بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 26 أكتوبر 2018

الإنسان بين الجبـــر وحرية الاختيار (3/1)


"وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر" محيي الدين ابن عربي
كيــف نحصــل علـى المعرفـــة الدينيـــة؟
هناك بعض القضايا الدينية الشائكة والخارجة عن مجال المألوف “التفكير فيه” من قبل العامة، لكنها تطرح على الباحث الذي يسعى إلى التنوير من وجهة نظر معرفية تحديات جبّارة تتجاوز قدرة العقل على فهمها بأدوات القياس المعهودة، ما يتوجب حتما الاستعانة بالحدس (Intuition) بمعناه الإيجابي الذي يعني (الحاسة السادسة) التي تستمد فهمها للأمور من نور القلب لا الظن والتخمين، وذلك لمعرفة الحقيقة بيقين كما يحثنا على ذلك الله تعالى، كي يتسنى لنا أن نسمّيها فيما بعد “تجربة معرفية”، ونقدمها للناس لتحررهم من جهلهم ومن نير عبودية الإقطاع السياسي والديني../...


كل “تجربة” في الحياة مهما كبر أو صغر شأنها هي مصدر معرفة، ومن دون تجربة لا معنى لوجودنا، لأن غاية الله من خلقنا هي “العبادة” بمفهومها الشامل الذي لا يقتصر على الطقوس فحسب، بل على المجاهدة في إطار نظام اجتماعي عادل وقوي يُؤمّن لأفراده  الحرية والكرامة من أجل الاستمرار والتطور. والتجربة بما هي مغامرة معرفية تنقلنا من مستوى إلى آخر في سلم الكمال الإنساني، فتقربنا إلى معرفة أنفسنا أولا، ومعرفة الآخر ثانيا، لمعرفة الله أخيرا أكثر فأكثر.
وبهذا المعنى، تطرح ثنائية “الجبــر والاختيار” معضلة حقيقية بحجم سؤال الوجود والمصير. ومعالجة هكذا ثنائية لها وجه ظاهر هو الإنسان ووجه باطن هو الله الذي يتحكم فيه ويسيّره بإرادته ووفق مشيئته، ما يجعلنا من حيث نريد أو لا نريد نغوص في المطلق، أو ما كانت الفلسفة القديمة تسمّيه بما وراء الطبيعة “الميتافيزيقا”، في حين أثبت العلم اليوم، وقبله الفكر الصوفي، أن لا وجود لشيء اسمه “ما وراء الطبيعة” غير جهل الإنسان وغبائه كما قال العالم أينشتاين. وهذا هو ما يعطيه المعنى العميق للشهادة "لا إله إلا الله"، والتي تعني حرفيا، أن الكون من عرشه إلى فرشه هو الله وحده دون سواه، ولا وجود لشيء معه أو من خارجه على الإطلاق.
هناك من يعتقد من الفقهاء أن الجمع بين العقل والشرع، العلم والإيمان، التنزيه والتشبيه، الوحدة والكثرة، الظاهر والباطن، الجبر والاختيار… وكل الثنائيات القائمة في عالم التناقضات هي صيغة تلفيقية لحل معضلة الثنائية بإلغائها لصالح الوحدة، ويعنون بذلك نظرية “وحدة الوجود” أو “العالم بين الوحدة والثنائية” أو معادلة “الله – الإنسان – العالم”. هذا غير صحيح بالمرة، بل العكس تماما، لأن القدرة على الفهم والإدراك في إطار الثنائية تخضع صاحبها لمنطق الحصر والتحديد والتقييد، فلا يستطيع فهم ما هو أبعد من الإطار الذي وضع نفسه فيه من حيث يدري أو لا يدري، في حين أن جمع “الثنائية” في “الوحدة” لا يلغيها، بل يجعل الفهم يرقى لمستوى تعجز اللغة البشرية المحدودة عن شرحه بالكلمات والتعابير المعهودة. لأن الوسيط الوحيد الممكن لمعرفة الحقيقة في هذه الحالة هو القلب، بمعنى جوهر الإنسان العاقل لا العضلة التي تضخ الدم في الشرايين.
ولأن لكل ثنائية جانبان أو وجهان مختلفان لحقيقة واحدة، فلا يمكن تجاهل أحد الجانبين وإلا لن نتمكن من معرفة الحقيقة الواحدة في كلّيتها. بمعنى أنه في حال ثنائية “التنزيه و التشبيه” مثلا، لا يمكن فهم جانب “التنزيه” دون البحث في جانب “التشبيه” لتكتمل الصورة وتتبين الحقيقة الواحدة، وهذا هو معنى “وحدة الحقيقة” التي يرفض الفقهاء الخوض فيها لسبب بسيط، وهو أن مثل هذه المعالجة المعرفية الدقيقة والعميقة لا تتم إلا من خلال قلب العارف الذي هو عرش الرحمن الجامع لكل ثنائيات الوجود، لا من خلال النظر العقلي الجزئي العاجز عن إدراك الحقيقة في كلّيتها ويحكم عليها بما يعطيه ظاهرها من تفسير، فما بالك إذا كان الفقيه “العالم” يعتمد منهج “النقل” لا “العقل”، وليس له من العلم إلا التّسمية؟.
فمثلا، الفرق بين صاحب “البصيرة القلبية” وصاحب “النظر العقلي” في فهم “الاستواء على العرش”، هو أن صاحب النظر ينتقل من شرح “الاستواء الجسماني” عن “العرش السلطاني” بالتنزيه الذي يجده كمخرج للهروب من معضلة الغموض، لأنه لا يستطيع أن ينسلخ عن المعنى اللغوي الظاهر الذي تعطيه كلمة “استواء” وكلمة “عرش”. وبذلك يكون كمن انتقل من صورة “العرش السلطاني” التي يعرفها في مخيلته إلى صورة “العرش الإلهي” التي لا يدركها، لكنه يتصورها على نفس شاكلة “العرش السلطاني” فيقيس عليها، لكن بمستوى أو رتبة أعلى ليميّزها.. هذه هي طريقة الفقهاء في شرح الأمور استنادا إلى القياس. وهو ما أسقطهم في ورطة لا يمكن وصفها إلا بالفضيحة، بسبب أن فقهاء الرسوم تقيّدوا دائما بمقولة “التجسيد” التي قال بها السلف حين اعتبروا أن لله أعضاء كالبشر من يد وساق وعيون وآذان وغيرها، فاستعصى عليهم فهم “الاستواء” من خارج التصور المعهود الذي يعطيه مفهوم “التجسيد”، والذي هو أقرب لفهم العامة والدهماء وسواد الأمة حسب تعبيرهم.
وكونه تعالى نبّهنا في شأن الاستواء على العرش بقوله: (فاسأل به خبيرا)، فذاك لأن الخبرة هنا تعني “المعرفة القلبية” من حيث هي تجربة روحية، أي معراج إلى الله، لا الفهم الظني المبني على القياس. ومن يعتمد أدوات هذه المعرفة يصله نور الحقيقة فيعرف معنى “الاستواء”، لأن قلبه كان عرشا لاستواء القرآن الذي غمره بنور الرحمن، فأدرك معنى “الاستواء على العرش”، والذي يعني: أنه بعد خلق السماوات والأرض والإنسان، استوى الله على عرش الكون بالمفهوم المجازي الذي يعني “الحكم” و “التدبير” و “حفظ التوازن” في كل شيء من خلال “الأمر” الذي أودعه تعالى في كل شيء، والذي هو في أصله “نور” لا تدرك طبيعته لكنه يعرف فقط بالقلب. لذلك قال تعالى (هو بكل شيء محيط) لتقريب فهم صورة النور الرحماني المحيط بكل شيء في الكون.
فمثلا، نجد فقيها كبيرا بحجم الإمام ‘مالك’ واضع المذهب المالكي حين يسأل عن معنى "الاستواء" يقول: “الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة” (هكذا)، إنه بدعة في رأي الإمام المالك ضدا في وقوله تعالى (فاسأل به خبيرا). هذا أنموذج من بين نماذج أخرى كثيرة يلجأ إليها فقهاء الرسوم للتخلص من عجزهم ومحدودية فهمهم وإدراكهم، والإصرار على الهروب إلى الأمام كلما واجهتهم معضلة معرفية لا يقدرون على فك رموزها، فيلجؤون للمعهود من الصور الموجودة في عقل البشر للبناء عليها في حل المعضلة مؤقتا، إلى أن تنفجر الحقيقة بعد حين، بفضل تطور العلم العقلي والمعرفة القلبية في تكامل يكاد يكون بنيويا بينهما، أو إن شئت قلت "العلم والإيمان".
انظروا إلى فلاسفة العصر الحديث الكبار في الغرب اليوم، لم تعد الفلسفة تهتم بما وراء الطبيعة منذ أن وجّهت اهتمامها إلى مجال المعرفة زمن ديكارت بفضل مذهب الشك الذي وضع أسسه العلمية الإمام أبو حامد الغزالي بأربعة مائة سنة قبل ديكارت ونقلها عنه الأخير بحذافيرها ونسبها إلى نفسه في تعد واضح على حقوق الملكية الفكرية.. وبفضل هذا المنهج اكتشفوا اليوم أن العقل لا يؤدي وحده إلى معرفة الحقيقة في شموليتها، فأخذوا عن علماء مسلمين كبار مقولاتهم الروحية التي شكلت النواة الأولى للفلسفة الإسلامية التي أجهضت في مهدها من قبل الإقطاع، حتى لا يسقط المعبد ويفتضح أمر الكهنة وحراس العقيدة.
لأنه إذا كان العقل يشتغل بالاستعانة بمخزون التصورات في الذاكرة، فإن القلب هو مكمن التصورات الحسية التي تُولّد لنا الإدراك بحقيقتها باعتباره (أي القلب) يمثل “الوسيط” الضروري والوحيد القادر أن يسع الحقيقة في إطلاقها ولا تحدُّدها لسبب بسيط جدا، وهو أن الله اختاره ليكون عرشا له، وفق الحديث القدسي المشهور الذي يقول فيه لنبيه داود عليه السلام: (يا داود، خلقت الكون فلم يسعني، ووسعني قلب عبدي).
والقلب كما تُعرّفه الحقيقة الدينية المتفق عليها بين جميع المؤمنين، هو بيت الرحمن وعرشه، لأن الله رحمة ومحبة وجمال، ومن يسكن الله قلبه يغمره نور الإيمان والبصيرة فيشعر بالسعادة والطمأنينة، ومن لا يسكن الله قلبه يتحول إلى عرش للشيطان مسكون بالحقد والبغضاء والكراهية والجهل والظلام. وقد استند ‘محيي الدين ابن عربي’ في تعريفه للقلب على نفس الحديث القدسي المشار إليه أعلاق فقال: “ولمّا خلق الله أرض بدنك جعل فيها كعبة، وهو قلبك، وجعل هذا البيت القلبي أشرف البيوت في المؤمن، فأخبر أن السماوات وفيها البيت المعمور، والأرض وفيها الكعبة، ما وسعته وضاقت عنه، ووسعه هذا القلب من هذه النشأة الإنسانية المؤمنة، والمراد هنا بالسعة، العلم بالله سبحانه” (الفتوحات المكية: ج 3 / ص: 250).
وحيث أن أصل المسألة التي نحن بصدد بحثها تحت عنوان: “ثنائيــة الجبــر والاختيار”، تتعلق بالتجربة الأرضية التي قبل الإنسان طوعا لا كرها بخوضها، بدليل قوله تعالى (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) الأحزاب: 72. وهذا العرض كما سبق القول تم في عالم الذر، وعلى أساسه أخرج الله الإنسان من العدم إلى الوجود.
وحيث أن ثنائية “الجبر والاختيار” هي علاقة تعاقدية قائمة بين الله وعباده بموجب العهد أو الميثاق الغليظ الذي ورد في آية الميثاق: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف: 172، فإن السائد من الفهم لدى الناس في هذا الصدد، هو أن سبب وجود الإنسان في الدنيا يعود لواقعة العصيان التي حدثت في عالم الغيب وتقرّر على إثرها “معاقبة” الإنسان بطرده من الجنة إلى الأرض، وحرمانه من حياة الخلود بسبب ما عرف في المسيحية بـ "الخطيئة الأصلية” أو عند المسلمين بـ "معصية آدم”، فالفريقان وإن كانا يستندان في تعريفهما للعلّة الأولى بالنص المقدس، إلا أنهما يختلفان جملة وتفصيلا حول “الرؤية”.. ونقصد بذلك رؤية الله للحق والخلق من جهة، ورغبة الإنسان الغريزية في الخلود التي دفعته إلى ارتكاب المعصية بإغواء من الشيطان.

فــي معنــى “الخطيئـــة الأصليـّــة
في الوقت الذي تعتبر فيه الكنيسة أن “الخطيئة الأصليّة” هي عقيدة مسيحية لا يصح الإيمان من دونها، يتساءل العديد من المؤمنين، إن كانت “الخطيئة الأصليّة” حقا من “العقيدة”؟ لأنه لم يرد بها نص في الكتاب المقدس، لا في العهد القديم ولا الجديد، وأن ما بنت عليه الكنيسة “عقيدتها” هذه إن صح التعبير، هي تعاليم الرسول ‘بولس’ في روما (21-5:12)، و’ كورنثوس' الأولى (15:22)، وضمنيا ما ورد بالرمز والإشارة لا بصريح العبارة في مقاطع من العهد القديم مثل ‘مزمور’ (51:5 و58:3). الأمر الذي حوّل معصية آدم إلى “خطيئة” تتحمّل عبئها كل البشرية عن طريق الوراثة، حيث تنتقل ضدا في عدل الله، من السلف إلى الخلف.
وتعتبر الكنيسة، أن الموت الجسدي جاء كعقاب لآدم على ارتكابه هذا الفعل الشنيع، أي تم نزع الخلود الجسدي عنه في الجنة، وأن على أبنائه أن يتحملوا وزر ذنبه وأن يتطهّروا من الخطيئة من خلال تطهير الجسد والروح في الكنيسة. أما حواء، فقد عاقبها الرب بأن جعلها تعاني آلام الطمث والحمل والولادة والرضاعة والتربية، وجعل الرجل عليها سيّدا، وهذا الاعتقاد يتناقض جملة وتفصيلا مع التشريف العظيم الذي خص به تعالى مريم العذراء، هذا علما أن من قام بغواية آدم وحواء سواء هو الشيطان مستغلا الضعف الغريزي الذي هو من طبيعة تكوين الإنسان (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم) يوسف: 53. والفرق الذي يميزهما هو العقل الذي سنأتي على شرح كنهه على ضوء ما وصل إليه العلم البيولوجي الحديث من نتائج مدهشة.
هذا الأمر، وإن لم يكن له علاقة بالعقيدة الدينية المسيحية الحقيقية، بدليل أنه في اليهودية والإسلام لا وجود لشيء اسمه “الخطيئة الأصليّة” ولا يعقل أن يتحمل الأبناء خطايا الآباء، لقوله تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة) المدثر: 38، وقوله أيضا: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) البقرة: 134، ونفس هذه الآية تكررت بمفرداتها وصيغتها في الآية 141 من نفس السورة، ليتبين أن هدف الكنيسة من تشريع هذه العقيدة، لم يكن خدمة الحقيقة الدينية، بقدر ما كان الهدف تدجين الناس خدمة للإقطاع وسعيا وراء جمع الثروة، وذلك من خلال القول أن “لا خلاص للإنسان من خارج الكنيسة”، وقصة صكوك الغفران وبيع قصور وحدائق غناء في الجنة للأثرياء في عصور الظلام معروفة، حتى تحولت الكنيسة إلى أغنى مؤسسة في أوروبا.. فجاءت الثورة الفرنسية لتصوّب هذا الوضع الشاذ عندما انتفضت ضد رجال الدين لا الدين كما يعتقد خطأ عديد الباحثين الإسلامويين، وهي الثورة التي أنهت عصر الجهل والكهنوت الديني والإقطاع السياسي حين رفعت شعار: “يجب صلب آخر ملك إقطاعي بمصران آخر كاهن منافق”. والشعار مجازي طبعا.
لن ندخل هنا في الجدل الذي أثير حول “من أغوى من في الجنة؟”، ففي حين تعتبر اليهودية كما المسيحية أن الثعبان هو الذي حرّض ‘حواء’ على إغواء ‘آدم’. ويستفاد من نصوص “العهد القديم”، أن الثعبان هو رمز للشيطان (انظر الرؤيا 20/2)، إلا أن الكنيسة المسيحية تعتقد أن الثعبان هو دابة حقيقية، حيث يتحدث “سفر التكوين” عن حية حقيقية وليس عن معنى مجازي، فقد وصف الحية بأنها من البهائم بقوله: “الحية أحيل جميع حيوانات البرية”، وقال عنها أيضا: “ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين”. هكذا عاقب الرب الثعبان أيضا فجعله يسعى في الحياة الدنيا على بطنه من وجهة نظر الكنيسة.
أما من وجهة نظر الموروث الإسلامي، وهذه حقيقة مؤلمة لكنها كاشفة، فنجد أن من احترفوا التفسير، لم يحاولوا البحث عن الحقيقة في آيات القرآن الكريم والوقوف على ما ورد بها من رموز وعلامات تساعد على معرفة ما جرى، بل سارعوا إلى الاستنجاد بثرات أحبار اليهود، فتحدثوا عن مسؤولية ‘حواء’ في إغواء ‘آدم’، بسبب وسوسة الشيطان الذي تحوّل إلى ثعبان ليدخل الجنة متخفّيا (؟؟؟) وكأن الله كان غافلا بحيث نجح الشيطان في دخول الجنة على شكل ثعبان من دون أن ينتبه له سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.. هذا مشهد سريالي ينم عن جهل حقيقي بالله تعالى، وغيره كثير من المشاهد العجيبة والغريبة التي أثّثت العقل الإسلامي القديم، على غرار أن الله خلق المرأة من ضلع آدم الأعوج وجعلها نجسة وخلافه، عملا بحديث منسوب للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول: (خذوا من بني إسرائيل ولا حرج)، فأصبح لنا ثرات يتقاطع في قناعات كثيرة مع معتقدات اليهود الخرافية والمغرضة في حق المرأة التي خلقها الله مثل الرجل من نفس واحدة، وجعلها مكلّفة ومسؤولة على حد سواء، وورث عنها الرجل الجانب العاقل، أي الغشاء الدماغي الأمامي الذي هو مستودع التفاعلات الاجتماعية والخبرات والمعارف الفردية ومركز اتخاذ القرارات والميزان الذي يميز به الإنسان بين الخير والشر وفق ما أكده اليوم علم بيولوجيا الدماغ الذي سنأتي على شرح آخر اكتشافاته في سياق هذا المبحث. أما الضلع الذي ينسب لآدم، فهو في الحقيقة تعبير مجازي عن انقسام الخلية الأولى إلى ضلعين (ذكر وأنثى) لقوله تعالى (يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) النساء: ١، وهي الآية التي تكررت بسياقات مختلفة في سورة الأنعام: ٩٨، وسورة الأعراف: ١٨٩، وسورة الزمر:٦. والتي تفيد جميعها "الواحد الكثير والكثير الواحد" بتعبير الصوفية، أو أصل الأنواع بالتعبير الدارويني الذي أكدت وجاهته اليوم بحوث جينولوجيا الحمض النووي بتوصلها إلى وضع خريطة الجين البشري والنمط الجماعي للجنس الواحد الذي ينتمي إليه البشر جميعا، وهي مكونة من ٢٠ مجموعة أرقاها هي المجموعة الإبراهيمية المشار إليها بالرمز (J1) التي يتشارك فيها العرب واليهود من بني إسرائيل على حد سواء، وتعود جميعها إلى الخلية الأولى التي جعلها الله تعالى أصل الحياة، وهو ما يؤكد أن الله سبحانه وتعالى ليس بساحر خلق الإنسان بعصى سحرية كما يعتقد فقهاء القشور، بل جعل لكل شيء نشأة أولى وأخضعها لصيرورة التطور والرقي وفق قواعد علمية دقيقة.

وللإشارة فداروين لم يقل أبدا أن الإنسان ينحدر من قرد كما اتهمه بذلك الإسلامويون، بدليل أن كتابه عن "أصل الأنواع" لا يوجد فيه كلمة واحدة عن ذلك، وما قاله بالتحديد هي العبارة التالية: "ومما يؤسف له أنه لا توجد لدينا بقايا عظام القرود البائدة". والحقيقة أن من قال بأن الإنسان ينحدر من قرد هو العالم فريدريك أنجلس في كتابه "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"، وهو بحث يهتم بمتحد الوجود البشري والتشابه بينه وبين متحد القرود القديمة المنقرضة، وقد أثبتت البحوث العلمية حول الجينولوجيا البشرية استحالة أن يكون البشر ينحدرون من فصيلة القرود العليا، وبالتالي، فمن اتهم داروين بزعم ذلك لم يقرأ كتابه وتفاعل بعاطفة مع ما سمعه عنه من إشاعة. وهذا موضوع سنعالجه بإسهاب في باب "الخلق بين الدين العلم".


فـي البــدء كــان الســـؤال (؟)
والسؤال الذي يطرحه العقل على الدين في موضوع الجبر والاختيار الذي يهمنا هنا هو: – هــل عصــى آدم ربـــه؟ كيف؟ ولماذا؟
القرآن يقول بصريح العبارة نعم: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) طه: 121. و “الغــيّ” هو خلاف “الرشد” الذي يعني الصواب، وهو غير الضلال الذي يعني التيه والخروج عن الطريق، ويقابلهما الهدى الذي يكون بمعنى الإرشاد، أي الإشارة إلى الطريق والهداية إلى السبيل. والغيّ وإن كان فسادا إلا أنه لا يفسر بالضلال.
إلى هنا لا اختلاف، وكلنا على يقين بأن آدم عصى ربه وفق ما أخبرنا به القرآن، لكن السؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: – هل هذه المعصية كانت لأمر “تكويني” في أصل الخلق، أم لأمر “تكليفي” كما هو الشأن بالنسبة للعبادات، أم لأمر “إرشادي” كما هو الحال في المعاملات؟ .. لأنه من دون معرفة طبيعة الأمر لا يمكن الحكم على نوع المعصية التي ارتكبها آدم، لمعرفة إن كانت هذه المعصية بإرادته أم بأمر خارج عن إرادته.
وهنا اختلف المفسرون، وذهبوا مذاهب عديدة لا تستقيم مع “رؤية الله للحق والخلق”. فالإمام ‘الطبطبائي’ (شيعي) مثلا، ذهب في تفسيره لهذه الآية (الميزان في تفسير القرآن) إلى أن: “المعصية كانت لأمر “إرشادي” لا “تكليفي” باعتبار أن الأنبياء (عليهم السلام)، معصومون من المعصية والمخالفة في أمر يرجع إلى الدين الذي يوحى إليهم من جهة تلقيه فلا يخطئون ولا ينسون ولا يحرفون، ويبلغونه إلى الناس بأمانة فلا يقولون إلا الحق الذي أوحي إليهم، وحيث أن فعلهم لا يخالف قولهم فهم لا يقترفون معصية صغيرة ولا كبيرة".
هذا كلام إنشائي جميل، لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن بالمناسبة هو: - هل كان آدم نبيا؟ .. لأن الله لا يبعث نبيا إلا لقومه ليذكرهم برسالة الرسول الذي سبقه، أي بالشريعة التي جاء بها من سبقه من الرسل وفق ما يفيد مصطلح الرسالة بالمفهوم القرآني، والنبي لا رسالة له، أي لا شريعة له، وآدم ساعة نزوله مع حواء لخوض تجربته الأرضية لم يكن له قوم ولا ذرية، خصوصا وأن الله أهلك كل الآدميين من فصيلة البشر التي كانت تسفك الدماء وتفسد في الأرض من قبل، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، (قبل آدم كان هناك ألف ألف آدم). وبالتالي، فاختيار آدم من فصيلة البشر التي انقرضت ونفخ الله الروح فيه كانت بداية ظهور الإنسان الأول العاقل، أو ما اصطلح العلم على تسميته بـ "هومو سابينس"، ومهمته الأساس كانت إنجاب ذرية جديدة من صلبه تعبد الله وتعمر الأرض، وكل ذلك كان وفق مخطط يخضع لرؤية الله للحق والخلق، ولا مكان لإرادة الإنسان في ذلك.
وعلى هذا الأساس نستطيع القول، أن لا علاقة بين ما تحدث عنه الإمام ‘الطبطبائي’ مع احترامنا لاجتهاده، والأمر “الإرشادي” أو التكليفي”، لأن القضية في جوهرها تتعلق بأمر “تكويني” في أصل الخلق وضعه تعالى ضمن المنظومة الحوفية التي تتضمن المكونات الدماغية المسؤولة عن سلوك الإنسان الغريزي اللاإرادي، كالحاجة إلى الغذاء والجنس وحفظ الذات والتربية لحفظ النوع والدفاع عن النفس طلبا للأمن، وليس للإنسان في ذلك من إرادة ولا اختيار، لأنها غرائز مشتركة بين الإنسان والحيوان سواء.
أما ‘القرطبي’ (سني مالكي)، في تفسيره لهذه الآية (الجامع لأحكام القرآن)، فيستند إلى حديث ذكره الصوفي العراقي ‘الجنيد’ جاء فيه: “حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهم ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يخل ذلك بمناصبهم، ولا قدح في رتبتهم، بل قد تلافاهم، واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم؛ صلوات الله عليهم وسلامه. هذا أيضا كلام إنشائي جميل، لكنه لا يقدم علما ولا يفيد معرفة.
وبهذا، يكون غريق قد تمسك بغريق، فلا الجنيد صنف طبيعة معصية آدم من وجهة النظر المعرفية الصرفة، ولا ‘القرطبي’ قدم تصورا مقنعا لها من وجهة النظر الفقهية “السنية" التي يمثلها.
وقس على هذين الإمامين بقية التفاسير التي تزخر بها المكتبة الإسلامية باختلاف المذاهب والمدارس والتيارات الفكرية الأصولية أو “التقليدية” حتى نكون أكثر تحديدا، لما لمصطلح "الأصولية" من مفهوم قدحي في التعريف الغربي، وقطعا لن تفيدك مثل هذه التفاسير العجائبية في علم يذكر غير التكرار والاجترار والسباحة المتسكعة في الجهل من خارج سياق ومضمون النص المقدس الذي هو كلام الله.
لكن هناك حديث عجيب ومثير للاهتمام، ورد في صحيح مسلم، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ”احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال آدم له: يا موسى اصطفاك الله عز وجل بكلامه وخطّ لك بيده يا موسى، أتلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة فَحَجَّ آدم موسى ثلاثاً”. وحجّ هنا تفيد الغلبة بالحجّة.
وواضح من سياق الحديث أن آدم نفسه، كان يؤمن بأن عصيانه لم يكن بإرادته وإنما استجابة غريزية لأمر قدره الله عليه أربعين سنة من قبل، أي في أصل تكوينه قبل الخلق. وبالتالي فلا إرادة ولا خيار له فيما حصل. ولولا ذلك، لحكمة إلهية بليغة، لما كان له أن يخرج من الجنة حيث السعادة والنعيم الدائم المقيم إلى حياة الكسب والشقاء من أجل البقاء، أي الاستخلاف التي خلق أصلا من أجله، لا استخلاف الله في الأرض الذي لا يصح ما دام الله حي حاضر دائم يدير ملكه في كل وقت وحين من دون أن تأخذه سنة ولا نوم، لأن الاستخلاف لا يكون إلا في حق الغائب، بل المقصود هنا هو خلافة فصيلة البشر القتلة والمفسدين الذين عمروا الأرض من قبل آدم العاقل فأبادهم الله وفق ما يستفاد من سؤال الملائكة: - أتجعل فيها من يسفك الدماء ويفسد في الأرض؟. لأنهم اعتقدوا أن آدم الذي اصطفاه الله من أرقى فصيلة بشرية بعد ملايين السنين من التطور ليجعل منه إنسانا، سيكون مثله مثل سلفه، ولم يدركوا أن باصطفائه ونفخ روح العلم والمعرفة فيه سيبدأ عهد جديد يتحول فيه هذا المخلوق بفعل التطور من بشر متوحش كالحيوان إلى إنسان عاقل (هومو سابينس) كما تؤكد أبحاث الحفريات الحديثة، وهو ما أشار إليه أيضا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله (قبل آدم كان هناك ألف ألف آدم) كما سبق القول، ما يؤكد أن تطور البشرية مرّ من خلال مراحل عديدة قدّرها العلماء بعشرين مليون سنة، فيما آدم الإنسان لم يظهر إلا قبل خمسة عشر ألف سنة (وفق تقدير العلماء)، وهي المفترة التي عرفت بمرحلة ما بعد الجنة.
ما نشير إليه هنا يتعارض كليّة مع رؤية الكنيسة ورؤية المؤسسة الدينية التي روج لها فقهاء الرسوم في الثقافة الإسلامية نقلا عن الثقافة اليهودية والمسيحية، لأن الذي ينقل ما قاله سابقوه لا يقدم معرفة بقدر ما يخلق مأزقا يكرّس الجهل.
وبالعودة إلى قضية المعصية، نجد أن القرآن كان واضحا بشأنها، حيث أرجع الله تعالى أصل مخالفة الأمر إلى نسيان آدم لعهد ربه، لقوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزماً) 20: 115. والمراد بالعهد الوصيّة. أما النسيان فمن طبع الإنسان جبله الله عليه وجعله من الأمور التي يغفرها تعالى بالدعاء، حيث ورد في سورية البقرة: 286 (ربنا لا تآخذنا إن أخطئنا أو نسينا).
أما “العزم”، فمعناه النيّة والقصد لقوله تعالى: (وإذا عزمت فتوكل على الله) آل عمران 159. أما العهد بالمعنى “الميثاقي” فلا يمكن أن يكون أمرا “إرشاديا” كما ذهب إلى ذلك الإمام الطبطبائي في تفسيره للآية 121 من سورة طه كما سبقت الإشارة. كما أنه لا يمكن أن يكون أمرا “تكليفيا” كما اعتقد غيره من المفسرين من مختلف المذاهب والمدارس الفكرية العتيقة، لأن الأمر التكليفي يكون رسولي في قضية التبليغ بواسطة، كأن يكلف الله رسولا بتبليغ رسالة إلى قومه، وهو ما لا ينطبق على حالة آدم في ظرفه وزمانه كما سبقت الإشارة.
وبالتالي، فالقياس هنا في غير محله، ويتضح ذلك جليا من خلال ورود كلمة “العهد” في سورة طه الآية: 115، والتي تعني أن الأمر “تكويني” بامتياز لارتباطه بالغاية من خلق آدم في الأصل وميثاقه مع ربه قبل أن يخرج من العدم إلى الوجود الأول في عالم الذر والأنوار السابق لوجوده المادي على الأرض، وهو ما يعني، أن الله لم يخلق آدم ليخلد في الجنة التي خرج منها بسبب إغواء ‘حواء’ كما يعتقد فقهاء الظاهر، ولا أنزله للأرض ليكون ملاكا، لأن لله ملائكة يسبحون بحمده ليل نهار ولا يعصون له أمرا، ولو حاول الناس أن يتحوّلوا إلى معصومين كالملائكة لدمّرهم الله جميعا وبعث فيها قوما آخرين يعصونه ثم يتوبون إليه، ذلك أحبّ إلى الله من تسبيح الملائك كما يؤكد الحديث القدسي المشهور ذلك.
لأجل ذلك، كرّم الله آدم الخطّاء وفضّله على الملائكة، ما أثار اعتراضهم بسؤالهم الاستنكاري الشهير: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)؟ البقرة: ٣٠. لاحظ أن الملائكة لم تقل (أتخلق فيها) بل قالت (أتجعل فيها). وهذا يعني أمرين هامين:
-       الأول: أن الملائكة لا يعلمون الغيب. يؤكد ذلك جوابه تعالى في نفس الآية: (إني أعلم ما لا تعلمون)، وهذا يعني أن الله اختار واصطفى آدم من فصيلة البشر بعد أن اكتمل تطورها الجسماني فنفخ فيها من روحه ليتحول من بشر حيواني بدائي متوحش إلى إنسان عاقل يستطيع خوض تجربته الأرضية الجديدة بالمعرفة وصولا إلى الكمال بعد أن يهذب نفسه وينقلها من مستوى (النفس الأمارة بالسوء) في مرحلتها الحيوانية البدائية، إلى مستوى (النفس اللوّامة) التي تحاسب صاحبها على تصرفاته وتقوّم أخلاقه، إلى أن ينتهي بها الحال في نهاية معراجها بأن تتحوّل بالصبر والتقوى والمجاهدة إلى (النفس الراضية المرضية)، وهي مرتبة الإحسان في سلم الكمال الإنساني، فيقول لها تعالى حينها: (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي) الفجر: (من 27 إلى 30). وهذه هي المحطّات الإجبارية الثلاث في طريق الخلاص التي يجب أن يقطعها كل إنسان في تجربته الأرضية الفردانية. 
-       الثاني: أن الجنة التي كان يعيش فيها آدم وحواء هي جنة الأرض لا السماء، لأن من أديم الأرض خلق الله آدم الأول (الخلية الحيوانية الأولى التي انقسمت وتكاثرت وتطورت عبر مراحل تقدر بملايين السنين) لقوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم تنتشرون) الروم: ٢٠، ومن هذا الانتشار للجنس البشري تم انتقاء الأرقى، أي آدم العاقل الذي نفخ الله فيه من روحه ليعقل ويتحول من بشر حيواني إلى إنسان مفكر ومنتج. وهذا الإنسان العاقل الأول هو الذي نسى أمر ربه فعصا فأخرجه من حياة الجنة التي كان يحياها بلا تعب إلى حياة السعي بالعمل والمجاهدة لتبدأ تجربة المعاناة الجسدية والمجاهدة العقلية في المغامرة المعرفية ليبلغ الرقي في أبهى صوره، ويستحق بذلك العيش الكريم في الأرض خلال حياته الدنيا وفي ملكوت السماء خلال حياته الأخرى.
ومن فقهاء الرسوم الذين يفسرون النص من ظاهر منطوقه، من يعتقد أن آدم ما كان له أن يعصى أمر ربه لو لم يتّبع الشيطان الذي فتنه وأغواه فتسبب في شقائه، وبالتالي يتحمل نتيجة فعله (أي الشقاء في الدنيا) بغض النظر عن مسألة التوبة والغفران. أما آخرون ممن تأثروا بالتفسير الغرائبي للقرآن، فيرون أن حواء هي التي غرّر بها الشيطان ابتداء فأغوت آدم بالأكل من الفاكهة المحرمة، وهو قول لا يسنده نص من قرآن، بل يفسر واقعة الغواية من منظور التوراة. لأن القرآن يحمّل مسؤولية الإغواء للشيطان بقوله: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين) البقرة: 36. والهبوط هنا جاء بمعنى النزول من مستوى العيش الرغيد إلى مستوى العيش الصعب، لقوله تعالى في سورة البقرة: ٦١: (واذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فان لكم ما سألتم)، وبالتالي لا علاقة له بالهبوط من السماء إلى الأرض، لأن الجسد الذي خلق من تراب الأرض يعود ترابا إلى الأرض ولا ينتقل منها إلى عالم الذر والأرواح النورانية، حيث الحياة هناك تتطلب خلقا جديدا وتكوينا بمواصفات مغايرة للبيئة الأرضية، لقوله تعالى: (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد) ق: ١٥.

أما الصوفية فلهم تفسير أكثر عمقا وتعقيدا. فبداية، هم يقولون إن قرار استخلاف آدم في الأرض لمن سبقه من البشر كان سابقا لخلقه ولحادثة معصية الأمر التي تسببت في خروجه وزوجه من الجنة كما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حول مجادلة موسى لآدم عليهما السلام، ويؤكد صحة فحوى الحديث النبوي ما جاء في الآية الكريمة المذكورة أعلاه (البقرة: 30). أي أن القرار اتخذه الله تعالى قبل خلق الخلق والعالم. وأن الشجرة التي نهاهم تعالى عنها ليست شجرة التفاح كما يُعتقد، لأن المعنى هنا مجازي، وأصل الكلمة وفق محيي الدين ابن عربي يعود إلى المشاجرة المشتقة من الشجرة كمثل العذوبة المشتقة من العذاب، وبالتالي، المشاجرة هي التي خلقت بداية الخلاف بينهما، وهو منشأ كل تفرقة وصراع وعداوة كما يؤكد ذلك التاريخ البشري، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: (وأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) البقرة: ٣٦.
وبهذا المعني يكون أمر الله بخلق آدم (أمرا تكوينيا)، سابقا لواقعة العهد التي جاءت بعد الخلق والتسوية والاصطفاء، وتكون واقعة عصيان آدم للأمر الإلهي، هي العلة الثانية التي مهّدت لتنفيذ إرادة الاستخلاف، باعتبار أن العلة الأولى هي معصية إبليس لربه برفضه السجود، وهي معصية سابقة لمعصية آدم. وهذا المعني يتساوق تماما مع ما ذهب إليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن مجادلة آدم لموسى عليهما السلام، ويؤكد صحته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق