بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 30 سبتمبر 2018

مناهــــــج التفسير القديمة




تمخضت المناهج القديمة التي استعملت في شرح القرآن الكريم عن تيارات ثلاثة رئيسة:

*  التيار الأول: تيار أهل النقل أو أهل البيان كما اصطلح على تسميته، وهو التيار الذي اعتمد التفسير بما تعطيه اللغة من معاني اصطلاحية مع الاستناد إلى أسباب النزول وما قيل اعتباطا عن الناسخ والمنسوخ، بالإضافة إلى المرويات من حديث أو بيان نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بدعوى أن المُبلّغ عن الله سبحانه هو الوحيد القادر على فهم المراد من كلامه، وكأن الله أنزل القرآن لرسوله لا لعباده، ووفق هذا الطرح الغريب، فليس للمفسر أن يستظهر المعاني باجتهاده بل بما بيّنه الرسول المبلغ عن ربه.. وهو ما يتعارض جملة وتفصيلا مع ما لدى المؤمنين من قناعة، تتلخص في المعطيات التاية: .../...

-       المعطى الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه فسر القرآن إلا ما ندر من بعض الآيات التي استشكل فهمها، فبيّن للسائلين عنها معناها إجمالا، وهي قليلة جدا على كل حال، بدليل أنه لو كان فسر القرآن كما يزعم الفقهاء لأصبح نصا مغلقا غير صالح لكل مكان وزمان كما سبقت الإشارة في أكثر من مقال ومناسبة.

-       المعطى الثاني: أن القرآن نزل بلسان عربي مبين للناس أجمعين وليس للعرب فحسب، وأن اللغة ليست شرطا للفهم بقدر ما يتعلق الأمر بالإيمان، بديل قوله تعالى (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) فصلت: ٤٤. وبالتالي فبيان أثر القرآن لا يدور مدار اللغة لأن الناس تجاهه صنفان: المؤمنون والذين لا يؤمنون، وقد أكدت التجارب أن من يقرؤون القرآن مترجما اليوم في الغرب، تتملكم الرهبة والقشعريرة، فتنهمر دموعهم تأثرا من وقع المعاني التي يقذفها الله في روعهم.  وهو ما يعني عمليّا ألاّ رهبانية في الإسلام، ولا يمكن لأي كان أن يدعي الحق في احتكار إنتاج المعنى وفرضه على العالمين مهما بلغ علمه وادعى الكلام بلسان الله.

-       المعطى الثالث: أن القرآن الكريم، يوضح بشكل لا لبس فيه، أن فهم القرآن لا يكون  من خلال تلاوته للتبرك بآياته، سواء أكان النص عربي أو مترجم، بل بتدبره بالعقل والقلب، لقوله تعالى (أفلا يدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد: ٢٤. لأن جوهر القضية لا يكمن في اللغة بقدر ما يتعلق الأمر بنظام العلامات والرموز التي في مقدور أي مؤمن تفكيكها وفهمها كل حسب قدرته ومستوى علمه ودرجة اجتهاده. ذلك أن بيان معاني القرآن تكفل الله به شخصيا بمجرد أن يبدأ الراغب بقراءته وفق ما يعني مصطلح "إقرأ" أي "تعلم"، لقوله تعالى: (إنا علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه) القيامة: من ١٧ إلى ١٩. وهو ما يؤكد أن كل من دخل مدرسة الله وتقرب إليه بتلاوة القرآن وتدبره بغض النظر عن لغته وثقافته ومستواه، إلا وقذف تعالى في روعه من المعاني ما يحصل بها الفهم على قدر اجتهاده ومجاهدته وحاجاته، وإلا لما قال تعالى أنه بعث نبيه بالقرآن الكريم رحمة  للعالمين كافة وليس للعرب فحسب. ويلاحظ في هذا الشأن، أن المستشرقين والباحثين الغربيين الذين اهتموا بدراسة القرآن دراسة علمية من كل الجوانب، هم أكثر بكثير من زملائهم المسلمين، ولم يقل أحد منهم أن اللغة تشكل عائقا للفهم. كما أن من أسلموا من الموالي والأعاجم وخصوصا الفرس، قدموا للمسلمين والبشرية جمعاء من العلوم والمعارف ما لم يقدم العرب إلا جزءا يسيرا منها يكاد لا يذكر (راجع أسماء كبار العلماء من غير المفسرين وأهل الحديث وفقهاء الشريعة لتدرك الحقيقة).

-       المعطى الرابع: أن إعجاز القرآن لا يتمثل فقط في الأسلوب كما ذهب إلى ذلك الفقهاء، في تفسيرهم لقوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) الإسراء: ٨٨. بل الإعجاز يشمل المعنى على وجه أخص، بدليل التحدي الذي رفعه الله في وجه المشككين بقوله: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) النساء: ٨٢. وبالتالي، لم يتبث إلى اليوم أن خرج علينا عالم موضوعي في الشرق أو الغرب زعم بالحجة والبينة أن في القرآن اختلاف على مستوى المدلول والمصداق، ولا نتحدث هنا عن المشككين من الملحدين أو العلمانيين غير الموضوعيين، والذي حث تعالى على مجاهدتهم بالقرآن لقوله: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) الفرقان: ٥٢. والضمير "به" في الآية يعود على القرآن الذي هو حجة الله البالغة لما حوى من حقائق لا يستطيع الإتيان بها سوى العليم الخبير.

والملاحظ من خلال دراسة الكم الهائل من التفاسير التي تزخر بها المكتبات العربية حد التخمة، أنه وباستثناء بعض المفسرين الأوائل الذين حاولوا إعمال الاجتهاد بالرأي  لترجيح حديث على آخر، أو رواية على أخرى، بسبب اختلاف الصياغة أو تضارب المعنى، كابن جرير الطبري أو فخر الدين الرازي وغيرهما ممن اختارهم المؤرخون كمرجع لفهم المعاني التي كانت سائدة في القرن الثالث الهجري، باعتبارهم كانوا الأقرب نسبيا إلى مرحلة التأسيس.. فقد ذهب جل المفسرين مذهب النقل بالتركيز على الإسناد في انتقاء الأحاديث والروايات، وعلى المعاني اللغوية التي تعطيها المفردات، مستشهدين في ذلك بالشعر حينا وبأقوال القدماء أحيانا.

ومشكلة مناهج التفسير القديمة عموما، تكمن في تجاهلها للتحقيق في مضامين الأحاديث مقارنة مع ما ورد بشأن موضوعها في القرآن الكريم، ويعاب عليها أيضا عدم اهتمامها بنقد الأسانيد والاستنجاد في مواقع كثيرة بأحاديث ضعيفة لترجيح معنى على آخر، وهو ما لم يستطع تجاوزه حتى إمام ومؤرخ كبير بحجم الإمام الطبري أو أبو حامد الغزالي الذي لم يترك حديثا ضعيفا إلا واستنجد به في مؤلفه (إحياء علوم الدين). ويلاحظ أن كل من أتى بعد الطبري، ساروا على نهجه في حشد عديد المروايات الإسرائيلية والنصرانية والأساطير والخرافات وقصص الوعظ الخيالية.. ومع ذلك أحيطت تفاسيرهم بهالة من القداسة لتحصينها من النقد، فنجد من يصفونها بأنها ثروة عظيمة، وذخيرة من ذخائر الإسلام، ومصدرا أصيلا لكل مفسر وعالم مجتهد، ومرجعا مهما في جميع العلوم اللغوية والشرعية المستمدة من القرآن، استنادا إلى السيرة وعلوم الفقه والعقيدة وأصول الدين والمذاهب الفقهية والكلامية والتفسير بالمأثور والرأي والإجتهاد والمعقول.. هذا في الوقت الذي يحرمون فيه التفسير بالرأي (التأويل) على الغير ويجيزونه لأنفسهم.

وبفضل هذا المنطق الإختزالي للدين والشريعة، وجد المستشرقون مجالا خصبا لنقد الإسلام استنادا إلى ما وضعه المفسرون الأوائل من مفاهيم، فنسبوا الضعف واللاعقلانية للخطاب الديني، وركزوا على التناقض القائم بين الإيمان والعقل في المنظومة الفكرية السنة، معتبرين أن ما قاله هؤلاء المفسرون يعتبر المعنى النهائي (الدوغمائي) المغلق للنص المقدس، ودليل على تاريخانيته، وقد سار بعض الباحثين العرب على نهجهم كمحمد أركون ونصر حامد أبو زيد وغيرهما ممن سنأتي على ذكر مناهجهما المختلطة في إطار الحديث عن التفاسير الحديثة.

ولا تفوتنا هنا الإشارة، أن هناك من القدماء، وخصوصا الفقهاء الشيعة، من أضاف إلى القواعد المذكورة، قاعدة أخرى تقول بتفسير القرآن بالقرآن، لكن هذه القاعدة لم تستعمل كأساس، بل فقط كاستثناء لحل معضلة بعض ما كان يستشكل عليهم من معنى. ومعلوم أن هذه القاعدة المهمة كان قد أوصى باعتمادها كمنهجية للتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال (إن القرآن يفسر بعضه بعضا).. ومع ذلك، وبرغم أهميّة هذه المقولة التي تعتبر الأساس العلمي والعملي للمنهج النبوي، تجنبها معظم الفقهاء لسبب بسيط، وهو أنها تفرض على من يعمل بها أن يستعمل عقله في التعاطي مع القرآن لاكتشاف المعنى من خلال الجذر المشترك للكلمات وترادف المفردات في عديد الآيات على امتداد النص وباختلاف السياقت التي وردت فيها.. واستعمال العقل هنا سلاح خطير من شأنه أن يقلب رأسا على عقب عديد المفاهيم الأساسية السائدة في الثقافة الإسلامية، كما من شأنه هدم منظومة التشريع التي جاء بها الفقهاء من أساسها.. وهو ما لا يمكن القبول به من قبل الأنظمة السياسية السنية التي تمتلك احتكار إنتاج المعنى وتزعم حرصها على حماية الحقيقة.. لهذا حرّموا التفسير بالرأي وشنوا حملات شعواء على دعات التأويل، وذهبوا حد تكفيرهم استنادا إلى حديث منسوب للرسول الأمين صلى الله عليه وسلم يقول: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار). فهل هذا معقول والله تعالى يتحدى عباده بأن يجدوا في القرآن اختلافا أو تضاربا أو تعارضا بين المعنى والمصداق أو الدال والدلول؟

ويلاحظ أيضا، أن الاعتماد بشكل شبه كلّي على المأثور في التفسير لم يكن بهدف استبعاد المنهج العقلي بدعوى تحصين القرآن من الأهواء والتفسير بالرأي، بل كان الهدف الأساس كما يتبين من مراجعة التراث والزمن التاريخي الذي نزل فيه، هو التأصيل المذهبي للشريعة وإصباغ نوع من المصداقية – أو لنقل القداسة - على الأحكام الفقهية السلطانية لتصبح ملزمة للأمة وغير قابلة للنقاش، باعتبار أن مصدرها القرآن والسنة واجتهاد الفقهاء، وهو ما حوّلها إلى خليط يجمع بين شرع الله وعرف العرب زمن النبي والخلفاء من بعده وشريعة اليهود أيضا، وبذلك تم نزع شرعية التشريع من يد الناس وتحويلهم من مؤمنين أقوياء بعلمهم  إلى مجرد رعية جاهلة ومستعبدة مفعول بها وفيها، توصف بالعامة والدهماء وسواد الأمة، وبالتالي، لا تملك شرعية إصدار القوانين وفق مبدأ الشرع الجماعي، ولا شرعية إعادة إنتاج السلطة وفق مبدأ الشورى القرآني الذي تحول من إجماع الأمة إلى إجماع أهل الحل والعقد في السياسة وإجماع الفقهاء في الدين.

من هنا نفهم أيضا سبب إصرار جل الفقهاء على قاعدة الناسخ والمنسوخ في القرآن، والتي سمحت بالتلاعب بالأحكام وتطويع الآيات لتخدم أهداف سياسية لا علاقة لها بمبدأ العدل الذي هو القصد الأسمى للشارع، لأنك لو تدبرت بالعمق المطلوب قضية الناسخ والمنسوخ في السياق الذي وردت فيه في الآية الكريمة، لفهمت بسهولة ويسر أن المقصود هو نسخ بعض الأحكام التي وردت في التوراة والإنجيل مقارنة بالقرآن، وستخرج بنتيجة مفادها أن الله لم ينسخ من القرآن الكريم ما زعمه الفقهاء، وإلا لاعتبرت سورة التوبة ناسخة للقرآن كله، وهذا هو عين العبث.

وبالمحصلة، يمكن القول أن اعتماد منهج النقل والبيان في التفسير من قبل القدماء، أفرز كما هائلا من المفاهيم التي جاءت في مجملها  تكرارا لنفس المقولات واجترارا لنفس المعاني المشابهة مع بعض الفروق الشكلية في الصياغة، ناهيك عن أنها حملت في المضمون الكثير من التضارب والتعارض وصل أحيانا حد تفسير بعض الآيات بالعجائبي والغرائبي الذي لا يقبله عقل ولا يستسيغه فهم، والسبب في ذلك وفق ابن خلدون، يعود إلى أن العرب لم يكونوا أصحاب علم، فكانوا يرجعون إلى أهل الكتاب لمعرفة ما ورد في التوراة والإنجيل بشأن أحوال الأمم وقصص الأنبياء وبعض جوانب التشريع، فاختلط الحابل بالنابل وتداخلت مرويات التوراة والإنجيل التي كتبها الحاخامات والرهبان مع جوانب عديدة تناولتها التفاسير وتم اعتبارها حقائق دينية استنادا إلى حديث منسوب للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (خذوا عن بي إسرائيل ولا حرج)، وهو ما انعكس سلبا أيضا على منظومة "الشريعة الإسلامية".

ومعلوم أنه مع بداية طفرة التفسير والتشريع في عهد المذاهب ظهرت العديد من الأحاديث الضعيفة والروايات المدسوسة فيما عرف بـ"الإسرائيليات" التي أصبحت جزءا من منظومة "التراث الإسلامي"، بالرغم من تعارضها مع النص القرآني جملة وتفصيلا،  والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، وخاصة في ما يتعلق بدونية المرأة، ورجم الزانية، وقتل المرتد، ونشر الإسلام بالعنف، وإكراه الناس على طاعة الحاكم حتى لو كان ظالما فاسدا فاسقا، لأن طاعته من طاعة الله، وكأن الله يرضى لعباده الظلم ويحب المفسدين سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

ومع تطور علوم اللغة من نحو وبلاغة وإعراب، برز ضمن هذا التيار منهج جديد اعتمد التفسير اللغوي الذي اشتغل على بنية النص القرآني ومفرداته وغريبه لمحاولة إظهار المعاني التي تعطيها المؤشرات البلاغية وليس المرويات فحسب. غير أن إشكالية هذا المنهج أنه خلط بين مراد الله من الخطاب وبين المدلول الذي تعطيه اللغة البشرية لتعدد معاني مفرداتها فيما يعرف بظاهرة "الترادف". وبالنتيجة، أصبح ما أسفر عنه هذا الجهد يعبر بشكل سطحي عن معنى الكلام وفق الاصطلاح اللغوي البشري المتحول في السياق التاريخي مقارنة بالنص القرآني المشحون بالرموز والإشارات والعلامات التي لا تحتاج لتفسير بقدر ما تحتاج لتأويل نظرا للفرق القائم بين الظاهر والباطن، بين الوحي الثابت والواقع المتغير. ومرد ذلك يعود إلى محدودية اللغة وعجزها عن التعبير عن مراد الله من كلامه من جهة، وعدم معرفة فقهاء اللغة بنظريات العلوم الصحيحة والتجريبية والفلسفية والعلوم النفسية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية وغيرها، والتي تساعد على فهم الواقع وعالم الوجود فهما موضوعيا يتيه على استنباط المعاني بشكل عقلاني، الأمر الذي انعكس على أعمالهم فجاءت عبارة عن صناعة هجينة تفتقر إلى القيمة العقلية والروحية وتصيب القارئ بالملل والنفور.

ولتحصين المنظومة التفسيرية والتشريعية القديمة من النقد، أصبغت المعاني المنتجة في إطارها بنوع من القداسة، لدرجة أن من جاء بعد الفقهاء الأوائل لم يجرأ على إعادة قراءة نصوصهم بآليات النقد الموضوعية لتصحيح ما جاء فيها من تناقضات مقارنة بالنص المؤسس الذي هو القرآن، بل كل ما فعله التلامذة من بعدهم أنهم قاموا بتثبيتها كأصول لا تقبل المراجعة من خلال توليد الشروح على الهوامش لتبيان المعنى اللغوي أو الفقهي لبعض ما جاء فيها من مصطلحات، وكأنهم يتعاملون مع نص سماوي لا بشري يحتمل الصواب والخط، فاختلط بذلك المراد الإلهي من الخطاب مع المراد البشري.

ويسجل التاريخ الإسلامي أنه نتيجة لذلك، دخل الفكر مرحلة الجمود، لدرجة أنه كل ما حاول مجتهد مواجهة سلفي بحقيقة قرآنية في قضية معينة مستشهدا بقول الله تعالى، إلا وفوجئ سريعا بالرد: "لكن شيخي قال".. فأصبح الأخذ بقول الشيخ أوثق من الأخذ بقول الله تعالى. وبذلك، تأصل نوع من الخطاب الديني النمطي الذي تحوّل إلى إديولوجيا دوغمائية لم تنجح المدرسة المعتزلية في اختراقها، وأصبح هذا التراث بالقهر السياسي إطارا مرجعيا بعد أن تبنته السلطة، ففُرض على العامة باعتباره معرفة دينية نهائية لا تقبل النقد، بل حتى الجامعات العربية أرغمت على ألا تخرج البحوث الإسلامية عن هذا الإطار الدوغمائي الذي فرضته المؤسسة السياسية، ما أجبر الدارسين والباحثين على الالتزام بإطاره مرغمين للحصول على شهادة تضمن لهم وظيفة مريحة. وهو ما يصنف في خانة الإرهاب الفكري الذي مارسه الأصوليون والسلطة المتحالفة معهم على كل بحث فكري مغامر يتعلق بالقرآن أو التراث بشكل عام.

وبالنتيجة، احتضنت الشعوب العربية والإسلامية هذا الموروث الإديولوجي المغلق لقرون طويلة، إلى أن ظهرت نخبة من المفكرين المتأثرين بثقافة الغرب ومناهجه في العصر الحديث، وبدأت المساس بهذا الموروث "المقدس"، فحصل الصدام بينها وبين العقل الأصولي، وهو الصراع الذي لا يزال قائما إلى اليوم، بين رؤية أصولية ترى المستقبل في إعادة إنتاج تجربة الماضي في الحاضر، ورؤية تحررية ترى المستقبل في مراجعة هذا التراث مراجعة علمية تؤسس لوعي جديد يساعد على التخلص من التشبث بالماضي للانطلاق نحو بناء المستقبل، وذلك من من خلال عديد المقاربات التي تهدف لتصحيح الخلل الذي جاء الحاضر نتيجة طبيعية للثقافة التي أرستها المنظومة الفقهية القديمة في عقول الناس، بل ومن الباحثين الحداثيين من ذهب حد القول بضرورة الحسم مع الثرات، بمعنى وضعه في القمامة والانطلاق في فهم الدين من الواقع شريطة التعامل مع القرآن كنص تاريخي ينتمي للزمن الثقافي التي أنتج فيه وتحول هو بدوره إلى منتج ثقافي كما يقول نصر حامد أبو زيد.

من هنا الحاجة إلى مراجعة عميقة وشاملة لهذا الترات المتكلس الذي يرفض أصحابه التغيير لأسباب إديولوجية لا علاقة لها بالدين، ولن ينجح ذلك إلا من خلال تفكيك العلاقة القائمة بين الفقهاء والسلطة، والتي تعتبر أن ما أنتجه السلف من منظومة فكرية دينية وتشريعية هي عين الحقيقة الإلهية التي أرادها الله لعباده، وأن لا مجال لمراجعتها أو فتح باب الإجتهاد لتصحيحها.


*  التيار الثاني: تيار العقل، أو ما اصطلح على تسمية أصحابه بأهل البرهان، وهو التيار الذي اعتمد المحاججة والجدل الفكري سبيلا لإثبات وجهة نظره ودحض وجهة نظر خصومه، اشتهر به المعتزلة الذين استعملوا سلاح التأويل بأدوات المجاز والكناية والتشبيه ضد تيار النقل من أهل السنة والجماعة، في صراع ظاهره فكري فيما باطنه سياسي، أسفر عن ظاهرة ما أصبح يعرف في تاريخ الفكر الإسلامي بـ"علم الكلام"، وقد استند المعتزلة في اجتهادهم على المحكم والمتشابه في القرآن الكريم، فما كان يعده خصومهم محكما اعتبروه متشابها والعكس صحيح أيضا، وهو ذات السلاح الذي استعمله الأشاعرة في مرحلة متأخرة لدحض أطروحات المعتزلة.

والخلاف الكلامي الذي ظهر بين الأفرقاء زمن المعتزلة، وإن كان يبدو ذو طابع ديني عقلاني، إلا أنه كان خلافا سياسيا في العمق كما أسلفنا، حاولوا من خلاله فرض وجهة نظرهم الفكرية بالقوة حين تمكنوا من السلطة، فكانت السجالات بينهم تكتسي طابع الحدة، وتظهر أن الهدف الحقيقي من هذا الدفع أو ذاك لم يكن معرفة الحقيقة الدينية في نقائها بقدر ما كان الانتصار على الخصوم السياسيين بسلاح الدين، وهي معركة أفرزتها طبيعة الأنظمة السلطوية المستبدة، والتي لم تكن تسمح بتطبيق مبدأ الشورى بمفهومه القرآني، ولم تكن تقبل بالرأي والرأي الآخر، ولا بالمعارضة السياسية لنهجها وخطابها المتكلس، لأن الاختلاف السياسي في الرأي هو خروج عن الحاكم وعن إجماع الأمة، وبهذا المعنى يمكن القول أن هذا الجدل الصوفصطائي كان معارضة سياسية بلبوس الدين، لأنه في بيئة مناهضة للحرية ورافضة لمبدأ الشورى كما هي طبيعة الدولة الإسلامية، كانت جبة الدين هي الوسيلة المثلى والأنجع لهزيمة الخصم ونزع شرعيته الدينية واغتنام الفرصة للإنقضاض على السلطة.

ومعلوم أن هذه الحرب الكلامية إن صح التعبير، انتهت تاريخيا بهزيمة المعتزلة زمن ابن رشد على يد أبو حامد الغزالي الذي هاجمه في "تهافت الفلاسفة" ودحض اعتقاد المعتزلة في المسائل العشرين الخلافية في مجال الإلهيات ، فرد عليه ابن رشد بكتاب "تهافت التهافت"، لتنتهي المعركة بينهما بانتهاء علم الكلام حين وضع أهل العقل والبرهان سلاحهم وانسحبوا من الساحة إلى الأبد، وكانت مقولة القدم والحدوث وخلق القرآن بالإضافة إلى الجدل الذي أثير حول تعطيل بعض صفات الله، واستحالة رؤيته يوم القيامة، وقضية القضاء والقدر، والإنسان بين الجبر الذي قال به معاوية وحرية الاختيار بحكم المسؤولية عن الأفعال التي دافع عنه الخوارج والمعتزلة والشيعة، ومبدأ العدل بين شرع الله وشريعة الفقهاء، ومسألة مرتكب الكبيرة والمنزلة بين المنزلتين، وغيرها من الأمور الإشكالية التي طالت حتى مبدأ التوحيد بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية والفرق بينهما.. من القضايا التي قسمت ظهر المعتزلة ودفعت ببعض فقهاء السنة حد وصمهم بالكفر وحرق كتبهم ونفيهم عن ديارهم كما حدث لابن رشد في الأندلس.

* التيار الثالث: تيار أهل الذوق الذي عرف به الصوفية، غير أن هذا التيار لم يكتب له الإنشار من جهة، كما أن إنتاجه المعرفي المعقد لم ينل حقه من الدراسة والتمحيص في العالم العربي بسبب تحليق الصوفية في عوالم الخيال المطلق بالمفهوم الإيجابي للمصطلح، والذي يعني البرزخ الوارد ذكره في القرآن، فلا هو أسود ولا أبيض، إنما هو الحد الفاصل بين العالم المحسوس والعالم المقابل الذي لا يشاهد لكنه يعقل ويدرك بمعراج المعرفة (عالم الغيب)، ومثال ذلك البرزخ الذي يفصل الماء العذب عن الماء المالح الوارد في القرآن، ندركه ونعرف بوجوده يقينا، لكننا لا نستطيع مشاهدته لأنه حضرة تتوسط بين حضرتين، وتكون وظيفته الفصل بين أمرين أو وجودين. ومثال ذلك أيضا قضية الظاهر والباطن في القرآن الكريم، حيث لا يمكن الولوج إلى الباطن حيث تكمن "الحقيقة" إلا من بوابة الظاهر "الشريعة"، ومثال ذلك النور الذي ندرك وجوده ونرى من خلاله الظواهر في عالم المحسوسات لكننا لا نستطيع رؤية النور نفسه بالعين المجردة.

وبالتالي، فالبرزخ وفق محيي الدين ابن عربي هو مجرد تصور ذهني نتخيله بالمعنى الإيجابي الذي يفيد وجوده الحقيقي دون القدرة على مشاهدته. وللإشارة فقد كان لمفهوم الخيال المطلق عند ابن عربي فضل كبير على الحضارة الغربية بحيث غيّر كلّية من نظرتها للأمور ورؤيتها للحقائق اللامادية التي لم تكن تعترف بها من قبل، فأثر ذلك على إنتاجها المعرفي في كل المجالات، وأصبحت النظريات العلمية فكرة وتصورا خياليا يسبق التجربة العملية في المختبرات، ما فتح آفاقا مدهشة للتقدم العلمي والتكنولوجي، ولنا في تجربة أينشتاين المثال الأبرز على ما نقول، بحيث لا زالت بعض النظريات التي "تخيلها" إن صح التعبير لم تجرب بعد ويصعب تأكيدها أو نفيها مع التسليم بوجاهتها من الناحية النظرية العلمي، لأن كل نظرية علمية تبدأ في الأصل من خلال فكرة تراود الخيال فيسعى العالم لتحويلها إلى مسلمة علمية من خلال التجربة.

ونظرا لصعوبة التعبير عن أسرار هذا العالم الماورائي، فقد استعمل الصوفية لغة الرمز والإشارة للحديث عنه بدل صريح العبارة، بسبب أن اللغة البشرية عاجزة عن التعبير عن أسرار الملكوت وألغازه الخفية، مع الإشارة إلى أن علماء كبار في الغرب استفادوا أيما استفادة من العرفان الصوفي الذي ساعدهم على تطوير نظرتهم للوجود ووضع قواعد جديدة في الفلسفة والاجتماع والمعرفة الدينية لا تزال محل نقاش كبير في العصر الحديث، ولعل ما قدمه الصوفية من نظرة معرفية لفك شيفرة معادلة (لله - الإنسان – العالم) إن صح التعبير، ساهمت بشكل كبير لا محالة في تحويل اهتمام الفلسفة من مجال "الميتافيزيقا" أو ما وراء الوجود إلى مجال المعرفة، أو ما يصطلح عليه في الثقافة اللاتينية بـ "الغنوص"، بعد أن أدرك الجميع أن لا وجود لشيئ خارج الوجود، لأن الوجود كله من عرشه إلى فرشه هو الله الواجب الوجود، ولا يوجد شيئ معه أو من خارجه سوى غباء الإنسان بتعبير أينشتاين، الذي سألوه إن كان يعرف أن للكون حدود، فأجاب صاخرا: "أمران لا حدود لهما، الكون وغباء الإنسان".

خلاصــــــة:

في الخلاصة نعود لنشير إلى أن بواكر التفسير الأولى  تزامنت مع ظهور المذاهب نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية التي عرفها المجتمع الإسلامي زمن الصراع على السلطة، الأمر الذي أنتج الفتنة الصغرى ثم الفتنة الكبرى، وما أفرزته بعد ذلك من "فتوحات" وتمدد الإسلام إلى أمصار جديدة وبعيدة، في مسعى إلى توحيد منظومة الشريعة، ما أدى إلى اصطدام الثقافة العربية المغلقة بثقافات أخرى أكثر انفتاحا على العالم، وكان للفلسفة اليونانية تأثير كبير في تغيير طريقة تفكير ثلة من الفلاسفة والفقهاء المسلمين وطريقة تعاملهم مع القرآن والتراث.

وقد أبرزت هذه الظاهرة الجديدة في الثقافة الإسلامية نتيجة إيجابية تمثلت في تمجيد العقل على حساب النقل واعتبار المعرفة أساس التمايز بين البشر بدل العرق والنسب والوراثة، استنادا إلى ما يعطيه القرآن للعقل من مكانة عظيمة تطهره من الجهل والعصبية، وتنقله من معتقل العشيرة وسجن القبيلة إلى رحاب الأنسنة والعالمية.

لكن بانتصار المنظومة السنية المغلقة عرف الإسلام انتكاسة ظل قائمة لقرون طويلة وحالت دون تغيير المسلمين لنظرتهم لله والعالم والإنسان، وفي غياب الحرية ومبدأ الشورى، ظهرت حركات الإسلام السياسي بمشاريع دينية معارضة لمشروع السلطة المهيمنة القائمة والتي كانت دائما تستمد شرعيتها من الدين بفضل الخطاب الإديولوجي التكفيري والإقصائي، وبذلك، تمت سرقة إرادى الأمة وخيراتها ومقدراتها وإعاقتها عن النهوض لتكون كما كانت خير أمة أخرجت للناس زمن النبوة، وفي صراع حضاري من هذا النوع، تحول استغلال الدين في السياسة مرة أخرى في عصر الحداثة ومكا بعد الحداثة إلى سلاح وظيفي فتاك، لأن من يملك القدرة على التأثير في عقول الناس البسطاء بالخطاب الديني الشعبوي، يستطيع تحشيدهم كوقود لنار حروبه الجيوسياسية، وما كان لذلك أن ينجح لو حرص الإقطاع والكهنوت على إشاعة الجهل في عقول الناس وزرع بذور الكراهية في قلوبهم، وهذا لعمري هو عين الإرهاب الفكري الذي استغله الغرب أيضا في حروبه ابالوكالة ضد الأمة لكي لا تقوم لها قائمة بالإسلام في إطار الوحدة.

ولأن الصراع كان في جوهره سياسيا على السلطة، فمن الطبيعي أن تتسم الثقافة الدينية التي نتجت عنه بالطابع الإديولوجي الصارم، الأمر الذي طرح ولا يزال إشكالية التوفيق بين الحقائق الدينية الكامنة في النص القرآني من جهة، وبين الواقع المتغير من جهة ثانية، وهو الأمر الذي فشلت فيه المنظومة السنية عبر التاريخ.

كما وأن المعضلة التي طرحتها هذه المقاربات التفسيرية والتأويلية القديمة تمثلت أساسا في نسبية الفهم، باعتبار أن نتائجها لا تعدو كونها وليدة الفهم البشري النسبي كل حسب مستواه والخلفية الثقافية والإديولوجية التي ينطلق منها في تناوله للنص، وفق ما يشير إلى ذلك الدكتور عبد الكريم سروش في أطروحته الثورية التي تناول فيها نظرية "القبض والبسط النظري للشريعة"، والتي أحدثت رجة كبرى على مستوى الفكر في إيران والعالم العربي والإسلامي بما خلصت إليه من نتائج موضوعية وعقلانية قلبت معايير الفهم السائد في التعاطي مع النص المقدس، مؤسسة لمبدأ جديد يقول بوجوب التفريق بين النص الديني الذي يمثل الحقيقة المطلقة في سموها، والفهم البشري الذي يظل فهما نسبيا لمراد الله من الكلام، الأمر الذي جعل بعض النقاد يتحدثون عن علم كلام جديد بصدد التشكل  في العصر الحديث. هذا فيما رأينا توجها مغايرا لدى بعض الباحثين الحداثيين الذين فضلوا التركيز على تفكيك العقل العربي وانتقاده، كمحمد عابد الجابري من خلال العمل المتميز الذي قام به في هذا المجال، أو كمحمد أركون الذي تحدث كثيرا عن نقد العقل الإسلامي دون أن يترجم مشروعه هذا إلى عمل علمي يمكن التأسيس عليه لبناء معرفة موضوعية يعتد بها.

وبهذا المعنى، لا يمكن بحال من الأحوال القول بأن تفاسير القرآن الكريم التي تزخر بها المكتبات العربية تمثل الحقيقة الدينية كما أراد تعالى إيصالها لعباده في أبهى صورها، سواء زعم أصحابها أنهم أخضعوا النص للمأثور من السنة لإضفاء نوع من المصداقية على طروحاتهم، أو القول أنهم أخضعوه لآليات العقل وشروط المنهج التي تجعل النتائج  مقبولة من الناحية النظرية. لأن اختلاف المنطلقات الإديولوجية وتعدد الأفهام وتضارب المعاني وتعارضها في جوانب كثيرة مع الواقع الموضوعي يؤكد أنها تفتقد للمصداق عندما تتعرض لمشرحة النقد بآليات المراجعة والتثبت التي تفرضها شروط واقع التجربة الإنسانية التي من سمتها الأساس التطور الديناميكي لا الثبات الستاتيكي، وإلا لما أصبح كلام الله الحي صالحا لكل مكان وزمان كما سبق القول، ولتحول بالتالي إلى نص تاريخي جامد لا يساير صيرورة التطور مثل ما حصل مع التوراة والإناجيل التي هي منتج بشري بالمحصلة.

ويكفي في هذا الصدد العودة إلى التفاسير المنجزة لإدراك أن فهم القرآن لم يكن في أي عصر من العصور كاملا، ولا نزيها بلا أخطاء ولا تناقضات، ولا غنيا عن بقية المعارف البشرية، ولا مصونا من التحريف والزلل، ولا نهائيا غير قابل للنقد، ما يجعله يمثل وجهة نظر أصحابه النسبية لا مراد الله من الكلام.

ولعل ما يعاب على الفقهاء اليوم، هو أنهم نجحوا بفضل منظومة الشريعة، في استبدال الدين بنسخة مشوهة إلى أقصى الحدود عن الإسلام السمح الجميل الذي ارتضاه الله تعالى دينا قويما لعباده كافة. ومرد ذلك يعود لكون أن الحديث النبوي الذي لم يكن يحظى بمكانة تذكر زمن القرآن، تحول إلى مرتبة تفوق مرتبة الخطاب القرآني زمن أئمة المذاهب (الشافعي ومالك وابن حنبل وأحمد)، حين استخدم كأساس للتفسير والتشريع معا، فافترقت الأمة إلى مذاهب، بالرغم من أنه في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن هناك مثل هذه التفرقة التي أحدثتها السياسة حين أسس معاوية تيار أهل السنة والجماعة لمواجهة تيار الشيعة، ولا تلك التي أحدثها الفقهاء باسم الشريعة وأدت إلى افتراق المسلمين السنة إلى مذاهب أربعة كبرى، وكل ما حصل بعد ذلك من تفكك وتشردم واختلاف في الدين وأدى إلى ظهور الفرق والملل والنحل كان بسبب خضوع الفقهاء لأهواء السياسة (إلا من رحم الله)، فأصبح الإسلام بالتالي مفرّقا لا موحّدا للأمة ضدا في جوهر الخطاب القرآني الذي يتمحور حول التوحيد والوحدة في ظل العدل والتقوى.

ودليل ذلك، أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين كان يجيب عن مسألة دينية، كان يُسأل من قبل الصحابة إن كان ما يقوله وحي أم رأي، فكان يؤكد أنه وحي، وفي شؤون الدنيا، ترك للمسلمين قاعدة ذهبية تقول: "أنتم أدرى بشؤون دنياكم".

وبسبب هذا الواقع التاريخي المعقد الذي تداخلت فيه السنة مع القرآن في اجتهاد الفقهاء، فضل بعض الباحثين النأي بالنفس عن الخوض في الخطاب الديني والتركيز على نقد العقل الذي تحول إلى أنواع كثيرة، كالعقل القواعدي – النحوي، والعقل النقدي، والعقل اللاهوتي، والعقل التشريعي، والعقل التأريخي، والعقل الفلسفي، والعقل الطوباوي والعقل الموضوعي، بل والعقل السني، والعقل الشيعي، والعقل المعتزلي، والعقل الصوفي ... وما إلى ذلك من التصنيفات التي تختلف باختلاف ما أنتجته هذه العقول من معاني، لكنها في مجملها بحوث لم ترقى إلى المستوى المطلوب الذي يمكن التأسيس عليه لتصحيح الأخطاء والانطلاق من قاعدة مفاهيمية صلبة لبناء نهضة.

والسؤال الذي يطرح من وقت ليس بالقصير هو: لماذا فشلت محاولات التقريب بين المذاهب لتلتقي الأمة على قلب رجل واحد؟..

ابحث عن العامل السياسي وستجد الجواب الشافي.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق