بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 28 سبتمبر 2018

البيعة بين المفهوم الديني و السياسي



"إن رعاية النفوس لا يمكن أن تكون من اختصاص الحاكم المدني، لأن كل سلطة تقوم على الإكراه .. أما الدين الحق المُنجي فيقوم على الايمان الباطن في النفس الذي بدونه لا قيمة لشيء عند الله، وان من طبيعة العقل الانساني أنه لا يمكن اكراهه بواسطة أية قوة خارجية .. صادر إن شئت أموال إنسان واسجن بدنه وعذبه، فإن أمثال هذه العقوبات لن تجدي فتيلا اذا كنت ترجو من وراءها أن تحمله على أن يغير حكم عقله على الأشياء".  جون لوك (فيلسوف تجريبي ومفكر سياسي إنجليزي)... / ...

الإيمــان و الــولاء

بخلاف ما تم الترويج له من قبل فقهاء بنو أمية من أن أركان الإسلام خمسة وليس بينها ركن واحد يتحدث عن مسؤولية الإنسان عن مستقبله ومصير عياله، يؤكد لنا القرآن الكريم أن الرسالات السماوية جميعها قامت على أركان ثلاثة لقوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: ٦٢، وهي الآية التي تكررت حرفيا في سورة المائدة: ٦٩.

فالإيمان بالله يقتضي تحرير الروح من كل أشكال العبودية لإخلاص الولاء لله، سواء أكان هذا الإخلاص مرتبط بأرواح الآباء والأجداد، أو الظواهر الطبيعة كالنجوم والكواكب والأجرام، أو المجسمات، أو الأشخاص كالملوك الآلهة زمن الحضارات القديمة، أو الحكام بأمرهم كما برز ذلك بشكل جلي بعد الفتنة الكبرى وما أدى إليه الصراع على السلطة من انقسام الأمة إلى ملل ونحل وطوائف ومذاهب إلى يوم الناس هذا.

والإيمان بالآخرة، يقتضي الزهد في الدنيا الفانية، للظفر بحياة الخلود في النعيم الدائم المقيم في ملكوت السماء، دون تبخيسها أو احتقار حق الناس في العيش الكريم كشرط لبناء المؤمن القوي الذي هو عند الله أحسن من المؤمن الضعيف، والزهد بهذا المعنى لا يعني التخلي عن حق الإنسان في الحياة الكريمة.

أما العمل الصالح فمرتبط حكما بما يقدمه المؤمن في تحربته الأرضية القصيرة من جهد ومجاهدة وعطاء وتضحية يستحق بموجبهما مغفرة الله ورحمته في الآخرة.

وعلى هذا الأساس، فإن الفكرة المركزية التي أتى بها الدين هي الثورة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، الثورة ضد كل أشكال العبودية لتحرير الروح بالإيمان لكي يكون الولاء في الحياة الدنيا خالصا لله ورسوله والذين آمنوا من عباده، ويكون الاجتماع فيه والعمل لوجهه بما يتطلبه ذلك من جهد وصبر وعطاء وتضحية لا تستثني أحدا من عباده بغض النظر عن جنسه وعقيدته وتوجهاته، لأن الناس صنوان كما قال الإمام عليه عليه السلام: (أخ لك في الدين أو أخ لك في الخلق).. وهذا هو سر تحول الدين عبر الإيمان إلى مغذي وموجه لتلك الفطرة التي أودعها الله في جينات الإنسان لتساعده إن هو فعّلها على حمل أمانة التكليف، أي تلك الروح التي يحركها الله بأمره كلما أبدى العبد استعدادا للولاء والطاعة، فتتحول إلى طاقة هائلة تصنع المعجزات، لتتحقق إرادة الله ومشيئته في خلقه.

والحقيقة أنه ليس للإنسان في تجربته الأرضية القصيرة من حرية وأمن وسلام إلا في كنف الله، شريطة أن يتحرر من العبودية بمختلف أنواعها، بما فيها المُقنّعة التي تفرضها الدولة باسم الحفاظ على الأمن الروحي للمجتمع، والتي تعني حرفيا هيمنة الدولة على الدين، وتوظيفه كأداة لتدجين الناس وإخضاعهم لإرادتها، من خلال تحويل ولائهم من الولاء لله إلى الولاء للحاكم في الأنظمة التيوقراطية، أو الولاء للدولة الوطنية في الأنظمة العلمانية التي تسعى جاهدة لتحويل إيمان الناس من الإيمان بالله إلى الإيمان بالدولة العلمانية.

وبحكم هذا التضارب القائم بين الولاء لله في الدين والولاء للدولة في السياسية نشأ الصراع التاريخي بينهما ولا يزال، نظرا للفرق القائم بين منطق الدين الروحي ومنطق الدولة المادي وصعوبة التوفيق بينهما، وكل تصالح بينهما لا يمكن أن يتحقق بانتصار أحد المنطقين على الثاني كما حدث في الغرب، حيث تم استبعاد الدين عن مجال السياسة وتحويل الإنسان إلى مجرد زبون مستهلك لمنتجات الحضارة يعيش بلا روح ولا بوصلة.. أو من خلال وضع حدود تماس مؤقتة إلى حين، لتجنب الصدام بينهما كما حدث في العالم العربي، حيث لجأت الدولة الوطنية لنزع شوكة الدين وتحجيم دوره من خلال تبنيه كعقيدة رسمية لها بمساعدة الفقهاء، ونراها اليوم تعمل بهدوء على استدراج المجتمعات إلى العلمانية بحكم إكراهات الحداثة وما بعد الحداثة في عصر العولمة.

ومصدر هذا الصراع لا ينبع من سوء فهم الدين والسياسة بقدر ما له علاقة بطبيعة الإنسان المكوّنة من روح خالدة وجسد فاني، وبحثه العبثي الدائم لإيجاد التوازن المستحيل بينهما في خضم صراع الحياة وإكراهات الواقع، ويقينه أن الخلاص الأخروي منوط بانتصار الروح على شهوات النفس المادية، وأن هذا الإنتصار لا يمكن أن يتحقق إلا إذا نجح في تهذيب نفسه بنقلها عبر مراحل: من مستوى النفس الحيوانية الأمارة بالسوء، إلى مستوى النفس الإنسانية اللّوّامة التي تراجع صاحبها في كل كبيرة وصغيرة، وصولا إلى مستوى النفس المطمئنة الراضية المرضية. وهذا هو منشأ الصراع وجوهره الذي ينعكس على علاقة الإنسان بذاته وواقعه في مجتمعه وعلاقته بالآخر المختلف عنه، ومنه يمرّ التغيير لقوله تعالى (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم) الرعد: ١١. ومعنى المعنى، أن سرّ التغيير يكمن في إخضاع النفس لسلطة الروح لتخلص الطاعة والولاء لله تعالى، تعمل بأوامره وتتجنب نواهيه، وتشكر نعمه ليفتح عليها بركات من السماء والأرض، فتعيش بقلب مطمئن في الحياة الدنيا، وتنال نعيم الجنة في الحياة الأخرى.

ويبدو أن السؤال الذي تطره قضية الإيمان والولاء، هو من الصعوبة بحيث فشلت كل تجارب البشرية قديما وحديثا في الجواب عنه، اللهم باستثناء فترة النبوة المحمدية التي عرفت فيها الأمة أروع تجربة روحية لم يشهد التاريخ البشري لها نظيرا، لكن من دون دولة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤسس دولة، بل أسس أمة وصفها تعالى بأنها كانت أحسن أمة أخرجت للناس. غير أنه وبمجرد انتقاله إلى جوار ربه اختلف الوضع، وعاد الصراع بين الديني والسياسي ليطرح بحدة، ما أدى إلى حرب أهلية زمن الفتنة الكبرى انتهت، ولأسباب سياسية، بانتصار مفهوم دولة الجماعة على مفهوم الأمة. فعاد التاريخ كما بدأ أول مرة، لتتكرر نفس الأخطاء والكوارث التي حصلت إبان التجربة اليهودية والمسيحية.

ومرد ذلك يعود إلى أن العرب لم يفهموا بالعمق المطلوب فحوى الرسالة ولا درس التاريخ:

-       فالرسالة من البساطة بحيث لا تحتاج لعقل فقهي يفسّرها ولا لعقل فلسفي يؤوّلها، ويكفي الرجوع للقرآن الكريم لإدراك أن الإسلام ليس دين العرب فحسب وإن كان القرآن قد نزل بلغتهم، بل هو دين كل الأنبياء والرسل والأمم ممّا نعرف ولا نعرف، ولا وجود لدين آخر غير الكفر بدليل سورة (الكافرون). فالإسلام  هو الدين الوحيد الذي ارتضاه الله لعباده كافة منذ أول الخليقة وإلى أن تبدل الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات، ومن يبتغي دينا غيره فلن يقبل منه. وهذه الحقيقة تنتج معرفة تقول، إنه من العبث إن لم يكن من الغباء محاولة احتواء الدين في بوثقة الخلافة، أو شرنقة الدولة، أو سجن الجماعة، أو معتقل المذهب، أو قفص الحزب، لأن الإسلام فوق الإنقسامات السياسية والتقسيمات الجغرافية، يقبل بالاختلاف الذي هو من سنن الله في الخلق جبل البشر عليه لتحقيق التوازن، ومن دونه لا يمكن تصور تطور المعرفة وتقدم البشرية، لكنه يرفض الخلاف السلبي المؤدي إلى التفرقة في الدين، ويشجع على التعارف والتعاون بين الشعوب والقبائل لقوله تعالى: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) الحجرات: ١٣، والأكرم عند الله هو المُتّقي لا المُلتحي. والملاحظ من مضمون الآية أن الله تحدث عن الشعوب والقبائل، أي التجمعات البشرية بصفتها الذاتية، ولم يشر إلى الدول وأنظمة الحكم التي جعلها شأنا دنيويا يخص كل تجمع على حدة. ومرد ذلك أن الله لم يتوجه بخطابه للكيانات الإعتبارية كالدولة أو غيرها، بل إلى الناس باعتبارهم المكلفين الذين سيحاسبون يوم الدين على ما قدمت أيديهم في الحياة الدنيا لقوله تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة) المدثر: ٣٨.

-       أما درس التاريخ فيقول، أنه وباستثناء التجربة المسيحية التي خضع فيها الدين والدولة معا لمنطق الكنيسة وانتهى الأمر بعد الثورة باستبعاد الدين عن الدولة وتحويل إيمان الناس إلى العلمانية فضاع الدين وضاع الإنسان.. فقد خضع الدين في التجربة اليهودية لمنطق الدولة، انطلاقا من اعتقادهم بأن مملكة الله لا يمكن أن تقوم في الأرض إلا في ظل مملكة يهودا الكبرى.

وامتدادا لهذا التاريخ الديني، نفس الأمر يمكن أن يقال عن التجربة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لاعتقاد نبلاء قريش أن الإسلام لا يمكن أن ينتشر ويتمدد إلى أصقاع المعمور إلا في ظل دولة "الخلافة"، وهي المؤسسة التي قامت على الغزوات لنشر الإسلام بحد السيف، وما أدى إليه ذلك من إراقة للدماء وسلب ونهب وهتك للأعراض تحت مسمى غنائم الجهاد، ضدا في تعاليم القرآن الذي يحرم العدوان على الغير بغير حق، ويحصر القتال في حق الدفاع عن النفس فقط لا غير، ويحرم بشكل قاطع لا لبس فيه إكاره الناس على الإيمان، لقوله تعالى (لا إكراه في الدين) البقرة: ٢٥٦. وبالتالي، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إن الله غني عن العالمين، ولنا في تجربة التجار اليمنيين النموذج الإسلامي الراقي، بحيث نجحوا في نشر الإسلام بالتجارة والقدوة الحسنة في شرق أفريقيا وعمق آسيا وصولا إلى الصين دون إراقة قطرة دم واحدة.

وبإقامة الخلافة التي تعني حرفيا خلافة الرسول التي لا أصل ولا فصل لها من الدين بعد أن اكتملت الرسالة بالقرآن ولم تعد البشرية بحاجة لنبي أو رسول، تحول الإسلام من رسالة إنسانية عالمية إلى إيديولوجية قومية خاضعة لمنطق الأرستقراطية القرشية، فتلاشت في الناس تلك الروح الثورية العظيمة التي كانت تقدم التضيات الجسام في سبيل الله طمعا في رحمته وجنته كما عرفتها الأمة زمن النبوة، واستبدلتها بالسعي لكسب المغانم الدنيوية زمن الفتوحات، الأمر الذي انعكس سلبا على الإسلام والمسلمين، فتحول الدين بعد ذلك بفضل شريعة الفقهاء إلى مجرد شعائر شكلية وطقوس فلكلورية بلا روح ولا معنى.

وما كان لذلك أن يحدث لولا تحالف الفقهاء مع الإقطاع واختزال الدين في الشريعة في محاولة لإخضاعه لمنطق الدولة، الأمر الذي أفقد التدين بعده الروحي، هذا علما أن الشريعة لا تمثل أكثر من خمسة في المائة من آي القرآن الكريم. لكن حاجة الدولة لحماية نفسها من الروح الثورية التي جاء بها الإسلام، جعلها تتحالف مع الفقهاء لإنتاج شريعة تخضع الرعية لمنطق الدولة تحت مسمى "السياسة الدينية". ومن أجل ذلك، لم يجد الإنقلابيون سلاحا أنجع من سلاح السنّة التي بفضلها أعادوا السلطة إلى الإقطاع بعد أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد نزعها من يد الملوك والأمراء والنبلاء، وأعادها إلى صاحبها الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله، فنجحت المؤامرة، لتعاد نفس تجربة اليهود مع موسى عليه السلام، وتجربة النصارى مع المسيح عليه السلام، مع فارق جوهري هذه المرة، يتمثل في أن الله تعالى، وبعد أن أعلن نهاية عهد الرسل والأنبياء، ترك للعالمين كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يضل من تمسك به أبدا، وتعهّد بحفظه من العبث إلى يوم الدين، وحث المسلمين على قراءته وتدبره ليستنيروا بهديه في شؤون دينهم ودنياهم، ليقطعوا بذلك الطريق على الكهنوت حتى لا يعبث بعقولهم ويضلهم عن سواء السبيل.

غير أن حراس العقيدة وجدوا حلا سحريا لتجاوز هذه المعضلة من خلال مقاربة مبتدعة تقوم على أسس مشبوهة حوّلوها إلى حقائق دينية توارثتها الأجيال لقرون طويلة:

الأساس الأول: تبخيس العقل وتحريم تفسير القرآن بالرأي، وحصر التفسير والتشريع بـ "العلماء" الذين هم ورثة الأنبياء، ينفذون "شريعة الله" بسيف الإقطاع، بناء على مقولة الخليفة الثالث: "يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وهذا الإعلان بما يحمله من مضمون سياسي، شكل بداية التحول لانتصار منطق السياسة على منطق الدين.

الأساس الثاني: أن النبي كان أميّا لا يعرف القراءة والكتابة وفق الفقهاء، لأن الأمّية حسب تأويلهم تعني الفطرة والبراءة والطهر، والإسلام دين الفطرة والبراءة والطهر، وبالتالي، فلا مناص من تشجيع الجهل والطاعة والاستسلام، وتبخيس العقل وتحريم الجدل وتكفير التفكير، لأن الله بعث الرسول بالقرآن للأمّيين وفق ما يعطيه ظاهر الآية من معنى، لقوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميّين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) الجمعة: ٢. هذا فيما المعنى الحقيقي للأمي في القرآن هو من ليس له كتاب سماوي لا الذي لا يعرف القراءة والكتابة. وعلى هذا الأساس تم تحريم الفلسفة لأنها تؤدي إلى الشرك، والكيمياء لأنها سحر، وعلم الفلك لأنه تنجيم ورجم بالغيب، والفن لأنه بدعة وملهاة تصرف الناس عن ذكر الله.. وما إلى ذلك. وبذلك خلت الساحة لفقهاء السلاطين ليخربوا عقول الناس ويشحنوها بما أنتجوه من ثقافة دوغمائية مفلسة أنتجت الجهل والفقر والتخلف والانحطاط.

الأساس الثالث: أن حفظ الدين والنفس والعرض والمال من مسؤولية ولي الأمر الذي هو أمير المؤمنين وخليفة الله في أرضه، استنادا لتأويل متعسف لأمر الله القائل: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تاويلا) النساء: ٥٩. وواضح أن الآية تشير إلى طاعة الرسول في حياته وعرض النزاع عليه والقبول بحكمه لأنه لا يأمر بشيئ أو ينهى عن شيئ يخالف حكم الله، أما طاعة أولي الأمر من بعده، فقد حُوّر المعنى بعد أن أخرجت هذه الآية من السياق الذي وردت فيه والذي يربط طاعة أولي الأمر بطاعة ما أمر به تعالى لقوله في الآية السابقة لها: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) النساء: ٥٨.  فتكون طاعة أولي الأمر مشروطة بامتثالهم لما أمر به تعالى بصريح العبارة من تأدية الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل، وبالتالي، فالحاكم الخائن للأمانة والذي لا يحكم بين الناس بالعدل يخالف أمر الله ولا يتوجب على الناس طاعة لأن في طاعته معصية لأمر الخالق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).

وعلى هذا الأساس يعقد الولاء لله من قبل الحاكم والمحكوم سواء لقوله تعالى: (ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا) الكهف: ٢٦. وكل من يخالف حكم الله في أصل من أصول الشريعة يعتبر شريكا له في حكمه وخارج عن طاعته متمرد على ولائه، وبذلك يكون العدل هو شرط إقامة كل اجتماع إنساني بغض النظر عن الإيمان والكفر، ويكون الولاء لله هو شرط إقامة اجتماع المؤمنين في الله، ولا يهم طبيعة الدولة أو ماهيتها بعد ذلك، هذه تفاصيل جانبية يتفق الناس فيما بينهم بشأنها وفق مبدأ الشورى بمفهومه القرآني الواسع لاقترانه في الآية بفريضة الصلاة التي هي فرض عين على كل مسلم عاقل.

فالله لم يأمر رسوله الكريم بإقامة دولة كشرط لإقامة العدل، بدليل أنه امتدح حكم الملكة بلقيس لأنه كان حكما عادلا يتبنى مفهوم الشورى، ما حوّل مملكتها إلى دولة عظيمة، قوية، ومزدهرة، بخلاف الملكيات التي كانت قائمة في زمانها على الاستبداد والفساد لقول بلقيس لقومها: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة قومها أذلة) فصدّق تعالى قولها بقوله: (وكذلك يفعلون) النمل: ٣٤. كما أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يوصي أصحابه بإقامة خلافة أو ملك أو إمارة من بعده، لأن مهمته الأساس كانت تتمثل في بناء أمة لا دولة التي يعتبرها القرآن شأن من شؤون الدنيا يعود للناس اختيار طبيعتها وتحديد دورها ومؤسساتها وآليات اشتغالها ومراقبة المسؤولين فيها.

ويعتبر الانقلاب على هذه الحقيقة القرآنية وتأويل طاعة أولي الأمر بشكل تعسفي لا علاقة له بالمعنى الوارد في السياق كما سبقت الإشارة، هو الذي أدى إلى بروز ظاهرة رجال الدين في التجربة الإسلامية، نقول رجال الدين بالمعنى الذي يفيد تنامي ظاهرة المتاجرة بالدين، وهو ما عبر عنه الفيلسوف ابن رشد بالقول: "إن الجهل يشكل البيئة الملائمة لتنامي ظاهرة المتاجرة بالدين". وهو ما تشير إليه معطيات التاريخ من خلال ما اصطلح على تسميته بـ "تحالف الفقهاء مع الإقطاع" زمن بني أمية وما بعد بعد زمن بني أمية إلى يوم الناس هذا. وهو ليس بالظاهرة االطارئة في التجربة الإسلامية، ذلك أن مجمل التاريخ الديني، يخبرنا أن الرسالات التوحيدية االثلاثة (الموسوية – والعيسوية – والمحمدية)، عرفت نفس الظاهرة، ومرت من نفس التجربة التي تولّى فيها الحاخامات والرهبان والفقهاء تغيير مجدرى التاريخ من خلال العبث بالدين في مسعى لتدجينه بهدف الهيمنة على عقول الناس وقلوبهم:

-       فموسى عليه السلام بعثه الله ليبشر اليهود بقرب قيام مملكة الله (أي الساعة)، فاعتقد قومه أنه جاء ليبشر بقيام مملكة اليهود، وعلى أساس هذا الوهم احتلوا فلسطين وهوّدوا القدس الشريف لإقامة الهيكل تمهيدا لعودة المسيح المخلّص الذي سيحارب أعداهم المسلمين ويقيم لهم مملكة يهودية في الأرض الموعودة وفق ما يتوهمون.

-       ودعوة المسيح عيسى عليه السلام قامت على نفس الوعد، أي تبشير النصارى بقرب قيام ملكوت السماء، فاعتقدوا مثلهم مثل اليهود أنه جاء ليقيم لهم مملكة على الأرض في فلسطين، وحين وشى به اليهود للإمبراطور الروماني متهمين إياه بالتبشير لإقامة مملكة لأتباعه، وانتهى عهده بالصلب وفق اعتقادهم، تيقن أنصاره أنه ليس إله ولا ابن إله، لأنه لو كان كذلك لما تمكن منه جند القيصر، لكنهم لم يقطعوا الأمل بعودته ليقيم لهم المملكة الموعودة، وفي انتظار ذلك، لا مناص من أن ترعى الكنيسة إيمان الجهال، لأن الخلاص لا يكون إلا من خلالها، وصلب المسيح بالنسبة لها لا ينزع عنه صفة الألوهة كما تدعي، ما دام قد قبل بمحض إرادته ذلك المصير الأليم ليكفّر عن البشرية الخطيئة الكبرى التي ارتكبها آدم في حق الله، هذا بالرغم من أن الله العادل لا يآخذ أحدا بذنب غيره.

-       ونأتي إلى دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، والذي بعثه الله تعالى نذيرا للمشركين ومبشرا للمؤمنين بقرب الساعة ليلقى الناس حسابهم، لكنه رحل إلى جوار ربه قبل أن تقوم الساعة كما كان يعتقد أصحابه. ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة هو ما ورد في الأثر ومفاده: حين أخبر المغيرة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بموت النبي، قال عمر: "كذبت ما مات النبي بل رفعه الله عنده كما رفع عيسى". فخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصحح هذا القول بإعلانه الشهير: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". وفي اليوم الثاني من بيعة السقيفة، توجه عمر للحضور مُلمّحا لخطأ اعتقاده بأن النبي ما كان ليموت قبل أن يشهدوا الخلاص على يديه بقيام الساعة، قائلا: (أيها الناس، إني قد قلت لكم بالأمس مقالة فما كانت إلا عن رأي، وما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهدا عهده إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا، وأن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله وثاني إثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوا". (كتابنا – الوعي الذاتي – الدار البيضاء – تونس : ١٩٨٧ / ١٩٨٩). 

هذه الحادثة تفصح عن حقائق ثلاثة غاية في الأهمية:

-       الأولى: أن عمر رضي الله عنه كان يعتقد، كما اعتقد أهل الكتاب من قبل، أن القيامة ستقوم في حياة النبي. وهذا يعني أنه لم يكن يتصور أن تكون هناك حياة للمسلمين من بعده، وأن أمته ستشهد الساعد لتنتقل برفقته للعيش في ملكوت السماء.

-       الثانية: أن الله تعالى أبقى في المسلمين كتابه الذي هدى به رسوله، وأن الإعتصام به وحده كفيل بأن يهديهم من بعده لما هدى به رسوله، ولم يتحدث الفاروق عن سنة ولا من يحزنون.

-       الثالثة: أن عمر رضي الله عنه كان يرى ضرورة مبايعة خليفة يملأ الفراغ الذي تركه رحيل الرسول صلى الله عليه وسلم ليمارس دور القيادة الدينية حتى لا تتفرق الجماعة الإسلامية من بعده.

والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: - هل كانت بيعة عمر للخليفة الأول في سقيفة بني ساعدة بيعة دينية أم سياسية أم هما معا؟

الجواب نجده في التراث، حيث اعترف عمر رضي الله عنه بعظمة لسانه بالخطأ الذي وقع فيه بدليل قوله بعد ذلك: "إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، ولم تكن عن تدبر وتروّ" وفق ما أخرجه البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده، والحميدي والموصلي في الجمع بين الصحيحين، وابن شيبة في المصنف وغيرهم عن ابن عباس في حديث طويل سموه "حديث السقيفة" جاء فيه: "إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ولم تكن عن تدبر وتروّ، وتمّت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرّها. من بايع رجلا عن غير مشورة المسلمين فلا يُبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا". وفي رواية أخرى: "ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، وقى الله المؤمنين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه". ذكر هذا الحديث السيوطي في تاريخ الخلفاء، وابن كثير في البداية والنهاية، وابن هشام في السيرة النبوية، وابن الأثير في الكامل، والطبري في الرياض النضرة.

وهذا يعني أن البيعة بالمفهوم الديني انطلاقا من تجربة الرسول صلى الله عليه وسلم، هي تعاقد ديني مع الله عبر رسوله يتم بحرية وقناعة شخصية انطلاقا مما رسخ من إيمان في العقيدة، وهي بيعة دينية للجهاد حصرا كما أكد على ذلك القرآن الكريم بمناسبة الحديث عن بيعة الرضوان التي تمت تحت الشجرة على مشارف مكة.

أما البيعة بالمفهوم السياسي فلا علاقة لها بالعقيدة الدينية من قريب أو بعيد، لأنها بيعة تتعلق بالسلطة، وتجارة خاسرة في كل الأحوال، بحيث أنها ستجلب على من يرفضها غضب السلطان، أما في حال القبول بها، فستكون بمثابة بيع المسلم لآخرته بدنياه ما يستوجب غضب الله وسخطه يوم القيامة  كما قال الصوفي الجليل بشر الحافي في جوابه عن أكثر الناس شقاء يوم القيامة.

البيعة بين المفهوم الديني والسياسي

بالعودة إلى القرآن الكريم، نجد أن البيعة قد وردت في أربع آيات:

-       الأولى: الآية ١١١ من سورة التوبة حيث يقول تعالى: ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقران ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم).

-       الثانية: الآية ١٠ من سورة الفتح حيث يقول تعالى: (إن الذين يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما).

-       الثالثة: الآية ١٨ من سورة الفتح حيث يقول تعالى: (لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا).

-       الرابعة: الآية ١٢ من سورة الممتحنة حيث يقول تعالى: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم).

والمعنى المشترك بين الآيات الأربعة السالفة الذكر هو أن للبيعة مفهوم ديني حصري ينصب على العهد مع الله من خلال رسوله. ففي الآيات الأولى والثانية والثالثة يبيّن تعالى أن البيعة لا تكون إلا للقتال في سبيل الله حيث يقدم المؤمن أغلى ما يملك ثمنا لنيل رضى الله ومغفرته ورحمته، في حين أن المعنى الذي تشير إليه الآية الرابعة يتعلق ببيعة الرسول على التوحيد والالتزام بأحكام الدين التي تؤطر مجتمع المؤمنين. ولا يوجد في القرآن ما يشير إلى البيعة بالمفهوم السياسي كما أصبح معمولا به بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

والذين اعتبروا أن البيعة التي تمت في سقيفة بني سعيدة كانت بيعة سياسية تتعلق بانتقال السلطة في الدولة الإسلامية من الرسول إلى الخلفاء الراشدين قد أوّلوا البيعة في الإسلام بشكل سياسي بعيد عن المعنى الديني الذي حدده تعالى في خطابه.

ودليل ذلك، أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتداولوا في سقيفة بني سعيدة بشأن مشكلة انتقال السلطة السياسية كما يستشف من ظاهر الخطاب، بل ركزوا أساسا على مسألة انتقال الزعامة الدينية، أي خلافة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله استنادا إلى كتاب الله بعد انتهاء عهد النبوة كما أشار إلى ذلك عمر رضي الله عنه بقوله: "وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له". وبالتالي، فهمّ الصحابة كان ينصبّ بالأساس على ضمان استمرار قيادة المجتمع الإسلامي على نهج النبوة من خلال التبشير، وجهاد المنافقين، وقتال المشركين الذين يتربصون بالمؤمنين شرا، والحكم بما أنزل الله، ولم يفكر أحد من الصحابة بمسألة السلطة أو الدولة، لذلك سمي الخليفة الأول "خليفة رسول الله". وعندما تولى عمر الخلافة استشكل على الصحابة لقب "خليفة خليفة رسول الله" فاختاروا ولأول مرة لقب "أمير المؤمنين"، وهو اللقب الذي لا يحمله إلا من عاهد الله على قتال المشركين والجهاد في سبيله، بمعنى بذل الجهد والمجاهدة في سبيل الله للحفاظ على بيضة الأمة وتقوية لحمتها وضمان أمنها وازدهارها واستمرارها.

وبذلك يكون عمر رضي الله عنه قد طبّق البيعة في البداية بمفهومها الديني لا السياسي، لإيمان المؤمنين حينها بأن الغاية من وجودهم وسعيهم وجهادهم في الحياة الدنيا هي نيل رضى الله للظفر بالخلاص في الحياة الآخرة التي كانوا يرونها قريبة، ولم يكونوا يفكرون حينها ببناء سلطة دنيوية على شاكلة دولة أو إمبراطورية، لقول عمر رضي الله عنه: " أيها الناس، إني قد قلت لكم بالأمس مقالة فما كانت إلا عن رأي، وما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهدا عهده إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا".

والذين تحدثوا عن دولة النبي في المدينة تجاهلوا من حيث يدرون أو لا يدرون، أن الله تعالى لم يبعث رسوله ليقيم دولة بل ليؤسس أمة وصفها تعالى بأنها كانت أحسن أمة أخرجت للناس. ولم يسجل التاريخ أن المسلمين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الحكم لا في مكة ولا في المدينة، والذين فهموا من بيعة العقبة الأولى والثانية أنها كانت بيعة سياسية إنما حاولوا، لأهداف مشبوهة، التأسيس لشرعية الدولة الدينية التي لم يقل بها الله في كتابه ولا دعى إليها رسوله الأعظم في حياته.

والبيعة التي دعى إليها القرآن لا تتسم بالدوام، بمعنى أنها ليست عهدا يستمر طوال الحياة وينتقل من السلف إلى الخلف بالوراثة كما أصبح عليه الحكم السياسي فيما بعد، بل هي بيعة تتم لمرة واحدة ولمعركة بعينها تفرضها ظروف الحال، ولا تكون إجبارية بل طوعية لمن يشاء، ولنا في بيعة الرضوان المثال الحي على ذلك.

وفي هذا الصدد يذكر التاريخ، أن لبيعة "بيعة الرضوان" التي باركها الله تعالى بعد أن عقدت تحت الشجرة للرسول الكريم من قبل المؤمنين الذين خرجوا من المدينة إلى مكة بغرض أداء العمرة، كانت من أجل قتال المشركين، ذلك أنه وبعد أن خرج نبي الله يوم الإثنين ذي القعدة سنة 6 هـ، ومعه زوجته أم سلمة و ما بين 1400 و 1500 من المسلمين، اعترضت قريش طريقهم ومنعتهم من أداء شعيرة العمرة برغم الاتفاق المسبق بينهم وبين الرسول، حيث كانت مكة في ذلك الوقت لا تزال تحت الحكم القرشي، لذلك استقر الحال بالمسلمين في الحديبية. ثم أرسل النبي عثمان بن عفان إلى قريش ليخبرهم أن المسلمين أتوا للعمرة وليسوا مقاتلين. وحينما تأخر في مكة سرت إشاعة بأن عثمان قد قُتل على يد قريش. فقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ البيعة من المسلمين على قتال قريش وألا يفروا حتى الموت. فلم يتخلّف عنها أحد إلا 'جد بن قيس'، ومع ذلك، لم يعاقبه الرسول على موقفه، بل احترم خياره وترك أمره لله. فنزل الوحي يُبارك هذه البيعة في سورة الفتح آية 18: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾.

ويفهم من الآية الكريمة بما لا يدع مجالا للشك، أن البيعة في الإسلام هي صفقة تجارية وعهد مع الله للقتال حتى النصر أو الشهادة، عرفها المؤمنون زمن موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام لقوله تعالى في سورة التوبة آية ١١١: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا بيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم).  ومن شروطها أن لا تكون بالإكراه كما رأينا في حالة جد بن قيس، ولا تعقد إلا للقتال في سبيل الله كما أوضح ذلك القرآن، ولا تكون إلا لمرة واحدة عندما تقتضي الضرورة ذلك، ولا علاقة لها بالحكم ولا بما سمّي بـ "الخلافة"، ولا بالفتوحات التي هي غزوات من أجل المغانم تحت ذريعة نشر الدين بالإكراه.

والمفارقة الأولى، أن الفقهاء وهم يفتون بشأن البيعة نجدهم يخالفون هذه المبادئ القرآنية الواضحة وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم مؤاخذته لـ "جد بن قيس" على تخلفه عن عقد البيعة مع بقية المسلمين، ويعتبرون حكم من يرفض بيعة الإمام كحكم الخارج عن الجماعة، هذا علما أن شرط البيعة في الدين الرضا والقبول، وهو شرط يخضع لحرية الإنسان لا للإكراه بالقهر والجبروت.

والمفارقة الثانية أن الفقهاء اعتبروا أن كل من نكث البيعة "السياسية" للخليفة أو الإمام أو الأمير كافر مرتد عن الإسلام وأن حكمه أن يقتل، وهذا تشريع للاستبداد وإدامة للفساد، خصوصا وأن البيعة الدينية تعقد لله عن طريق رسوله، وهو وحده المختص بمعاقبة من نكث عهده أو العفو عنه، وليس من صلاحيات الفقهاء التطاول على مجال من اختصاصه تعالى دون سواه.

أما المفارقة الثالثة، فتكمن في قولهم حسب ما ورد في عديد المراجع الإسلامية، أن البيعة لا تعقد إلا لإمام واحد، وأنه إذا نازعه فيها أحد بعد بيعته فيجب قتل المنازع كائنا من كان، استنادا إلى حديث منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا بويع الخليفة فاقتلوا الآخر منهما). والسؤال  الذي يطرح بالمناسبة هو: لماذا لم يطبق هذا الحديث إذا كان صحيحا في حالة معاوية بن أبي سفيان الذي نازع الإمام علي عليه السلام الخلافة بعد بيعته؟ 

لا جواب، هنا يفضل الفقهاء الصمت.

ومهما يكن من أمر، فمن المعلوم أن عديد الأحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم تم وضعها لتبرير هذا الموقف السياسي أو ذاك، خدمة لحاكم أو آخر، ولا علاقة لها بشرع الله أو سنة رسوله، لأنه إذا كانت البيعة وباجماع الفقهاء لا تعتبر أصلا من أصول الدين، فكيف يمكن اعتبار من يرفضها أو ينقضها "كافر"، ومن ينازع فيها "مرتد" يستوجب القتل؟

هذا الخلط في الفهم بين الديني والسياسي في عقول الخلف الذين أتوا بعد زمن النبوة واستمر إلى يوم الناس هذا مع جماعات الإسلام السياسي التي اتخذت من الدين سلاحا لمعارضة شرعية النظام القائم في بلادها، يعود لكون القرآن لم يحدد للمسلمين نوع الدولة الواجب إقامتها كما سبقت الإشارة، كما أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يوصي لأحد بخلافته في الدين الذي هو شأن من اختصاص السماء، فكيف له أن يوصي بقتل من ينازع خليفته المفترض؟

لقد كانت الدولة دائما في صراع مع الدين باعتبارها شأن من شؤون الدنيا التي تخضع فيها إدارة المصالح لصراع العقل بمنطق الحنكة والحيلة والقهر، ويؤكد هذه الحقيقة سكوت القرآن عن نظام الحكم واهتمامه بشكل مركز على تزكية النفس بالأخلاق العظيمة وتغذية الروح بالقيم الإنسانية النبيلة، وهذا هو هدف الدين وغايته المثلى. والرسالة بهذا المعنى لم تبشر المسلمين بمملكة الأرض كما فهم ذلك اليهود والنصارى والصحابة كما يفهم من حديث عمر رضي الله عنه، بل بالتقوى في الدنيا لنيل المغفرة والرحمة والظفر بالنعيم الدائم المقيم في ملكوت السماء بعد الموت. وكلنا يعلم كيف انتهت تجربة الخلافة القصيرة وكيف انتهى الأمر بمقتل الخلفاء لأسباب سياسية انعكست سلبا على الأمة في وقت مبكر من التاريخ.

وقد تناول ابن خلدون قضية البيعة من المنظور السياسي الواقعي دون اهتمام بمسألة تأصيل المفهوم من الناحية الدينية، فنجده يتحدث عن إجراءات البيعة من مستويين كما عرفت زمن الصحابة، فيقول في الفصل التاسع والعشرون من المقدمة: "ومنه بيعة الخلفاء. ومنه أيمان البيعة. كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلها لذلك، فسمّي هذا الاستيعاب أيمان البيعة". فإجراءات البيعة كما رصدها ابن خلدون من تجربة الخلفاء تكون على مستويين: الأول وتسمى فيه بيعة الانعقاد: وبموجبها ينعقد للشخص المبايع السلطان، ويكون له بها الولاية الكبرى أو الإمامة الكبرى دون غيره حسما للخلاف حول من يتولى أمر المسلمين، وهذه البيعة هي التي يقوم بها أهل الحل والعقد، وذلك معنى قول ابن خلدون: "ومنه بيعة الخلفاء". أما المستوى الثاني فهو ما يسميه بالبيعة العامة أو بيعة الطاعة، ويقصد بها بيعة سائر المسلمين للخليفة، فهي بيعة شعبية عامة، وقد حدثت بالنسبة لأبو بكر رضي الله عنه بطريقة شكلية، إذ بعد أن بايعه أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة، دُعي المسلمون بعد ذلك للبيعة العامة في المسجد للتزكية ليس إلا.

وبذلك، يكون عمر ابن الخطاب رضي الله عنه هو أول من أسس لمفهوم أهل الحل والعقد في الإسلام، وجعله بديلا عن الشوري بمفهومها القرآني الواسع لقوله تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) الشورى: 38، وهذا يعني أن البيعة فرض عين على كل مسلم عاقل مثلها مثل فريضة الصلاة وفق منطوق الآية الكريمة، وحيث لا يجوز أن يصلي أحدا نيابة عن أحد،  فلا يجوز بالتالي أن ينوب أحد عن أحد في عقد البيعة الذي يعتبر ميثاقا مع الله. وبهذا المعنى، تكون ظاهرة أهل الحل والعقد في موضوع البيعة بدعة، وقس عليها ظاهرة البرلمانيين الذين يبايعون الملك باعتبارهم نوابا منتخبين من الأمة في بعض البلدان العربية، هذا في الوقت الذي يتم انتخابهم من قبل الشعب لمهمة سياسية محددة، ألا وهي تشريع القوانين ومراقبة الحكومة، وبالتالي، فبيعتهم للملك أو الأمير لا تعدو كونها بيعة فلكلورية ما أنزل الله بها من سلطان وليس لهم بها تفويض من الأمة.

والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: - هل ساهمت البيعة التي دعا إليها الخليفة عمر رضي الله عنه بعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حل إشكالية نظام الحكم في الإسلام؟

الجواب نجده واضحا من خلال وضع هذا التاريخ "المُبجّل" على مشرحة النقد. ذلك أن خلافة الرسول لا أصل ولا فصل ولا شرعية لها من الدين كما سبقت الإشارة، وحديث (العلماء ورثة الأنبياء) لا يعني توليهم مهمة الرسول في أمته، خصوصا بعد أن اكتمل الدين بالقرآن، وبالتالي، أصبح دور العلماء يقتصر على توضيح مضمون الرسالة للعامة كل حسب فهمه ومستوى إدراكه لواقع زمانه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن، وما كان له أن يفعل وإلا لتحوّل إلى نصّ مغلق غير صالح لكل زمان ومكان.  ولعل الحكمة الإلهية من ذلك تكمن في قطع الطريق على الكهنوت حتى لا يتم العبث بالدين، وتحوير عقيدة المسلمين، وإعطاء المسلم مرجعا سماويا للحقائق يقيس بها الأمور بعقله وفق ظروف زمانه وشروط مكانه، لا بعقل فقهاء ينتمون لأزمان غابرة.

والمفارقة العجيبة التي نلحظها في الثقافة الإسلامية تكمن في أنه، وبعد أكثر من أربعة عشر قرنا من التجربة، نجد أن المسلمين كلما استجد الحديث عن الدولة الإسلامية المثالية إلا وقفزت إلى الذهن مرحلة الخلافة المسماة بـ "الراشدة". ويتم التغاضي عن حقائق مؤلمة تقول، أنه في ظل الخلافة ولدت الفتنة الصغرى التي تطورت بسرعة إلى فتنة كبرى سفكت خلالها أنهار من دماء المسلمين، فكان خط الانحراف الكبير الذي غيّر وجه التاريخ، حيث انحرفت بوصلة الأمة عن الوجهة التي استثمر فيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالوحي والحكمة والأخلاق الحسنة لصون وحدة الأمة وتماسكها واستمرارتها قوية عزيزة من بعده.

 فعامة المسلمين لا يزالون يعتقدون بأن الخلافة تمثل أرقى نظام للحكم الديني والدنيوي، وأن سبب تخلف الأمة وهزيمتها بدأ بعد سقوط دولة الخلافة كما روجت لذلك جماعات الإسلام السياسي في أدبياتها، لأن دولة الخلفاء الراشدين وفق اعتقادهم، كانت أرقي نموذج من نماذج الحكم الراشد والعادل، ويستدلون على ذلك بعدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كنموذج فردي، يتيم، ومحدود في الزمن، لم ينتج تاريخ المسلمين مثيلا له، باستثناء تجربة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه القصيرة أيضا، وكلا التجربتين قضي عليهما غدرا. والذين يدافعون عن قدسية هذا النموذج الفرداني البعيد كل البعد عن المنطق المؤسساتي، لا يتحدثون عن نظام سياسي إسلامي واضح المعالم، بل عن تجارب شخصية لأفراد صالحين، تنتهي بموتهم لتبدأ تجربة أخرى مع أشخاص آخرين.

وبغض النظر عن موقفنا العاطفي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخبرنا التاريخ بأن الخليفة أبو بكر رضي الله عنه تمت مبايعته من قبل ثلة من أعيان قريش  في غياب الإمام علي رضي الله عنه الذي كان منشغلا بإعداد جثمان الرسول الطاهر للدفن. وها هو الفاروق عمر رضي الله عنه يتخلى عن مؤسسة أهل الحل والعقد الذي أسسها وأناط بها مهمة اختيار خليفة الرسول فيرث الخلافة بناء على وصية سلفه، ومن ثم يقرر اختزال مبدأ الشورى في مجلس معين من ستة من الصحابة بالإضافة لابنه، لمبايعة عثمان بن عفان رضي الله عنه من بعده، فيحرم بقية المسلمين من حقهم في اختيار من يتولاهم برغم اعترافه أن بيعة الخليفة الأول كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها. وها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتعرض لخديعة معاوية بن أبي سفيان فيقصيه من الحكم، لتتحول الخلافة من بعده إلى ملك عضوض بالقهر، ووصل الأمر بيزيد بن معاوية حد ذبح أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم كما تذبح الخراف من أجل السلطة، وهدم الكعبة وحرقها بالزيت والنار، ثم الذهاب في العام التالي للحج على رأس ثلة من فقهاء السلطان، ما يؤكد أن الهم السياسي كان أكبر من الهم الديني لدى الحكام إلا من رحم الله، وبذلك، تحولت البيعة إلى مجرد بروتوكول شكلي بين الحاكم وأهل الحل والعقد من فقهاء البلاط وأمراء العسكر يُرغم الجمهور على عقدها، ومن لم يفعل يدفع رأسه ثمنا لموقفه، وبذلك لم تعد البيعة عقد بين المسلم وربه بل بينه وبين الحاكم بحيث يتحوّل المبايع بموجبه إلى عبد للطاغية. وما وقع من فتن (صغرى وكبرى) هو بالضبط ذات الشر الذي تحدث عنه عمر وقال أن الله وقى الأمة شره ببيعة أبي بكر المخالفة لمبدأ الشورى القرآني. والمفارقة أن هذه الحقائق يتم تجاهلها من قبل الجماعات السياسية التي تروج للبيعة في خاطاباتها الشعبوية، وتتربص بالأنظمة القائمة لإسقاطها بـ "الثورة". 

ويعتبر تولي معاوية الحكم بالحيلة والخديعة بمثابة خط الانحراف الثاني الذي غيّر مصير الأمة، خصوصا بعد أن أسس لما أصبح يعرف بـ"أهل السنة والجماعة"، فكانت هذه الطائفة بمثابة حزب سياسي بعمامة دينية، مستغلا بذلك ولأول مرة الدين في السياسة، انطلاقا من حديث غريب مأخوذ من التراث اليهودي يقول بأن الجماعة هي الفرقة الناجية وما سواها في النار. وهو الحديث الذي أدى إلى تداعيات خطيرة نتج عنها اختلاف الأمة في السياسة الذي انعكس تفرقة حادة في الدين، لتعيد أمة محمد انتاج تجربة اليهود، فظهرت ولأول مرة ثقافة التكفير والإقصاء والإلغاء والكراهية، وكل ما ترتب عن ذلك من كدارة وفتن وصراعات وحروب لا تزال قائمة في دنيا المسلمين إلى اليوم.

وحيث أن النتائج رهينة بمقدماتها، فلقد كان لهذه الردة المبكرة في تاريخ المسلمين آثار كارثية أدت إلى ما نحن عليه اليوم من سوء حال. والذين يطالبون اليوم بإعادة إحياء نظام "الخلافة الإسلامية" على مستوي الأمة، أو أولائك الذين يتمسكون بنظام "إمارة المؤمنين" على المستوي القطري، بدعوي إقامة الدولة القوية العادلة، لا يسعون إلى تحرير المجتمع من الظلم والاستبداد، بقدر ما يسعون إلى إعادة إحياء الإيديولوجيات الدوغمائية القديمة، التي أثبتت فشلها في تحقيق العدل بين الناس بشهادة التاريخ. وبفضل هذا الانحراف الخطير في مفهوم الدين والسياسة معا، تحول الإسلام من دين أمة إلى دين جماعة بالمفهوم الطائفي، حتى أصبح لكل قطر إسلامه ومذهبه ونظامه. وتحولت السياسة من أداة لتحقيق العدل والحرية والكرامة، إلى وسيلة لتزييف إرادة الناس، وتأبيد الظلم والفساد، ونشر الجهل والفقر، وتكريس الاستبداد. وكل ذلك، كان نتيجة طبيعية لاستغلال النخبة للدين في السياسة، ولسوء الفهم الكبير والخطير للدين من قبل العامة.

ثم تأتي مؤسسة السنة لتشيع في الناس اعتقاد خاطئ مفاده، أن السلف الصالح هو من فهم الدين بالشكل الصحيح، لأنه كان أقرب إلى زمن النبوة من غيره، ما يستوجب الأخذ بسنته، وذلك عكس معطيات الدين والتاريخ التي تؤكد لنا اليوم بما لا يدع مجالا للشك، أن هذا السلف لم يكن كله صالحا إلا من رحم الله. فإذا أخذنا بيعة الرضوان مثالا، نكتشف أن هناك خلافا كبيرا نشب بين السنة والشيعة حول مسألة رضى الله عمّن بايعوا الرسول تحت الشجرة، فاعتبر السنة أن كل من بايعوا الرسول بيعة الرضوان رضي الله عنهم سيكون مصيرهم الجنة، فيما اعتبر الشيعة أن الرضى الذي يتحدث عنه الله تعالى خص به المؤمنين الذين استشهدوا في المعركة بعد أن علم ما في قلوبهم ولم يقل أنه رضي على المبايعين وفق منطوق الآية، ودليل ذلك بالنسبة لهم، الأشخاص الذين أحدثوا بعد وفاة الرسول من الكبائر ما لا يعقل أن يدخلوا الجنة بسببها، ويستشهدون بما رواه الإمام مالك في الموطأ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي بكر وثلة من الصحابة حين سألوه عن مآل من بايعوا تحت الشجرة فقال: (لا أدري ما تحدثون بعدي). وقد صح أن الذي قتل عمار بن ياسر رضي الله عنه هو الصحابي يسار بن سبُع المعروف بابي الغادية الجهني، وهو ممن بايع تحت الشجرة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (قاتل عمار وسالبه في النار)، فثبت أنَّ من بعض من بايع تحت الشجرة يمكن أن يكون من أهل النار

كما أن قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه كان من قبل بعض الثوار المصريين المتطرفين برءاسة عبد الرحمن بن عديس البلوي الذين اعتبرتهم السنة من الخوارج، وهذا القائد هو أيضاً ممن بايع تحت الشجرة. والمشكلة لا تكمن في من نفذ فعل القتل فحسب، بل وفي من حرض على القتل أيضا باعتباره مشاركا في الجريمة بمنطق الشرع السماوي والقانون الوضعي، ويذكر التراث أن من بين المحرضين (عائشة، طلحة بن عبيد الله، الزبير بن العوام، عمر بن العاص، سعد بن أبي وقاص، عبد الرحمن بن عوف، عبد الله بن عباس، عمار بن ياسر، أبو ذر الغفاري، جهجاه الغفاري، محمد بن أبي حذيفة، أعين بن ضبيعة، صعصه بن صوعان، جكيم بن جبلة، هشام بن الوليد المخزومي، زيد بن صوحان العبدي، جبلة بن عمرو الساعدي الأنصاري)، كما تؤكد عديد المراجع أن عائشة رضي الله عنها هي من حملت راية التحريض ضد عثمان بسبب الفساد حين خرجت في الناس تحمل قميص الرسول صلى الله عليه وسلم وتقول: "إن عثمان بدل سنة محمد قبل أن يبلى قميصه"، وبعد أن قتل، خرجت تحمل قميص عثمان وتطالب بالثأر لدمه كما تذكر عديد المراجع الدينية والتاريخية.

وبالتالي، فإصباغ السنة لهالة من التقديس على هذا التاريخ الدموي والقول بأن كل من بايعوا الرسول تحت الشجرة يعتبرون من المرضي عنهم ونهي الناس من الخوض فيما حدث إبان الفتنة الصغرى والفتنة الكبرى، إنما هدفه طمس الحقائق، لأن إجلاءها سيضرب المشروعية الدينية التي قامت عليها مؤسسة السنة من أساسها.

وهذا يعني بالمحصلة أنَّ النظرة السنية في تفسير رضا الله في موضوع بيعة الرضوان، لم تكن صحيحة، بل تتعارض جملة وتفصيلا مع الفهم الصحيح للدين والتاريخ معا. والمراجع التي تتحدث عن مؤامرة القتل والمحرضين عليها أكثر من أن يسعها المقام هنا.

وللتذكير، فليس هدفنا من إجلاء بعض الغبار عن هذا الماضي البعيد هو محاسبة من صنعوا الأحداث الدامية في تلك الفترة المظلمة من تاريخ الأمة، بل فقط لفهم ماضينا بشكل صحيح والبناء على نتائجه لتعديل البوصلة بالنسبة للمستقبل. وحسبنا في ذلك قوله تعالى (تلك أمة خد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يفعلون) البقرة: ١٣٤. وهي الآية التي تكررت حرفيا في الآية: ١٤١ من نفس السورة. وبالتالي، فمن العبث التمسك بسنتهم والله تعالى ترك لنا أحسن الحديث في كتابه يغنينا عما سواه بدليل قوله: (الله نزّل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هُدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) الزمر: ٢٣. فبأي منطق إذن نبحث عن الهدى في حديث السلف ونترك حديث الله؟

ويعتبر الإمام الشافعي أول من أسس لمبحث الإمامة بمفهوم الخلافة، حيث أدرجه كباب من أبواب الفقه السني، وتبعه بعد ذلك بقية الفقهاء الذين اعتبروا مسألة الخلافة جزءا أصيلا من الفقه. ومعلوم لدى الباحثين في الثرات الاسلامي أن الشافعي هو أول من قرر "مبدأ الإجماع" كقاعدة أساسية في نظرية الخلافة، ورفع هذه القاعدة إلى مصاف مصادر التشريع بعد القرآن والسنة النبوية. واعتبر أن أول إجماع يعتد به هو إجماع الصحابة، ثم إجماع العلماء المجتهدين في كل عصر من بعدهم دون اهتمام بالمضمون ولا بمستويات الإدراك ومتغيرات الظروف والشروط التي تفرضها سنن التطور. وطبعا لن نخوض هنا في مفهوم الإجماع لدى الفقهاء، والذي يعتبر من وجهة نظرنا نوع من التحايل على مبدأ الشورى القرآني بهدف إلغائه للحلول مكانه. فهذا المفهوم وحده يتطلب بحثا مستقلا ليست هذه مناسبته، وتكفي العودة للثرات لاكتشاف أن الإجماع وفق تعريف الفقهاء هو اتفاق ثلاثة أو أكثر من الفقهاء على رأي واحد في مسألة معينة.

هكذا إذن، أصبحت الإمامة بفضل اجتهاد الفقهاء بعيدا عن شورى الأمة "وظيفة دينية" باعتبارها خلافة للنبوة. فقد عرّفها الماوردي الفقيه الشافعي و قاضي قضاة بغداد  بقوله: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا". وهذا التعريف، يشمل عناصر ثلاث: "خلافة النبوة" و "حراسة الدين" و "سياسة الدنيا". ووفق الماوردي نفسه: فـ "حراسة الدين" تعني: "حمايته والدّب عنه لا شرحه أو التبديل فيه". وعلى هذا المنوال صار الفقهاء من بعده.

ولعله من فلتات التاريخ الديني والسياسي في المغرب على سبيل المثال، أن "السلاطين" وعلى امتداد العصور، اختاروا ألقابا مختلفة، منها "أمير المسلمين" التي قال بوجوبها المرابطون في عهد يوسف ابن تاشفين إلى جانب لقب "ناصر الدين". لكن في عهد الموحدين، أصبح لقب "أمير المؤمنين" الأكثر استعمالا، إلى أن اختارت جماعة "لسان المغرب" أن يوصف "السلطان" بـ: "أمير المسلمين" في أول وثيقة سياسية مغربية هي دستور 1908. وذلك، بسبب الخصوصية التي طبعت التجربة الدينية والسياسية المغربية التي كانت إلى حد ما، مستقلة عن تجربة دولة "الخلافة" في المشرق، وخاصة الخلافة العثمانية التي لم تبسط سلطتها على المغرب الأقصى. لكن الملفت في الأمر، هو أن هذه الجماعة لمّا اقترحت لقب "أمير المسلمين"، كان ذلك من منطلق فهمها لضرورة أن يكون للمغرب "دولة مجاهدة" كما أسمتها، ليستحق السلطان مثل هذا اللقب كما يقول الأستاذ إسماعيل حمودي في دراسة له حول لقب "أمير المؤمنين" بالمغرب. إلا أن السلطان عبد الحفيظ، وبسبب ارتباطه بالقوي الاستعمارية الغربية، رفض تبني وثيقة دستور 1908.

والحقيقة، أن الفهم الذي قدمته جماعة "لسان المغرب" للوظيفة الجهادية التي يجب أن يقوم بها "أمير المسلمين" كشرط للبيعة الدينية، يتناغم بشكل دقيق مع الفهم الاسلامي الذي كان سائدا حول علاقة الدين بالدولة في الوعي الجمعي للأمة. بحيث إذا انتفت مهمة الجهاد من وظيفة "الأمير"، يفقد هذا الأخير شرعيته الدينية. ولذلك نجد السلطان محمد الخامس بعد إعلان الاستقلال قال: "لقد خرج المغرب من الجهاد الأصغر (أي المقاومة المسلحة) إلى الجهاد الأكبر (أي البناء والتنمية)"، هذا علما أن المغرب لم يكن بعد قد استكمل مسيرة تحرير كل أراضيه المغتصبة (شرقا وشمالا وجنوبا). وبهذا الخطاب، تحولت "إمارة المسلمين" عن الهدف الجهادي الذي تستمد منه شرعيتها، إلى العمل السياسي والتنموي، من دون أن تتخلص من اللقب الديني الذي أصرت على المحافظة عليه لأسباب لا علاقة لها بالدين، بقدر ما تخدم السياسة. 

وتأكيدا لوجاهة هذا الاستنتاج ، نشير انطلاقا من المفهوم القرآني للبيعة، إلى أن القول بأن الملك هو في نفس الوقت "أمير للمؤمنين"، وأن دوره يهدف إلى ضمان الأمن الروحي للعباد (استبدل الجهاد بالأمن الروحي)، وذلك من خلال فرض سلطان مذهب فقهي معين كما هو الوضع الحالي في عديد الدول العربية.. هو مجرد بدعة لا أساس لها من الدين .. لأن الله وحده له السلطان على الروح وهو الذي يراقب الناس في المجال الديني، ويطلع على نواياهم، ويوجه خطاهم، ويرشدهم، ولم يجعل بينه وبينهم من وسيط.

إن مثل هذه المفاهيم المبتدعة وما أكثرها في الترات الإسلامي، تحمل أهدافا سياسية مشبوهة، ترمي إلى تكريس نموذج الحكم "الدهري – الكسروي"، وتلبيسه لبوس الدين كما أثبت ذلك ابن خلدون في نظريته حول الدولة العربية. إن ما يفصل الملك عن إمارة المؤمنين، ليس تطبيق الشرع فقط، بل تحديد الهدف من ذلك التطبيق. لأنه إذا كان المُلك يهدف إلى تحقيق مصالح الناس الدنيوية من أمن وازدهار واستقرار، فان إمارة المؤمنين هي الحكم الذي يهدف من وراء المصالح الدنيوية إلى تحقيق مقاصد الشريعة، أي تلك التي عرّفها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بأنها مكارم الأخلاق وفق الحديث الصحيح. هذا الكلام معناه أن الدولة الديمقراطية العقلانية الحديثة، لا يمكن أن تتجاوز أهدافها الذاتية سعيا وراء أهداف طوباوية مستحيلة التحقيق من دون النظر بنور الله فيما هو مغيب عن الناس من أمور آخرتهم. أو بكلام أكثر وضوحا، أن الدولة التي تتبني مكارم الأخلاق كهدف أسمي، هي الدولة التي تسعى إلى أن تكون كلمة الله هي العليا في الداخل كما في الخارج، عبر الجهاد بمعناه العام الدال على المجاهدة والإخلاص في العمل، ومعناه الخاص الذي يفيد القتال في سبيل الله دفاعا عن النفس والعرض والأرض، كما يقول عبد الله العروي في تحليله لنظرية ابن خلدون في الدولة. وفي هذا الصدد يقول ابن رشد الفيلسوف والفقيه المالكي: "إن الشرع أعلى من الناموس العقلي". وهو ما يؤكده ابن خلدون كذلك من خلال قوله: "وما كان منه بمقتضي السياسة وأحكامها فمذموم أيضا لأنه نظر بغير نور الله.. لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم".

هذا الوضع أنتج ما أصبح يعرف في التاريخ الإسلامي بالمعارضة الدينية، ومرد ذلك، أن خطاب السلطة التي تتخذ من الدين عمامة يتضمن في كيميائه ولو بشكل مستتر الخطاب المعارض، ويكشف الدافع الحقيقي الذي يقف وراءه، بحيث لا تكون سنة وإلا تكون ضمنيا سنة مضادة، فقد أكدت أحداث التاريخ، أن الأمر لم يكن يتعلق بالهمّ الديني بقدر ما كان المحرك الأساس هو السعي وراء السلطة.. يستشف ذلك بوضوح من البوادر الأولى للخطاب المعارض في حينه، والذي وإن كان اتخذ من الدين لبوسا، إلا أن جوهره كان سياسيا بامتياز، لكنه بالنسبة لخطاب المعتزلة والشيعة كان يتسم بقدر من الموضوعية بخلاف خطاب السنة المخادع.

ولسوء حظ معاوية، وكل من صدّق خطاب السنة والجماعة عبر الدهور والعصور، أن الأمة لم تفترق وفق منطوق الحديث المزعوم إلى ٧٣ فرقة، بل لم يتجاوز عدد المتكلمين الذين اشتغلوا بتحليل مضامين الخطاب حينها عشرة، هذا فيما أفرزت هذه الواقعة خمس فرق إسلامية بالمعنى الإصطلاحي للفرقة لا أكثر، لأن ليس كل من يقول بمقالة يصنف في خانة الفرقة، ولو كان الأمر كذلك لبلغ عدد الفرق الآلاف. وهو ما يؤكد براءة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من حديث معاوية الذي لم يكن له من هدف سوى الهيمنة على السلطة ولو على حساب تمزيق صفوف الأمة، ولا يوجد عاقل بين المسلمين يقبل بأن ينسب لرسول الله الصادق الأمين مسؤولية التفرقة في الدين، وهو الذي شهد له الخصوم قبل المؤمنين كيف كان حريصا على وحدة الأمة وتماسكها، وكيف كرّس حياته لتربيتها على نبذ الخلاف والفرقة، والإعتصام بحبل الله المتين الذي هو القرآن سبيلا وحيدا للنجاة، حتى لا تذهب ريحها وينتهي بها الأمر إلى ما انتهت إليه الأمم السابقة حين استبدلت رسالة ربها بسنن رسلها، فسقط العدل وضاع الإنسان الذي هو وعاء رسالات السماء، وعاد حكم فرعون كما كان الأمر زمن موسى، ولم يعد شعار الله أكبر يعني تحرير الإنسان من عبودية أخيه الإنسان، بل تحول إلى شعار يرفع في وجه المخالفين والمعارضين، إيذانا ببدأ حفلات الدم والذبح والسلب والنهب والإغتصاب والدمار والخراب باسم الله الرحمن الرحيم، أي أن الأنظمة كانت تلجؤ إلى سلاح الإغتيال المعنوي بالإديولوجيا قبل المرور إلى الإغتيال الجسدي بحد السيف في حق معارضيها الذين ينازعونها الشرعية باسم الدين في غياب الحرية والشورى.

وهذا يعني بالنتيجة، أن مكر التاريخ هو من كشف مكر السنة ولو بعد زمن طويل، ففضح زيف مقولاتهم ووحشية ممارساتهم واستبدادهم وفسادهم الذي تزول من هوله الجبال.. وهو ما عبر عنه فيلسوف التاريخ والإديولوجيا عبد الله العروي في كتابه (الإصلاح والسنة) بما مفاده، إن الزمن هو عدو السنة الأخطر، لأنه هو من كشف اليوم زيف مقولاتهم وفضح مكرهم وأسلوب التحايل الذي يعتمدونه لتدجين الأتباع بهدف شرعنة الإستبداد وإدامة الفساد. لذلك تسعى السنة لأن تصارع من أجل البقاء بمحاولة تجاهل الزمن وطمس الحوادث، معتقدة أن بمقدورها البقاء من خلال تكتيك خلط الأزمنة لتخطي العقبات وحل العقد بالمعاودة والتكرار، لما تتميز به من خاصيتين أساسيتين: "الجدل والنفي"، ما يجعلها لصيقة بظروف نشأتها، لكن ما يثبتها هو بالضبط ما ينقضها، حالا ومآلا. (السنة والإصلاح: ١٧٣). والعروي بقوله هذا لا يتهجم على السنة من منطلق ديني بقدر ما يمارس النقد التاريخي الموضوعي للكشف عن جذور بروز ظاهرة رجال الدين في التاريخ الإسلامي، أي بمعنى المتاجرة في الدين بسبب جهل الناس وبعدهم عن كتاب الله وتمسكهم بما يقوله الفقهاء من ترهات إلا من رحم الله.

والحقيقة أن هذه الظاهرة ليست خاصة بالرسالة المحمدية، ذلك أن مجمل التاريخ الديني، يخبرنا أن الرسالات التوحيدية السابقة (الموسوية – والعيسوية)، عرفت نفس الظاهرة، ومرت من نفس التجربة التي تولّى فيها الحاخامات والرهبان تغيير مجدرى التاريخ من خلال العبث بالدين في مسعى لتدجينه بهدف الهيمنة على عقول الناس، وهو ما حذر منه تعالى في أكثر من آية وسورة، منها على سبيل المثال لا الحصر قوله: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) آل عمران: 77. والمراد هنا عموم اللفظ لا خصوص السبب الذي يتمسح به بعض الفقهاء للقول أنها تخص اليهود دون غيرهم، لأن العهد في الآية يشير إلى الإيمان الذي عقدوه مع الله بموجب الميثاق الوارد في الآية 81 من سورة آل عمران لقوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به وتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين). ولتجنب السقوط فيما اتهم به اليهود والنصارى من تحريف وتحوير لكلام الله، لجأ فقهاء السلاطين إلى السنة واعتبروها أساسا ثانيا للتشريع، وباسمها وضعوا منظومة دينية مشبوهة استبدلت دين الله السمح الجميل بنسخة مشوة إلى أقصى الحدود عن الإسلام القويم، وبعد ذلك أصبحوا يؤولون المتشابه ويلوون ألسنتهم بالكتاب ليحسبه الناس من الكتاب وما هو من الكتاب كما يقول تعالى، لأن عديد الأحاديث التي بنوا عليها منظومتهم الكهنوتية تتعارض جملة وتفصيلا مع ما ورد في القرآن الكريم من آيات محكمات هن أم الكتاب لقوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا اولوا الالباب) آل عمران: ٧.

والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا الصدد، ففي موضوع البيعة مثلا، نجد أن  الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أقر مبدأ أساسيا في العلاقة بين الناس بمختلف مستوياتهم سواء أكان الأمر يتعلق بأب أو زوج أو أمير أو عالم أو غيره، ومفاده: أن (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) رواه أحمد وأخرجه الطبراني والترمذي وغيرهم، وهو الحديث الصحيح الذي يتساوق مضمونه مع المفهوم القرآني للطاعة والمعصية. هذه القاعدة الإيمانية الأساسية نبذها الفقهاء وراء ظهورهم واستبدلوها بقاعدة سياسية مخالفة لها جملة وتفصيلا، أسسوا لها استنادا إلى حديث مشبوه نسبوه للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني) رواه البخاري ومسلم، وقالوا أنه لا يشترط في هذه الطاعة أن يكون الإمام عادلا أو صالحاً أو فاضلا، فطاعة الإمام واجبة حتى لو كان ظالما فاسدا وفاجرا فاسقا ما لم يصدر عنه كفر بواح كما سبق القول، واستدلوا على ذلك بحديث آخر رواخ مسلم وغيره يقول (ألا من ولّي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة)،  وبذلك تم هدم أهم أساس يقوم عليه الدين بعد التوحيد ألا وهو العدل الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بالشرع الجماعي ومسؤولية الناس عن مستقبلهم ومصير عيالهم، وأصبح  المواطن في خدمة الحاكم لا العكس. وزادوا الطين بلة بأن ربطوا الخلاص بعد الموت بطاعة الأمير استنادا إلى حديث مشبوه رواه البخاري ومسلم يقول: (من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية). وبذلك حوّلوا البيعة الدينية إلى بيعة سياسية لا أصل ولا فصل لها من القرآن، وحصّنوها بأحاديث مشبوهة لإلزام الناس بالطاعة وتحمّل الظلم والذل والإهانة وعدم التفكير في خلع الحاكم المستبد الفاسد حتى لا تكون فتنة ليضمن المواطن رضى الله يوم القيامة.

والسؤال هو: - هل تجنب الفتنة يعفي الناس من مسؤوليتهم عن مصيرهم الذي لا يمكن أن يتحكموا فيه إلا بتطبيق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟..

وللإشارة فهي الفريضة السادسة المغيبة في حديث الأركان الخمسة بالإضافة إلى الركن السابع الذي يحث على الجهاد في سبيل الله. وهي أركان لها علاقة بالإيمان لتوجه الله تعالى في الخطاب بشأنها إلى المؤمنين، لا بالإسلام كما ورد في الحديث المشبوه (بني الإسلام على خمسة) الذي قال به فقهاء بنو أمية وأخرجه البخاري، وتحوّل عبر العصور والدهور إلى أساس للتعليم الديني في المدارس العربية والإسلامية، لتكوين أجيال من المسلمين الذين لا يطبقون من الدين إلا ما له علاقة بالطقوس من دون روح.

هذا الخطاب الكهنوتي الذي تبنته منظومة الثقافة السنية هو الذي أفرز هذا الواقع المزري الذي حوّل المسلمين من أحسن أمة أخرجت للناس إلى أسوء أمة في العالمين، بعد أن أعادها إلى عصر ظلمات الجاهلية وحكم الملك الإله، وفتح بالتالي الباب واسعا للمعارضة السياسية المتسترة بلبوس الدين لنزع الشرعية عن السلطة الدينية القائمة، فنبتت الحركات الأصولية المتطرفة كالفطر في المجتمعات العربية، وطغى الإيديولوجي على الديني، وانحصرت الثقافة ودور النخب، وفشل انموذج الدولة الإسلامية العادلة، وفقدت الأمة المعنى والبوصلة، وسقطت عن الأنظمة الحاكمة الشرعية الدينية والسياسية معا، هذا إن كانت لها شرعية حقا بعد أن أصبح تولي الحكم بالقهر والغلبة بدل الشورى التي أوصى الله تعالى بها عباده كوسيلة حضارية سلمية لممارسة السياسة في الحياة الدنيا.

والملاحظ كما تجمع على ذلك خلاصات الدراسات الاجتماعية التي تناولت موضوع التطرف، أن المجتمع المتقدم المستنير، يكون تدينه متسامحا، منفتحا كما كان الحال لفترة في الأندلس. والمجتمع الفقير المتخلف يكون تدينه متشددا، ضيقا كما هو الحال في البلدان العربية. وهذه الملاحظة الجوهرية لم تأتي من فراغ، لأنها نتيجة تاريخ طويل من الفشل في إيجاد صيغة يتعايش فيها الدين مع السياسة. بمعنى خضوع السياسة لقيم الدين الأخلاقية بدل أن يخضع الدين لأهواء الساسة من خلال حصر الحق في إنتاج المعنى في دائرة سدنة المعبد وحراس العقيدة المعتمدين من قبلهم، ومنع كل إجتهاد حر يقوم به عالم أو مثقف من خارج دائرة المرضيّ عنهم.

وما يمكن استنتاجه من التجربة الإسلامية طوال هذا التاريخ الدموي المديد، هو أن غياب السلطان الديني في الإسلام على عكس ما هو معروف في الكنيسة المسيحية، يعني عدم امتلاك الشرعية الدينية من قبل أية سلطة زمنية استملاكا نهائيا ومشروعا، لأنه عندما حاولت مختلف الأنظمة العربية والإسلامية السيطرة على الشرعية الدينية، تحول الإسلام في المقابل إلى قيم ملهمة للمقاومات ومفجرة للثورات ضد هذه الأنظمة، والتاريخ الاسلامي حافل بالأمثلة.

إن تسييس الدين واستخدامه كأداة لتجديد السلطة، وصبغ القداسة على شخص الحاكم، وفرض مذهب فقهي معيّن بالقهر، حوّل النظام العربي إلى نظام هجين فاشل، ومصدر دائم لعدم الاستقرار، ومنع الدولة من أن تتحول إلى مؤسسة مدنية ثابتة، مستقرة، موضوعية، مستقلة وعقلانية تتمتع بقرارها السيادي. وأفقدها بالتالي، الشروط الضرورية الكفيلة بضبط النظام، وتوفير الأمن، وتحقيق العدل، وإشاعة الحرية، وتحقيق التنمية، وتكريس مكارم الأخلاق. وسبب ذلك أن الدولة الإسلامية التي زعمت أن هدفها هو تحقيق العدل والمساواة والكرامة والازدهار للناس، حققت عكس هذه الأهداف بالذات، ما يكشف عن زيف خطابها الديني. ومرد ذلك أنها انحرفت عن الدور الذي حوّلها من دولة مدنية في خدمة الناس إلى دولة ثيوقراطية إقطاعية يخدمها الناس، وكان للكهنوت الفضل الكبير في ذلك.

نقول هذا لأن سعي الحاكم العربي وراء الشرعية الدينية كمدخل لاكتساب الشرعية السياسية هو سعي لإيهام الناس بأن شرعيته مؤسسة على نوع من التفويض الإلهي بالمفهوم الكنسي الثيوقراطي القروسطي، ولا علاقة له بالدين الاسلامي وفق مفهوم الشرع الجماعي الذي يحث عليه مبدأ الشورى القرآني من قريب أو بعيد.

ولعل ما حدث فيما أصبح يعرف بالربيع العربي من تسونامي ثوري ضد الأنظمة العربية الاستبدادية الفاسدة لم يكن سوى البداية، والآتي أعظم، والعنوان الأبرز الذي يمكن استخلاصه من ثورات الشعوب هو نهاية عصر الإديولوجيا وبداية عصر جديد لا مكان فيه لهيمنة الدولة على المجال الديني والاستفراد بالمجال السياسي، وأنه آن الأوان للقطع مع ثقافة الماضي وكل أشكال المناورة والالتفاف الديني والسياسي على مطالب الشعوب بالحرية والعدالة والكرامة.

وكل المؤشرات تؤكد أننا اليوم على أعتاب نهاية تاريخ طويل من الفشل وبداية عهد جديد واعد، قد يكون جاء متأخرا، لكنه هنا الآن يطرق أبواب التغيير بعد أن كسرت الشعوب حاجز الخوف. ونجاح هذه المسيرة المباركة لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت مدعومة بثورة ثقافية على مستوى المفاهيم الدينية، لأن القاعدة الشعبية الكبرى الجاهلة التي يتم التلاعب بعواطفها لا تزال تعتقد في وعيها الجمعي أن ما يقوله الفقهاء هو من عند الله، وأنهم ورثة الأنبياء الذين لا ينطقون إلا بالحق. وهنا تكمن المعضلة. 

وهذا يعني بالخلاصة أن غاية رسالة الإسلام بالنهاية هي بناء شخصية الإنسان المؤمن القوي، لأن مجتمع المؤمنين الأقوياء هو الكفيل ببناء الدولة القوية العادلة بغض النظر عن إسمها أو نوعها وطبيعتها، وما فعله الفقهاء السنة عبر التاريخ هو نقيض ذلك تماما، حيث استثمروا في بناء مجتمع القطيع الجاهل، المسلوب الحرية والإرادة، فساهموا بذلك من حيث يدرون أو لا يدرون في إعادة إحياء حكم فرعون الذي جاءت رسالات السماء لتحاربه وتنزع عنه الحكم لتعيده إلى صاحبه الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله.


لذلك، لا حل لهذه الإشكالية إلا بثورة ثقافية ضد رجال الدين على شاكلة ما حدث قبيل الثورة الفرنسية التي لم تكن ثورة ضد الدين كما روج لذلك الإسلامويون، بقدر ما كانت ثورة ضد الكهنوت. وهذه الثورة لا يمكن أن يقوم بها إلا المثقفون الشرفاء، خصوصا في عصر ثورة المعرفة ووسائل التواصل السيبراني، حيث أصبح الإعلام الحر الجديد هو ساحة الجهاد الأكبر، وأصبح بالإمكان، وعلى نطاق واسع، تطبيق قوله تعالى (وجاهدهم به جهادا كبيرا) الفرقان: ٥٢، في إشارة إلى القرآن.
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق