بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 28 سبتمبر 2018

الديـــن و الدولـــة




المفهوم الملتبس

لم تكن الدولة الإسلامية في الماضي تعني المجتمع السياسي المنظم، القائم على وجود شعب مستقر فوق جغرافية ثابتة، وخاضع لسلطة سياسية تسهر على تحقيق النظام والأمن والرفاه لمواطنيها، لأن هدفها لم يكن خدمة المواطن بل مصلحة الحاكم.. كل أرض تكتسح هي غنيمة، كل شعب يستعبد يتحوّل إلى رعية، أما السلطة فتزداد قوّة بالقهر والإديولوجيا.. وحين يستشري الفساد في مفاصلها ويطال الظلم مستضعفيها، يؤذن التاريخ بخرابها، فتنهار تحت وطأة السنن، وتتحول إلى أسطورة.../...

يقول إخوان الصفا وخلان الوفا في الرسالة عدد: (1: 131 – 132)، التي جمعوا فيها رأيهم في الدولة و عمرها و تبدلها ما يلي: " واعلم،  يا أخي، بأن أمور هذه الدنيا دول ونوب - جمع نوبة -  تدور بين أهلها قرنا بعد قرن و من أمة إلى أمة.  واعلم بأن كل دولة لها وقت منه تبتدئ وغاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي. فإذا بلغت إلى أقصى غاياتها و مدى نهايتها تسارع إليها الانحطاط والنقصان وبدأ في أهلها الشؤم والخذلان، واستأنف في الآخرين (شيء) من القوة والنشاط والظهور والانبساط، وجعل كل يوم يقوي هذا ويزيد، ويضعف ذلك وينقص إلى أن يضمحل الأول المقدم ويستمكن الآتي المتأخر. وكلما تناهي أحدهما في الزيادة ظهرت قوته وكثرت أفعاله في العالم و خفيت قوة ضده وقلت أفعاله. فهكذا حكم الزمان في دولة أهل الخير ودولة أهل الشر، تارة تكون الدولة والقوة وظهور الأفعال في العالم لأهل الخير وتارة الدولة والقوة وظهور الأفعال في العالم لأهل الشر، كما ذكر الله عز وجل وقال: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، وقال: (وما يعقلها إلا العالمون) 3: 140".

هذه نظرية علمية دقيقة في فهم سنن التاريخ، مستنبطة من القرآن وأكدتها مختلف التجارب الإنسانية، لأن هذا الفهم لصيرورة التاريخ،  يتجاوز مستوي الفهم العادي للأحداث ومستوي تحليل ما وراء الأحداث لاستنتاج الخلاصات، ليرقي إلى المستوي الفلسفي في استشراف القوانين والميكانيزمات التي تتحكم في صعود وسقوط الدول و الحضارات. فالله مثلا عندما يقول (وتلك الأيام نداولها بين الناس) لا يقصد المؤمنين عامة أو الأخيار خاصة، برغم أن الصراع في جوهره قائم بين الخير والشر إلى يوم يبعثون، بل كل من يأخذ بالأسباب من "الناس" تكون له النصرة والغلبة بغض النظر عن الدين والأخلاق. هذه هي سنة الله في الخلق لقوله تعالى: (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) الأحزاب: 62. وقال كذلك: (فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا) فاطر: 43.

لكن هذا لا يعني انتصار دولة الشر بالنهاية ما دام الله هو المدبر لملكه القائم عليه بالحق والموجه للتاريخ بالنهاية، وقد سبق وأن وعد تعالى بانتصار المستضعفين في الأرض على الطغاة وفق شرط الإيمان والصلاح حين قال: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) الأنبياء – آية: 105.  وقال أيضا في سورة القصص – آية: 5: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين).

صحيح أن القرآن ليس كتاب تاريخ لأنه لا يعنى بكرنولوجيا الحوادث، لكنه يشمل نظرياته العلمية وميكانيزماته العملية، و منها على سبيل المثال لا الحصر " نظرية التدافع"، حيث يقول تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) البقرة: 251.  وهذا بالضبط ما يسميه الفلاسفة بالقوانين المحركة للتاريخ أو "الجدلية التاريخية". ومنه كذلك ما ذكره إخوان الصفا عن قضية الزيادة والنقصان التي أشار إليها سبحانه بقوله في سورة الأنبياء - آية 44: (بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون).  وقال كذلك في سورة الرعد – آية 41: (أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب).

لكن ما يثير الانتباه هنا بشكل لافت، هو إصرار علماء التاريخ على التأكيد بأن ابن خلدون الذي عاش في القرن الثامن الهجري، هو صاحب نظرية تطور و سقوط الحضارات، في حين أن إخوان الصفا هم أول من قال بهذه النظرية أربعة مائة سنة قبل ابن خلدون، أي في مطلع القرن الرابع الهجري. و مهما يكن من أمر، فابن خلدون مثله مثل  إخوان الصفا و غيرهم ممن سبقوهم أو جاؤوا من بعدهم، لم يأتوا في هذا الباب بعلم جديد بناء على قراءة موضوعية من خارج النص المقدس، باعتبارهم جميعا مفكرين ومجتهدين تقليديين ينطلقون من النص لتفسير الواقع.

وبقراءة الواقع، نكتشف أن اليوم لا يختلف عن الأمس في شيء. فالمسرح هو المسرح، و الممثلون هم الناس، والأهداف هي نفس الأهداف وان اختلف الديكور وتغيرت الأولويات وتبدلت الوجوه واللهجة والأسلوب والأدوات.. فلا زالت الثوابت هي الثوابت برغم كل متغيرات الظاهر.

أما بالنسبة للدولة الإسلامية فيقول التاريخ، إن مصطلح الدولة في العالم الإسلامي، ولأسباب إديولوجية بحتة، استعمل للدلالة على حكم السلالات، كنبلاء قريش زمن الخلافة، وما تلى ذلك من حكم أموي، وعباسي، وفاطمي، وأيوبي، ودولة المماليك، فالدولة العثمانية.. وبالرغم من انتهاء ما سمي بدولة الخلافة، استمر نفس نظام الحكم الأسري في الدول الوطنية التي نشأت على أنقاضها، كما هو الحال مع الأسرة الهاشمية في المشرق، والأسرة العلوية في المغرب، وآل سعود في شبه الجزيرة العربية.

ومرد ذلك، أن مصطلح الدولة في العالم العربي والإسلامي، ارتبط منذ النشأة الأولى بالطابع القبلي القائم على "العصبية" أو "نظرية القوة" التي اعتبرها ابن خلدون أصل منشأ الدولة، بسبب الصراع الذي كان قائما بين القبائل في الجاهلية. فبرغم دخولها الإسلام، ظل هذا العامل هو المهيمن بحيث حوّل الدين إلى إديولوجيا في خدمته، وبذلك يكون ابن خلدون أسقط نظرية التطور الطبيعي الناتج عن غريزة الاجتماع لدى الانسان التي قال بها أرسطو، فميز بشكل واضح بين تطور الدولة في العالم العربي والإسلامي والدولة كما عرفت في التجربة اليونانية والرومانية من خلال "دولة المدينة"، حيث تم اختزال الدولة في أفراد محدودين وسلطة سياسية على شاكلة سلطة أثينا وسلطة إسبرطة.

ولعل هذا الفرق الذي ميز الدولة عند العرب، يعود بالأساس إلى عامل الثقافة الذي لعب دورا كبيرا في تشكل المفهوم وثباته في الوعي العربي، لأنه إذا كانت "الدولة" في الثقافة اليونانية تقوم على الاستقرار والاستمرارية لاشتقاق المصطلح من كلمة (STAT) اللاتينية، فإنها في لغة العرب تعني نقيض ذلك تماما، لاشتقاقها من "دال يدول دولة"، ما يعني التبدّل والتحوّل والتغيّر والتداول وعدم الاستقرار الذي تحدث عنه القرآن بقوله: (تلك الأيام نداولها بين الناس)، وهو المعنى الذي يوافق وضع الدولة في العالم العربية والإسلامي بشكل دقيق، والمتمثل في الوضع الاجتماعي الذي تميزت به حياة القبائل العربية التي كانت تعيش حياة البدو الرحل.

لذلك، من غير المجدي البحث في مفهوم الدولة عند العرب، بل المهم هو التركيز على مدى نجاحها أو فشلها في تحقيق الهدف الذي قامت من أجله، لأنه الأساس الذي نستطيع من خلاله تصنيف طبيعتها، وفهم آلياتها، وتقييم أدائها، والحكم بالنهاية على تجربتها.

والدولة الإسلامية ليست استثناء من هذه القاعدة، لأن من كانوا يتحكمون بأجهزتها ويقررون بشأن أهدافها وسياساتها هم بشر لا ملائكة، واجهوا الواقع التاريخي في زمانهم من منطلق الموروث من عاداتهم ومستوى فهمهم للدين، والذي لم يكن فهما سليما كما حاول التراث إيهامنا بذلك، لأسباب عديدة سنأتي على ذكر أهمها في سياق الحديث عن تجربة ما سمي بمرحلة "الخلافة".

إن ما آلت إليه أوضاع الأمة اليوم من سوء حال لم يأتي من فراغ، بل هو نتيجة طبيعية لتطور تاريخي فرضته ثنائية الدين والسياسة منذ عهد الخلافة، الأمر الذي يحتم علينا تفكيك هذه المعادلة لفهم ما الذي نعنيه بمصطلح "الدولة الإسلامية"، هل هي دولة مدنية أم دينية؟.. وكيف خرجت من رحمها كل الفرق والملل والنحل وحركات الإسلام السياسي المعارضة منذ انفجار الصراع على السلطة الذي أدى إلى الخلاف والفرقة التي لا تزال قائمة بين المسلمين إلى يومنا هذا؟.. وهل السبب يكمن في أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك للمسلمين نموذجا للحكم يقتدون به من بعده، أم أن طبيعة الإسلام نفسها ترفض أن تخضع لمنطق الدولة؟

قد يكون من المفيد القول من منطلق التجربة، أن الفرق بين الدولة المدنية والدولة الدينية يكمن في أن الأولى تكون أكثر عدلا، لأنها تقوم على أساس مبدأ خدمة المجتمع واحترام حرية الفرد وتكون سياساتها عقلانية.. أما الثانية فلا يمكن إلا أن تكون ظالمة، لأنها تسخر المجتمع والفرد لخدمة أدلوجتها بالقوة والقهر، فتنعدم الحرية التي وهبها الله لعباده واعتبرها أساس المسؤولية في التجربة الأرضية والمسائلة في الآخرة، ويغيب العدل الذي جاءت الشريعة لإقامته، فينتصر ظلام الجهل على نور العلم والمعرفة، وتتحول السياسة والدين إلى سلاح في خدمة مصالح الطبقة الحاكمة. وفي غياب مبدأ الشورى بالمفهوم القرآني الواسع الذي جعله االله فرض عين على كل مسلم لاقترانه بفريضة الصلاة لقوله تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم) الشورى: ٣٨. وبسبب تداخل الإديولوجي في والديني والسياسي، تولدت المعارضة المناوئة للسلطة القائمة، فتحول الصراع الذي هو في الأصل سياسي، إلى صراع ديني على الشرعية بسلاح التكفير، أو ما أصبح يعرف بـ "إسلام ضد إسلام" أو "الضد النوعي" كما شاهدنا ذلك في حروب الوكالة بين السعودية وإيران في المنطقة، حيث استعمل التمذهب السني - الشيعي حطبا لنار الفتن والحروب البينيّة بين المسلمين .. هذا ما يقوله درس التاريخ القديم والحديث.

وبهذا المعنى، فالدولة، وبغض النظر عن طبيعتها وإديولوجيتها، إما أن تكون صالحة، أو تكون فاسدة ولا وجود لنوع ثالث بين هذا وذاك، لأنه الأساس البسيط الذي قامت عليه نظرية سقوط وصعود الدول والحضارات عند إخوان الصفا وابن خلدون معا، وهذا ما أكده القرآن حين ربط تمكين المستضعفين من وراثة الأرض.

يقول ابن خلدون: "الظلم مؤذن بخراب العمران". هذه نظرية أصبحت من المسلمات في علم الاجتماع السياسي، برغم الخلط الباطن فيها بين السبب والوسيلة والنتيجة. لأن الحاكم لا يظلم من أجل الظلم، بل من أجل حماية نفسه من المساءلة والمحاسبة على فساده، ما يعني بالضرورة أن الفساد" يكون دائما وأبدا سببا رئيسا، فيما الظلم هو مجرد وسيلة، وانهيار النظام وخراب العمران يكون بالتالي هو النتيجة.

الفساد هو الفساد، سواء أكان فسادا سياسيا أو إداريا أو اقتصاديا أو ماليا أو أخلاقيا، لأن الفساد قد يفيد الفاسد الانتهازي مرحليا، لكنه حين يستشري ولا يجد من يحاربه، يؤثر بشكل جذري على كل مناحي الحياة، ويؤدي إلى تفسّخ عقد الولاء، وانهيار منظومة الأمن والاستقرار، فيسقط النظام، ويتفكك المجتمع، ويضيع الإنسان.

ولعل ما أوقع ابن خلدون في هذا الاختزال حتى لا نقول الخلط، هو كونه انطلق في وضع نظريته ممّا رصده من مظاهر الظلم في عصره ثم بحث لها عن قاعدة شرعية عامة تدعمها، ولو كان انطلق من النص القرآني لأدرك أن جوهر المعضلة يكمن في السبب لا في الأداة، أي في الدافع الذي هو الفساد، لا الظلم الذي هو مجرد وسيلة لا أخلاقية لحماية فساد الحاكم، ولجاءت بالتالي نظريته سليمة تتطابق مع القاعدة المنطقية التي تقول: "حيث لا يوجد سبب لا توجد نتيجة".

لا شك أن ابن خلدون كان فلتة من فلتات العقل العربي بما أبدعه في مجال علم الاجتماع السياسي قبل ظهور هذا العلم للوجود، لكنه كان أيضا فقيها مؤمنا، يستنطق التاريخ بمنطق السنن بعد أن ينطلق من نفس الأرضية التي انطلق منها المؤرخ والفيلسوف والفقيه، ليستنتج التكامل القائم بينهما برغم اختلاف موقف كل طرف من الموضوع، ما دام كل موقف يعلل الآخر ويثريه بمعطيات جديدة، وميزة ابن خلدون تكمن في قدرته على التلخيص والتأويل بعد التعليل بشكل نادر ميزه عن الجميع (عبد الله العروي - مفهوم الدولة – ص: ٩٩ – ١٠٠).

لذلك، ليس من الموضوعية في شيئ القول بخطأ نظرية ابن خلدون، لكن من المفيد تفكيكها للتمييز بين الظاهر والباطن فيها، لأن ما هو ظاهر حسب ابن خلدون هو الظلم، وما هو باطن حسب القرآن هو الفساد، لأن الفساد هو من أعظم المعضلات التي واجهت المجتمعات منذ أن خلق الله الخلق، ومن نتيجته سقوط أمم وحضارات وصعود أخرى لتملأ الفراغ.

والدليل على ذلك، ربط القرآن الكريم صلاح الحياة على الأرض بانتفاء الفساد، وخرابها بانتشاره وعدم الوقوف في وجهه للقضاء عليه، وتحريمه للظلم هو تحريم للأداة التي يستعملها الفاسد لما لها من خطورة على اختلال التوازن الدقيق الذي جعله الله شرطا لصلاح الحياة واستمرارها.

فبالعودة إلى النص القرآني، وتحديدا إلى لحظة التدوين الأولى التي قرر الله فيها جعل آدم خليفة للأمم السابقة التي أهلكها الله لجهلها وفسادها وطغيانها، فسألته الملائكة باستغراب: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟) .. فكان الجواب: (إني أعلم ما لا تعلمون).

الملائكة هنا ربطت بين النتيجة التي هي خراب الأرض والمقدمة أو السبب الذي هو فساد الإنسان، فيما أشارت إلى سفك الدماء كوسيلة مجسّدة لأبشع مظاهر الظلم المتمثل باحتقار الحق المقدس في الحياة، أي أنها فرّقت بين السبب والأداة والنتيجة، باعتبار أن الفساد هو السبب المؤدي إلى سفك الدماء كوسيلة من وسائل الظلم المؤدي بالنتيجة إلى فساد الحياة على الأرض، أي خراب العمران بتعبير ابن خلدون.

لدينا مثال آخر يتمثل في فرعون، والذي لا يختلف اثنان على أنه رمز للظلم والطغيان، لأنه كان يسوم شعب إسرائيل سوء العذاب ويذبح أبناءهم ويستحي نساءهم وهو بلاء من الله عظيم، لأن بنو إسرائيل قبلوا بالذل حين استسلموا لفرعون بدل رب العالمين. والله تعالى حين تحدث عن فرعون وأفعاله لم يصفه بالظالم، بل قال إنه كان من المفسدين لقوله تعالى: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم ويذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين) القصص: ٤. وهو ما يعني أن الظلم الذي كان يمارسه فرعون هو أداة لحماية فساده النابع من اعتقاده بعلوه في الأرض لقوله (أنا ربكم الأعلى لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد). هذا النموذج من العلو هو الذي يتكرر عبر مختلف حقب التاريخ فيتحول الحاكم بموجبه إلى حاكم فاسد يستبيح الأرواح والأعراض والأموال بالظلم الذي هو أداة لحماية فساده. وهو ما عبر عنه الإمام أبو حامد الغزالي بالقول: "إن في كل إنسان شيء مما قاله فرعون" في إشارة إلى قوله "أنا ربكم الأعلى". من هنا تطرح إشكالية العلاقة بين "التوحيد والاستبداد" في التجربة الإسلامية، خصوصا فيما له علاقة بمقولة "خليفة الله وظله في أرضه"، والتي بموجبها يتحول الحاكم الفاسد المستبد إلى فرعون متأله لا يسأل عن فساده ولا يحاسب عن ظلمه، لأن الملك بالتعريف السياسي القديم هو من يملك بلا منازع، والذي يملك يتصرف في ملكه كما يشاء ولا يجب أن يوصف بالفاسد والظالم، لأن الفاسد والظالم وفق هذا التعريف اللاهوتي هو من يتصرف في ملك غيره لا في ملكه.

والإسلام حسب كرونولجيا التاريخ القدساني من إبراهيم إلى محمد مرورا بموسى وعيسى وغيرهم من الرسل والأنبياء عليهم السلام جميعا، جاء تحديدا لكسر هذه المعادلة من خلال نزع الملك من الملك الإله وإعادته لصاحبه الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله. لذلك تمثل دور الرسل والأنبياء في دعوة أقوامهم للإيمان بالله الواحد مالك الملك والاستسلام له بدل الاستسلام لعبد فاسد وضيع متأله من عباده، وقوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) إبراهيم: ٦، نسب البلاء إلى الله، لأنه يصيب كل من نقض الميثاق الذي عقده الله مع العباد في عالم الذر وتنكر لربوبية الله له، واستبدلها بالخضوع لربوبية الحاكم الفاسد، وسنن الله غنية بالأمثلة التي تعبر عن أحوال الأمم السابقة التي أهلكها الله لهذا السبب، أي نقض ميثاق الله الذي جاء الرسل للتذكير به. لكن ما أن ينتفض الإنسان ضد الحاكم المُتألّه ويسلم وجهه لله ويخلص له الولاء ويتوكل عليه حتى يفرج عنه كربه وينقذه مما هو فيه من ذل وإهانة وكرب عظيم.

وبهذا المعنى جاءت رسالات السماء بمثابة ثورة تحريريّة لإنقاذ الإنسان من عبودية الإنسان ليعيش حرا سعيدا في رحاب الله الذي لا يحتاج لرقاب عبيد بقدر ما يحتاج لقلوب عباد بتعبير الشيخ متولي الشعراوي.

وبالتالي، فالقاعدة الأساس التي تحكم مسيرة الأمم من سقوط وصعود جعلها الله مقترنة بالفساد في الحالة الأولى، وبالصلاح في الحالة الثانية، والصلاح هو عكس الفساد، بدليل قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)  ولم يقل العادلون" حيث العدل هو عكس الظلم الذي قال به ابن خلدون، والصلاح مرتبط بإفراد الولاء والطاعة لله وتقواه والعمل بأوامره ونواهيه.

ومعلوم أن الفساد لغة يعني خروج الشيء عن الاعتدال قليلا أو كثيرا، وعكسه الصلاح، ويشمل ذلك النفس والبدن وكل الأشياء المحيطة بالإنسان، وصلاح الأشياء في عدم التأثير سلبا على دورها ووظيفتها، لأن أي خلل سيؤدي حتما إلى فسادها وسينعكس ذلك على محيطها سواء على مستوى الطبيعة (تدهور البيئة مثالا)، أو الاجتماع الإنساني عموما (الصراعات المهلكة والحروب المدمرة). 

ومعنى الاعتدال وفق المفهوم القرآني هو الاستقامة والتزام الصراط المستقيم الذي جعله الله المسلك الوحيد الذي تتوقف عليه سعادة الإنسان في الدنيا وخلاصه في الآخر، لذلك قال تعالى: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: ١٣. وهو ما فسره الإمام عليّ كرم الله وجهه بقوله: (الناس صنوان: أخ لك في الدين أو أخ لك في الخلق). وبالتالي، فلا فرق بين الناس ولا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى، وهو ما أكده الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى). وعلى هذا الأساس، فكل صراع يتخذ من الدين سلاحا للإعتداء على حرية الآخر مرفوض ومدان ولا علاقة له بتقوى الله التي جعل من أولوياتها احترام حرية الناس وعدم إخضاعهم للدين بالإكراه، لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة: ٢٥٦. وقوله أيضا: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف: ٢٩، ذلك أن الله غني عن العالمين ولم يوكل أحدا من خلقه ليجبر الناس على الإيمان به بالقوة.. من هنا الفرق بين إسلام القناعة في بيئة الحرية والتسامح والحوار، وإسلام الوراثة في بيئة العبودية والقمع والقهر بسلاح التكفير والإرهاب.

والجميل في الأمر أن هناك ارتباط وثيق، أو لنقل شبه تلازم بين استعمال الله لمصطلح "الفساد" وكلمة "الأرض، لما له من علاقة بتجربة الإنسان في حياته الدنيوية والتي تقوم على مبدأ التقوى.. فالقرآن استخدم كلمة فساد بحدود خمسين مرة، وفي جميع هذه الاستخدامات كانت ترد كلمة "أرض" أو إشارة إليها، باستثناء أحدى عشر مرة لم ترد فيها كلمة "أرض" لأن الاستعمال كان في معرض وصف عمل المفسدين وعاقبته في الدنيا والآخرة لقوله تعالى: (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) الأعراف: ١٠٣، أو في معرض بيان علمه وإحاطته بما يفعلون لقوله تعالى: (وربك أعلم بالمفسدين) يونس: ٤٠، أو في معرض الدعاء لاستجداء النصرة على القوم المفسدين لقوله تعالى: (قال ربي انصرني على القوم المفسدين) العنكبوت: ٣٠.

أما في الاستعمالات المرتبطة بـالأرض، فيتبين جليا من السياقات التي ورد فيها مصطلح فساد، أنه ظاهرة تعم المجتمع الإنساني بغالبيته، بحيث تشمل الظواهر الإنسانية العامة والواسعة التي تجعل مقولة "الفساد في الأرض" تحيلنا على كل جوانب الحياة وتأثيراتها على الإنسان والمجتمع والطبيعة، وتركيز الله تعالى على الأرض عند ذكر الفساد مرده إلى أنها المستقر بالتعبير القرآني، أي الميدان الذي يخوض فيه الإنسان تجربته الدنيوية التي على أساس نتائجها يتقرر مصيره في الحياة الأبدية.

أما مصطلح الظلم، فقد ورد في آيات عديدة وسياقات متعددة، بمعنى الشرك والكفر والجحود والمعصية وظلم الإنسان لنفسه ولأخيه الإنسان، وظلم الحاكم للمجتمع باستعباده وقهره لتأبيد فساده، وظلم الحاكم لشعب آخر بالعدوان عليه لاستعماره ونهب خيراته.. وما إلى ذلك من المعاني التي تؤدي حكما إلى خراب العمران كنتيجة حتمية، لأن المشرك والكافر والجاحد والعاصي يضر نفسه لا غيره، في حين أن المجرم يضر غيره، أما الحاكم فظلمه يضر المجتمع لأنه تعدي على حقوق الناس وكرامتهم، وكلما كثر فساد الحاكم كلما استفحل الظلم واختل النظام العام، وتلاشى الانسجام، وتزعزع الاستقرار بفعل كفر الناس بالولاء للدولة وسعيهم للتمرد عليها، وبالنتيجة يتفكك المجتمع وتسود الفوضى التي قد تؤدي إلى الثورة كأداة لتصحيح الأوضاع، أو الانفصال في حال اليأس من حلم التغيير إذا توفرت الشروط الموضوعية والذاتية لذلك.

لندع القرآن قليلا وننظر ما الذي قاله كبار المنظرين عن الدولة، لن نتناول هنا مدينة أفلاطون الفاضلة لأنها لا تعنينا لكونها مجرد نظرية طوباوية مستحيلة التحقّق في دنيا الناس، دنيا الثنائيات المتضادة التي تفجر الصراعات بسبب الجهل.. نبدأ بمقولة روسو في عصر الأنوار، والتي تقرّر بموجبها أن الدولة العادلة هي تلك التي تقوم على مبدأ تعاقد الحاكم والشعب وأولوية المصلحة الفردية. كانت فكرة روسو في زمانه فكرة ثورية أعادت الشرعية للشعب الذي هو مصدرها الأصلي، وتشبه إلى حد بعيد الشرع الجماعي بمفهومه القرآني كما تجسد في آلية الشورى باعتبارها فرض عين على جميع أفراد المجتمع المسلم كما سبقت الإشارة، ما يعطي للفرد  الحق في تقرير مصيره، سواء لجهة اختيار طبيعة الدولة التي يريد أن يعيش في كنفها، أو الحاكم الذي يوكّله لضمان أمنه واستقراره وحريته وكرامته، ويوفر له البيئة الصالحة  للنمو والازدهار.. هذا ما تقوله النظرية القرآنية.

غير أن الواقع شيئ آخر، لأن هذا الحق لم يتحقق في دولة الخلافة بسبب استبدال آلية الشورى بآلية أخرى سماها الخليفة عمر رضي الله عنه "أهل الحل والعقد"، والتي بموجبها نجح نبلاء قريش في السيطرة على السلطة باكرا، فكان خط الإنحراف الكبير والمبكر عن الجادة الذي حدتث في التجربة الإسلامية بعد مرحلة النبوة، ما أدى إلى تحوّل الخلافة سريعا إلى ملك عضوض.. هذا ما يرويه التراث استنادا إلى أحاديث ومرويات كثيرة عن الموضوع، وهذا ما يفيده تحليل معطيات تلك المرحلة التاريخية اليوم من نتيجة.

قد لا يكون من العدل اتهام الفقهاء بما حدث، لأن الفقه جاء بعد فترة طويلة نسبيا من واقعة هذا الإنقلاب الكبير الذي نتج عنه ما يسمى بـ "الفتنة الكبرى"، ولأن الفقهاء عاشوا في واقع لا علاقة له بالدولة الإسلامية إلا من حيث التسمية، لذلك فضلوا الحديث عن الخلافة كنظام طوباوي في نفس الوقت الذي اضطروا فيه للتأقلم مع واقع النظام الدهري القائم فزادوا الطين بلّة.

يجد عبد الله العروي للفقهاء عذرا عند الحديث عن الدولة الإسلامية في كتابه (مفهوم الدولة – ص: ١٠١). ينصح بأن لا نلومهم على ذلك، لأن الطوبى شيئ والواقع شيئ آخر، ناهيك عن أن العديد منهم أعلنوا صراحة عن موقفهم من الوضع القائم انطلاقا من قناعاتهم، لكن دون أن يحرّضوا الناس على الثورة خوفا من الفتنة، وبسبب هذا الخوف الذي أدى بالمجتمعات إلى السكوت عن الفساد والاستكانة للظلم غابت الحرية وسقط العدل وتحول الإسلام إلى كهنوت، هذا بالرغم من أن الفتنة في التعريف القرآني لها معنى إيجابي، لأنها امتحان من الله يختبر بها صدق أو كذب من يقولون أنهم آمنوا، لقوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) التوبة: ١٢٦.

وبسبب الخوف من الفتنة تحديدا، تحولت الخلافة النموذجية في أدبيات فقهاء الرسوم إلى مجرد حلم مستحيل المنال، لكنه ينفع كمخدر لطرد اليأس من نفوس الناس، ويشبه إلى حد بعيد انتظار قطار غودو في محطة التاريخ، وغودو لن يأتي إلا إذا قرر الله ذلك، لأن الخلافة وبإجماع الفقهاء إلهام رباني، هذا ما يؤكده ابن خلدون أيضا.

أما أبو حامد الغزالي، فيبرر موقف الفقهاء هذا بقوله: "إننا نراعي الصفات والشروط في السلاطين تشوّفا إلى مزايا المصالح، ولو قضينا ببطلان الولايات الآن لبطلت المصالح رأسا. فكيف يفوّت رأس المال في طلب الربح". هذه دعوة بئيسة للتكيّف مع الواقع برغم قساوته وردائته، لأن القبول به، وبعكس ما قال الغزالي، يفوّت رأس المال والربح معا. وهي دعوة تبدو مناقضة لنظرية التغيير القرآنية التي تقول (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد: ١١، وقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في الحديث الشهير (كيف ما تكونوا يولى عنكم). لأن التغيير يبدأ من داخل الإنسان، وليس مطلوبا تغيير العالم بقدر ما هو مطلوب فهمه لمعرفة الطريقة المثلى للإسفادة منه إلى أقصى الحدود.. وبسبب سوء فهم رؤية الله للإنسان والعالم اكتفى الفقهاء بحثّ الحكّام على تطبيق ظاهر الشريعة وتركوا روحانية الإسلام لما يمثله وازع الإيمان الثوري من خطورة على حكم المفسدين الطغاة.

ابن تيمية كان أكثر جُبنا وانتهازية بتجنّبه الحديث عن الخلافة، مفضلا التركيز على السياسة السلطانية أو "الشرعية" وفق تعبيره، لأن الدولة الإسلامية تعني له دولة الشرع في ظل السلطان ولا شيئ غيره. وقد ذهب حد القول: "إن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان ... فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة والمال" (مجموع الفتاوي – ج : ٢٨ – ص: ٢٩٠ – ٢٩١). هذه دعوة استكانة وتعايش مع الحاكم الفاسد الظالم المغتصب للحكم والمستعبد للناس بما لا يرضي الله، ومع ذلك يؤكد ابن تيمية أن من كره طاعة الحاكم المستبد الجائر فقد كره رضوان الله، وعلى الإنسان أن يلغي العقل للقبول بمثل هذا الدّجل الذي وصل حد التطاول على الله وربط رضاه بقبول الإنسان لفساد الحاكم وظلمه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

أكثر من ذلك، فابن تيمية الذي ترك تراثا ضخما من فتاوى التكفير رضعت من حليبه المسموم الوهابية وجماعات الإسلام السياسي المتطرفة على اختلاف أسمائها ومسمياتها، اعتبره الإسلامويون شيخ الإسلام، وروّجوا كثيرا لمحنته في سجنه من دون أن يذكروا السبب الذي هو فتاوي التكفير التي كان يفرّخها كالفطر في عقول الناس، ولأن سورية في عهده كانت ملتقى الحضارات، منفتحة على الثاقفات، وترفض الغلو والدجل، فقد طردت ابن تيمية في نهاية المطاف إلى الحجاز عندما حاول بناء سمعته من خلال انتقاده لعملاق كبير من حجم محيي الدين ابن عربي القادم من الأندلس بعقلية منفتحة مغايرة للعقلية المشرقية المنغلقة. وقد ترك شيخ التكفير للأميّين من أتباعه والمغفلين ممن يعتقدون بمذهبه ثراتا ضخما من المصنفات الصفراء، ويكفي الرجوع إلى مجموع فتاويه ليكتشف المرء أن عبارة: "يستتاب وإلا قتل" وفي مواضع أخرى يقول: "يستتاب وإلا فإنه يقتل"، ليكتشف في النهاية أن مجموع فتاوي التكفير في شؤون لا علاقة لها بأصول الدين بقدر ما هي من مجال العقل والتأويل وردت ٤٢٨ مرة في كتبه، منها ٢٠٠ مرة في كتاب "مجموع فتاوي ابن تيمية".

لذلك، يستحيل أن يكون أمثال هؤلاء العلماء ورثة الأنبياء، لأن الأنبياء جاؤوا بفكرة ثورية تحرض الناس على التحرر من العبودية، فيما الفقهاء لم يرثوا هذه الفكرة وفق ما يعطيه مفهوم "الوراثة"، لأن العلوم الشرعية التي يتبجحون بها علوم كسبية يتعلمها الإنسان في حلقة المسجد أو في المدرسة، لا علوم لدنيّة يتلقاها العالم بالوحي من الملاك ليكون وارث سر النبوة الذي يخوّله الكشف عن الأسرار الربانية الثاوية في باطن النص. لذلك سمّاهم الصوفية بـ "فقهاء الظاهر" و "فقهاء الرسوم" و "فقهاء القشور"، لأنهم اكتفوا بالتمسح بالشريعة التي تمثل ظاهر الدين خوفا من بطش السلطان وطمعا في رضوانه وتركوا روحانية الإسلام إلا من رحم ربي، هذا فيما آيات التشريع لا تتجاوز ما نسبته ٥ في المائة من مجموع آي القرآن الكريم كما هو معلوم.

هذا الموقف لا يمكن عذر الفقهاء فيه بحكم الواقع كما يقول عبد الله العروي، لأن العلماء لا يمكنهم أن يكونوا ورثة الأنبياء إلا إذا ورثوا عنهم الروح الثورية التي جاؤوا بها، ومسؤوليتهم تتمثل في امتلاكهم للشجاعة بهدف تغيير واقع أقوامهم بواقع أفضل، وذلك من خلال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبارها فريضة لا يقوم الدين وتصلح الدنيا إلا بها، خصوصا وأن الله تعالى حين شهد للرسول بأن أمته في عهده كانت خير أمة أخرجت للناس، علّل ذلك بالتزامها بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) آل عمران: ١١٠. وبالتالي، فالإيمان بالله يقتضي الالتزام بما فرضه على عباده وعلى رأسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنصّل العلماء من هذه الفريضة وجعلها سلاحا في يد السلطان ضدا في إرادة الله الذي جعلها سلاحا في يد مجتمع المؤمنين لقوله "كنتم" في الآية المذكورة، لأن الله يخاطب الناس لا الدول والمؤسسات ولا الفقهاء كوسطاء.. هو تعطيل للدين ولفكرته الجوهرية التي تقوم على تحرير الإنسان من عبودية السلطان المتألّه، ليخلص العبادة لله وحده دون سواه، وليتسنى لمجتمع المؤمنين بناء الأمة الخيّرة بيد الناس  وواختيارهم لا بيد السلطان وفق نزواته.

أما ابن القيم الجوزية تلميذ ابن تيمية فيقول: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه" (مفهوم الدولة – ص: ١٠١). هذا كلام إنشائي يعلق عليه عبد الله العروي بالقول: "في نهاية المطاف، أمام هذا الواقع المر، يتعذر حتى تطبيق السياسة الشرعية، فيضطر الفقيه إلى الإعتدال والتسامح فيقلل من التذكير بالقواعد الشرعية". وهذا صحيح، لكن الخلاصة الجوهرية التي يجب الوقوف عندها بالمناسبة هي: بما أن النتائج تكون دائما رهن مقدماتها، فإن عدم تحقيق العدل خلال تجربة الدولة الإسلامية التي استمرت لقرون طويلة يعني شيئ واحد فقط لا غير، وهو أن هذه الدولة لم تكن إسلامية في أي وقت من الأوقات إلا بالتّسمية، الأمر الذي يستوجب من الفقهاء موقفا ثوريا شجاعا يرقى لمستوى ما يزعمون من أنهم بحق ورثة الأنبياء، وأنهم جنود الحق لا يخشون في قوله لومة لائم.

والسؤال الذي يطرح نفسه بالنهاية هو: - هل فشل التجربة الإسلامية له علاقة بإنزال الدين إلى مستنقع السياسة؟..  كثيرة هي المقولات التي ترجح هذا الإحتمال، بسبب تجاوز الدولة لمجالها السياسي العقلاني المقنن وتطاولها على مجال الإيمان والوجدان كما لاحظ المفكر فيخته في الدولة ذات الطابع الديني.. لدرجة انعكست فيها الآية فأصبحت الدولة هي الجوهر والفرد هو الشبح بتعبير هيجل.. لكن ما كان لمثل هذا الوضع أن يحصل لولا تخاذل الفقهاء وتخليهم عن واجبهم الجهادي المتمثل في قول كلمة الحق في وجه كل سطان جائر لقوه تعالى (وجاهدهم به جهادا كبيرا) الفرقان: ٥٢، في إشارة إلى القرآن.

في التجربة الإسلامية نلحظ أن الدول التي قامت على أساس ديني تحول فيها الحاكم إلى شبه إله مقدس والفقهاء إلى كهنة إلا من رحم الله، فساد الإعتقاد الخاطئ بأن لا خلاص للناس إلا بطاعة الحاكم بأمره لأنها من طاعة الله ورسوله حتى لو كان فاجرا فاسقا فاسدا ظالما ما لم يصدر عنه كفر بواح.. الحاكم في هذه الحالة يستمدّ شرعيته من الله لا من الشعب، ويقول أن من له حق محاسبته هو الله دون سواه، ويسمي نفسه خليفة الله وظله في أرضه، وبذلك تحول الإسلام إلى نوع من الكهنوت الذي يضع حكاما مستبدين وسطاء بين الله وعباده دون تفويض صريح منه، وكهنة منافقين يخافون الحاكم أكثر مما يخافون الله إلا من رحم الله من العلماء الربانيين، وهذا الوضع، هو نتيجة انقلاب السياسة على الدين، بدأ في عهد عثمان بن عفان حين قال مقولته الشهيرة "يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".. هنا انتهت تجربة الخلافة بإجماع الفقهاء، والسبب هو ما أكدناه من قبل، أي الفساد الذي أدّى لانقلاب الدين على السياسة فذهب ضحيته عثمان، لتفتح الأبواب على مصراعيها لتاريخ أسود من الفتن التي أراقت دماء خيرة الصحابة والقراء والمجاهدين الأبرار الذين حضروا بدر وغيرهم من المؤمنين المهاجرين والأنصار، لأنهم نسوا وصية الرسول صلى الله عليه سلم في خطبة الوداع التي قال فيها: (لا تتحوّلوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض). وبذلك، أسدل الستار على تاريخ خير أمة أخرجت للناس كما عرفت زمن الرسالة.

وإذا كان الحال في التجربة الإسلامية هو كما سلف، فلماذا نهتم بنقد الدولة التي هي الصفة، ونتجنب نقد الموصوف الذي هو – الحاكم – أي الفاعل الحقيقي في الدولة كما يقول ماركس؟

نفتح قوسا للفهم فنسأل: ألهذا السبب أصبغت القداسة من قبل الفقهاء على مرحلة ما سمي بـ "الخلافة الراشدة"، لتحصينها من النقد؟

نتعمق أكثر فنقول: هل هناك دولة دينية خاضعة لقانون متعال عليها؟..

يجيب عبد الله العروي بالقول: "لا، كل ما نلاحظ في وقائع التاريخ هو وجود دول تستعمل أهداف الدين لتغطية أهدافها التي لا تتغير أبدا" (مفهوم الدولة:٢٩).

يضيئ فيخته على المسألة بقوله: "إن الدولة بصفتها دولة، لا تؤمن أكثر مما أؤمن أنا".. إضاءة فيخته تفتح على فضاء من القضايا المسكوت عنها في التراث الإسلامي، وتحفزنا على الإستنجاد بالقرآن لتجاوز القيود والحدود التي تم وضعها لتحصين تجربة الخلافة السياسية والدينية.

نسأل القرآن فيجيب: (كل نفس بما كسبت رهينة) المدثر: ٣٨..  نستنتج من هذه الآية أن الله لا يحاسب الدولة أو الجماعة أو أي من الكيانات الإعتبارية حتى لو سميت "إسلامية"، بل يحاسب الإنسان وحده دون سواه، يؤكد القرآن هذا المبدأ بقوله، إن الله تعالى ألزم كل إنسان طائره في عنقه ليخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، فتقول له الملائكة: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) الإسراء: ١٤.. تفويض الإيمان هنا لا يفيد، لأن الله لا يحاسب أحدا بذنوب غيره، والدولة الإسلامية كيان اعتباري لا يؤمن، وبالتالي لا يمكن لمن لا يؤمن أن يضمن للمؤمن خلاصا يوم القيامة.

نعود لفلسفة الأنوار لمعرفة الفرق بين الديني والسياسي، فنجد روسو صاحب نظرية العقد الإجتماعي يقول، إن الدولة ظاهرة من ظواهر الاجتماع الطبيعي، وكل تناقض يحصل بينها وبين المجتمع أو الفرد، فلسبب غير طبيعي ناتج عن خطأ إنساني متعمّد، وفي تلك الحالة تنشأ الدولة الإستبدادية (عبد الله العروي - مفهوم الدولة: ١٤).

ننطلق من هذا الجواب لنفهم إن كان للوجدان الديني الثوري علاقة بهذا الواقع التاريخي فنسأل:

-       هل الحاكم المسلم يمكن أن يكون خليفة لله في أرضه، أم خليفة لرسوله، أم خليفة للمسلمين، أم خليفة لنفسه يحكم بأمره ما دام لا يملك تفويضا شرعيا من الله ولا من رسوله ولا من المسلمين يسمح له بذلك؟

-       ثم كيف يمكن لبشر مهما كان مستوى إيمانه وقدرته وقوته ومؤهلاته أن يحكم الناس باسم إسلام اختاره الله ليكون دينا للعالمين؟.. هذا أمر مستحيل يؤشر إلى أن الدين قضية لا يمكن أن تخضع لأهواء السياسة وإلا تحولت إلى مجرد إديولوجية.. هذا ما نراه اليوم قائما حيث أصبح الحديث عن إسلام مصري، وإسلام سعودي، وإسلام تركي، وإسلام إيراني، وإسلام أندونيسي، وإسلام أفغاني، وإسلام باكيستاني، وإسلام أمريكي، وإسلام أوروبي، وإسلام مغاربي وهكذا... لكل دولة إسلامها ولكل قبيلة دينها، فضاع الدين بين القبائل حين أصبح الولاء للحاكم مقدم على الولاء لله ورسوله والذين آمنوأ. وعلينا أن لا نستغرب عندما نسمع في الغرب من يتحدث عن "إسلام القبائل" و "رب القبائل" و "نبي القبائل"، لإبطال الإعتقاد القائل بعالمية الإسلام، وعلى هذا المنوال ذهب بعض الباحثين العرب حد القول بـ "قرآن محمد" و "خطاب النبي" لنزع القداسة والتعالي عن النص القرآني وإخضاعه لمبضع النقذ كما لو كان الأمر يتعلق بنص بشري.

لنصيغ السؤال بشكل أوضح: - إذا كان التفويض يصح في أمور السياسة، فهل يصح في أمور الدين الذي هو علاقة بين العبد وربه؟..

يقولون أن الفرق بين الدين والدنيا غير موجود.. لكن لماذا لم تنجح كل تجارب التاريخ زمن اليهودية والمسيحية والإسلام في دمج الدين في السياسة؟.. التاريخ يقول أنه كلما وظف الدين في مستنقع السياسة إلا وارتد على أصحابه؟..

يقول أحد الملوك العرب (الحسن الثاني): "اليوم الذي تفرق فيه دولة إسلامية بين دينها ودنياها، فلنصلّ عليها صلاة الجنازة مسبقا".. تقول إحدى الجماعات الإسلامية المغربية المعارضة (العدل والإحسان): "لا تمييز عندنا ولا فرق بين الدين والسياسة" ..

كلام جميل، لكن متى تحقق العدل في ظل عدم التمييز هذا؟.. يستشهدون بتجربة عمر رضي الله عنه، لكن: هل محاربة الفقر تكمن في توزيع أكياس الدقيق على الفقراء أم تمكينهم من فرص العيش الكريم؟.. وهل بتوزيع أموال الريع والغنائم يمكن أن تقام سياسة إقتصادية رشيدة تساهم في تنمية ونهضة الدولة الإسلامية؟.. ولماذا لم تتكرر تجربة عمر الفردية على علاتها؟

نسأل العقل: هل قيام الدولة العادلة رهن بشخص الخليفة أو الإمام أو أمير المؤمنين أم بالشرع الجماعي والمؤسسات؟.. الجواب يعرفه الجميع، والإحساس بقيمته وأهميته بل وخطورته يخرجنا من دائرة الشك ومتاهات النقاشات الفارغة التي استمرت قرونا طويلة بدون نتيجة بسبب عدم طرح السؤال المناسب.

نسأل التراث عن الفرق بين الخلافة والإمامة فنجد السنة يقولون: "الخلافة هي الإمامة"، والشيعة يقولون: "الإمامة هي الخلافة". لا فرق في المعنى لدى الفريقان، وهما معا متفقان على أن الإمامة كما الخلافة من فروع الدين لا من أصوله، وأن الأمر يتعلق بخلافة الرسول صلى الله عليه وسلم، لتستمر دعوته ونهجه من بعده، والخلاف بين الفريقين هو حول من يستحقها.. "نبلاء قريش" أم "آل البيت"؟ أم كل من هو مؤهل لها من عامة المسلمين كما قال الخوارج؟

ومعلوم أن الخوارج كان لهم رأي آخر يقول بحق الناس في اختيار من يرونه صالحا بغض النظر عن عرقه أو نسبه أو لونه.. هذا قول يتسواق إلى حد بعيد مع الدين الذي يساوي بين المؤمنين ولا ينتصر لزعامة ضد أخرى لإعتبارات تتعلق بالعصبية التي هي مظهر من مظاهر العنصرية زمن الجاهلية، وكان يمكن أن تشكل فكرة الخوارج هذه أرضية صالحة لانطلاق أول تجربة "ديمقراطية" مبكرة في تاريخ المسلمين، بالرغم من أننا لا نتفق مع فهمهم الضيق للشريعة ومنهجهم المتطرف في التكفير، لأنهم كفروا عثمان بسبب الفساد وكفروا عليّ بسبب قبوله بالتحكيم واشترطوا اعترافه بخطئه وإعلان توبته للعودة لنصرته، أي أن الخوارج وإن كانوا على صواب في طرحهم إلا أن أسلوب العنف الذي لجؤوا إليه لتحقيق رؤيتهم كان خطأ كلف الأمة الكثير من الدماء.. ولأن لكل فعل ردة فعل، فقد تم تكفيرهم هم أيضا، لأنهم رفضوا أن تكون الخلافة في قريش أو آل البيت، فتحولت معارضتهم من سياسية إلى دينية في عرف من يعتقدون أنهم وحدهم يمتلكون الحقيقة ويتكلمون بلسان الله. منذئذ، أصبح التكفير سلاحا فتاكا يوظف في السياسة، فانتهى الإسلام السمح الجميل كما كان زمن النبوة وتحول من دين إلى إديولوجيا.

نسأل كبار المفسرين عن معنى الخلافة في القرآن، نجدهم منقسمين إلى فريقين حول مفهوم الآية: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة: ٣٠:

-       فريق يقول، إن الأمر يتعلق بخلافة الإنسان لله في أرضه بموجب حمله للأمانة، ولذلك أمر تعالى الملائكة بالسجود له.

-       وفريق يقول أن الأمر يتعلق بخلافة الإنسان لجنس الجن الذي كان يسكن الأرض تحت إمرة الشيطان فعتى فيها فسادا وسفكا للدماء، ولأن الملائكة لا يعلمون الغيب فتساؤلهم جاء نتيجة معرفتهم بما أحدثه هذا الجنس من المخلوقات من فساد في الأرض قبل آدم.

نعيد قراءة الآية في إطار النسق القرآني لمعرفة الفرق بين "الجعل" والخلق"، نكتشف أن الخلق سبق الجعل، لأنه قبل أن يخبر الله الملائكة فإنه بقراره جعل آدم خليفة في الأرض كان قد سبق وحدّثهم عن إرادته لخلق بشر من أديم الأرض يمر بمراحل الرقي والتطور، وحين يكتمل مسار تطور خليقته وينفخ فيه من روحه، يسجدون له، لقوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلّهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) ص: من ٧١ إلى ٧٤. حينها لم يتساءل أحد من الملائكة عن من يفسد في الأرض ويسفك الدماء لأنهم لا يعلمون الغيب ولا يعصون لله أمرا، باستثناء إبليس الذي رفض السجود لأنه اعتبر طبيعته النارية خير من طبيعة آدم الترابية، في حين أن تكريم الله لآدم على الملائكة لم يكن بسبب طبيعته البشرية المهينة مقارنة بطبيعة الملائكة النورانية الطاهرة، بل بسبب ما أودع فيه من علم الأسماء بعد أن اصطفاه من بين البشر البدائيين.

وعلى ضوء ما يتكشف من فرق بين لحظة "الخلق" ولحظة "الجعل" يسقط تفسير الفريقين معا:

-       التفسير الأول، لأن الله لم يقل "إني جاعل آدم خليفة لي في الأرض"، بل قال (إني جاعل في الأرض خليفة) لأنه في السماء إله وفي الأرض إله، وهو معنا أينما كنا، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، محيط بكل شيء، ولا يخرج شيء عن إرادته التي هي من مجال "القضاء" المبرم بأمر "كن"، ولا مشيئته التي هي من مجال "القدر" بحكم السنن لقوله تعالى: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) التكوير: ٢٩، قائم في ملكه بالحق.. وبالتالي، إذا كانت الخلافة لا تصح إلا للفرع في غياب الأصل، والغياب لا يصح في حقه تعالى، فكيف التسليم للإنسان بخلافته وهو الأول الموجود، والآخر بعد الفناء، والظاهر لنفسه قبل الخلق، والباطن بحجب الغيب بعد الخلق، لا يحتاج لخليفة يخلفه بحكم حياته ودوامه وعلمه وقدرته. وهو ما فهمه الخليفة الأول عندما اختلف أهل الحل والعقد حول اللقب بين من يقول بجواز "خلافة الله" من قبل الآدميين وبين من يقول بعدم جوازه، غير أن أبو بكر الصديق رضي الله عنه رفض أن يطلق عليه هذا اللقب، وأوضح ذلك بقوله: "إنني خليفة رسول الله لأن الاستخلاف إنما يكون في حق الغائب وليس في حق الحاضر الذي لا يغيب".

-       التفسير الثاني: ولأن الخليفة يجب أن يكون من نفس جنس المستخلف، فالآية تشير للخلق البشري الأول الذي سجدت له الملائكة وكان موجودا قبل آدم لعلم الملائكة بتجربته التي انتهت بالفساد وسفك الدماء، خصوصا وأن الله حين قال إني جاعل في الأرض خليفة، فهمت منه الملائكة أن "الجعل" هو غير "الخلق" بما يعنيه من انتقاء واصطفاء لعنصر من جنس الموجودات البشرية البدائية التي كانت تعيش كالحيوانات المتوحشة على الأرض في بدايات الحياة، فاختار من نسلها آدم الذي بلغ مرحلة التسوية البيولوجية في أبهى صورة، ونفخ فيه من روحه ليجعل منه إنسانا يرتقي بالإيمان والعلم والمعرفة في مراتب الكمال. وهذا ما تؤكده النظريات العلمية اليوم استنادا إلى عديد الإكتشافات الأركيولوجية. وللرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حديث شهير يقول: (قبل آدم كان في الأرض أكثر من ألف ألف آدم)، ما يستوجب التفريق بين خلق آدم الأول من تراب لما تعطيه كلمة "آدم" من معنى له صلة بأديم الأرض، وبين اصطفاء وانتتقاء واختيار أرقى فصيل بشري تطور عبر العصور والدهور لجعله يخلف غيره من الفصائل البشرية البدائية ذات الطبيعة الحيوانية المتوحشة التي أهلكها الله بسبب جهلها وفسادها وسفكها للدماء في الأرض. فأودع تعالى في آدم الذي اصطفاه ونفخ فيه من روحه علم الأسماء كلها، لتنتقل البشرية إلى طور جديد من الحياة فيما عرف بمرحلة ما بعد الجنة.

وبهذا المعنى، فآدم البشري الذي اصطفاه الله من بين سلالة البشر القديمة ليجعل منه إنسانا عاقلا ومؤمنا قادرا على حمل الأمانة، لا يمكن أن يخلف جنس الجن كما ذهب إلى ذلك عديد المفسرين، لاختلاف الطبيعة التكوينية بينهما، بدليل أن الله تعالى نفى أن يخلف جنس الإنسان جنسا آخر لقوله: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز) إبراهيم: ١٩ – ٢٠، أي يأتي بجنس جديد من نفس الخلق الأول غير مختلف عنه، لأن الخلف يطلق على من يأتي من نفس الجنس كما يؤكد القرآن ذلك لقوله تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم للنظر كيف تعملون) يونس: ١٤، في إشارة إلى الأمم السابقة التي أهلكها الله لقوله تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم). كما أن العقل يرفض القبول بمثل هذا الفسير الغريب  الذي يقول بخلافة الجن والشياطين لسبب وجيه، وهو أن الجن لم ينقرضوا بالمطلق ليخلفهم آدم في الأرض، ما دام الوحي يؤكد أنهم يعيشون بيننا ويروننا من حيث لا نراهم، ويستمعون إلى القرآن حين يُتلى، ومنهم أمة مؤمنة تخاف الله، وكانوا يخدمون سليمان عليه السلام ويحاربون معه، فكيف للإنسان أن يخلف من ليس من جنسه ولم ينقرض أبدا؟

أما الآية الثانية التي وردت في شأن الخلافة كمصدر في القرآن وخلقت نوعا من التشويش في الفهم، فهي التي يقول فيها الله تعالى: (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) ص: ٢٦.

ويبدو أن المفسرين وقعوا في ذات الالتباس الذي تحدثنا عنه في الآية الأولى المتعلقة بخلافة آدم عليه السلام، حيث اعتبروا أن الآية تفيد خلافة داوود لله في الأرض ليحكم بين الناس بالحق، فيما داوود كان ملكا لكنه لم يكن يملك شريعة حتى علّمه الله إياها ليحكم بين الناس بالحق (قضية ٩٩ نعجة التي وردت في سورة ص الآية: ٢٣ مثالا). واختزال الزمن في داوود عليه السلام هو تجاهل لمن سبقه. ومرة أخرى نكتشف أن الله تعالى لم يقل: "يا داوود إني جعلتك خليفة لي في الأرض لتحكم بين الناس بالحق"، بل قال (إنا جعلناك خليفة في الأرض).. والسؤال هو: - خليفة من؟ ...

الحقيقة أن هذا الالتباس ليس بجديد في التراث الديني، وله علاقة بالحلول الذي سقط فيه اليهود الذين قالوا "عزير ابن الله" والنصارى الذين قالوا "المسيح ابن الله"، مصرّين على أن يكون لله خليفة من صلبه ليحكمهم ويقودهم نحو الخلاص، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. 

ومرد الالتباس يعود لتعامل المفسرين مع الآيات القرآنية بنظرة تجزيئية تجعلهم كمن يقف وراء الشجرة ويحدث الناس عن الغابة، أي أنهم يتموضعون خارج السياق العام لتجربة الرسل والأنبياء ويفسرون تجربة داوود بما يعطيه ظاهر الكلام دون ربطه بكرونولجا تاريخ الرسل والأنبياء التي نسميها هنا "النسق"، والنسق هنا يبدأ عند نقطة التحول الكبرى في العقيدة بين الشرك والتوحيد، حيث بدأت مع تجربة أب الرسل والأنبياء وصاحب العهد والدعاء إبراهيم الخليل عليه السلام بعد أن أهلك تعالى قوم نوح ولم ينجي منهم إلا نفرا قليلا رافقوه في السفينة ومنهم تناسلت الأمم، فكان إبراهيم بذلك لوحده أمة، حيث دعا ربه فاستجاب له وجعل العهد فيه وفي ذريته إلى أن تنقطع رسالات السماء، لقوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) البقرة: ١٢٤.

وهنا يأتي الفرق بين الإمامة والخلافة، فالله تعالى وهب عهد الإمامة لخليله إبراهيم عليه السلام، واستجاب لدعائه بأن جعلها تنتقل بالوراثة إلى خلفه، في حين حرّمها على الظالمين منهم. وبهذا المعنى، تكون الإمامة هي خلافة إبراهيم الخليل في العهد الذي عقده مع ربه، وخليفته يكون إماما أمينا على العهد يتصل بالسماء ويأتيه الوحي اللدني من الملاك فيحصل له العلم اليقيني بالغيب الذي يختلف عن العلم الكسبي الدنيوي. ومن شروط الإمامة أن يكون وارث العهد نبي أو رسول من نسل إسحاق وسارة ثم من نسل إسماعيل وهاجر، واستثنى منهم الظالمين، والظلم وفق المعنى القرآني هو الشرك لقول لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه (يا بنيّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) لقمان: ١٣.

ولهذا السبب لا يقبل من أحد اتّباع ملّة غير ملّة إبراهيم الخليل صاحب العهد عليه السلام لأنه كان حنيفا ولم يكن من المشركين، والملّة وردت في عديد الآيات بمعنى الطريقة والسنة لقوله تعالى: (ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة من الصالحين) البقرة: ١٣٠. وقوله: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) البقرة: ١٣٥. وقوله: (قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) آل عمران: ٩٥. وقوله: (ومن أحسن دينا ممّن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملّة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا) النساء: ١٢٥. وقوله: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) الأنعام: ١٦١، وأمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم باتباع ملّة جده إبراهيم لقوله: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) النحل: ١٢٣، ولم يقل له ضع سنة خاصة بك تتبعها أمتك.

والملّة وفق ما يستفاد من الآيات السالفة الذكر، هي الطريق الواضحة المعالم التي أصبحت معلومة للجميع لكثرة المشي فيه من أمة إلى أمة ومن رسول إلى رسول ومن نبي إلى نبي، لأنها طريق العهد الوحيد الذي هدى الله تعالى خليله إليه وأمر رسله وأنبياءه وعباده كافة باتباعه من بعده. والملّة تعني في اللغة السنة كما سبقت الإشارة، أي الطريقة التي لا تتغير ولا تتبدل لأنها تتوارث جيل بعد جيل. وفي حال إبراهيم هي كل العقائد والأعمال والطقوس والمناسك التي تركها لنا، من توحيد وتضحية وولاء ودعاء وصلاة وصوم وحج وخلافه، وليس بينها الشريعة بسبب اختلاف أحكامها من أمة إلى أخرى بحكم تبدل الأزمان وتغير الظروف، وهو ما يطرح أكثر من سؤال حول مفهوم السنة النبوية التي قال بها الفقهاء في مجال الشريعة، وهو الأمر الذي سنعالجه في باب "الحقيقة والشريعة والطريقة".

أما مفهوم كلمة "إمام"، فنجد أن القرآن أوردها في أربع آيات: الأولى، تلك التي تخص إبراهيم الخليل عليه السلام كما أسلفنا.. الثانية والثالثة تتعلق بكتاب موسى باعتباره إماما ورحمة جاء القرآن كآخر عهد مصدقا له بلسان عربي، كما أن الإنجيل هو العهد الجديد الذي يمثل استمرارا للعهد القديم الذي هو التوراة، ما يؤكد المعنى الذي ذهبنا إليه بشأن وراثة العهد واستمراره في ذرية إبراهيم من الرسل والأنبياء (انظر سورة هود: ١٧، وسورة الأحقاق: ١٢).

أما الآية الرابعة التي تتحدث عن الإمامة فوردت في سورة الفرقان: ٧٤، لقوله تعالى: (والذين يقولون هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرّة أعين واجعلنا للمتقين إماما). والذين قصدهم الله بكلامه هنا ليسوا الأنبياء والرسل ورثة العهد، بل المؤمنين المتقين الذي يسارعون إلى الخيرات ابتغاء مرضاة الله ليكونوا من السابقين المقربين على غيرهم من المؤمنين، وهؤلاء هم أولياء الله الصالحين الذين يمشون في الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما، يدعون الله أن يصرف عنهم عذاب جهنم، فلا يسرفون ولا يقترون في الإنفاق، ولا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون، وإذا ذكّروا بآيات الله خرّوا سجّدا وبكّيا من الخشوع، صابرين في الحياة الدنيا على ما قدّر الله لهم، يدعون لأنفسهم ولأزواجهم وذريتهم لتقر أعينهم بفضل الله ورحمته.. هؤلاء هم من سيبدل الله سيئاتهم حسنات ويجزيهم الغرفة في الجنة حيث يلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها أبدا. وبالتالي، لا علاقة لإمامة هذه الفئة من الأولياء المخلصين بالخلافة، بل الإمامة هنا بمعنى قمة التقوى والإحسان والإخلاص في العابدة والسلوك.

وفي الخلاصة، إذا كانت الإمامة بمعنى وراثة العهد كما يستفاد من الآيات السالفة قد جعلها الله خاصة في ذرية إبراهيم الخليل عليه السلام من الرسل والأنبياء، فإن ذريته الوارثة لعهده قد انتهت بخاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم. وخلافة داوود عليه السلام التي أثارت إشكالية المعنى في الآية موضوع البحث، لا علاقة لها بخلافة الله تعالى، بل بخلافة عهد جده إبراهيم الخليل عليه السلام وفق ما يعطيه السياق التاريخي والنسق القرآني الذي تحدثنا عنه.

ومن خلال هذا التاريخ، تظهر الأمور واضحة لا تحتاج لتأويل، لأنها تجربة تعبّر عن موقف واحد وإن اختلفت الرسالات واللغات والعبارات. لكن ما حدث أن رجال الدين اختاروا نسقا آخر يقوم على الوساطة بدل العلاقة المباشرة مع الله على سنة خليله إبراهيم عليه السلام صاحب العهد الذي أطلعه الله بالعلم اللّدني على ملكوت السماوات والأرض فرأى كيف بدأ الخلق كما يقول ابن رشد.. أي وساطة تحمل معنى الحضور من خلال التجسيد الذي ظهر في اليهودية والمسيحية، فجاء الإسلام ليحسم الأمر بالقول، إن الواحد لا يغيب ولا يحتاج لوسيط من بشر أو صنم، لأنه لا ينكشف لا في الطبيعة ولا في شعب مميّز ولا في أسرة ولا في فرد، بل في تجربة إبراهيم أب الرسل والأمم الذي لم يكن يهوديا ولا نصرانيا بل كان مسلما حنيفا وما كان من المشركين، وكل رسول أو نبي من بعده يجدد تجربته باتباع سنته لا يحيد عنها، يأخذ منها العبرة والحكمة. فالعبرة تقول، إن خطر التجسيم يظل قائما باستمرار، والحكمة تقول، إن الشرك لظلم عظيم، وأن هلاك الأمم لا يكون إلا بسبب الشرك، لا بسبب ظلم الحاكم لرعيته وإن كانت مسلمة، وهو الظلم الذي لا يرفعه الله عن الناس إلا إذا غيّروا ما بأنفسهم لقوله تعالى: (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم) الرعد: ١١. 

والرسول محمد صلى الله عليه وسلم لم يأتي بدين جديد اسمه الإسلام كما فهم ذلك عديد المفسرين، لأن الإسلام وبشهادة القرآن هو دين التوحيد الوحيد الذي اختاره الله تعالى لعباده كافة من نوح إلى محمد مرورا بكل الأنبياء والرسل والأمم، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا وجود لدين غيره سوى الكفر وفق ما تؤكده سورة (الكافرون)، وكل من يقول بتعدد الديانات التوحيدية يكون كمن يمتح من معين غير القرآن، أو يقرأ القرآن بمنطق اليهود، لأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لم يبعثه الله لينفي ما جاء قبله من رسالات، بل مصدّقا لها ومصحّحا لما طالها من تزوير وتحوير وانحراف، ومكمّلا لها بمكارم الأخلاق لقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) المائدة: ٣. وإكمال الدين الذي هو الإسلام الذي ارتضاه تعالى للعالمين، قد بدأ منذ نوح عليه السلام الذي ذكر القرآن أنه كان من المسلمين، مرورا بكل الأنبياء والرسل كما أسلفنا، حيث يؤكد القرآن أنهم كانوا جميعا مسلمين، بل حتى ملكة سبأ أسلمت لله رب العالمين، وكذلك فعل سحرة فرعون عندما عرفوا أن ما جاء به موسى الحق وليس السحر، فأسلموا لرب موسى.. هذه هي الحقيقة التي ركز عليها القرآن في أكثر من آية ومناسبة. لكن الفقهاء كان لهم رأي آخر أدى إلى انحراف الأمة عن الجادة حين فرقوا بين الأمم في الدين وجعلوا لكل أمة دينا خاصا بها.

يلاحظ عبد الله العروي في هذا الصدد، أن الإسلام التاريخي، وبسبب سوء الفهم، عرف بدوره شيئا من هذا الانحراف عن الجادة، بحيث يكون الإسلام يهودي المضمون حين يختزل في الباطن ويهدد أصحاب الظاهر، ويكون نصرانيا حين يلامس الحلول والتجسيد من قبل بعض الصوفية وغلاة الشيعة. والإسلام لا يكون إسلاما حقا إلا إذا وضع نفسه في خاتمة المسيرة الإبراهيمية وغالب وتغلب على كل نزعة تجسيدية، مادية، بدعوى إقناع الإنسان البئيس التعيس الذي لم يبلغ حد التعقل. وبهذا المعنى، يكون الإسلام إسلاما عندما يتوخى بصدق وصراحة إحياء تجربة إبراهيم من خلال محنة محمد أثناء الأمد المقدر، لأن الرسالة، أية رسالة، تدوم ما دامت الأمة التي تتلقاها، وهو ما يستفاد من الآية ٣٠ من سورة الأعراف التي تقول: (ولكل أمة أجل). (نفس المرجع السابق - ص: ٧٢).

أما خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم التي قال بها الخليفة الأول رضي الله عنه، فأمر لا يستقيم لا دينا ولا عقلا: دينا لأن الرسول كان في حياته على اتصال بالسماء عن طريق الوحي، ومهمته لم تكن الحكم بقدر ما كانت تبليغ رسالة ربه دون زيادة أو نقصان وفق ما يعطيه مفهوم الرسول لغة واصطلاحا.. وعقلا لأنه إذا كان من يصطفي الرسل من ذرية إبراهيم الخليل عليه السلام لوراثة العهد هو الله تعالى، فلا يحق لكائن من كان أن يعيّن خلفاء لهم، لأنه أمر لم يشرعه الله في قرآنه، ولم يوصي به الرسول الكريم قبل وفاته، وما كان له أن يفعل ما يخالف طبيعة الرسالة نفسها ومهمة الرسول التي حددها تعالى في كلمتين (نذير وبشير) كما سبقت الإشارة، وهي مهمة لا علاقة لها بالحكم، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم ومنذ بداية الدعوة رفض ما عرضت عليه قريش من ملك وجاه ومال، وفضّل أن يهلك في سبيل الدعوة على أن يقبل بهذا العرض السخي.

كما يجب ألاّ يفوتنا ما ورد بالقرآن بشأن الميثاق الذي عقده تعالى في عالم الذر وجعله نوعين عام وخاص:

-       ميثاق عام: أخذه تعالى من البشر كافة لقوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى * قال فاشهدوا أن تكونوا عن هذا غافلين) الأعراف: ١٢٧ – ١٢٨، وهو المتعلق باعتراف النفوس في عالم الذر بربوبية الله لها، وذلك قبل حلولها في مستودع الجسد لخوض التجربة الدنيوية في المستقر المقدر لها. وبسبب هذا الميثاق بعث الله الرسل والأنبياء ليذكروا الناس به كي لا يتذرّعوا بالنسيان فلا يكون لهم على الله حجة بعد الرسل، لقوله تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) النساء: ١٦٥.


-       ميثاق خاص: أخذه تعالى من الأنبياء حصرا دون سواهم من البشر لقوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبّيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) الأحزاب: ٧. والميثاق الخاص الذي يتحدث عنه تعالى في هذه الآية هو المتعلق بتبليغ رسالة التوحيد دون زيادة أو نقصان، والتي تعني إفراد الولاء والعبودية لله، وعدم التفرقة في الدين لقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) الشورى: ١٣.

لاحظ أن لا فرق من حيث الصياغة والترتيب بين الآية الأولى (الأحزاب: ٧) والآية الثانية (الشورى: ١٣) إلا من حيث القصد: فالميثاق الخاص، يتعلق بالميثاق الغليظ الذي أخذه الله من الأنبياء والرسل. أما العام فيتعلق بإقامة نفس الدين الواحد وعدم التفرقة فيه من قبل الجميع. وبذلك، كل من يقول بتعدد الديانات التوحيدية يعتقد بما لم يشرعه الله لأنبيائه وعباده كافة، وسوء الفهم الكبير هذا هو الذي أدى إلى التفرقة في الدين بين أتباع الرسالات السماوية كما حدث لليهود والنصارى ووالمؤمنين بمحمد، وبين أتباع نفس الرسالة كما حدث لهم أيضا حين انقسم أصحاب العقيدة الواحدة في كل أمة على حدة إلى فرق وملل ونحل وشيع وأحزاب، كل يزعم أنه ينتمي للفرقة الناجية وسواه في النار، لقوله تعالى: (فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون) المؤمنون: ٥٣. وقوله أيضا: (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) الروم: ٣٢. وبالتالي، فالرسل والأنبياء ليسوا مسؤولين عن هذه التفرقة التي حصلت من بعدهم، بل الحاخامات والرهبان والفقهاء هم من يتحملون مسؤولية ذلك باسم سنّة ابتدعوها ونسبوها لرسلهم زورا وبهتانا كما فعل اليهود والنصارى، أو نتيجة لسوء فهم فظيع للقرآن دفع ببعض فقهاء المسلمين للأخذ من سنن فقهاء أهل الكتاب كما حجصل في التاريخ الإسلامي بعد محمد صلى الله عليه وسلم.

ودليل ذلك أن الله تعالى سيسأل يوم القيامة نبيّه عيسى عليه السلام إن كان هو من قال لقومه أنه وأمه إلهين، فيجب: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) المائدة: ١١٦ - ١١٧. كما سيسأل تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة عمّا آلت إليه أحوال أمته من تفرقة في الدين من بعده أدت إلى الفتن والصراعات والحروب باسم سنة اختزلت الإسلام في سجن الجماعة ومعتقل المذهب، فيجيب بصدق ومرارة: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان: ٣٠. فأين نذهب من هنا؟

وبهذا المعنى لا تعتبر الإمامة والخلافة من أصول الدين بل من فروعه وفق ما هو متفق عليه بين الفقهاء السنة والشيعة سواء، وهي فروع ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان، لأن مسألة الحكم أمر دنيوي يختار كل مجتمع إنساني النظام الذي يراه مناسبا لمصالحه في زمانه، ولم يحدد القرآن نظاما معينا للحكم ولا أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم به من بعده.

ويبدو أن الشيعة فهموا الإمامة في إطار معنى خلافة العهد الذي تعطيه الآية القرآنية الأساس (البقرة: ١٢٤)، لذلك تحدثوا عن وراثة عهد النبوة في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم بدل خلافة النبيّ نظرا للفرق القائم بينهما، أي بين الخلافة بمعنى الحكم، والخلافة بمعنى العلم النبوي أو "الفلسفة النبوية" أو "علم القلوب"، وحددوا تواثر الإمامة في اثنا عشر إماما ابتداء من الإمام علي عليه السلام وانتهاء بالإمام الغائب (المهدي المنتظر) على شاكلة عدد نقباء بني إسرائيل. هذا فيما فهم السنة الخلافة في وراثة قريش للحكم بعد الرسول، بالرغم من أن الرسول لم يقم دولة ليحكمها، بل أسّس أمة.

والشيعة والسنة استندوا في تبرير مقولاتهم على حديث منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم أخرجه البخاري في صحيحه عن جابر بن سمرة ورد في (٩: ١٠١ – كتاب الأحكام – الباب ٥١، باب الاستخلاف) قال فيه: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلَّم يقول: (يكون اثنا عشر أميراً) فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال: (كلّهم من قريش). وأخرجه مسلم أيضا عن نفس الراوي في صحيحه لكن بصيغة مختلفة تتحدث عن الخلافة بدل الإمارة (٦: ٣) قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلَّم يقول: (لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة) ثمّ قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: قال: (كلّهم من قريش). ونقله ابن حجر في (الصواعق: ١٨٩) من إخراج الطبراني عن نفس الراوي، أي عن جابر بن سمرة، فقال: أنّ النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: (يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش). وهو ما استدل به الشيعة على أن الأئمة يكونون اثنا عشر إماما من آل البيت، واستدل به السنة للقول إن الخلافة تكون من قريش دون تحديد لعدد الخلفاء برغم أن الحديث الذي استندوا إليه يحدد عددهم في اثنا عشر.

وإذا كان ابن كثير الحنبلي قد أكد في كتابه "البداية والنهاية" أن الرسول صلى الله عليه سلم لم يوصي بإمام أو خليفة، وذهب نفس المذهب السيوطي في كتابه "تاريخ الخلفاء"، وأكد عديد الفقهاء سنة وشيعة أن الخلافة والإمامة ليستا من صميم الدين بل اجتهاد من الصحابة والفقهاء باعتبارها واجب لحاجة الأمة إليها، فإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الإطار هو: - كيف لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرض على الأمة أن يكون الأمير أو الخليفة من قريش أو الإمام من آل البيت وفق ما نسب إليه من أحاديث؟

ومرة أخرى، الدين والعقل ينفيان أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد دعا إلى هذا النوع من "العصبية" المنافية جملة وتفصيلا لأخلاقه ورسالة المساواة التي بعثه بها تعالى لعباده، هذا علما أن هناك أحاديث أخرى يأمر فيها بطاعة من يولّى على المسلمين ولوكان عبدا حبشيا، لقوله (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) رواه أنس ابن مالك عن مسدد عن يحيى بن سعيد عن أبي التياح، وأخرجه البخاري في (صحيحه تحت رقم: ٦٧٢٣)، ولرفع التعارض، لجأ بعض الفقهاء لآلية التأويل فقالوا، إنه حديث قد يناسب مقام ولاة الأقاليم لا الخلافة الكبرى أو الإمامة العظمى.. وهذا عين العبث.

لكن الأخطر هو أن يُقوّلوا رسول الله ما لم يثبت صحته بالمطلق، لأنك لو حسبت عدد "الخلفاء" أو "الأمراء" الذين جاؤوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم حسب صيغة حديث البخاري أو صيغة حديث مسلم، لتجاوز عددهم رقم اثنا عشر بكثير. وتبيان ذلك كالتالي: الخلافة الراشدة: ٥ خلفاء - الخلافة الأموية: ١٩ خليفة – الخلافة العباسية: ٣٧ خليفة في بغداد و٢٢ في القاهرة – الخلفاء العثمانيون: ٣٠ خليفة. أي ما مجموعه: ١١٣ خليفة.. وإذا سلّمنا جدلا بأن الخلفاء الحقيقيين هم من تولّوا شؤون المسلمين زمن الخلافة الراشدة، فسنكون أمام ٦ خلفاء: أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ والحسن بن علي، مضاف إليهم عمر بن عبد العزيز في العهد الأموي والذي لم يحكم إلا لفترة قصيرة. وإذا أخذنا بالتصنيف الشيعي فلن يتجاوز عددهم اثنان: الإمام عليّ بن أبي طالب والإمام الحسن بن عليّ. وهو ما يؤكد أن هذه الأحاديث لا تعدو كونها مدسوسة لا يمكن الوثوق بها بالمطلق، ولا تليق بمصداقية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن ما يسمى بعلم الجرح والتعديل التي تم على أساسه انتقاء الأحاديث الصحيحة ليس له من العلم إلا الإسم، لذلك من غير المقبول دينا وعقلا الاستناد إلى مثل هذه الأحاديث التي لا يمكن أن تكون إلا مختلقة لغايات سياسية لا علاقة لها بدين الله ولا بمصلحة الأمة، ويستحسن الركون إلى ما قاله ابن خلدون عن هذا الموضوع.

يقول ابن خلدون: "فصار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق، ولم يظهر التغيّر إلا في الوازع الذي كان دينا ثم انقلب عصبية وسيفا ... ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها وصار الأمر ملكا بحتا" (المقدمة – دار الكتاب اللبناني – طبعة بيروت ١٩٦٧ - ص:٣٩٦).

ويميز ابن خلدون بين أنظمة الحكم عموما فيقسمها إلى ثلاثة ويعرّفها كالتالي: 

-       ملك طبيعي هدفه حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، وهو النموذج الذي كان معروفا لدى العرب في مرحلة ما قبل الرسالة، بدليل أن قريش عرضوا على محمد في بداية الدعوة الملك والجاه والمال فرفض.

-       ملك سياسي هدفه حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، وهو النموذج الأسيوي الذي كان معروفا لدى الفرس وتأثر به العرب زمن الحكم الأموي والعباسي حيث نظموا على أساسه مؤسسات الدولة وأولها الجيش الذي أصبح نظاميا بعد أن كان الجهاد بالتطوع، فتحولت "الخلافة" في عهد معاوية إلى ملك سياسي، لكن على شكل دولة قمعية منظمة لم يعهدها المسلمون من قبل، طغت فيها المقاصد الدنيوية على المقاصد الأخروية واستعمل الدين كسلاح ضد الخصوم فتحول بمساعدة الفقهاء إلى مجرد إيديولوجية.

-       الخلافة وهي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.وهو مفهوم يخلط بين خلافة الله وخلافة من سبق من أمم كما أسلفنا.

ووفق هذا التعريف (المقدمة – ص:٣٣٨). يضع ابن خلدون الخلافة في قمة التصنيف، يتلوها الملك الأسيوي "الفارسي" السياسي العقلاني، ويضع الملك الطبيعي الدهري "العربي" في أسفل القائمة، وهو ما جعل عبد الله العروي يستنج أن أول دولة بالمفهوم السياسي المؤسساتي عرفها التاريخ الإسلامي هي دولة معاوية، وهذا صحيح نظريا بغض النظر عن صلاح الدولة أو فسادها.

لكن الإشكالية تطرح بالنسبة للخلافة تحديدا، لأنه إذا كان وازع الحكم الدهري يقوم على المصلحة الشخصية وأهواء الحاكم، وإذا كان وازع الحكم السياسي يقوم على جلب المصالح ودفع الأضرار، فإنه بالنسبة للخلافة يعتبر الوازع الديني هو الأساس الذي تقوم عليه، بحيث تربط المصالح الدنيوية بالآخرة وفق ما يقول ابن خلدون. والمشكلة تكمن في الخلط الذي طرأ بين النموذج الأول والنموذج الثالث (الوازع الديني والعصبية القبلية) التي قامت على أساسها الخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال إصار من حضروا اجتماع بني سقيفة على أن تكون الخلافة في قريش، وهو ما لا يستقيم عمليّا نظرا لتعارض الوازعين الديني والقبلي.

وهو ما عبر عنه ابن خلدون في معرض حديثه عن الخلافة بقوله: "وازع كل واحد فيها من نفسه وهو الدين، وكانوا يؤثرونه على أمور دنياهم وإن أفضت إلى هلاكهم" (المقدمة – ص: ٣٦٩). والملاحظ أن ابن خلدون لم يوضح ما الذي يقصده بقوله: "كانوا يؤثرونه على أمور دنياهم"، لأن مثل هذا التقييم لا ينطبق على مرحلة الخلافة المسمات بـ "الراشدة" لسببين:

-       الأول: أن الخلافة وفق المعنى الذي يستفاد من النسق التاريخي كما ورد في القرآن، تتعلق بخلافة الرسل والأنبياء لعهد جدهم إبراهيم الخليل عليه السلام، حيث جعله الله تعالى وراثة في ذريته التي انقطعت بخاتم الرسل والأنبياء كما سبقت الإشارة، وبالتالي، فخلافة الرسول من قبل أي كان في الشأن الديني لا تجوز، لأنه مبلغ عن ربه بحكم الوحي الذي يتلقاه من جهة، كما لا تجوز في الشأن السياسي بحكم أن الرسول لم يقم دولة بالمعنى الذي ذهب إليه التراث لأنها لم تكن أصلا من أولويات اهتماماته، بل أقام أمة كما سبقت الإشارة. كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يوصي لأحد بخلافته من بعده وترك للمسلمين قاعدة ذهبية تقول: (أنتم أدرى بشؤون دنياكم). هذا فيما سكت القرآن عن مسألة نظام الحكم ولم يوضح للناس النموذج الأمثل، وترك الأمر شورى بينهم، في حين امتدح حكم الملكة بلقيس الذي كان عادلا وتحقق في عهدها الرخاء والازدهار والقوة بسبب الشورى وتغليب المصلحة العامة على مصلحتها الخاصة كملكة، وانتقد الحكم الدهري على لسان بلقيس نفسها: (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة)، فصدّق تعالى قولها بقوله: (وكذلك يفعلون) النمل: ٣٤. هذا علما أن حكم بلقيس وفق تصنيف ابن خلدون يدخل في إطار الحكم الطبيعي (الدهري) الذي كان سائدا حينها، لكنه يمثل استثناء من القاعدة بشهادة الله نفسه لما اتسم به من عدل وعقلانية وشورى، ومع ذلك، لم يشر ابن خلدون إلى هذا الاستثناء، وهو ما يفسر أنه كان يتعاطى مع الأحداث بمنطق السنن لكن من منطلق رؤية تركز على مرحلة تاريخية بعينها دون ربطها بالمراحل السابقة، وإلا لما فاتت مثل هذه الملاحظة عالم كبير من حجم ابن خلدون. وهذا المعطى نلاحظه لدى الفقهاء أيضا في تعاطيهم من الرسالة المحمدية دون ربطها بالنسق الديني الماكرو تاريخي التي جاءت كخاتمة له، أي التاريخ القدساني، فاعتبروا أن الإسلام يبدأ وينتهي بمحمد الذي جاء لينسخ كل ما سبق، استنادا لسوء فهم كبير لقوله تعالى: (ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران: ٨٥، متجاهلين أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي اختاره تعالى لعباده كافة من نوح صعودا إلى محمد هبوطا مرورا بكل الأنبياء والرسل عليهم السلام جميعا، بمقتضى عدله ورحمته للعالمين جميعا كما أوضحنا أعلاه.

-       الثاني أن ظاهر كلام ابن خلدون لا يفيد خلافة الرسول بحال من الأحوال، لأنه في تعريفه للخلافة حسب ما ورد في النص المذكور (المقدمة - ص: ٣٣٨) قال بصريح العبارة: "فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به". وصاحب الشرع هنا هو الله وليس الرسول، وبالتالي، فابن خلدون هنا يتحدث عن خلافة الله في تطبيق شرعه، وهو ما لا يستقيم لا بالنسبة للرسول ولا بالنسبة للخلفاء من بعده، لأن تطبيق الشرع هو تطبيق لأمر الله بالنسبة للمؤمنين بدينه وشريعته، وفي هذا لا يحتاج الأمر لخلافة الله الحاضر الدائم الذي لا يغيب، بل فقط الالتزام بتعاليمه، والالتزام مرتبط بالإيمان، لأن من يلتزم بتطبيق شرع الله هو المؤمن، ومجتمع المؤمنين في إطار مبدأ الشورى بمفهومه القرآني الواسع هو من يتولى تحديد أنموذج الحكم الذي يريده، ويختار الحاكم العادل الذي يوكل إليه تطبيق ما يتم سنّه من قوانين لتنزيل شرع الله منزلة التنفيذ.

وهو ما يلمّح إليه ابن خلدون بشكل ضمني بحديثه عن الخلافة من دون أن يحدد مرحلتها ولا مدتها، وذلك بقوله: "فصار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق، ولم يظهر التغيّر إلا في الوازع الذي كان دينا ثم انقلب إلى عصبية وسيفا... ثم ذهبت الخلافة ولم يبق إلا اسمها وصار الأمر ملكا بحثا" (المقدمة – ص: ٣٦٩).

هذا النص يطرح إشكالية حقيقية بين النظرية والتطبيق، لأن ابن خلدون يربط بين الوازع الديني كأساس تقوم عليه الخلافة من جهة، وبين العصبية والسيف الذي يقوم عليه الملك من جهة ثانية، ويشير إلى صعوبة التوفيق بينهما في الواقع العملي. لأنه إذا علمنا أن ما سمي بمرحلة "الخلافة الراشدة" قد قامت ومنذ اليوم الأول على العصبية القبلية عندما قرر أهل الحل والعقد ألا تكون الخلافة إلا في قريش، أدركنا أن الوازع الديني لم يكن هو الأساس وإن لم يكن غائبا بالمرة، بل تغلّبت العصبية القبلية لتخضع الدين لسلطتها بدل أن يكون العكس، قد لا يعجب مثل هذا الكلام البعض، لكنها حقيقة تاريخية قائمة لا يمكن تجاهلها بالقفز عليها واختزال الزمن في تجربة الخلافة الراشدة التي لم تكن خلافة وراشدة إلا من حيث الظاهر.

لأن سكوت ابن خلدون عن تحديد فترة الخلافة التي تقوم على الوازع الديني وإشارته لدخول العصبية القبلية على الخط قد يكون مقصودا لترك الباب مفتوحا للتأويل دون إثارة مشاعر الفقهاء ضده، هذا احتمال وارد لأنه حدث بالفعل مع الصوفية الذين فضلوا التزام مبدأ التقية، وكل من خالف الفقهاء في أمر من أمور الفقه إلا وانتهى به الأمر إلى التكفير والقتل. وهو ما توقف عنده عبد الله العروي في تحليله لنص ابن خلدون بالقول: "هذا حكم مهم بالنسبة للفكر السياسي الإسلامي العام. هناك إذن خلافة حقيقية وخلافة ظاهرية. كيف نحدد زمنيا مدة الخلافة الحقيقية؟ الجواب غير واضح عند ابن خلدون. يمكن أن نحصرها في عهد النبي وهو التأويل الذي يطابق تماما النظرية الخلدونية. فتكون حينئذ خلافة الراشدين ظاهريا فقط لأنها مبنية على العصبية".

وبغض النظر عن القراءة الطوباوية المتفق عليها بين الفقهاء والتي تقول بأن الخلافة الحقيقية دامت إلى أواسط عهد عثمان، وأن معاوية هو الذي قلب الخلافة إلى ملك عضوض بالتحكم والقهر، غير أن عبد الله العروي يلاحظ في هذا السياق، أن حضارة العرب تغيّرت أثناء تلك الفترة، ويقصد بها فترة النبوة حيث تم الانتقال من مكة إلى يثرب، بما يعني أن حياة العرب تطورت زمن الرسول صلى الله عليه وسلم من عمران بدوي إلى عمران مدني، فكان لا بد أن يصطبغ الحكم بعد وفاته بشيء من السياسة العقلية لأن "العمران لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره" كما يقول ابن خلدون (مفهوم الدولة – ص: ٩٦).

وهنا يطرح العروي السؤال الخطير فيقول: "هل يمكن أن يحصل انقلاب مضاد، أي أن تنقلب السياسة إلى خلافة؟ ... فيجيب: لا يستبعد ابن خلدون المؤمن هذا الاحتمال، لأن القدرة الإلهية لا يعجزها شيء في الكون. ولأن ابن خلدون يؤمن أيضا بسنن الطبيعة وعليها بنى نظرياته، فالنتيجة واضحة إذن، وهي أن الانقلاب المذكور لا يحصل إلا بخرق العادة، لأن من جعل حكم الرسول ممكنا، أي المعجزة التي حسمت مسار العلل الطبيعية، هو بالضبط ما يجعل الخلافة في المستقبل ممكنة. بعبارة أخرى، لم يحصل أبدا الانقلاب المذكور اعتمادا على طبيعة البشر وحدها، ويظل الأمر منوطا بإرادة السماء التي تشترط أن تغير النفوس ما بها ليحدث التغيير المنشود.

نتفق مع ابن خلدون وخلاصة العروي التي تقول أن القدرة الإلهية لا يعجزها شيء في الكون، هذا أمر لا نقاش فيه لأنه مرتبط بعقيدة المؤمن، لكننا لا يمكن أن نسلم بذلك في الدين ونحن نعلم علم اليقين أن قضاء الله حسم أمر وراثة العهد بأن جعل محمد آخر الوارثين من الرسل والأنبياء، وبالتالي، الحديث عن إمكانية عودة الخلافة على نهج النبوة انطلاقا من مقولة: "لا يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله" الذي قالها الإمام مالك ابن أنس واستشهد بها العروي في تحليله تحتاج إلى تأويل يعتبر من مجال المسكوت عنه في الأدبيات الإسلامية، لأنه من مجال فلسفة الدين لا فلسفة التاريخ، وهو أمر مفهوم ما دام هذا النوع من التأويل لا يمكن إلا أن يصطدم بالرؤية الإيديولوجية التأويلية القائمة لدى السنة والشيعة، كل من زاوية قراءته، هذا علما أن ما صلح به أمر أول الأمة ويمكن أن يصلح به حال آخرها هو القرآن زمن الرسالة وليس الخلافة، وهنا مربط الفرس.

وعلى ضوء ما سلف نصل إلى النتائج التالية:

-       أن زمن الرسل والأنبياء اختتم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولن يبعث الله من بعده رسولا ولا نبيا، لأن دور الرسل والأنبياء ليس هداية الناس بقدر ما هو تذكيرهم دون إكراه بميثاقهم مع ربهم في عالم الذر وفق ما يستفاد من آية الميثاق. وعلى أساس ذلك حدد تعالى مهمة الرسول (أي رسول) في كونه مذكر بعهد الله من دون أن تكون له سلطة على الناس، لأن الإيمان من عدمه أمر من اختصاص الله تعالى دون سواه لقوله تعالى لمحمد: (فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر) الغاشية: ٢١ – ٢٢.

-       أن ما صلح به أمر أول الأمة فهو القرآن، وبالتالي، لن يصلح آخر الأمة إلا القرآن، وكل انتظار لمخلص يأتي من السماء هو تعلق بالوهم. لأنه بنزول القرآن الذي حفظه الله من التحريف والتزوير والتحوير وضمّنه أصول الدين التي جاءت بها كل رسالات السماء، أصبح الخلاص مرهونا بتدبر آياته لفهمها والعمل بمقتضاها بدليل "اقرأ"، وهو الأمر الذي يعني حرفيا "تعلم في مدرسة الله" ما ينير لك الطريق المستقيم إليه، لأنه ماسك بناصية خلقه فلا هروب منه إلا إليه، ولا سبيل لمعرفته والعمل بما يرضيه إلا من خلال فهم خطابه فهما سليما.

-       أن شريعة الفقهاء ليست هي شرع الله، وأن شرع الله ليس هو كل الدين، وإنما جزء يسير منه لا يتجاوز ٥ في المائة من آيات القرآن كما سبقت الإشارة، وتطبيقه يختلف من أمة إلى أخرى ويكون مرهون بظروف المكان وصيرورة الزمان والقصد الذي هو تحقيق العدل.

-       أن استبدال القرآن بسنة السلف لما تتيحه هذه البدعة المحدثة في الإسلام من مجال واسع للاجتهاد بقياس ما لا يقاس، حوّل الإسلام إلى نسخة مشوهة إلى أقصى الحدود عن الدين القويم، ومن نتائجه الكارثية تعطيل العقل وسد باب الاجتهاد وتحريم تفسير القرآن بالتأويل، فتحوّل كتاب الله إلى مجرد نص جامد يقرأ على الأميين في المساجد وعلى الأموات في المقابر، وتحول فقهاء الظاهر إلى حراس للعقيدة في تطاول سافر على مجال من اختصاص الله، وأصبح إنتاج المعنى حكر على المؤسسات الدينية الرسمية، وكأن القرآن خص به تعالى الحكام و الفقهاء لا الناس كافة.

-       أن الدين والسياسة كانتا دائما على طرفي نقيض، لأن مجال السياسة هو المصالح الدنيوية التي تدخل في صلب مهمة الدولة ضمن حدودها الجغرافية، في حين أن مجال الدين هو ربط المصالح الدنيوية بالخلاص في الآخرة الذي يدخل في صلب عمل الفرد المؤمن في كل مكان من العالم، ولأن الدين هو من رب العالمين للعباد كافة، فيستحيل عمليا أن يخضع لسلطة دولة مهما بلغت قوتها.. وهنا يكمن سوء الفهم الكبير للدين والدنيا معا والذي تولدت عنه كل الصراعات التاريخية التي نقرأ عنها دون البحث عن أسبابها الحقيقية.

-       أن الخليفة أو الإمام لا يمكن أن يخلف الرسول مهما بلغ علمه وورعه، لأن الله خص الرسل والأنبياء دون العباد بميثاق غليظ ودعمهم بوحي السماء وعصمهم من الناس كما أسلفنا، وهو ما ليس متاحا لغيرهم من البشر الذين ألزمهم الله بميثاق الربوبية في عالم الذر كشرط للخروج من العدم إلى الوجود وخوض التجربة الأرضية بعد أن قبلوا بحمل الأمانة طوعا لا كرها وفق ما يستفاد من آية الميثاق (الأعراف: ١٧٢) وآية الأمانة (الأحزاب: ٧٢).

والملاحظ بالنسبة للنقطة الأخيرة المتعلقة بخلافة الأنبياء، أن السنة والشيعة يفسرونها بالعلم لا بالحُكم، مستندين في ذلك إلى حديث منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (العلماء ورثة الأنبياء)، حيث روى الحديث أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه وورد في أصول الكافي لدى الشيعة (باب صفة العلم وفضل العلماء – مجلد ١)، وبلغ من التواتر أن ذكره الثعالبي في كتاب (التمثيل والمحاضرة – ص: ٢٤).

لكن نظرا للفرق القائم بين علم الظاهر وعلم الباطن، فإن علماء القشور لا يمكن أن يكونوا ورثة الأنبياء، لأن ما يسمى بـ "علم الشريعة" يعتبر علما كسبيّا مشاعا في متناول كل من أراد أن يتعلمه لأنه من مجال العقل، أما العلم اللّدني الوهبي فلا، لأنه علم خاص لا يناله إلا من فتح الله عليه بالفهم من خلال نور المعرفة الذي يقذفه تعالى في قلب عبده بالوحي من خلال الملاك، لأن وحي السماء لم ينقطع بانتهاء الرسالة، ما دام الله يؤكد في قرآنه أنه يوحي للرسل والأنبياء ولمن يشاء من خلقه سواء تعلق الأمر بالمخلوقات النورانية كالملائكة، أو الطبيعة كالسموات والأرض، أو البشر كالحواريين والخضر وغيرهم ممن لا يعلمهم إلا الله، لقوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم) الشورى: ٥١.

ودليل شمول الوحي البشر في كل مكان وزمان هو القرآن الذي جعله الله معجزة خارقة تتجاوز حدود الزمن وقيود المكان، وتقفز فوق التاريخ لتتجسد في كل مرة واقعا جديدا في قلوب الناس، يحييها بكلماته التي تتحول من نص جامد إلى شعلة متقدة من نور كلما تم استنطاقه، فيجدد به تعالى إيمان عباده المخلصين ويشحنهم بالوازع الديني الذي يستطيعون من خلاله تحريك الجبال. وهذا هو عين الإعجاز الكامن في معاني القرآن لا في الأسلوب فحسب كما روج لذلك الفقهاء. ودليل ذلك قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه) القيامة: من ١٦ إلى ١٩. ما يؤكد أن جمع القرآن وقراءته وفق الترتيب الذي لدينا اليوم هو من تدبير رب العالمين الذي تعهد بحفظه من كل تزوير أو تحوير، كما أنه تعهد بتبيان معانيه لعباده فسحب البساط من تحت أقدام رجال الدين كي لا يحدث ما حدث من قبل مع التوراة والإنجيل، فقال بصريح العبارة: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما) طه: ١١٤. بمعنى، أن الله تعالى هو من تكفل بإلقاء المعنى بالوحي في قلب عبده الذي يتقرب إليه بتدبر القرآن سعيا للفهم والمعرفة، ولم يجعل الفقهاء وسطاء بينه وبين عباده. وإذا كانت الأمة قد وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من جهل وفقر وتخلف، وحصل لها ما حصل من فتن وكوارث، فلأنها تركت كلمات الله الحيّة مسجونة في رفوف المساجد وأقبلت على مدرسة الفقهاء تمتح من ثقافة القبور.

فحيدر آملي مثلا، يستبعد كل علماء الظاهر إجمالا من أن يكونوا ورثة الأنبياء، بمن فيهم كبار فقهاء المذاهب السنية الأربعة ويقول: "ألم يزعموا هم أنفسهم أن علومهم جميعا نموذج للعلم الكسبي وسواء عليهم استعملوا القياس أو لم يستعملوه؟". فبالنسبة إليه، المعارف الإرثية تفترض نسبة معنوية نموذجها المثالي سلمان الفارسي الذي قال له النبي: (أنت منا أهل البيت). وهذا البيت وفق ما يقول حيدر آملي، ليس البيت بالمعنى الظاهر المتداول، أي ليس العائلة التي تشمل الزوجات والأولاد، وإنما "بيت العلم والحكمة والمعرفة". لأنه بيت تكوّن منذ البداية من الأئمة الاثنا عشر الذين كانوا معا في عالم الذر قبل ظهورهم على الأرض. (تاريخ الفلسفة الإسلامية – هنري كوربان – ص: ١١٤).

والحقيقة أن ما قاله حيدر أملي يسقط الاعتقاد القائل بأن الشيعة يلحّون على أن تكون الخلافة أو وراثة العهد في بيت النبوية على أساس الولادة، لأن البيت هنا يأخذ معنى آخر غير معنى الانتماء الجيني لأسرة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذا الانتماء الجيني لا يكفي أبدا لقيام إمامة الأمة بدليل ما توعد به تعالى عم النبي أبو جهل، فكيف بالانتماء القبلي القرشي الذي يقول به السنة؟ لأن الإيحاء هنا هو لبيت العلم، وتحديدا العلم اللّدني الذي يفتح به الله تعالى على من يشاء من عباده فيكونوا أئمة بإذنه، يبلغون العلم الذي هو إرث نبوي، وبهذا التبليغ تستمر النبوة الباطنة التي هي الولاية في تعريف الشيعة والصوفية معا. وبهذا المعنى، فكلمة العلماء لا تعني فقهاء الشريعة كما يفهم من الترجمة العربية الحرفية، بل أولئك الذين يرثون العلم عن الأنبياء فيتحولون ليس إلى مبلغين مبشرين ومنذرين، بل إلى هادين. وهنا يكتسي الإمام الولي أهمية أكبر من النبي، لأن النبي مبلغ عن ربه ومبشر ومنذر فقط، فيما الولي "الإمام" هو الهادي، لقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) الرعد: ٧.

وبهذا المعنى، فالذين لا يرثون العلم اللدني ليسوا بعلماء، والعلم الكسبي لا يُورّث كما هو معلوم لأنه متاح للجميع، ولأن صفة الوارث تجعل من المال الذي يتلقاه الإنسان شيئا غير مكتسب من الخارج، وإنما مجرد أمانة تعود إليه، والحالة هنا كما يقول حيدر آملي، تشبه الكنز المدفون يتركه والد لبنيه كما ورد في سورة الكهف (الآية: ٨٢)، وبالعلم والجهد والمجاهدة يهتدي الإنسان إلى معرفة طريق الكنز فيطلع على أسرار جواهره ومكنوناته، وهذا هو معنى الآية (إن عرضنا الأمانات على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)، أي أن الأمانة هنا جاءت بمعنى وراثة العلم النبوي اللدني لارتباطه بعهد الله الذي جعله تعالى خاصا بأنبيائه وأوليائه المقربين. وهذا هو أساس الباطنية الشيعية ومرد انتمائها إلى التاريخ القدساني الذي تدور حوادثه بين أدوار النبوة والولاية، أي بين التبليغ والهداية. (نفس المرجع السابق – ص: ١١٥).

والسؤال هو: هل قصد ابن خلدون هذا المعنى بقوله، إن الخلافة تظل أمل مرتقب في غير طاقة البشر لأنه مرتبط بالإلهام الرباني؟ ... هل لمّح ابن خلدون بمقولته هذه إلى ضرورة التمييز بين التاريخ البشري (الظاهر) الذي نعرفه، والتاريخ القدساني (الباطن) الذي نجهله وليس بالإمكان معرفته إلا من قبل من يمدهم الله بإلهام خاص من عنده؟

هذا ما يفهم ضمنيا من كلام ابن خلدون، لأنه بالنسبة للعدل مثلا نجده يفرق بين عدلين: عدل البشر وعدل الله، أو عدل الأرض وعدل السماء، وإذا كان عدل الأرض مرتبط إلى حد كبير بنزاهة البشر وتقواهم وأخلاقهم، فإن عدل السماء مرتبط بالسنن التي تتدخل لخرق العادة كلما تم تجاوز البشر للحدود بحكم أن الله هو القائم في ملكه يديره بعلمه وحكمته وقدرته وفق مشيئته، والعدل البشري لا يمكن أن يكون عدلا ينسجم مع العدل الإلهي إلا إذا كان بإلهام رباني يهبه الله تعالى لمن يشاء من أوليائه المخلصين. وكون ابن خلدون لم يوضح هذا المعطى، فمرده الخشية من السقوط في التمييز بين الفريقين (السني والشيعي) في فهمهما للدين والسياسة كما يبدو، وهو ما حدث لابن عربي الذي اتهم بأنه شيعي في تناوله لقضايا الباطن، فيما الرجل أكد في أكثر من مناسبة ومقام أنه سني المذهب أشعري العقيدة، يؤمن بأن الشريعة ليست سوى صورة للحقيقة التي تدرك بالعلم الكسبي، وتعتبر بالتالي البوابة لولوج عالم الباطن الذي لا يدرك إلا بالعلم اللدني الذي هو نور رباني  يقدفه تعالى بواسطة الملاك في روع من يشاء من عباده، والدليل على ذلك قصة الخضر مع موسى عليهما السلام التي وردت في سورة الكهف كما سبق القول، والتي توضح بجلاء الفرق بين الولي والنبي، وكيف خص تعالى وليه الخضر عليه السلام بعلم لم ينله نبيه ورسوله المجتبى موسى عليه السلام.

ويفسر الملا صدرا الشيرازي ذلك بالنسبة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن ما أنزل (أي ما تجلى في قلب النبي)، هو أولا حقائق ووقائع القرآن الروحية قبل أن يتكون الشكل المرئي للنص من حروف وكلمات. وهذه الحقائق هي نور الكلام وقد كانت حاضرة من قبل أن يظهر الملاك بشكل مرئي فيملي نصوص الكتاب، فقد كانت الحقيقة الروحية موجودة وهذه بالتحديد هي ولاية النبي في شخصه السابق على الرسالة النبوية، لأن الرسالة النبوية تفترض ذلك". ويشرح ذلك وفق ما ورد في "أصول الكافي" للكيلاني بالقول: "قال تعالى: (نزّل عليك الكتاب) أي نزّل حقائق القرآن وأنوار الكتاب على قلبك بالحقيقة متجلية بسرك وروحك لا صورة ألفاظ مكتوبة على الألواح مقروءة، وكما قال (بالحق أنزلناه)، يعني نزل بالحقيقة لا الصورة فقط، ثم أخبر عن حقيقة الكتاب الذي هو كلام الحق بقوله (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) إشارة إلى أن تعليم القرآن يتجلى من خلال نور المعنى الذي يفتح به تعالى على قلب من يشاء من عباده"، وهو الأمر الذي يؤكده قوله تعالى (ولا تعجل بالقرآن قبل أن يقضى إليك وحيه) طه: ١١٤ (تاريخ الفلسفة الإسلامية – هنري كوربان – ص: ١١٦).

من هنا جاء التمييز الذي يقيمه الشيعة بين التاريخ البشري والتاريخ القدساني أو ما يوصف بما وراء التاريخ، لأنه لا يعقل أن يكون هناك تاريخ بشري (ظاهر) من دون تاريخ قدساني (باطن)، ويستدلون على ذلك بآية الميثاق، أي بالعهد العام الذي حدث بين البشر من أبناء آدم جميعا والله حين أحضرهم تعالى في عالم الذر والأرواح النورانية في قيامة أولى قبل الخلق المادي وأشهدهم على أنفسهم بقوله (ألست بربكم) قالوا (بلى) قال (فاشهدوا أن تكون عن هذا من الغافلين)، وهي شهادة حضورية تمت من قبل جميع من أخرج الله من العدم إلى الوجود فوقفوا في حضرته ليشهدوا على أنفسهم بقبولهم ميثاق الربوبية، ومن ثم جعل لكل نفس مستودع (الجسد المادي) ومستقر (المكان الذي ستعيش فيه على الأرض) وفق الدور والزمن المحدد لها في أم الكتاب. وهذا هو المعنى الذي تعطيه كلمة الشهادة في القرآن، وهو ذات المعنى اللغوي والقانوني، إذ لا تقبل شهادة بالسماع من الغير ويلزم أن تكون عينية حضورية.

وما يؤكد ما ذهب إليه الملا صدرا الشيراجي في هذا الباب، هو أن كل الأنبياء جاءوا في التاريخ بموعد تابث ليذكروا قومهم بميثاقهم مع ربهم، هذا الدور يمثل التاريخ البشري الظاهر. لكن هناك تاريخ قدساني باطن يتمثل في ميثاق الأنبياء الخاص مع ربهم، والذي وصفه تعالى بأنه ميثاق غليظ أخذه منهم ليبلغوا رسالاته كما أسلفنا القول، وهذا الدور يقتضي إعدادا خاصا يختلف عن إعداد البشر، إذ جعل الله لأنبيائه نورا يبصرون به الأشياء كما هي على حقيقتها لا كما تبدو للعيان من خلال صورها المحسوسة. وإذا كان الله قد جعل لكل نبي نورا يبصر به، فإن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد ميزه تعالى عن كل الأنبياء بأن جعله هو نورا يمشي على الأرض. ذلك أن النبي التاريخي هو من يقول لقومه بأمر ربه: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ) الكهف: ١١٠، لكن بحكم تاريخه القدساني جعله الله قبسا من نور يختلف عن غيره لقوله تعالى: (وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا)، وهي الآية الوحيدة التي تكشف عن هذه الحقيقة الفريدة والمميّزة، لذلك كان أصحابه يقولون إنهم لم يكونوا يرون له ظلا على الأرض لا في ضوء الشمس ولا في نور القمر. وهذا الاختلاف في الصورة بين البشري والروحاني هو الذي أثار جدلا واسعا على مستوى الكنيسة المسيحية انتهى بقولها بفكرة تجسد الله في التاريخ من خلال المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، أي ولوج الباطن الروحي الذي ينتمي للتاريخ القدساني في وعاء الصورة الظاهرة في التاريخ البشري (نفس المرجع السابق – ص: ١١٨ – ١١٩).

ويبدو أن فكرة الإمام الغائب أي المهدي المنتظر وعودته من غيبته تأخذ قوتها عند الشيعة من هذا الفهم القائم على ضرورة التمييز بين حدين: زمن غيبة الإمام الذي تعيشه الأمة في الحاضر (أي التاريخ البشري الجاري)، وزمن الرجعة، أي بداية النهاية التي ستمهد له السماء برجعة الإمام فتقدّم زمن الغيبة نحو خاتمته إيذانا بقرب المعاد، وهذا هو دور الولاية الذي يلي دور النبوة. لأن زمن النبوة وإن كان قد ختم على هذا المعنى الظاهر للنص والمتمثل في الشريعة، فإن عودة الإمام هي من ستكشف عن المعنى الروحي المستور في ثنايا النص، والذي لا يكشفه الله تعالى إلا لمن يشاء من أوليائه وفق ما تقول أدبيات الشيعة.

ومما سلف، نخلص إلى القول، أنه إذا كان السنة والشيعة يتفقون على أن الخلافة هي الإمامة والإمامة هي الخلافة، ويختلفون في طبيعتها بين قائل بخلافة الله وقائل بخلافة رسوله من السنة وقائل بخلافة العهد لدى الشيعة، ويختلفون أيضا حول من تحق له بين السنة الذين يقولون بأحقية "قريش" بمفهوم العصبية التي تحدث عنها ابن خلدون، والشيعة الذين يقولون بأحقية "آل البيت" بمفهوم وراثة علم النبوة الذي أودعه تعالى في مدرسة آل البيت لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (أنا مدينة العلم وعلي بابها).. فإن المفارقة تكمن في أن السنة والشيعة معا يؤمنون برجعة الإمام المهدي المنتظر، استنادا إلى أحاديث نبوية كثيرة يستشهد بها الجانبين.

والمفارقة التي تحدثنا عنها تكمن في أن المقدمات التي انطلق منها السنة هي غير التي انطلق منها الشيعة، لكنهما معا وصلا إلى نتيجة مشتركة، الشيعة استنادا إلى النص والعقل، والسنة استنادا إلى النقل والنص برغم التضارب الكبير القائم بينهما، ونترك للقارء الكريم استنتاج الخلاصة التي يراها تنسجم مع العقل ويرتاح لها القلب.  

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق