تعالى: (وجاهدهم به جهادا كبيرا) الفرقان: ٥٢، في إشارة إلى القرآن.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق