بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 29 سبتمبر 2018

مناهج البحث وإشكالية المرجعية



(وقال الرسول يا ربّ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان: ٣٠.

كثيرة هي الدراسات والبحوث المعاصرة والحديثة التي اهتمت بالمجال الديني، سواء فيما له علاقة بالقرآن أو التراث، وكثيرة هي المناهج التي استخدمت في نقد الخطاب الإسلامي بين المستورد والمختلط، لكن كل باحث كان يعمل في مجال اختصاصه الضيق، وينطلق في تعاطيه مع الخطاب الديني من قناعات إيديولوجية للبحث بانتقائية عن نصوص تؤيد مواقفه المُسبّقة، ما حال دون الوصول إلى الحقيقة بالبرهان العلمي الذي تدّعي هذه المناهج اعتماده.../...


ومرد ذلك، يكمن في أن المناهج في معظمها، لا تعتبر القرآن المرجعية العليا للحقيقة وإن كان بعضها يدعي ذلك، وتتعامل معه كنص تاريخي وليد لحظة التأسيس الأولى، وترفض الخوض في مجال الإيمان العصي على الفهم والإدراك بآليات العقل، وتفضل التعاطي مع الظاهر المريح واختزال المفاهيم الإسلامية في التفاسير المعتمدة من قبل المرجعيات الأصولية، خصوصا المستشرقين والباحثين العرب الحداثيين الذين لا يهتمون بمعرفة الحقيقة من مصدرها القرآني، بقدر ما يعنون بالحقيقة كما قدمتها المؤسسات الدينية الرسمية، ومن ثم الحكم على الإسلام وتصرفات المسلمين على ضوئها.

هذه الإشكالية ليست جديدة، بل عرفها التاريخ الإسلامي منذ عصر الكلام، بسبب نسبيّة الحقيقة نفسها وصعوبة الإمساك بها من قبل أي طرف كان، ولم ينفع استعمال المنهاج الموضوعية المعاصرة والتطبيقات العلمية الحديثة في تبديد الشكوك حولها، بل زادت من منسوب الحيرة لدى الناس، ما جعلهم يرفضون كل محاولة لتغيير قناعاتهم القديمة حتى لو كانت خاطئة من وجهة نظر القرآن نفسه، ويتمسكون بالإسلام الموروث كما وضع أسسه وقواعده الفقهاء انطلاقا من سنة نسبوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لدرجة، نجد فقيها من حجم ابن حزم يضع قاعدة منهجية صارمة ضد الخصوم تقول: "كل ما يخص الشرع، لا أقبل في مسائله إلا ما قاله الرسول بلسان عربي مبين"، لكنه وإن كان قد تحدث في ذات القاعدة عن استعمال بداهة العقل في كل ما ليس من قبيل الشرع، وقال أنه لا يقنع في شأنه إلا بما شهدت له الحواس، فالمفارقة تكمن فيما اصطلح على تسميته بـ "علم الحديث"، ونعني بذلك إشكالية التحقق من مضمونه عقلا قبل إسناده، ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم ظل يتحدث بلسان أهل الحديث لعقود بعد وفاته.

وهذه لعمري أهم نقطة ضعف لدى كل من حاول نقد الخطاب السني الذي تحوّل إلى حقيقة مُؤسّساتية بفضل احتكار إنتاج المعنى من قبل فقهاء السلطة، استغلوها كنقطة قوة لصالحهم، ما مكنهم من الانتشار والصمود، ليس في وجه النقد فحسب، بل وفي وجه تقلبات الزمن ومكر التاريخ، الأمر الذي أدى إلى الاعتقاد الخاطئ لدى من أخذوا إسلامهم بالوراثة، أن منظومة السنة لو لم تكن صحيحة لما صمدت كل هذه العصور والدهور، متجاهلين أن السنة أخطأت التعريف، لأن "التأسّي بالنبي في كل ما يحدث، يقود إلى تأسّي الإنسان بنفسه. فهو تعدّ على المرسل (بكسر السين) وتجنّ في حق المرسل (بفتح السين)، جعله لعبة تتقاذفها العوارض". هذا ما يؤكده تطور أدبيات السيرة.. "الغلو والإطناب ينتهيان إلى الابتذال، وهو عكس المقصود"، وفق ما خلص إليه عالم التاريخ والإيديولوجيا عبد الله العروي في كتابه (السنة والإصلاح: ص ٢٠١).

 والسؤال المغيب من قبل الباحثين على اختلاف أجناسهم ومشاربهم ومناهجهم هو: - لماذا لا نطرح كل ما أنتجته منظومة السنة من مقولات على مشرحة التفكيك والتحليل وإعادة التركيب انطلاقا من نصوص القرآن نفسه، باعتباره المرجع الأعلى للحقائق الإلهية في كلّياتها وجزئياتها، والميزان الذي وضعه صاحب الدين لقياس مدى صحة أو خطأ كل مقولة على حدة؟

هذا الطرح لا يعجب دعاة العقلانية الذين لا يعترفون بالحقيقة إلا إذا كانت من نتاج العقل، لكنه قد يساعدنا كمؤمنين على الخروج بنظريات معرفية شاملة حول كل الثنائيات المختلف بشأنها، والتي كانت مدار جدل بين المسلمين على امتداد تاريخهم الطويل دون أن يتم الحسم فيها بشكل واضح لا لبس فيه.. وذلك من خلال مقارنة ما ورد في التراث مع ما يقدمه القرآن من مفاهيم، لنقيس بميزانها مدى صحة ما يقوله التراث من جهة، وما وصلت إليه الدراسات والبحوث العلمية من حقائق مزعومة من جهة أخرى، ما دام "تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم" كما تقول الفلسفة الحديثة، ما يؤكد أن العقل لا يستطيع التحليق لوحده في مجال المعتقدات بعيدا عن نور الإيمان، الموجّه والمساعد للعقل في بحثه عن الحقيقة، والمعبر عنها بـ"الحق" في لغة القرآن، وقد أقسم الله على ذلك بالجبل لقوله: (والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور) من الآية ١ إلى ٣. ما يعني، أن كل ما هو مخلوق في الكون (كتاب الله المنظور) هو تجسيد لكلماته من خلال الصور، والمعبر عنها في القرآن (الرق المنشور) برموز وعلامات اللغة التي تدل عليها في تناسق تام بين النص والخلق.

لهذا السبب تحديدا لم تستطع كل الدراسات والبحوث المعاصرة والحديثة تغيير قناعات الغالبية العظمى من المسلمين المستمدة من المنظومة الفقهية الأرثودوكسية التي فسرت كل شيء، من الشريعة إلى الإلهيات إلى الكون والإنسان، بل حتى المستور في عالم الغيب، فظلت بذلك عصية على تقلبات الزمن، صامدة في وجه رياح التاريخ ترفض التغيير، تواجه الحوادث بالتجاهل، والحقائق بالطمس، وتتعامل مع الخطابات المناهضة لها بالجدل والنفي، مستخدمة قهر السلطة السياسية حينا، وسلاح التكفير أحيانا، لإشاعة الرعب في نفوس معارضيها ومنتقديها.

فمنذ تأسيس ما أصبح يعرف بـ "أهل الحل والعقد" من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول صلى الله عيه وسلم، كان واضحا أن جوهر الصراع بدأ سياسيا بلبوس الدين، فتطور نحو الأسوء بما أعقب ذلك من خلافات حادة بين المسلمين، أدت إلى الفتنة الصغرى نتيجة مقتل الخليفة الثالث من قبل الخوارج، مرورا بالفتنة الكبرى زمن الصراع على السلطة بين الإمام علي ومعاوية، فالثورة العباسية، وتفكك الخلافة بسقوط الأندلس، فالهجمة الصليبية، والغزو العثماني الذي استعبد العرب لقرون مديدة، فالاستعمار الأوروبي، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وصولا إلى المؤامرة الصهيو – أطلسية التي قادتها ولا تزال امبراطورية روما الجديدة ضد الإسلام والمسلمين في الصومال وأفغانستان والعراق ولبنان وليبيا وسورية واليمن.. لدرجة تحول معها الإسلام إلى دين عنف وكراهية.

وبدخول عصر العولمة وثورة المعلومات، وسقوط الحدود والحواجز الفكرية والثقافية بين الدول، وأمام الهجمة الثقافية الغربية والهجمة العسكرية غير المسبوقة، والتي لا يمكن وصفها إلا بحرب تدمير القيم لتفجير الهويات وتفكيك الجيوش وتقسيم الأوطان كما وصفها عالم المستقبليات المهدي المنجرة في مؤلفه "الإهانة"، وكما نراها حاصلة اليوم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ظهرت بشكل لافت هشاشة المنظومة الفكرية السنية، فدخلت في مأزق خطير لا يبدو الخروج منه ممكنا من غير القيام بعملية نقد شاملة وعميقة تطال الأصول وليس الفروع فحسب، وتنتهي بتغيير قواعد اللعبة القديمة برمتها، وإلا فلن تخرج الأمة من أتون الفتن التي أُركست فيها بمساعدة الأنظمة الرجعية العربية التي جيّشت تجار الفتاوى لتحريك معاول الهدم، خدمة لمشاريع استعمارية تخريبية مقنّعة بوجه إنساني، يُروّج لها من مدخل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

نقول المنظومة السنية تحديدا، باعتبارها الممثلة للغالبية العظمى من المسلمين، والأرضية الخصبة التي أنتجت ثقافة التكفير والعنف والكراهية، ضدا في دين الله وسنة رسوله التي تدّعي أنها تصدر عنها وتدافع من أجل بقائها واستمرارها. لذلك، أصبح وضع هذه المنظومة العتيقة على مشرحة التفكيك والتحليل والغربلة وإعادة التركيب، ضرورة ملحة لا مناص منها، لأنها السبيل الوحيد لإنقاذ الإسلام من الاندثار، وإلا فالانتحار هو قدر الأمة، ليعود الإسلام غريبا كما بدأ أول مرة، وفق نبوءة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين حذر ممن أسماهم بـ «مجوس الأمة"، في إشارة إلى فقهاء السلاطين وتجار الدين المنافقين.

ولا سبيل لذلك إلا بأنسنة الفكر الديني لتحقيق المصالحة التاريخية بين المسلمين من جهة، وبينهم وبين دينهم والواقع الذي يعيشون فيه بتعقيداته المتشعبة. وحبذا لو يتولى هذه المهمة باحثون مؤمنون بدل ترك المجال فارغا للمستشرقين الغربيين وبعض العلمانيين المتأثرين بالمناهج الوضعية التي تفتقر في جوانب عديدة منها إلى الحياد والموضوعية كلما تعلق الأمر بالدراسات والبحوث الدينية، لأنها تنطلق في مجملها، من مسلمة تقول: إن كل النصوص الدينية بما فيها القرآن نصوص تاريخية، لا يمكن اعتمادها كمرجعية للحقيقة، وإذا كانت التاريخانية منهج قابل للتطبيق على التراث باعتباره منتوجا بشريا تاريخيا، فالأمر يختلف بالنسبة للقرآن، لأسباب عقائدية سنأتي على ذكرها عند طرحنا لهذا الموضوع.

هذا الكلام لا يعني القول بعدم جدوى المناهج العلمية المعاصرة، والتي تعتبر – بما لها وما عليها - خطوة مهمة في طريق التغيير، برغم تحفظ عامة الناس على نتائجها، سواء تلك التي تمس الخطابات والأفكار، أو العقول والممارسات، لذلك قد يكون من المفيد التركيز على مسألة المفاهيم الدينية كأرضية مشتركة يمكن لكل باحث الانطلاق منها باعتبارها حقائق قرآنية إيمانية لا يرقى إليها الشك من وجهة نظر المؤمنين بها، ليوسّع بحثه على أساسها في المجالات التفصيلية الأخرى الكثيرة والمعقدة، بدل التعامل معها بالتعالي من موقع الأنا والآخر، وهذا ما لا يقبل به الطرفين للأسف:

-       الطرف الأول: الفقهاء الذين يعتبرون أن القرآن هو فوق طاقة فهم البشر، وبالتالي لا يمكن الركون إلا لما قالت به السنة باعتبارها المفسرة الموضوعية له استنادا لما بيّنه الرسول صلى عليه وسلم والسلف الصالح من بعده، وفق زعمهم. وكأن الله تعالى أنزل القرآن للرسول والسلف الصالح دون العالمين من الأجيال المتعاقبة، هذا علما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن، وما كان له أن يفعل وإلا لتحول كلام الله إلى نص مغلق غير صالح لكل مكان وزمان كما نقول دائما.

-       الطرف الثاني: الملحدون والماركسيون والعلمانيون الذين يشككون في مصدر الوحي وفي طريقة جمعه وترتيبه، ويفضلون التعاطي معه بالمنهج التاريخاني باعتباره نصا ينتمي لزمانه، ولا يصلح أن يكون مرجعا للحقيقة مقارنة مع ما يفرزه الواقع من حوادث معقدة تنتمي إلى أزمنة وأمكنة غير تلك التي ينتمي إليها الوحي، لأن الحقيقة من وجهة نظرهم هي تلك التي ينتجها الواقع لا النص.

وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع المقاربات العديدة المطروحة على الساحة في مجال النقد والتحليل أو ما أصبح يعرف بـ "التطبيقات الإسلامية الجديدة"، فلا مناص بالنسبة لأمة المسلمين من مقاربة أولية تبدأ بتفكيك المنظومة السنية السائدة على أساس دراسة القضايا والموضوعات الإشكالية، وإعادة فهمها وفق ما تعطيه المصطلحات القرآنية من مدلول داخل النص، لأننا لا نملك غير هذا المعيار للقياس عليه، ما دام المنهج الموضوعي الذي يعتمد التفسير من خلال وحدة الموضوع التي تتميز به كل سورة، لم يحقق الهدف الذي توخاه أصحابه منه، بسبب تداخل المكي في المدني، وانتقائية الموضوعات المطلوب دراستها حسب اهتمام كل باحث على حدة، بالإضافة إلى الصعوبة الكامنة في تجميع كل الجوانب المرتبطة بها والموزعة على أكثر من سورة مع اختلاف في الصياغة والسياق.
        
وبهذا المعنى، سواء شئنا أم أبينا، لا بد وأن نتخذ من القرآن الكريم الميزان لقياس مدى صحة أو خطأ كل المقولات التي يزخر بها التراث، بسبب ما أنتجه هذا الأخير من ثقافة نشكو من نتائجها الكارثية اليوم، لما لها من تداعيات، ليس على تجربتنا الدنيوية فحسب، بل وعلى الخلاص في الآخرة أيضا.

لأن عدم التركيز على القرآن كمرجعية للحقيقة واستبداله بالتراث من قبل ما يمكن تسميتهم بـ "المتحوّلين" من تلامذة كبار فقهاء الظاهر، الذين تنازلوا عن استقلاليتهم، وشرفهم العملي، وقبلوا بخدمة السلطة بدل الحقيقة، أدى إلى انقلاب الصورة، فأصبح الدين المتعالي لعبة تتقاذفها أهواء السياسة، وأصبحت الحقيقة الدينية محصورة فيما تنتجه المؤسسات الرسمية من إيديولوجيات، أو لاهوت قروسطي لا يخدم الحقيقة الدينية المتمثلة في المعاد الذي جاء القرآن ليذكر به، ويساعد المؤمنين في التحضير له خلال رحلتهم القصيرة في الحياة الدنيا، والتي هي مجرد تجربة يختبر الله من خلالها إيمان عباده.

ولا سبيل للخروج من هذه الإشكالية إلا بنزع القداسة عن هذا التراث ووضعه على محك التساؤل والتشريح والنقد شاء من شاء وأبى من أبى، لكشف الارتباط القائم بين الدين والسياسية من جهة، وفضح الزعم القائل بأن ما أنتجته المؤسسات الدينية الرسمية هو الحقيقة الدينية التي أنزلها الله من السماء، كما شرحها في زمانه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، لتمضي الأمة على هديه إلى أن تقوم الساعة.

نقول هذا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكلفه الله بالتشريع لزمانه ولمن سيأتي من بعده، ولم يبعثه الله هاديا للناس بل نذيرا للمشركين والكافرين ومبشرا للمؤمنين، أما الهداية والضلال فأمر من اختصاص الله دون سواه يصطفي له من يشاء من عباده المخلصين، بدليل قوله تعالى لمحمد: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) الرعد: ٧. وقوله له أيضا بشأن عمّه عبد المطلب الذي حماه من مؤامرات قريش: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) القصص: ٥٦. وهذا يعني أن من أراد الهُدى فليتقرّب إلى الله بتدبر القرآن ليكون إيمانه مؤسس على قناعة، بدل اتباع فقهاء السلاطين باسم هدي النبي وسنته، لأن الرسول ترك في الناس رسالة السماء كي لا يضلوا بعدها أبدا، ولا يبحثوا عن الحقيقة في سواها، ولم يفوض الفقهاء التحدث لا بلسانه ولا بلسان الله لقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: (تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله)، رواه مسلم  (رقم: ١٢١٨)، وأبو داود (رقم: ١٩٠٥)، وابن ماجة (رقم: ٣٠٧٤)، وابن أبي شيبة (رقم: ١٤٧٠٥) وابن حبان (رقم: ١٤٥٧)، والبيهقي (رقم: ٨٨٢٧)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (رقم: ٤١)، وكلهم ذكروا الوصية بكتاب الله فقط دون سواه. غير أن فقهاء آخرين كالترمذي (رقم: ٣٧٨٦)، والطبراني في الأوسط (رقم: ٤٧٥٧) أضافوا من طريق زيد بن الحسن عن جعفر بن محمد عبارة: (وعترتي أهل بيتي). ثم جاء الحاكم في "المستدرك" (رقم: ٣١٨) ليضيف من طريق إسماعيل بن ابي أويس عبارة أخرى تقول: (وسنة نبيه)، وهو أمر حقا غريب أصبح له نتائج كارثية تخدم السياسة على حساب الدين في خطبة سعى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لتكون وصيّة توحد المسلمين بعده على كتاب الله لا أن تفرقهم شيعا ومذاهب باسم سنّته.

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مدركا أن الشريعة شأن من شؤون الله، وأن القوانين المنزلة لتطبيقها لا يمكن أن تخضع لآراء الفقهاء، بل لإجماع الأمة أو "الشرع الجماعي" الذي يأخذ بالمقاصد العليا للشريعة ويُنزّلها على الأرض من خلال قوانين تنظيمية وإجرائية وقتيّة تهدف إلى تحقيق العدل والمساواة بين الناس وفق ظروف الزمان والمكان ومستجدات الأحداث، وهذا هو الهدف الأساس من الشريعة، أي تحقيق العدل، وهذا بالضبط ما يميز الإسلام بمراحله المختلفة من نوح إلى محمد هبوطا، مرورا بكل الأنبياء والرسل عليهم السلام جميعا، لأن كل مرحلة تاريخية تتطلب تشريعا يناسبها، شريطة ألاّ تحيد القوانين عن المقاصد العليا للشارع الذي هو الله.

وإذا كان للمسلمين أن يقوّموا حصيلة تطبيق شريعة الفقهاء منذ عصر التدوين إلى اليوم، فسيصلون إلى نتيجة نهائية حاسمة مفادها، أن لا عدل تحقق ولا حرية ولا مساوات ولا أمن ولا سلام ولا تقدم ولا ازدهار برغم ما حباهم الله به من خيرات ومقدرات ومن نور يهتدون به في الأوقات الحالكة.

وهو ما يطرح سؤال العقل الذي يقول: - هل المشكلة في الدين وفق ما يعطيه القرآن من فهم، أم فيما يقول الفقهاء أنه عين الدين الذي قالت به السنة؟

- ألا تكفي خمسة عشر قرنا عاشها الناس في ظل الفساد والاستبداد والجهل والفقر والتخلف ليستفيقوا اليوم من الوهم؟

- أو ليس من الغباء أن تكرّر السنة نفس أخطاء الماضي عند الحديث عن المراجعة والتجديد، وهي تعتقد في كل مرة أنها ستصل إلى نتائج مختلفة؟

هذا فيما نجد أن فقهاء القانون في أكبر دولة في العالم "الولايات المتحدة الأمريكية"، فهموا بالعمق المطلوب ما أراد قوله تعالى في قرآنه لتحيق العدل والمساوات بين الناس، فعلّقوا على حائط أعرق كلية للحقوق بجامعة هارفارد، الآية ١٣٥ من سورة النساء التي تقول: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا).

ومعنى المعنى، أن ما ورد في هذه الآية الكريمة هو عين الشريعة وجوهرها، ويؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن تحقيق العدالة لا يمكن أن يتم إلا من خلال تطبيق هذا المبدأ القرآني العظيم بفضل الشرع الجماعي، لأن من يطبق الشريعة هم الناس لا لصوص الدين بسيف الحاكم تنفيذا لمبدأ "يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".

اليوم لم يعد الناس خرافا يحتاجون لمن يسوسهم في مزرعة الراعي بكلاب حراسه وذئاب مخابراته بزعم حماية أمنهم الروحي، لأن المجتمعات تطورت وأصبحت قادرة على التمييز بين الخير والشر، بين الخطأ والصواب، بين الحق والباطل، بين الفضيلة والرذيلة، بين الظلم والعدل ... وتعرف مصالحها أكثر بكثير ممّن يسوسونها بالقهر لحساب أسيادهم في عواصم الغرب، وبالتالي، لم تعد بحاجة لرجال دين يسنّوا لها قوانين تنتمي لثقافة القبور. بدليل أن الله لم يعد يبعث نبيا أو رسولا بعد أن تطورت الإنسانية وأصبحت المعرفة هي النور الذي تهتدي به في كافة مجالات حياتها.. ومن يزعمون أن الأمة تعيش اليوم عصر الجاهلية الأولى، وأنها بحاجة إلى إعادة الخلافة للعيش في كنف الشريعة هم لصوص الدين وتجار الفتاوى من الجماعات السياسوية التي انكشف أمرها وبان تآمرها على الإسلام والمسلمين منذ غزو العراق على أقل تقدير، مرورا بحرب لبنان، فتدمير ليبيا، وخراب سوريا والعراق واليمن، ولم يعد يصدقهم إلا غبي أو متخلف عقليا، لأن الدين لا يمكن اختزاله لا في الدولة، ولا في المذهب، ولا في الحزب، ولا في الجماعة، وكلما حدث ذلك إلا وتحوّل إلى إيديولوجية مغلقة.. هذا ما يقوله درس التاريخ.

إن المعضلة الكبرى في واقع أمتنا اليوم، تكمن في وعينا باختلاف مستوياتنا ومشاربنا بأن أصل أزمة العقل وأزمة الفكر في المجتمعات الإسلامية سببها فقهاء السلاطين ودعاتهم الذين يحتكرون المجال الديني ويسيطرون على المنابر في المساجد والفضائيات لتضليل الناس، والدفاع عن نفس المنظومة السنية القديمة التي أنتجت الجهل والتخلف والاستبداد والفساد باسم الاعتدال والوسطية اللذان يعنيان نزع الروح الثورية عن الإسلام وتحويله إلى مجرد طقوس شكلية بلا معنى ولا روح. 
والحل لا يكون إلا بثورة فكرية تقتحم المجال الديني بقوة وشجاعة من قبل كل مسلم غيور على دينه ومصيره ومستقبل أمته، سواء كان عالما، أكاديميا، مثقفا، أستاذا، معلما، طالبا، فنانا، تقنيا، أو مُتنوّرا، لأن الإسلام لم يجعله الله حكرا على المؤسسات السلطوية واللاهوتية، بل جعله دينا مشاعا بين عباده كافة حين طالبهم بالقراءة في مدرسة الله استعداد للجهاد الأكبر ضد أعداء الدين، من فراعنة مستبدين، وفقهاء منافقين، ومرتزقة مُخرّبين، وكل من يسعى لاستغلال الدين من أجل أهداف مشبوهة، أو يتربص به لإطفاء نور الله، لقوله تعالى: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) الفرقان: ٥٢، في إشارة إلى القرآن الكريم.
وأصل الجهاد المجاهدة التي تكون ببذل الجهد والطاقة لتبيان حقائق القرآن وحججه، بهدف رفع حجب الغفلة والجهل عن عقول الناس وقلوبهم، إظهارا للحق وإتماما للحجة، ما دام الله تعالى جعلنا أمة وسطا لنكون شهداء على الناس وليكون الرسول علينا شهيدا، ومن باب أولى أن نبدأ بالشهادة على أنفسنا.
وغير خاف على كل مسلم اليوم، أن الاختلاف المذهبي الذي سوّق له لصوص الدين باعتباره رحمة، قد تحول في الواقع إلى جحيم من التعصب الطائفي وساحة خصبة استغلها الأعداء لتفجير الفتن بين أبناء الأمة، ما زاد من تعميق الفرقة بينهم، وحال دون تحقيق الوحدة التي أمر بها الله وأوصى بها رسوله الكريم كي لا ينفرط عقد الأمة ويذهب ريحها كما هو حاصل اليوم، وسبب ذلك كما أسلفنا، يعود لترك المسلمين القرآن وراء ظهورهم والتمسك بثرات السلف بديلا عنه، وهذا هو معنى قول الرسول لربه يوم القيامة إن قومه تركوا هذا القرآن مهجورا.. فأين نذهب من هنا؟
وأي غباء هذا حين نرى المسلم يكفّر أخاه المسلم، بل ويذبحه ويغتصب عياله وينهب ماله ويدمر مقدراته، لا لشيء سوى لأنه يفكر بطريقة مختلفة عنه أو يعتنق مذهبا غير مذهبه، ضاربا عرض الحائط وصية الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع التي قال فيها (لا تتحوّلوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)، ولذلك أوصاهم بالتمسك بكتاب الله لتجنب مثل هذه السقطة المدمرة التي سببها الخلاف الذي أنتجته السنة تحديدا.
وأي حوار ينفع مع مثل هذه العقول المقفلة التي انزلق أصحابها هذا المنزلق الخطير بسبب ما رضعوه من التراث فشكل لديهم ثقافة الكراهية والتعصب والتطرف، فوقعوا في الكفر الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصبح بعضهم يضرب رقاب بعض؟ .. والأخطر هو الصمت المريب أمام هذه الظاهرة الخطيرة الذي نلحظه لدى الأنظمة الرجعية المتآمرة والفقهاء المنافقين والمثقفين الصامتين إلا من رحم الله، وكأن بقاء الأمة بالنسبة لهم يتجسد فقد في الطقوس الشعائرية التي تحولت إلى ممارسات بروتوكولية بلا روح ولا خشوع ولا عمق ولا معنى، لأنها لا تجدد إيمان ولا تحرك ضمير ما دام أصحابها يتلون القرآن للتبرك بلا فهم يترجم إلى عمل صالح ينفع الناس في تجربتهم الأرضية. حتى صار العرب بتعبير المرحوم محمود درويش "عابرون في كلام عابر"، وتحوّلوا من فاعلين زمن الإيمان إلى مفعول بهم وفيهم زمن الهزيمة والاستسلام.. هذا فيما الآيات حبلى بالمعاني تنتظر من يولّدها فلا تجد من مغامر مبدع يقوم بذلك.
ليس المهم في الدين أن يخطأ الإنسان في الفهم، بل المهم ألا يستسلم للجهل ويصرّ على المعرفة، لأن تجديد نور الإيمان لا يكون بالخطابات الرنانة من على المنابر، بل بالوعي من خلال الشعور العميق بالمعنى الذي يتحول إلى طاقة فعّالة مولدّة للتغيير، بهذه الطريقة فقط تتحول الكلمة من مفردة صامتة إلى معنى متفجّر يترجم فعلا نافعا.
إن الدارس الموضوعي للقرآن الكريم، ينتهي به الحال لا محالة، إلى أن الدين شأن خطير، عليه تتوقف تجربة الإنسان في الحياة الدنيا، وبه يتعلق مصيره في الآخرة. ولأن ليس للإنسان إلا فرصة واحدة لاجتياز الاختبار هي هذه الحياة الدنيا، فإن أي تساهل مع لصوص الدين يؤدي حتما إلى ضياع الدين وضياع الإنسان. وفي هذه الحالة تكون الخسارة مضاعفة في الدنيا والآخرة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق