بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 24 سبتمبر 2018

الإســـلام: بين شريعـة السمـاء وشريعـة الفقهـاء



اختلفت تقييمات الباحثين عن أسباب تخلف المسلمين، كل من الزاوية التي ينطلق منها والمنهج الذي يعتمده في بحثه، وإن كان الجميع يتفق في المحصلة على أن الأمر يتعلق بأزمة العقل وضحالة الفكر. لكن هذه الجهود، في مجملها، لم تهتم بتقديم نظرية دينية شاملة تصحح أخطاء الفكر القديم، وتلبي حاجيات الجيل الجديد لثقافة دينية معاصرة، تستطيع مواجهة التحديات التي تطرحها الحداثة المادية وما بعد الحداثة العقلية زمن العولمة، بقدر ما اشتغلت على الأسلوب لجهة تفكيك وتحليل الخطاب الديني القائم.../...

وإذا كانت العلوم الإنسانية الحديثة، بمناهجها العقلية والموضوعية المختلفة، قد تساعد الباحث في عملية تفكيك وتحليل ظاهر الخطاب الإسلامي المهيمن، من خلال مقاربة إمبريقية شاملة وصارمة، تعنى بدراسة المجتمع الإسلامي بالاحتكام إلى الواقع المحسوس، سواء في تحديد المشكلات وجمع المعطيات أو تصنيف البيانات وتحليلها.. إلا أنه يستحيل أن تساعد مثل هذه المقاربة الباحث على تقديم بديل فكري جديد بعيدا عن مرجعية صلبة تمثل بالنسبة لأمة المؤمنين الحقيقة الدينية في أبهى صورها. والحديث هنا هو عن القرآن الذي تجمع الأمة قديما وحديثا على صحته، لأن مصدره الله، في حين يختلف الأمر حين يتعلق الأمر بالثرات الذي هو منتوج بشري يحتمل الخطأ والصواب.

والمعضلة تكمن في أن هذا النوع من الدراسة الصعبة والمعقدة، تتطلب بالضرورة وضع التراث برمته على مشرحة القرآن الذي يعترف كل من تعاطى معه أنه فوق طاقة فهم البشر. وهذا بالتحديد هو المدخل الذي استغله لصوص الدين للنفاذ إلى عقول وقلوب المؤمنين بتقديم منظومة فقهية تختزل الدين في الشريعة استنادا إلى سنة قيل أنها تمثل تبيان الرسول عليه السلام للقرآن، واجتهاد الفقهاء لحل ما استجد على المسلمين من قضايا شرعية بمنهج القياس.

وهو ما يطرح على الباحث مهمة معقدة إن لم تكن مستحيلة، تفرض عليه التعاطي مع التراث بمناهج تحليل الخطاب بعيدا عن القرآن، ليجد نفسه من حيث يدري أو لا يدري في دوامة من التعقيدات التي لا تنتهي، نظرا لتشعب وترابط الخطاب الديني في آن معا، بحيث لا يمكن التعامل معه مجزءا من دون السقوط في فخ الفقهاء والسلطة من جهة، والاصطدام بعقيدة من سماهم الإمام الأنباري بـ"المؤمنين الجهال" من جهة ثانية.

هذا يعني، أن أي محاولة لتجديد الدين انطلاقا من إعادة قراءة التراث على ضوء المناهج العلمية الحديثة بعيدا عن النص المؤسس الذي هو القرآن، تعتبر ضربا من ضروب السباحة ضد التيار، أو من يسميهم العقل السني بـ"أصحاب البدع والأفكار المارقة"، فينتهي الأمر بصاحبها إلى التكفير والقتل أو الإقصاء.. لذلك نجد عديد الباحثين، بمن فيهم من رفعوا شعار تجديد المنظومة السائدة من الداخل لإحداث التغيير الناعم من دون إثارة حساسيات رجال الدين، سرعان ما اصطدموا بصخرة السلطة التي تستمد شرعيتها من الدين، وتدرك خطورة وتداعيات العبث بهذا المجال، حرصا على الأمن الروحي للمجتمع كما تدعي.

لهذا السبب، يفضل بعض الباحثين الذين اكتووا بنار التكفير والإقصاء لأسباب مذهبية وعصبوية، ترك مجال ظاهر التدين لأصحابه، مفضلين الاهتمام بمجال التنوير، من مدخل فسلفة التأويل التي من شأنها مساعدة العقل العربي على فهم المشكلات، والبحث لها عن حلول عقلية من خلال التركيز على إعادة تحديد المفاهيم، وهي طريقة موضوعية تؤسس لثورة فكرية ومعرفية جديدة، قد تؤتي أكلها حين يصبح مجال الحوار متاحا، لتغذية العقل وتنمية الفكر وترسيخ أسس التعددية الفكرية.

هذا التوجه له أسبابه الوجيهة، فهو يدرك أن الصعوبة تكمن في قوة التيار السني بسبب التحالف التاريخي القائم بين رجال الدين والإقطاع، وأن مواجهته في ظل مجتمع أمي، مسحور، وراكد، سيكون مصيره إما الإنتحار أو الإنكسار. أما إذا بدأ المجتمع يتحرك، مهما يكن الوازع، فإن المذهب هو الذي يصبح محاصرا ومهددا بسيل التغيير الجارف من كل الجهات، لأن ما لا يتغيّر، مجبر بالتعريف على معايشة ما يتغير باستمرار: "هذا ما  يفرضه المنطق ويشهد عليه التاريخ" وفق الخلاصة التي وصل إليها عالم التاريخ والإيديولوجيا عبد الله العروي في كتابه (السنة والإصلاح – ص: ١٦١)، فوصفها بـ "مكر السنة ومكر التاريخ".

لذلك يطرح العروي ضرورة رد الإعتبار لمن وصفهم بـ "ضحايا الإهمال"، في إشارة إلى المساءل التي طرحتها الفرق الإسلامية بشأن مشكلات واقعية، سياسية واجتماعية، وهي حقول معرفية أهملتها السنة واعتبرتها حقولا قاحلة، لكنها في حقيقة الأمر شكلت جوهر الكلام، ويتعلق الأمر بـ "ثنائيات الحق مقابل الباطل، الإيمان مقابل الكفر، الإمامة مقابل الملك، السنة مقابل البدعة، التقديس مقابل التجسيم، الجبر مقابل القدر، العدل مقابل الجور، الروح مقابل المادة" ... لكن قبل أن نتيه في الحلول المقترحة، في الأقوال والردود، في الاعتراضات والتفنيدات، علينا أن نتصيد المحرّك الأصلي، الدافع الواقعي، المعضلة السياسية والاجتماعية القائمة في بداية النقاش، والتي عمل الفقهاء على طمسها بإفراغها في قالب نظري يكثر فيه القيل والقال، حتى لا يصادقوا على الحلّ الذي يفرضه الواقع".. لأنه من وجهة نظر العروي، "لم يعد اليوم من مبرر للتحذير، لم يعد الهدف هو التبشير وتشجيع الأمية باعتبارها عنوان البراءة والإيمان الفطري، الظرف التاريخي يفرض علينا فرضا أن نغامر ونتقدم في الحقول الملغومة" (المرجع السابق: ص: ١٥٦ / ١٦٢ – ١٦٣).

ولعل هذا التوجه هو الذي اشتغل عليه نصر حامد أبو زيد، فأعاد طرح النقاش من جديد حول فكر المعتزلة وفكر المتصوفة من مدخل فلسفة التأويل، هذا فيما حاول تفكيك خطاب المنظومة الفقهية السنية من مدخل نقد الخطاب في مؤلفه (النص، السلطة، الحقيقة – الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة)، على أساس أن هناك قاعدتين أساسيتين تحكمان منهج نقد الخطاب:

-        الأولى: تقول بأن الخطابات المنتجة في سياق ثقافي حضاري تاريخي، ليست خطابات مغلقة أو مستقلة عن بعضها البعض، وأن عمليات الاستبعاد والإقصاء التي يمارسها خطاب ما ضد خطاب آخر تعني حضور هذا الخطاب الآخر – بدرجات بنيوية متفاوتة – في بنية الخطاب الأول.

-       الثانية: تقول بإن كل الخطابات تتساوى من حيث هي خطابات، وليس من حق واحد منها أن يزعم امتلاكه للحقيقة، لأنه حين يفعل ذلك يحكم على نفسه بأنه خطاب زائف.

وفي سياق الجهود النقدية المبذولة فيما له علاقة بمناهج البحث في الترات الإسلامي، طرح المفكر الإيراني عبد الكريم سروش نظرية ثورية جديدة تساعد على دراسة وفهم التراث الديني، سماها "نظرية تكامل المعرفة الدينية" أو "القبض والبسط النظري للشريعة".. وهي النظرية التي أحدثت رجة كبرى في إيران، وامتدت تداعياتها إلى مختلف أقطار العالم العربي والإسلامي، بما جاءت به من مستجدات في باب المنهج، اعتبرت ثورية بكل المقاييس. خصوصا وأن هناك تشابه كبير يصل حد التطابق في ما له علاقة بالأصول (أصول التشريع) بين المذهب السني والمذهب الشيعي، باعتبارهما يمتحان معا من القرآن والسنة ويعتمدان الإجتهاد، والإختلاف هو حول الإسناد الذي يختلف لدى الشيعة عنه لدى السنة، بحيث لا يأخذ الشيعة بحديث إلا إذا كان مرويا عن الإمام علي كرم الله وجهه أو أحد آل البيت أو الأئمة الكبار، فيما السنة يأخذون الحديث من كل مصدر، شريطة التحقق من صحة السند، ولا يهم بعد ذلك إن كان المضمون يخالف القرآن، فلهم حيل لغوية عجيبة تسمح لهم بتثبيت الشيئ ونقيضه بنفس الأدوات، وحسب الحاجة التي يطرحها الواقع والتوجه الذي تفرضه السلطة.

لكن عندما يتعلق الأمر بالإسلام الروحي الذي يتغيّى معرفة الله تعالى ذاتا وموضوعا لفهم المراد من كلامه، فإنه وإن كان الجميع يتفق على توحيده وتنزيهه، إلا أنهم يختلفون حول معنى هذا التوحيد والتنزيه، ونرى انعكاس ذلك واضخا جليا في ممارسات المسلمين، سواء في طقوس العبادات، أو قواعد المعاملات، بل وحتى في الأخلاق التي أتى الرسول الكريم عليه السلام ليتمم الدين بمكارمها، ويزعم الفقهاء أنهم يقودون الأمة على هدي سنته.

ومرد ذلك، يكمن في إشكالية العقل والإيمان، فالعقل الذي يتعامل مع الخطاب الإلهي بما يعطيه النص من ظاهر المعاني، ويستفيد من تراكم المعرفة بالتجارب، يستطيع التمييز بين الخطأ والصواب، بين الحق والباطل، بين الضار والنافع بالنسبة للإسلام المجتمعي، لكنه لا يستطيع معرفة الله الباطن الذي لا يتأتى إلا عن طريق الإيمان الذي يصل درجة اليقين، فيتحول القلب بالمجاهدة إلى مرآة مصقولة تعكس أنوار فيض الحقائق اللدنية التي تقذف في الروع.. لأن قدرة العقل لا تتجاوز ما تعطيه الحواس من فهم لما هو ظاهر، فيما القلب الذي جعله الله عرشا له، وحده قادر على إدراك بعض من أوجه الباطن بنور الله دون سواه حين يفتح تعالى على من يشاء من عباده بالفهم.

وبسبب هذه الصعوبة في فهم الدين، انقسم المسلمون إلى تيارات ثلاثة: أهل الظاهر، أو أهل النقل والبيان الذين وجدوا في مقولات السلف متراسا يتحصنون خلفه. وأهل العقل والبرهان الذين حاولوا تجاوز هذا المتراس بالإجتهاد العقلي لتوحيد الأمة حول مفاهيم عقلية مشتركة تساعدهم على تحسين ظروف وشروط حياتهم في  تجربتهم الأرضية. والصوفية الذين ذهبوا يحلقون بعيدا في عوالم الغيب، فلبسوا جبة التقية، لإدراكهم صعوبة تنزيل تجربتهم الروحية الذوقية إلى النظر العقلي بسبب تربص لصوص الدين بهم.

وبسبب هذا الصراع الفكري التاريخي الذي بدأ بجدلية الدين والسياسة زمن الخلافة، وانتقل إلى جدلية العقل والدين بين العلم والإيمان طوال مختلف مراحل التاريخ الإسلامي، تفرقت الأمة إلى تيارات ومذاهب ومدارس، كل بما ليدهم فرحون، هذا في ما ظل السواد الأعظم من المسلمين، يعمهون في الجهل، ويتجاهلون الأسباب، يتقمصون دور الضحية، ويحمّلون الآخر مسؤولية ما حل بهم من كوارث، والله تعالى يقول (قل هو من عند أنفسكم) آل عمران: ١٦٥. ويقول أيضا (وما أصابتكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) الشورى: ٣٠. وجعل الحل في تغيير النفس لقوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد: ١١، والتغيير الذي هو شرط التطور وسنة الله في الخلق، لا يتأتي بالتمني بل بالجهد والمجاهدة  في مجالات العلم والمعرفة.

لكن المفارقة، أن أكثر ما يرفضه المسلمون الذين أخذوا إسلامهم بالوراثة، هو التغيير تحديدا، بسبب ما تكلس في أذهانهم من معتقدات اعتبروها من الحقائق المطلقة، فتجدهم أشد االناس حرصا على الارتداد نحو الماضي البعيد للعيش في زمن غير زمانهم، و وفق شروط لا علاقة لها بظروف تجربتهم، الأمر الذي يعتبر موقفا سلبيا يرفضه العقل والدين معا.

ومرد ذلك يعود لنجاح الفقهاء في ضرب أول قاعدة يقوم عليها الدين، والمتمثلة في أمر "اقرأ" الذي نزل في أول آية من أول سورة من القرآن الكريم، إيذانا بدعوة الله تعالى لنبيه والمؤمنين بدخول مدرسة الله لتعلم دينه القويم من كتابه الكريم.

ونظرا لخطورة مثل هذه الدعوة وتداعياتها على تحالف الإقطاع والكهنوت، كان لزاما أن يقوم لصوص الدين بمناورة مفاهيمية تحيل بين الناس ومدرسة الله ليظلوا مدجنين كالقطيع في مزرعة الراعي، فوجدوا الحل في وصفة سحرية تقول: إن الإسلام دين فطرة، والفطرة تمثل البراءة التي لا يمكن تلمّسها إلا في الأميّة، أسوة بالرسول عليه السلام الذي كان "أمّيا" لا يقرأ ولا يكتب، وفق ما يزعمون.

ولأن الرسالة – وفق منطق الفقهاء – موجهة لرسول "أمّي" فالمطلوب أن تكون الأمة "أميّة" على الدوام لتحافظ على براءتها ونقاوتها وطهرها، ففي الأمية يتأصل مفهوم الإعجاز ( عبد الله العروي – السنة والإصلاح – ص: ٧٤ – ٧٨ – ٢٠٧). وبالتالي، فليس مطلوبا أن تقلق الأمة لهذا الأمر، لأن واجب السنة كما يؤكد ذلك الفقهاء هو أن تبين للناس عقيدتهم وتعلمهم كيفية إقامة الشرائع، لأن القرآن لم يبين بأي رجل يجب أن يدخل المسلم الحمام، ولا بكم ركعة يجب أن يصلي في الأوقات.

وفي ظل هذا الواقع، تحوّل الدين إلى سلاح يستغله تحالف الإقطاع والفقهاء لتدجين الناس، وفي ظل هذا الجو الموبوء بالجهل، أصبح أقصر طريق يسلكه الحزب السياسي المعارض للسلطة القائمة هي أن يلبس جبّة الدين ويطالب الدولة بتطبيق الشريعة، هذا فيما المشكلة من أساسها كما يلاحظ الصادق النيهوم في كتابه (الإسلام في الأسر – شريعة الراعي بلغة الخروف – ص: ١١٩)، تكمن في أن: "المجتمع العربي نفسه، مجتمع غير شرعي، خلقته مؤسسات إقطاعية معادية لمعظم مبادئ الإسلام، من مبدأ العدل والمساواة والشورى، إلى مبدأ تحريم الحكم الفردي، وضمان حرية الحوار. مجتمع تأسّس على نظرية تحكيم القوة، والتعصب الطائفي، وتقديس الخرافة، وتحول منذ عصر الحجاج إلى مجتمع من الصيادين، قاءم على شريعة اصطياد الفرص. وإذا شاءت الأحزاب الدينية أن تطبق الشريعة في مثل هذا المجتمع المعقد، فإن المواطن العربي نفسه، سيكون آخر من يسمع".

لأنه إذا كانت الشريعة هي جسد الإسلام الظاهر، والحقيقة هي روحه الباطنة، فإن معرفة الحقيقة هي غاية المسلم من تجربته الأرضية، والطريقة الوحيدة لهذه المعرفة تكمن في التعليم لتغذية العقل، والتربية لتزكية النفس، والمجاهدة القلبية لولوج الحقيقة من بوابة الشريعة، ومعرفة الحقيقة تؤدي إلى معرفة الحق الذي هو الله تعالى، لأنه من دون معرفة الله لا يمكن فهم رؤيته للعالم والخلق، وإدراك المراد من خطابه.

لكن المعظلة التي تطرحها هذه القاعدة المعرفية في الواقع العملي، تكمن في أن من اختزلوا الدين الإسلامي في ما يعطيه التفسير الفقهي لظاهر الشريعة من معاني، نزعوا من حيث يدرون أو لا يدرون عن الإسلام جوهره الروحاني، وحولوه إلى جسد بلا حياة، فأصبح الناس عبيدا للحكام بدل أن يكونوا عبادا لله.

لأنه إذا كان هذا هو الفرق بين ظاهر الدين وباطنه، فإن النص الديني لا معنى له إلا في الحقيقة، أي في الواقع الروحي الذي هو المعنى الباطن للوحي الإلهي. وهذا المعنى الباطن لا يمكن تأسيسه بواسطة القياس الإنتقائي الذي يعتمده فقهاء الظاهر، ولا بالمنطق الاستدلالي الذي يعتمده الفلاسفة، أو بالجدل الدفاعي كما عرف فيما سُمّي بـ "علم الكلام" زمن المعتزلة فأفرغ النص المقدس من جوهره.

وقد عرف التاريخ الإسلامي في العصر الذهبي للعلوم جدلا فكريا حادا حول هذا الموضوع الشائك، خصوصا ما له علاقة بمأساة النفس الإنسانية في التجربة الأرضية والموقف من النبوة، حيث ذهب العالم والطبيب أبو بكر محمد بن يحيى الرازي (٢٥٠ هـ / ٨٦٤ م – ٣١١ هـ / ٩٢٣ م) الذي وصفه سيغريد هونكه في كتابه "شمس الله تسطع على الغرب" بأنه كان أعظم عالم وطبيب على الإطلاق بفضل مؤلفه "الحاوي في الطب" الذي جمع كل المعارف الطبية من عهد الإغريق إلى زمانه وظل مرجعا رئيسا للطب في أوروبا لمدة أربع قرون بعد ذلك، أقول ذهب أبو بكر الرازي للقول: "إن البشر جميعا متساوون، ولا يعقل أن يكون الله قد اختار بعضا منهم لكي يعهد إليه بالرسالة النبوية. إن هذه الرسالة هي التي أدت لأسوء النتائج في تاريخ البشرية من اقتتال وحروب تتستر تحت راية المعتقدات والمذاهب الفارغة". والرازي بما ذهب إليه كان يهاجم علماء الباطنية الإسماعلية الذين كانوا يقولون بأن "توعية الأنفس فوق طاقة الفلاسفة ويحتاج لإرشاد الأنبياء وأقوالهم"، ومن المستغرب من عالم بحجم الرازي أن لا يفرق بين الدين والفهم الديني، ويحيل مسؤولية الاقتتال بين المسلمين إلى الدين وليس إلى سوء فهم الدين من قبل العامة واستغلاله في السياسة من قبل الحكام.

 لأن نداء المساواة الذي كان يدافع الرازي عنه بقوة أجابت عنه الإسماعلية بالقول: "إن ما يجب فعله هو قيادة الناس إلى ما وراء النص الحرفي للمعتقدات، لأنه إذا كان الناس أهلا لإدراك التأويل الباطني وفهمه، لتبين لهم أن كل 'دين من الديانات' له وضعه المعين ورتبته المعينة دون تعارض ولا تقارب". لكن الرازي كان له رأي آخر بعيد عن المجال الفلسفي تقمص فيه دور المرشد والمعلم حين زعم أنه اكتشف ما كان يجهله الأقدمون والفلاسفة أنفسهم الذي ظلوا على خلاف بينهم حول هذا الأمر وارتكبوا أخطاء واتهموا أحيانا بالكذب، وهذا لا يقلل من دورهم في تنوير الناس، لأن الأنفس التي لم تتنقى وتتطهر بالفلسفة في هذا العالم تتيه بعد الموت حسب رأيه. فنجده يقول في تبرير ذلك: "ليست القضية قضية خطأ أو انحراف عن الصواب، فقد بذل كل من الفلاسفة جهدهم، وبمجرد بذلهم لهذا الجهد، فهم يسيرون في طريق الحقيقة"، ومن هذه المقولة اللافتة استنبط الفيلسوف ليسّنغ نظريته الشهيرة التي تقول: "إن البحث عن الحقيقة لهو أثمن من الحقيقة نفسها". (تاريخ الفلسفة الإسلامية – هنري كوربان – ص: ٢١٨ – ٢١٩).

وبالنتيجة، فقد أدت أقوال الرازي إلى تكفيره من قبل السلفية الأرثوذوكسية، لكن بالنسبة للعلماء رفيعي الدرجة في زمانه، كان التسامح والانفتاح على الآخر المختلف هو الأساس، ولا علاقة لهذا النوع من المجادلة بالاختلاف المبتذل بين العقلانية والفلسفة والفقه بالمعنى الشائع كما يلاحظ هنري كوربان في تعليقه بالمرجع السابق. إنه اختلاف أكثر عمقا وأصالة بين فكر فلسفي تنويري يمثله الرازي، وفكر ديني باطني تعليمي يمثله التيار الشيعي، وبين إرادة معارضة لكل ما يتضمنه هذا الفكر الأخير الذي يمتح من الإرث الروحي المسمى بـ "العلم النبوي" أو "علم القلوب" الذي يتبناه التيار الشيعي.

وميزة هذا "العلم النبوي" الشريف أنه علم معاد بالأساس، لأنه يعنى بمعرفة حقيقة الباطن التي هي من عالم الملكوت، وليست في متناول العامة لينادي الرازي بالمساواة نظرا لتعدد مستويات الفهم بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون بشهادة القرآن، بخلاف الشريعة التي تهتم حصريا بتنظيم حياة المسلمين في عالم الملك، وهذا هو مصدر الخلاف الذي استمر بحدة عبر مختلف مراحل التاريخ الإسلامي، بين الشيعة والصوفية والفلاسفة من جهة، وفقهاء النص من أهل السنة والجماعة من جهة ثانية، حيث كان هدف الفريق الأول يتراوح بين الدفاع عن إسلام ذو طابع عقلاني وإسلام ذو طابع روحاني، فيما كان هدف الفريق الثاني فرض إسلام يتميز بطابع إجتماعي ظاهري قهري، بالرغم من أن الله تعالى لم يجعل للإنسان قلبين في صدره، وحرم الإكراه في الدين، وجعل الإيمان والكفر من مجال إختصاصه، وبالرغم من أن الرسول الكريم عليه السلام استبعد القلب من مجال فتوى الفقهاء وسيف الحكام معا بقوله (هلا شققت على قلبه؟) أخرجه مسلم من حديث أبو زيد.

وقد وصل الأمر بفقهاء الرسوم حد تحويل التقية إلى تهمة في أذهان الناس توشي بعكس ما يعطيه معناها الإيجابي، هذا علما أن التقية مفهوم قرآني ورد في سياقات كثيرة بمعنى إتقاء شر أو الاحتراز من خطر، حيث سمح تعالى للمؤمن بإظهار كلمة الكفر إذا كان تحت الإكراه شرط أن يظل قلبه مطمئن بالإيمان.

وكان من نتيجة هذا الوضع، أن تحول الإسلام الظاهري إلى مكسر للفكر ومذبح للعقل ومقبرة للقلب.. وبهذا المعنى، يكون ما قام به فقهاء السلاطين انقلاب تاريخي بكل المقاييس، نجح في إعادة المجتمعات العربية إلى عصر فرعون وليس العصر الجاهلي كما زعم منظرو الإسلام السياسي، أي إلى زمن "الملك الإله" الذي كان يقول لشعبه "أنا ربكم الأعلى لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد".. فبعث الله موسى عليه السلام لينزع عنه الملك ويعيده إلى الله الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله.

وليس غريبا أن يمضي محمد عليه السلام على سنة موسى، فيرفض الملك والمال والجاه الذي عرضته عليه قريش ليتخلى عن دعوته، ويقول قولته الشهيرة (والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، لما تركته)، وهو إعلان واضح صريح يقول، أن محمدا عليه السلام لم يبعثه الله ليؤسس دولة على شكل خلافة أو مملكة أو إمارة، بل ليؤسس أمة ويعيد الحكم لله بعد أن سرقه لصوص الدين لحساب الإقطاع، وهذا بالتحديد هو معنى شعار "الله أكبر" الذي رفعه الرسول الكريم عليه السلام في وجه أعداء دعوته.

لكن فراعنة الأمة وفقهائهم من بعده كان لهم رأي آخر، فانقلبوا على رسالة الرسول، وأنتجوا للناس نسخة مشوهة إلى أقصى الحدود عن الإسلام السمح الجميل، باسم سنة تتعارض في جوانب كثيرة منها مع حقائق الرسالة، لعل أخطرها التفرقة في الدين التي نهى الله عنها بسبب ما قد تسفر عنه من صراعات دموية لا علاقة للدين بها بقدر ما يتعلق الأمر باستغلال الدين في السياسة.

وإذا كانت النتائج رهينة بمقدماتها، فها هو التاريخ الإسلامي، القديم والحديث، يحدثنا عن سلسلة من المآسي التي عاشتها الأمة بسبب صراع الديني والسياسي الذي اتخذ من الفكر الظاهري سلاحا ضد الخصوم، فعم التكفير والقتل والفتن والظلم والفساد والجهل والفقر والتخلف، وتحول الإسلام إلى إديولوجية تنشر التطرف والتكفير وتشجع على الإرهاب باسم الإعتدال.

هذا الصراع ليس وليد العصر الحديث، بل تمتد جذوره إلى عصر الخلافة المسماة بالراشدة، والتي أصبغ عليها الإسلام السني هالة من القداسة لمنع الخوض فيها وتحليل تجربتها وآثارها على الأمة لاستخلاص العبر والدروس في تقويم مسيرتها الدينية والسياسية والفكرية.

والمقارقة الغريبة، أن العرب، وبسبب غسيل الدماغ الذي تعرضوا له من قبل تحالف رجال الدين والإقطاع، يرفضون مراجعة تاريخهم الديني والسياسي ليفهموه بالعمق المطلوب، ويفضلون تقمص دور الضحية، وتحميل الآخر المختلف مسؤولية كل الكوارث التي حلت بهم، والتي بفضلها عرّى الزمن حقيقة المنظومة الدينية الواهية التي اعتقد الكهنة ومشغليهم أنها عصية على الإنهيار بفعل حوادث الزمن الذي لا يرحم.

بل أكثر من ذلك، تراهم يقرؤون القرآن ويمرون مرور الكرام على عدد لا بأس به من الآيات التي يحذر فيها تعالى من الذين يشترون بآياته ثمنا قليلا متوعدا إياهم بالعذاب في النار، ويدحض كذبهم حين يقولون هذا من عند الله وهو ليس من عنده، ويتوعدهم بالويل مما يكتبون ومما يكسبون، وينكر أن يكون ما يروجونه من أضاليل حقائق قرآنية، ويتهمهم بالتحوير والتزوير بسوء نيّة وهم يعلمون لينتصر الباطل على الحق (البقرة: ١٧٤ – البقرة: ٧٩ – آل عمران: ٧٨ – آل عمران: ١٨٧).. ومع ذلك نجدهم يصرون على أن هذه الآيات الشريفة نزلت في كهنة بنو إسرائيل ولا تعنيهم في شيئ.

وبرغم كل ذلك، يتساءل العرب اليوم بسداجة: - لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟.. لماذا هزم مليار ونصف من المسلمين فيما انتصرت شرذمة من الصهاينة احتلت مقدساتهم، ومزقت وحدتهم، ودمرت ثقافتهم، وطمست هويتهم، وشوهت دينهم، وحولتهم إلى إرهابيين في نظر العالم؟..

إن السبب الوحيد الذي أدى إلى ما وصلت إليه الأمة اليوم من انحطاط وتفكك، مرده نجاح الفقهاء في استبدال القرآن بسنة السلف التي تحولت إلى دين بديل عن دين السماء.. وبذلك نجح رجال الدين في إجراء أكبر عملية غسيل دماغ تعرضت لها أمة في التاريخ، فتحول الدين من محرّر للناس، إلى سلاح يستعمله الكهنوت من أجل دجينهم خدمة للإقطاع.

ولعل خط الإنحراف الأول لم يكن زمن معاوية كما يروج لذلك الإسلامويون في كتاباتهم، بل كان زمن الخلافة المسماة بالراشدة، والتي أحيطت فترتها بهالة من القداسة لتحصينها من النقد التاريخي والديني.. لأن السؤال الذي يطرح بشأنها اليوم من باب المراجعة الموضوعية هو: - ما الذي استفاده المسلمون من هذه التجربة، إذا كان نظام الخلافة لا أصل ولا فصل له من القرآن، لأن نظم الحكم تركها الله للأعراف داخل المجتمعات ولشورى المسلمين كما أكد تعالى في كتابه المجيد، ولعل أنموذج بلقيس ملكة سبأ يعتبر المثال الواضح على ذلك.

وهو ما تفطن له الأزهر مؤخرا، بعد أن أصبح الإسلام السني اليوم دين تكفير وتطرف، فظهرت القاعدة وداعش وعشارت التنظيمات الإرهابية التي تذبح المسلمين باسم الله الرحيم خدمة لأهداف أعدائهم (أمريكا وإسرائيل وأدواتهما في المنطقة)، فخرج شيخ الأزهر أحمد الطيبي بفتوى فريدة وغير مسبوقة في بيان رسمي صدر عن "مرصد الأزهر لمقاومة الأفكار المتطرفة" بتاريخ ٢٢ محرم ١٤٣٨هـ  جاء فيها: "إن نظام الحكم في الإسلام متروك لظروف الناس وأعرافهم، شريطة ألا يكون هناك تشريع يخالف الشرع، ولم يرد نص واحد صريح صحيح يوجب على المسلمين أن يقيموا نظاماً سياسياً معيناً، وإنما يجب إقامة العدل ورعاية مصالح العباد والبلاد. وأن كل نظام حكم أتى بعد الخلفاء الراشدين أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلى، والحسن بن على، لا يصدق عليه اسم الخلافة إلا لغة، أما من حيث الحقيقة، فكانت أنظمة حكم متباينة".

وبالفعل ، فما قاله الأزهر وإن كان اعترافا متأخرا من جهة تدّعي تمثيل الإسلام السني المعتدل في العالم العربي وترفض تكفير "داعش" وتعتبرهم مسلمين، إلا أنه (أي الإعتراف)، يعتبر خطوة في الإتجاه الصحيح، لأنه لا وجود لنظام حكم إسمه "الخلافة" في الإسلام، ذلك أن كلمة الخلافة تعني بالمفهوم القرآني عمار الأرض من قبل الأجيال المتعاقبة، لقوله تعالى (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) الأنعام: ١٦٥. وقد تكرر ذات المعنى في أكثر من آية (يونس: ١٤ و ٧٣ وفاطر: ٣٩). وهو الموضوع الذي سنعالجه بتفصيل في باب "الإمامة والخلافة.. المفهوم الملتبس".

كما أنه من الناحية العملية، يستحيل إقامة دولة إسلامية كونية، تجمع كل المسلمين بالتعريف القرآني، من أتباع موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، ما دام الله تعالى قد وضع لكل أمة شرعة ومنهاجا بالرغم من أنهم جميعا مسلمين بشهادة القرآن ولا وجود لدين آخر بعد الإسلام غير الكفر، وأمر المؤمنين من أتباع الرسل جميعا بأن يحكموا بما شرّع لهم، ما دامت أصول الشريعة هي نفسها بالنسبة لكل الرسالات، فيما الاختلاف لم يطل سوى الفروع وفق ظروف الزمان وشروط المكان.

وإذا كان الأزهر قد استثنى مرحلة الخلافة الراشدة من فتواه لأسباب لا علاقة لها بالدين بقدر ما هي مراعاة لما ترسخ في أذهان المسلمين حول هذه الفترة المبكرة من التاريخ الديني والسياسي للأمة من قداسة وهمية، فهو استثناء يكسر القاعدة ويسقط الأزهر في التناقض.

ومع احترامنا لشخصية وتجربة هؤلاء الصحابة بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع نهجهم، إلا أنهم لم يتركوا لنا موروثا دينيا نوعيا يُعتدّ به كمرجع إن على مستوى الشريعة أو الحقيقة، لأنه وباستثناء "الفلسفة النبوية" أو "علم القلوب" الذي تركه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ذخرا  للأمة الإسلامية، لا يوجد شيئ يذكر تركه لنا الخليفة ابو بكر أو عمر أو عثمان، وبالتالي، فما الفائدة التي يرجى جنيها من تجربتهم الخاصة في الدين والسياسة معا؟..

-       هل ترك لنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كتابا في نظام الحكم الإسلامي نهتدي به في إقامة دولة المؤسسات على أساس الشورى الشعبية، أم أن تجربته الخاصة جدا، كانت إلى حد بعيد نسخة طبق الأصل من ديمقراطية نبلاء قريش على شاكلة نبلاء روما بتعبير عبد الله العروي في كتابه (السنة والإصلاح)؟

-       وماذا عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هل ترك لنا كتابا جامعا في التشريع نهتدي به لإقامة العدل بين الناس، أم أن منتهى العدل هو أن نحرص على توزيع حصص القمح على الجياع ليلا، بدل توفير فرص الشغل الكريم لهم ومساواتهم مع بقية أفراد المجتمع في الفرص؟

-       وهل كانت تجربة الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه رشيدة ليُحتدى بها في إدارة شؤون الأمة، أم أن البذخ والإسراف في الإنفاق والمحسوبية ورفض مبدأ المحاسبة على قدر المسؤولية هي التي دفعت بدواعش العصر الرشيد (الخوارج) لقتله بتحريض من عائشة رضي الله عنها، حين رفعت قميص محمد صلى الله عليه وسلم، واتهمت عثمان بتبديل سنة النبي قبل أن يبلى قميصه؟

-       أليست هذه الواقعة  بالذات هي بداية الفتنة الصغرى، التي أعقبتها الفتنة الكبرى عندما رفعت عائشة رضي الله عنها مرة أخرى قميص عثمان مطالبة هذه المرة بالثأر لدمه، وهي الفرصة التي استغلها معاوية بن أبي سفيان لفرض أحقيته في الخلافة التي انتزعها من الإمام علي كرم الله وجهه بالخديعة، وكانت تلك بداية الطامة التي أنتجت كربلاء، فتحولت إلى كرب وبلاء قسمت ظهر الأمة وفرقتها إلى طوائف ومذاهب وفرق وأحزاب لا نزال نعيش تداعياتها الكارثية على حساب الوحدة إلى اليوم؟

-       وبالتالي، فهل كانت تلك المرحلة "خلافة راشدة" حقا على هدي النبوة، وهي التي حاربت في بدايتها مانع الزكاة بحد السيف باعتباره مرتدا عن الدين ضدا في قوله تعالى، لا إكراه في الدين من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إن الله غني عن العالمين؟

-       وحتى لو سلمنا جدلا بصوابية قرار الخليفة الأول بمنطق السياسة، فلماذا سميت بحروب الردة؟.. لأن العنوان الديني الذي أصبغ عليها، ومن باب المحاججة الفكرية ليس إلا، يفتح على سؤال منطقي يقول: - لماذا لم يحارب الخليفة الأول تارك الصلاة بالمفهوم الفقهي الذي كان سائدا، ما دامت فريضة الصلاة مقدمة على فريضة الزكاة، بالرغم من قوله قبل الحملة: "والله لآقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة"؟

-       وهل كانت الفتوحات التي أمر بها الخليفة الثاني إسلامية حقا، هدفها نشر الإسلام بحد السيف ضدا في شريعة السماء أم أن دافعها كان الغنيمة كما تؤكد وقائع التاريخ من دون أن ننفي عنها الوازع الديني المحرك لها في البداية؟

-       وما الفرق بين تجربة نشر الإسلام بالسيف وصولا إلى شمال إفريقيا والأندلس وفرنسا، ونشره عن طريق التجارة التي أعطت نتائج مدهشة مع تجربة التجار اليمنيين الذين نشروا الإسلام في شرق إفريقيا وآسيا وصولا إلى تخوم الصين بالمعاملة الصادقة والقدوة الحسنة؟ النتيجة معروفة.. سقطت الأندلس التي فرض فيها الإسلام بالقوة وظل الإسلام راسخا في قلوب المؤمنين الذين اعتنقوه في آسيا بالقدوة.

أما خط الإنحراف الثاني الذي غيّر مصير الأمة بشكل مأساوي لا تزال تعاني من تداعياته إلى يوم الناس هذا، فيتمثل فيما أحدثه معاوية بن أبي سفيان من انقلاب على الدين باسم السياسة، وذلك استنادا إلى حديث رواه هو نفسه عن الرسول الكريم عليه السلام يقول: (ألا إن رسول الله قام فينا فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة)، رواه أبوداود تحت رقم (٤٥٩٧)، ورواه الحاكم تحت رقم (٤٤٣).

والمفارقة العجيبة أن أحدا من الصحابة لم يسمع من رسول الله عليه السلام ما زعم معاوية أنه سمعه عنه بقوله "ألا إن رسول الله قام فينا وقال".. وبذلك، يكون معاوية ابن أبي سفيان هو أول من فرّق الأمة على ضوء هذا الحديث المشبوه الذي أنكر ثلة من الفقهاء أن يكون اسم "الجماعة" قد ورد فيه، كابن تيمية والجوزي والألباني وأنس بن مالك وغيرهم ممن صححوه كل حسب الرواية التي اعتمدها.

ومعلوم أن هذه الإضافة المنسوبة إلى الرسول عليه السلام، والتي دسها معاوية في الحديث ليبرر تأسيس ما أصبح يعرف بـ "أهل السنة والجماعة"، كان الهدف منها سياسي بحث، حيث استعمل "الجماعة" سلاحا دينيا في صراعه السياسي على الخلافة مع علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه.. بدليل أن كل مسلم عاقل يستحيل أن يسلم بأن مصير كل من ليس منضويا تحت لواء "جماعة" معاوية هو النار، خصوصا آل البيت الكرام وشيعتهم الذين رفضوا الاعتراف بشرعية نبلاء قريش في الاستئثار بالسلطة بالخديعة والقهر.

والمفارقة العجيبة، تكمن في أن المسلمين جميعا لا يعترفون لمعاوية بشرعية الخلافة، ولا يعتبرونه من الخلفاء الراشدين بما في ذلك المؤسسات السنية الرسمية، ويحزنون لما وقع لعلي والحسين وآل البيت عليهم السلام من ظلم سيظل وصمة عار في جبين الأمة، ومع ذلك تراهم لا يتوانون (إلا من رحم الله) عن تكفير شيعة آل البيت باعتبارهم روافض ومجوس وفق ما تزعم الوهابية وحركات الإسلام السياسي التي رضعت التكفير من ثدي السلفية الظاهرية. ونتيجة ذلك، أصبحنا نرى تنظيمات إسلاموية تكفيرية متطرفة تحارب العرب والمسلمين على الهوية، انتصارا لأهل السنة والجماعة كما تدعي، فيما الحقيقة أنها تقاتل من أجل مصالح إمبراطورية روما الجديدة ممثلة بأمريكا وحلفها الأطلسي و"إسرائيل"، لتدمير الأمة والسيطرة على خيراتها واستعباد شعوبها كي لا تقوم لوحدتها قائمة، وهذا قمة الجهل الذي يروج له شياطين فقهاء الدولار اليوم.

لا نريد طرح المزيد من الأسئلة التي تؤرق العقل حول تلك الحقبة المبكرة من تاريخ الأمة انطلاقا من مشروعية سؤال المعرفة، ولا نريد الغوص في تحليل أسباب هذه الإنتكاسة الأخلاقية والسقوط الحضاري، ونفضل القول مع القرآن، أن تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما اكتسبتم، ولا تسألون عما كانوا يفعلون.

وإذا كانت هذه هي بعض من أوجه المحصلة السياسية الكارثية، فماذا عن المحصلة العلمية؟

في هذا الصدد، يحدثنا التاريخ الإسلامي عن سلسلة الأحكام التكفيرية التي صدرت في حق كوكبة من العلماء الأجلاء في مختلف مجالات العلم والمعرفة، لمخالفتهم نهج ومنظومة الفقهاء الدوغمائية، كالرازي والخوارزمي والكندي والفرابي والبيروني وابن سيناء وابن الهيثم والغزالي وابن رشد والعسقلاني والسهروردي والحلاج وجابر ابن حيان والنووي وابن المقفع والطبري والكواكبي والمتنبي وبشار بن برد ولسان الدين الخطيب وابن الفارض ورابعة العدوية والجاحظ والمجيطي والمعري وابن طفيل والطوسي وابن بطوطة وابن ماجد وابن خلدون وثابت بن قرة والتوحيدي وغيرهم ...

منهم من سجن ومنهم من عذب ومنهم من قتل ومنهم من أحرقت أعماله: فالطبري قُتل، والحلاج شهيد العشق الإلهي اتهمه فقهاء الخليفة المقتدر بالله بالكفر وحكم عليه بالموت، فضرب بالسياط نحو ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، ثم ضربت عنقه، وأحرقت جثته بالنار، ثم ألقي ما بقي من رفات جثته في نهر دجلة.

المعري حُبس، وسُفك دم ابن حيان، ونُفي ابن المنمر، وحرّقت كتب الغزالي وابن رشد والأصفهاني واتهموا في إيمانهم، وكُفّر الفارابي والرازي وابن سيناء والكندي والغزالي.

أما ابن المقفع الذي كان يجمع بين لغة العرب وصنعة الفرس وحكمة اليونانيين ومؤلف كتاب كليلة ودمنة وكتب أخرى كثيرة توضح ما ينبغي أن يكون عليه الحاكم إزاء الرعية وما يجب أن تكون عليه الرعية إزاء الحاكم، فقد أغضب الخليفة المنصور في صدر العصر العباسي الأول، فاتهمه فقهاء السلطان بالكفر، وقطعت أطرافه، وفصلت رأسه، وألقى بباقي جسده في النار، ثم شويت أمامه ليأكل منها قبل أن يلفظ أنفاسه بأبشع أنواع التعذيب.

أما الجعد بن درهم فقد مات مذبوحا، وعلقوا رأس أحمد بن نصر ودارو به في الأزقة، وخنقوا لسان الدين بن الخطيب وحرقوا جثته، وكفروا ابن الفارض وطاردوه في كل مكان.

أما السهروردي شيخ الإشراق الروحي الذي عاش في عصر صلاح الدين الأيوبي، فقد مات مقتولا بنفس الطريقة التي قتل بها الحلاج من قبل.

أما الإمام إبن حنبل، فقام الخليفة المعتصم بسجنه وتعذيبه.. وجرد الكندي فيلسوف العرب من ملابسه وهو في الستين من عمره وجلده ستون جلدة.. ومات الإمام الشافعي مقتولا لأن فتاويه لم تعجب الحاكم.

وقبل هذا وذلك، بدأت مسيرة القتل والاغتيالات في عهد الخلافاء الراشدين لأسباب سياسية بذرائع دينية كما أصبح معلوما اليوم للجميع، ووصلت الفاجعة ذروتها مع محنة كربلاء التي قتل فيها اليزيد بن معاوية الحسين بن علي سيد شهداء الجنة وقطع رأسه ونكل بجسده الطاهر، وذبح أسرة الرسول الكريم عليه السلام كما تذبح الخراف، وهدم الكعبة بالمنجنيق والنار، ثم عاد بعد سنة على رأس قافلة من فقهاء القشور ليزورها كخليفة للمسلمين.

ثم نجد من يسأل اليوم ويقول: - لماذا فشلت الأنظمة العربية وجيوشها الرسمية وجماعات إسلامها السياسي في هزيمة "إسرائيل"، فيما انتصرت المقاومة الإسلامية الشيعية، ليس في هزيمة هذا الكيان الذي لا يقهر في حرب تموز ٢٠٠٦، بل وفي إسقاط المشروع الأمريكي لتفتيت المنطقة وتقسيم دولها وخصوصا في لبنان والعراق وسورية واليمن؟..

الجواب يعرفه الجميع، ذلك أن الله ينصر من نصره ويخذل من خان عهده وسعى لإطفاء نوره وحوّل دينه إلى بضاعة يتاجر بها في سوق النخاسة السياسية مقابل ثمن بخس يبيع به آخرته بدنياه. هذا القول لا ينتصر لمذهب على آخر، إنما هو تقرير واقع نراه اليوم ماثلا أمامنا بأم العين ولا يمكن أن ينكره إلا جاحد.

هذا هو تاريخ أمة اقرأ التي تدّعي الإسلام وتفخر بتاريخها الأسود دون أن تعرف حقيقته البشعة، ومع ذلك ترجو من الله الخلاص .. وقد حدث كل هذا وغيره قبل أن يكون هناك لا استعمار ولا أمريكا ولا إسرائيل.. فرحم الله أولائك الرجال الخالدين بعلمهم، ولا ذكر ولا تشريف لمن نكل بهم وآذاهم لا لشيئ سوى لأن علمهم لم يوافق هواه.

وإذا كان هذا هو ما يقوله تاريخنا القديم والحديث، فإن السؤال الذي أصبح يطرح اليوم وبإلحاح هو: - لماذا أفرز الفقه الظاهري تاريخا إسلاميا أسودا في الماضي، وتاريخا دمويا أحمر في الحاضر بفضل ظاهرة الإرهاب التي كفرت بالحق المقدس في الحياة، وعتث في الأرض خرابا وفسادا، هذا فيما لم يفرز الإسلامي الشيعي والصوفي هذه الظاهرة الخبيثة بالمطلق؟

الجواب أيضا يعرفه الجميع، وله علاقة بالمنظومة الفكرية التي وضعها فقهاء السلاطين باسم الشريعة الإسلامية، هؤلاء هم من سماهم الرسول الأمين عليه السلام بـ"فقهاء السوء" و "مجوس الأمة"، وحذر من اتباعهم في أكثر من حديث رواه الإمام أبو حامد الغزالي في باب العلم والعلماء في موسوعته "إحياء علوم الدين".

ثم نأتي للسؤال الأهم الذي يسأله الناس اليوم: - لماذا لم يعد العقل الإسلامي منتجا كما كان الحال في العصر الذهبي للإسلام، لدرجة اعتبر الغرب ما أنتجه هذا العقل من علوم ومعرفة بمثابة شمس الإسلام التي سطعت على الغرب فأخرجته من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة؟

ومرة أخرى الجواب يعرفه الجميع، لدرجة أنك لو سألت اليوم فقيها عن مسألة دينية لقال لك: "يقول السلف..."، وإذا قلت له: "وما رأيك أنت؟"، لأجابك: "أنا من رأي شيخي فلان رحمه الله". وهو ما وصفه المفكر الإسلامي فهمي هويدي بالقول: "لقد عرف الفكر العربي والإسلامي عبر مراحله المختلفة أوصافا مثل أهل الحل والعقد، وأهل النظر، لكن هذا القاموس إذا وقف أمام عصرنا فلا أظنه يجد وصفا أدق ولا أجدر من اعتباره عصر أهل الإحالة"، ويعلق على ذلك بالقول: "نعم نحن أهل الإحالة بلا منازع. مشكلاتنا محالة إلى غيرنا. ثمة إحالة في السياسة، فالحل بيد غيرنا كما يقولون. وثمة إحالة في الإقتصاد، فالانتاج لغيرنا والاستهلاك لنا. وثمة إحالة في الفكر والفقه، ذلك أن القدماء ورّثونا أفكارا جاهزة فاحتفظنا بها وقمنا بتعليبها، وهذه ثمار جهدهم نجنيها، وفضل عملهم ننهل منه ونغترف بغير ملل. في النهاية، أصبح الحال كما لا يخفى على أحد. صارت عقولنا تعمل في اتجاه واحد: الاستقبال دون الارسال". (رسالة الجهاد – عدد ٧٨ يونيو ١٩٨٩ - ص – مقالة بعنوان: من يسبح ضد التيار – ص: ٣٤).

وبالتالي، فلا سبيل للخروج من هذا المأزق التاريخي المركب سوى بثورة فكرية دينية جديدة بلا حدود ولا قيود، تنتهي برفع الغشاوة عن عقول الناس وتطرد الظلام والحقد والكراهية من قلوبهم، ليكون بمقدورهم التمييز بين شريعة السماء وشريعة الفقهاء.

وهذا هو المدخل الوحيد للتغيير، ومن هنا تكون البداية.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق