بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 2 أكتوبر 2018

مناهج التفسير الحديثة (4/1)



 التاريخانية نموذجا

تمهيـــد

إذا كان الإنسان كيان تاريخي والتاريخ هو ما يصنعه بيده وفق التعريف المادي للتاريخ، فإن التاريخانية هي ذاك التطبيق العملي الذي يتعامل بواقعية مع كل ما هو تاريخي، والذي يمكن التحقق منه بأدوات النقد العقلاني، دون الخوض في كل ما هو غير تاريخي يدخل في مجال الغيبي (الخيالي)، أو الأسطوري (الميثي)، أو المثالي (الطوباوي).../...

هذا التعريف "العلمي" بزعم أصحابه، قد يصلح للتعامل مع الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية البشرية في إطارها الزمكاني الذي يخضع لصيرورة التاريخ وفق المنطق العقلاني البراغماتي، لكنه لا يصلح للتعامل مع الدين السماوي، ولا أقول الفكر الديني البشري الناتج عنه، ما دامت التاريخانية بمفهومها المادي عاجزة عن إدراك الغيبي واستيعابه، فتفضل تجاوزه بتصنيفه في مجال الأسطورة حينا والخرافة أحيانا، وبهذا تجرّد التاريخانية الدين من بعده الغائي الذي يمثل الأساس الذي يقوم عليه، لارتباط كل أعمال الإنسان في تجربته الأرضية بمصيره في الآخرة، وبالتالي فهي تلغي الله كفاعل في التاريخ البشري، وترفض أن تعتبر النص القرآني مرجعا للحقيقة، وتصنفه في خانة "المنتج الثقافي" الذي تشكل في الواقع القبلي زمن النبي، وبهذا المعنى، فهو لا يصلح لأن يكون نصا مرجعيا للعالمين.

ومعلوم أن التاريخانية منهج غربي له ميزاته التي لا تنكر في مجال دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية بما في ذلك الموروث الفكري الديني الذي هو فكر إنساني تاريخي نسبي، وقد طُبّق هذا المنهج في الغرب على النص الديني، سواء في نقده للتوراة والإنجيل باعتبارهما نصوصا بشرية كتبها رجال الدين ونسبوها إلى رسلهم، وأفضت نتائج هذه الدراسات إلى تعزيز خيار العلمانية القائل بفصل الدين عن السياسة، بل وفصل الدين عن العلوم وإبعاده عن مجال التعليم كي لا يؤثر الخطاب الديني "الغيبي، الأسطوري، الخرافي" في عقول أجيال عصر الحداثة وما بعد الحداثة.

نحن إذن أمام منهج يزعم القدرة على تفكيك النص الديني بأدوات علمية، تستطيع الكشف عن طبيعته البشرية، من خلال مقارنة مقولاته بحقائق التاريخ التي أصبحت لدينا اليوم بفضل الحفريات وعديد الشواهد المادية، من دون حاجة لتفسير الديني بالعجائبي والغرائبي، لأن التاريخ يغني عن ذلك، ما دام لا يحتاج لتفسير من خارجه. وعلى هذا الأساس تحولت التاريخانية من منهج للبحث العلمي المجرد الذي يطرح الأسئلة على التاريخ كما تزعم التاريخية، إلى مذهب إيديولوجي يفسر المفاهيم والنظم ويحكم على المعتقدات والأفكار من منطلق الحتمية التاريخية بشكل مسبق، ما دام في التاريخ يكمن سر الوجود وروح كل موجود.

والسؤال الجوهري الذي يطرح بالمناسبة على التاريخانية هو:

-       هل الدين جزء من التاريخ أم التاريخ جزء من الدين؟

أهمية السؤال على بساطته، تكمن في أنه يحمل في مضمونه جانبين متلازمين، جانب زمني وآخر غيبي. الجانب الزمني يشمل الحوادث المرتبطة بالمكان والزمان التاريخي (لكل أمة أجل) يونس: ٤٩، وهي القابلة للمراجعة بالمنهج التاريخاني لارتباطها بتاريخ الأمم، أما الجانب الغيبي الذي لا يقوم الدين إلا على أساسه، فهو المرتبط بالله صحاب الدين والفاعل على الحقيقة في التاريخ، بحكم التكوين البيولوجي للبشر من جهة، وبحكم شرع الله وعدله المتمثل في السنن لحفظ التوازن ما دام الله هو المدبر للكون والخلق بالحق، ولا شيء يمكن أن يخرج عن إرادته أو يحدث في ملكه من خارج مشيئته (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) التكوير: ٢٩. ومن يظن غير هذا فهو منكر للحق يفكر بمنطق قريش زمن الجاهلية حين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم: هل لنا من الأمر من شيء؟ فجاءهم الجواب الحاسم من صاحب الأمر يقول: (قل إن الأمر كله لله) آل عمران: ١٥٤.

ولأن الإنسان هو الوسيط بين الله والعالم بما وهبه الله من أسماء الألوهة النسبية الفاعلة، بحيث كل ما يقوم به في تجربته الأرضية من حوادث في الزمان والمكان مقيّد بإرادة السماء المطلقة، وخروج الإنسان عنها يعني أن قدرته تفوق قدرة الله سبحانه، وهو ما لا يعقل، وبالتالي، فمن المستحيل أن يؤدي النقد التاريخاني المادي إلى فهم واستيعاب التاريخ الديني للشعوب بشكل موضوعي، ما دام التدقيق لا يمكن أن يتجاوز الظاهر دون خوض المغامرة المعرفية من خلال ولوج عالم الباطن حيث يوجد المحفز الذي يدفع الإنسان للتأثير في الحادثة لتصبح واقعة في مجرى التاريخ، لأن الجانب الباطن هو الجانب الروحي المتعلق بالإيمان الذي ترفض التاريخانية التعاطي معه، لعجزها عن إدراكه، لأنه من مجال اللا محسوس.

لذلك نجد دعاة دراسة الظاهرة الدينية بالمنهج التاريخاني من الباحثين العرب المتأثرين بالغرب، يتجنبون الحديث عن الوحي الذي لم ينقطع بين السماء والأرض بانقطاع الرسالة، بل لا زال الله يوحي المعاني لمن يشاء من عباده كل حسب درجة اجتهاده في مدرسة الله لقوله تعالى: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما) طه: ١١٤، فالنص هنا هو كلام الله والمعلم هو الله، ولأن الوحي واقعة غير مادية يصعب تأكيدها بالمنطق العقلاني لأنها من مجال التجربة الذوقية، نجدهم لا يفرقون بين وحي الرسالة الذي انقطع بنزول القرآن، ووحي الهداية الذي لا يزال قائما إلى أن تقوم الساعة ما دام الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء في كل وقت وحين، متجاهلين أن القرآن هو وحي السماء الذي ينبض بالحياة وليس "قرآن محمد" أو "خطاب النبي" كما يفضل أن يسميه أصحاب المنهج المادي، كلّما تقرّب الإنسان إلى الله بقراءته وتدبره إلا وبيّن له تعالى أسرار معانيه، يُنزّلها على قلبه كالوميض الذي يشبه شعاع من نور ينفذ إلى روعه فيطمئن له قلبه ويرتاح له عقله، ويصرّون على تصنيف القرآن ضمن التراث باعتباره منتجا ثقافيا مثله مثل أي خطاب بشري يُستنطق بالاستقراء ويتم التعاطي معه في إطار البيئة الجغرافية والثقافية التي أُنتج فيها حسب زعمهم، وكأن الله سبحانه وتعالى عما يصفون علوا كبيرا، كائن تاريخي مثقف ينتج خطابا ثقافيا لعباده، لقولهم أن القرآن هو وليد بيئة الثقافة العربية، تأثر بها وأثر فيها بما أنتجه من ثقافة جديدة باستعمال لغتها، ما يجعله خطابا محليا لا يرقى لمستوى العالمية التي يدعيها المؤمنون به، ويعتقدون أنه بالإمكان إخضاع النص القرآني لذات المنهجية التي طبقت على نصوص التوراة والأناجيل الأربعة، دون اعتبار للفرق القائم بين كلام الله وكلام البشر، حجتهم في ذلك مقولة المعتزلة التي أسست لفكرة "خلق القرآن"، ما يجعله (أي القرآن) خاضع للنقد التاريخاني. ويصر أصحاب هذا المذهب على وصم القصص القرآني بـ "الأساطير" التي لم يؤكد التاريخ وقوعها، ويضفون على مصطلح "أسطورة" معنى إيجابي مرتبط بالخيال الخلاق للالتفاف على مشاعر المؤمنين بدل الصدام معهم.

والأساس الذي ينطلق منه أصحاب المنهج التاريخاني في نقدهم للدين، يقوم على اتهام المسلمين بالتشبث بالماضي بدل التفكير في المستقبل، ويزعمون أن لا سبيل للخروج من معضلة الحاضر سوى بالتخلي عن التفكير الغيبي الأسطوري واعتناق العلمانية لعيش الشعوب المسلمة التجربة الحياتية على أسس واقعية تساعدهم على بناء المستقبل من خلال الحسم مع الماضي.

هذه الدعوة الملغومة تحمل في باطنها مغالطات كبرى:

-       المغالطة الأولى: أنها دعوة تقيس الأشياء بالزمن التاريخي الموضوعي، والذي هو زمن نسبي يسري على الإنسان بتعاقب الليل والنهار والشهور والأعوام. وتتجاهل الزمن العقلي التأملي الداخلي الذي يسبح فيه العقل بعيدا عن الزمن الموضوعي ليطرق عوالم جديدة من التفكير وفضاءات مدهشة من الخيال. وتتجاهل أيضا الزمن الروحي الذي هو تحليق في المطلق وتفلّت من الزمن الدائري إلى زمن وجودي يمتد في الأمد اللامتناهي، ولا يشعر به إلا النائم أثناء الحلم والصوفي في تجربة المعراج على شاكلة المعراج الذي حدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم فانتقل إلى السماوات العلى وصولا إلى سدرة المنتهى في زمن قياسي يستحيل أن يقاس بالزمن الخارجي الدائري أو الزمن العقلي التأملي لأنه من مجال الزمن القدساني.

-       المغالطة الثانية: أنها دعوة تتجاهل أن لب المشكلة لا يكمن في الإسلام كدين بقدر ما يكمن في سوء فهمه، وبالتالي ليس من العدل الحكم على الدين من منطلق فهم وسلوك معتنقيه، لأن الإسلام كما فهمه الرعيل الأول هو منهج حياة، والمؤمن الحقيقي لا يتشبث بالماضي، ولا يكتفي بالتخطيط للمستقبل المنظور بالمنطق المادي النفعي فحسب، بل يخطط لمستقبل أبعد بكثير بمفهوم البعد القدساني، وهو ما يمكن أن نسميه بالتخطيط "ما فوق الاستراتيجي"، لأنه مرتبط بالبعث يوم الدين، والذي على أساسه ومن أجله يعيش المؤمن تجربته الأرضية في الزمن الموضوعي، ويقدم من الأعمال الصالحة ما ينفع الناس، ويساهم في عمار الأرض، وتعلقه بالماضي لا يعني بحال من الأحوال العودة للعيش فيه لقوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) البقرة: ١٣٤ و ١٤١. وبهذا المعنى القرآني الجميل، فتذكر الماضي لا يعتبر دعوة للعودة إلى الوراء أو استدعائه ليتمثل واقعا مكررا في حياة الناس بكل تفاصيله، بقدر ما تعني الاستفادة مما يزخر به هذا الماضي من تجارب الأمم للعبرة والموعظة ليس إلا، حتى لا يسقط المجتمع في نفس أخطاء من سبقوه ويطور بالتالي تجربته على أساس الدروس المستخلصة كشرط للتطور نحو الأفضل، لأن لا شيء في الحياة يبدأ من نقطة الصفر بحكم منطق التراكم، ولا توجد أمة على الأرض تقدمت وفرضت نفسها بفضل الحسم مع ماضيها كما تدعو التاريخانية لذلك، هذه دعوة لا عقلانية أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها دعوة غبيّة للانتحار والاندثار.

والمعضلة التي حاولت التاريخانية تجاوزها تكمن في هذا البعد الغيبي المتمثل في الآخرة، مفضلة القفز على هذه الحقيقة الغيبية التي لا تدرك، والاهتمام بدل ذلك بالواقع المادي النسبي المحكوم بالزمن الدائري الأرضي الذي يمكن استيعابه بالعقل، متجاهلة الترابط القائم بين الحق والخلق، بين الزمن القدساني بمفهوم الأمد اللامتناهي والذي لا تمثل تجربة الإنسان الأرضية سوى لحظة عابرة شبّهها تعالى بقوله: (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) النازعات: ٤٦، وقوله أيضا: (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم) يونس: ٤٥، وغيرها كثير في إشارة إلى حقيقة الزمن الأرضي النسبي مقارنة بالزمن القدساني المطلق.

وبذلك يكون التاريخ البشري مجرد حدث قصير ومنتهي في إطار المدى الدائم واللامتناهي الذي يتحدث عنه القرآن بمفهوم الخلود. لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (الناس نيّام فإذا ماتوا استفاقوا) وقوله تعالى للإنسان بعد الموت: (لقد كنت في غفلة عن هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق: ٢٢، حينها، وحينها فقط يدرك الإنسان حقيقة الدنيا والآخرة، ويرى بأم العين الأشياء كما هي لا كما كانت تبدو له في الحياة الدنيا التي لم تكن سوى لحظة حلم عابرة قضاها في مستودع الجسد الفاني، أو فترة تاريخية زمنية قصيرة قضاها في المستقر الذي يعيش فيه، ولا يمكن بحال من الأحوال مقارنتها بالأبدية.

ولتجنب الجدل الفكري، ترفض التاريخانيّة الاهتمام بالحقيقة، لأن من شأن ذلك أن يحوّلها من تطبيق "علمي" إلى مذهب فلسفي ينتهي بتبني الرؤية الدينية الغيبية، وهذا ما ذهب إليه عديد المفكرين الغربيين الذين أدركوا قصور المنهج، فانحرفوا عن مجال بحثه المادي، في حين تبنى هذا المنهج أو المذهب إن صح التعبير، ثلة من الباحثين العرب ذوي الخلفية الثقافية المادية الماركسية وحاولوا تطبيقه، ليس على التراث الديني الإنساني فحسب، بل وعلى القرآن أيضا، فجاءت أعمالهم مفارقة للمنطق وصادمة للإيمان.

ومن أبرز الباحثين العرب الذين تبنوا هذا الاتجاه المادي في البحث: محمد أركون في "تاريخية الفكر العربي" و "الفكر الأصولي واستحالة التأصيل". نصر حامد أبو زيد في الخطاب والتأويل" و "مفهوم النص" و "النص – السلطة – الحقيقة". محمد عابد الجابري في "التراث والحداثة". هاشم صالح في "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني". علي حرب في "نقد النص ونقد الحقيقة". أدونيس في "الثابت والمتحول". محمد أحمد خلف الله في "الفن القصصي في القرآن". محمد شحرور في "الكتاب والقرآن قراءة معاصرة". صادق جلال العظم في "نقد الفكر الديني". حسن حنفي في "دراسات إسلامية" و "مفهوم النص". عبد الله العروي في "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" و "ثقافتنا في منظور التاريخ" و "السنة والإصلاح". وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

وإذا كانت التاريخانية قد تحوّلت إلى مذهب مبنيّ على اعتبارات تاريخية مادية ماركسية المورد، فإن عدم مطابقة النص الديني لوقائع التاريخ تجعله نصا أسطوريا من منظور التاريخانية حتى لو مثل بالنسبة للمؤمنين به حقيقة يقينية. ذلك أن تجاهل الحقيقة الدينية لصعوبة إثباتها يريح دعاة تطبيق التاريخانيّة، لدرجة أنهم يعتبرون كل ما هو حق وحقّاني من مجال الطوبى والغيب، ويركزون فقط على كل ما هو ظاهر مادي وواقعي يمكن قياسه وإدراكه واستيعابه بالعقل. من هنا استحالة فهم التاريخانيّة للدين، ومن تم تفضّل الهروب من خلال تصنيفه في إطار كل ما هو غيبي وأسطوري وخرافي يستحيل الخوض فيه.

وقد لاحظ بعض الباحثين العرب هذا القصور في المنهج كمحمد أركون مثلا، وبدل معالجته فضّل انتقاد المستشرقين بسبب عدم اهتمامهم بعامل الإيمان عند دراستهم للظاهرة الدينية، متجاهلا من حيث يدري أو لا يدري، أن هدف المستشرقين من دراسة الظواهر الدينية في المجتمعات الإسلامية هو معرفة نقط القوة ونقط الضعف في المنظومة الثقافية الإسلامية بهدف تخريبها من الداخل عملا بقاعدة "اعرف عدوّك" بسبب ما مثله الإسلام من تهديد للقيم الغربية منذ الحروب الصليبية ولا يزال.

وقد اقترح محمد أركون على المستشرقين إقحام علم النفس التاريخي في هذه المهمة المستحيلة، لإدراكه أن المدخل الناجع لاختراق هذه المنظومة القائمة على الاعتقاد بالغيب هو دراسة كيف تبدّل وتحوّل هذا الإيمان عبر العصور، مقارنة بالنتائج التي وصلت إليها دراسات الإيمان في المجتمعات الغربية بآليات علم النفس التاريخي، فجاءت النتائج تؤكد أن ايمان الناس انتقل من الإيمان بالكنيسة إلى الإيمان بالدولة العلمانية بعد الثورة الفرنسية. لكنه من جهته لم يقدم تجربة علمية نموذجية يمكن القياس عليها في هذا المجال بالنسبة للعالم العربي والإسلامي، وظل يشغل القراء بالحديث عن مشروعه الضخم الذي عنونه بـ "نقد العقل الإسلامي"، لكنه رحل من دون أن يحقق ما كان يصبو إليه، وترك لنا إرثا من المقولات المستفزة كـ "المسكوت عنه"، و "غير المفكر فيه"، و "الشلل المعرفي"، و "أغلال الدهشة والبهجة والأسرار"، و"التماسك المغامر للإيمان"، و"السياج الدوغمائي المغلق"، و"المدونة الرسمية الناجزة"، و"التفسير الأرثوذكسي"، و"لاهوت التنوير والتحرير"... وغيرها، نتلهّى بها في انتظار أن يأتي مفكرون شجعان يكسرون الجدران العازلة ويوسّعون من حدود انتهاك "المقدس" ليوجّهوا ضربات موجعة للأرثودوكسية الفكرية الجامدة التي تسود العالم العربي وتعيقه عن النهوض والإقلاع حسب تعبيره، وبذلك، يكشفوا لنا عن حقيقة "قرآن محمد" أو "خطاب النبوي" كما يُصرّ على تسميته. حينها وحينها فقط، سنفهم الفرق بين معنى الانتقال من الاعتقاد بالغيب إلى القناعة العقلية في أنواع الفكر الخاضعة لإكراهات الإيمان وأوامره. لأنها وفق رأيه: "تُحوّل الفرضيات غير المبرهن عليها والكائنات العقلية غير اللازمة إلى نوع من الحقائق الموضوعية المبرهنة والمحقّق منها بمعونة القواعد المشتركة لدى مستخدمي العقل التطبيقي أو بالأحرى العملي". (تاريخية الفكر العربي الإسلامي - ص: ٧٠).

وبهذا الطرح الذي يكرره أركون كثيرا في كتاباته، سيسير الباحثون العرب على نهج علماء الغرب الذين نجحوا في تفكيك تراثهم الديني فاكتشفوا ما اكتشفوه من أساطير وخرافات في التوراة والإنجيل، ساعدتهم على الانصراف عن الغيبيات واعتناق العلمانية التي نقلت شعوبهم من عصر الاستبداد والفساد والتخلف والانحطاط، إلى عصر الحرية والديمقراطية والتقدم والازدهار، في رحاب الحداثة وما بعد الحداثة، حيث مات الإله وانتهى التاريخ وظهر الإنسان "السوبر مان" الذي لا يحتاج لنبي أو إله ليقول له ما الذي يجب عليه فعله حسب رؤية الفيلسوف نيتشه.. وبهذا المعنى، فالتاريخانية لا تعدو كونها نبتة طفيلية خبيثة، حاول الغرب من خلال طابوره السادس المتمثل في النخبة العلمانية، زرعها في الحقل العربي لإفساد الأرض والنسل وتدمير القيم والأخلاق باسم الحداثة وما بعد الحداثة.

والهدف من كل ذلك هو علمنة المجتمعات العربية والإسلامية، والعلمنة عندهم لا تعني معاداة الإسلام ومحاربته بقدر ما تعني تحويله إلى إسلام ظاهري طقوسي وشعائري يلتزم به من يرغب من الناس بشكل فردي، ليتحول إيمان المجتمع من الإيمان بالله إلى الإيمان بالدولة، وبهذه الطريقة يعتقدون أنه سيكون بالإمكان نزع الروح الثورية عن الدين ما دام الدين كان ولا يزال وسيظل عدو الدولة الأول، بسبب الصراع التاريخي الطويل بين حاكمية الله وحاكمية الملك الإله.

التاريخانية والتاريخ

إذا كانت التاريخانية مصطلح مستمد من المصدر الذي هو التاريخ، فإنه وللغرابة لا يوجد مفهوم محدد ومتفق عليه للتاريخ، فقد تعددت الأقوال في تعريفه من حيث الاصطلاح قديماً وحديثاً، فابن خلدون الذي يعتبر أحد المؤسّسين لهذا العلم عرّف التاريخ بقوله: "إنّ التاريخ في باطنه هو النظر والتحقيق وتعليل الكائنات ومبادئها، وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها"، ونفس التعريف أخذه عنه الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير إبان الثورة الفرنسية.

ومن التعريفات الحديثة ما قال به كولينغوود، من أن "التاريخ هو الماضي الذي يدرسه المؤرخ، بحيث يكون الماضي ما زال حيّا في الزمن الحاضر". وعرّف العالم الفرنسي جول ميشله التاريخ بأنه يعنى بـ: "معرفة الدقائق والخصائص والمميزات من خلال طرح السؤال المناسب". أما عالم التاريخ عبد الله العروي، فقد عرّفه في مؤلفه "مفهوم التاريخ" بقوله: "إن التاريخ من صنع المؤرخ، فالمؤرّخ هو من ينتقي من الأحداث التاريخيّة المحفوظة ليصنع الأنساق ويستخلص الحقائق"، وبهذا المعنى الذي قال به العروي، أصبح التاريخ من صنع المؤرخ، مع وجوب التفريق بين الحدث والراوي.

لأن الفرق بين التاريخ والمؤرخ، يكمن في أن التدوين التاريخي لا يعتبر تاريخا، ما دامت الكتابة عن الحادثات هو تأريخ لا تاريخ، والتاريخ هو إعادة كتابة التاريخ بصورة أخرى مغايرة للتأريخ تكون أقرب إلى الحقيقة بعد المراجعة النقدية، وإن كان هذا التمايز بين التاريخ والمؤرخ لا يختلف كثيرا مع ما ذهب إليه عبد الله العروي في تعريفه المشار إليه أعلاه.

والمؤرخ بالمفهوم القديم عند الطبري والمقريزي وابن النديم وغيرهم، هو من يخبر عن الوقائع والحادثات ويفسر الأمور كما يستنتجها، ومجال التاريخ بالمفهوم الكلاسيكي كان يعنى بجانب واحد من الأحداث التي تصنعها أنظمة الحكم دون الشعوب، باعتبار أن الأولى هي الفاعلة في التاريخ فيما الثانية مفعول بها، والمؤرخ في هذه الحالة كان مجرد مُخبر، يُخبر عن الحادثات استنادا إلى ما يستنتجه من المرويات بعد أن يقوم بالتدقيق في صحة واتصال سندها على شاكلة ما اصطلح على تسميته في علم الحديث بالجرح والتعديل.

هذا الوضع تغيّر بعد الثورة الفرنسية التي على أساسها قام عصر النهضة في أوروبا، حيث تحوّل المؤرخ من مُخبر محايد إلى باحث وناقد متحيّز للواقع لا للحقيقة، لا يفرق بين الحدث (الواقعة) والوثيقة (الشاهدة)، فلا يأخذ بالمرويات كما هي، لأن الحدث بالنسبة إليه ليس استنتاجا بل مجرد معطى ينطلق منه للقيام بعملية النقد التي هي في أساسها مجموع الإجراءات التي تؤكد انتساب الحدث إلى الوثيقة، ذلك أن الحدث من دون نقد وتدقيق يبقى في مستوى الظن دون أن يستطيع الباحث القطع بصحته، وبذلك انتقل اهتمام المؤرخ من السياسي الضيق إلى مجالات أوسع وأعمق أسّست لتاريخ الثقافة المادية في الغرب في إطار ما أصبح يعرف بالتاريخانيّة والتاريخيّة.

وقد عرف المنهج التاريخاني تطوّرا لافتا بسبب عديد الأدوات التي يستعين بها من الحفريات إلى المرويات إلى الوثيقة الرسمية إلى اللوحات الفنية فالإنتاج الثقافي بل حتى العادات والتقاليد الشعبية، ليستنبط منها المؤرخ صورة تعبر بموضوعية عن المرحلة التاريخية التي يعنى بدراستها من مختلف الزوايا. مع العلم أنه من الصعوبة بمكان، ومهما بذل المؤرخ الموضوعي من جهد وحرص أن يرتقي بعمله هذا من الشاهدة (الوثيقة المادية) إلى الواقعة (الحادثة)، من الأثر إلى عين الخبر، من منطق المؤرخ إلى مصير التاريخ كما يعترف بذلك عبد الله العروي في مؤلفه (مفهوم التاريخ – ج ٢ – ص: ٢٣٣).

الحدث والعنوان

وإذا كان مجال التاريخ هو الحدث، والعنوان هو الوصف الذي ينتهي إليه استنتاج المؤرخ، فإن الأمر في العالم العربي والإسلامي لا يشد عن هذه القاعدة، بحيث لا يزال هذا النهج كما كان، لأن السلطة الحاكمة هي المهيمنة على مجال التاريخ صناعة وتأريخا، لذلك ظل التاريخ عندنا هو المفهوم أو العنوان الذي يعطيه المؤرخ للحدث بلا تدقيق، كأن يقول أحدهم مثلا "الفتنة الكبرى" لتستحضر الأذهان ما استقر بها من مفاهيم تراثية حول مرحلة الصراع على السلطة في صدر الإسلام دون تمييز بين الديني والسياسي، ولهذا السبب اعتبر هذا الصراع انتكاسة في تاريخ المسلمين وخط الانحراف الكبير الذي أصاب السياسة والدين معا وجعل الأمة تدفع تبعاته الكارثية إلى اليوم. لكن بمجرد أن يقول أحدهم "الثورة الفرنسية" إلا ويقفز للأذهان مفهوم آخر مستورد من الغرب يقول بأن الثورة الفرنسية هي عنوان لأعظم انتفاضة شعبية قام بها شعب ضد الكهنوت والطغيان، فتغيّر بفضلها مجرى التاريخ ومصير الإنسان في أوروبا إيذانا بصعود الحضارة الغربية.

والسؤال هو: - ألم تكن الثورة الفرنسية من وجهة نظر السلطة آنذاك فتنة بالمفهوم الديني الذي روج له رجال الكنيسة في حينه، بالرغم من أن الثورة لم تكن ضد الدين كما ذهب إلى ذلك بعض الكتاب الإسلامويين، بل كانت ضد الكهنوت بسبب تحالف الإقطاع مع الكنيسة مطالبة بفصل الدين عن الدولة.

واضح إذن مما تؤكده شواهد التاريخ أن المنتصر هو من يكتب التاريخ، ولو كان تحالف الإقطاع والكنيسة هو الذي انتصر على الثورة في فرنسا مثلا، لكان التاريخ اليوم يتحدث عن "الفتنة الكبرى" ضد المسيحية، كما هو الأمر في التاريخ الإسلامي الذي انتصر فيه السياسي على الديني فأخضعه لسلطته منذئذ وإلى يوم الناس هذا وسماه بـ "الفتنة الكبرى" التي رسخت في أذهان العامة باعتبارها فتنة كانت تستهدف الدين الإسلامي، وكأن تيار أهل السنة والجماعة الذي أسسه معاوية هو الممثل الوحيد والشرعي للإسلام، فيما شيعة عليّ كانوا مارقون ضد الشرعية ويحاربون الدين في نسخته السنية.

والسؤال هو: - لماذا لا يسمّى الصراع على السلطة زمن معاوية مثلا بـ "الانقلاب على الخلافة" ، ما دام ما حدث حوّل النظام إلى ملك عضوض فبدأ خط الانحراف الكبير الثاني في التاريخ الإسلامي، وكلنا يعلم أن الصراع في الجوهر كان سياسيا اتخذ من الدين جملا للوصول إلى السلطة؟ ... الجواب يعرفه الجميع، لأن انتصار تيار أهل السنة والجماعة هو من كتب التاريخ فأعطى للواقعة التاريخية تفسيرا دينيا من خلال تسميتها بـ "الفتنة الكبرى"، مع أن هذا التيار هو من أشعل الفتنة في الأصل بتحريض من معاوية ومن وراءه ومن معه.

ثم ماذا عن "الخلافة الراشدة"، وعن "حروب الردة"، وعن "الفتوحات الإسلامية"، وغيرها من العناوين التي استقرت في أذهاننا باعتبارها مسلمات دينية أحيطت بهالة من القداسة برغم استحالة التأصيل لشرعيتها من القرآن؟ ..

أسئلة كثيرة يطرحها العنوان على المؤرخ المعاصر الناقد المدقق الذي أصبح مناضلا يسعى لتحرير عقول الناس من معتقل التراث الذي وضعهم فيه المؤرخ المُخبر والفقيه المفسّر والمتكلم المجادل، وهي مهمة تبدو شبه مستحيلة بسبب الجهل وطغيان السياسي والإيديولوجي واستبدادهما بالمشهد التاريخي والثقافي معا، لذلك نجد من يدعو اليوم إلى الحسم مع التراث بدل إضاعة الوقت في مراجعته وتنقيته. والحسم هو بالتحديد ما تقول به "التاريخانية"، أي الحسم بمعنى القطيعة وركوب قطار آخر للتوجه نحو مسار مغاير للمسار الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من تخلف وانحطاط، والحسم لا يعني من وجهة نظر دعاته القطيعة مع التاريخ، بل مع التراث القديم لركوب ثقافة العصر الجديد باعتباره الحل الوحيد لمواكبة التاريخ الإنساني من زاوية الاجتماع السياسي، للتأثير فيه بدل المكوث في معتقل السياسي والإيديولوجي في انتظار المجهول المُملّ والقاتل.

العنوان إذن هو نتاج الموروث الثقافي الذي حدّده تحالف الاقطاع ورجال الدين، هكذا يبدو الأمر بالنسبة لكل الأحداث، فكلّما استدعينا حدثا من الماضي إلى الحاضر إلا وبحثنا له في ثقافة القبور عن عنوان نضعه فيه دون تدقيق أو تمحيص. هذا ما خلص إليه عالم التاريخ والإيديولوجيا عبد الله العروي حيث يقول: "هل التاريخ المحفوظ هو بالنسبة لنا سبيل الإصلاح والإنجاز والتحرر؟ هذا هو السؤال المطروح على كل واحد منا، والجواب لا يأتي مما نعرف بل مما نعاني". وما نعانيه اليوم له علاقة بـ "العنونة" لا بالمعرفة الحقيقية. و"العنونة" مصطلح عربي استلهمه عبد الله العروي من القولة المعروفة "فقه البخاري في تراجمه"، لأنه يجمع الأحاديث المختلفة في إطار واحد هو الترجمة، أي عنوان الباب، فيكون هذا العنوان بمثابة الاسم بتعبير مارك بلوك أو المفهوم الجامع بتعبير وولش. والعنوان هو تعريف وصفي يختلف عن التحديد المنطقي، لأن الوصف هو المطلوب لا المعرفة المنطقية كما يقول العروي (مفهوم التاريخ – المفاهيم والأصول – ج٢ - ص ٢٤٤).


التاريخانية والتأريخ

وهنا يأتي دور التاريخانية الذي يعنى بتعميق وعقلنة التنظير للإشكاليات الأساسية التي يطرحها تاريخ الموروث الفكري الإسلامي من وجهة نظر عبد الله العروي الذي عمل طويلا على خلخلة نمطية الجدل الإيديولوجي السائد في العالم العربي والإسلامي منذ قرون طويلة، من خلال دعوته للحسم مع هذا الموروث الذي نعيش اليوم تبعاته الكارثية، واستبداله بثقافة جديدة تساعدنا على اللحاق بمسار التاريخ العالمي والمشاركة في صناعته بدل تقمص دور المتفرج السلبي من خارجه، وذلك لا يمكن أن يتحقق من وجهة نظره، إلا إذا اعتنق العرب "التاريخانية" التي تعني، وفق ما يستشفّ من كتاباته: ثبوت قوانين التطور التاريخي، وحدة الخط التاريخي من الماضي نحو المستقبل مرورا بالحاضر، وحدة الجنس البشري والانفتاح على الثقافات والحضارات، بروز دور المثقف الجديد الذي يتعامل مع الأحداث والظواهر والمفاهيم بمناهج علمية وتطبيقات عملية تتيح له مقاربة الأمور من زوايا مختلفة تحوّله من مثقف كلاسيكي مُقلّد إلى مُفكّر مبدع ومنتج.

هذا هو معنى أن الإنسان كائن تاريخي عند العروي، والطريق الحق القويم لتجاوز هذه المعضلة كما يقول، يكمن في بدل الجهد للاستيعاب وتحمل آلام الولادة، أي أن التاريخانية بالنسبة له، ليست شيئا سوى قبول منطق العالم الحديث الذي هو منطق أوروبا الغربية من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر. وتركيز العروي على هذه الفترة بالتحديد جاء بسبب ما أنتجته من قيم إنسانية وأخلاقية عظيمة لا محالة فيما عرف بعصر الأنوار الذي تمخضت عنه ولادة الدولة الوطنية الحديثة على ضوء "نظرية العقد الاجتماعي" التي قال بها جون جاك روسو الفرنسي وطورها طوماس هوبز البريطاني.

والسؤال الذي يفرض نفسه بمناسبة هذا الطرح هو: - هل الاقتداء بأنموذج الغرب سيحررنا من التبعية الاستعمارية المقنّعة، أم أن المطلوب هو بدل الجهد لإقامة نموذج حضاري خاص بنا كما فعلت كل الأمم مثل روسيا والصين واليابان وإيران وحتى "إسرائيل"، ناهيك عن بعض النمور الأسيوية الصاعدة كالهند وإندونيسيا وماليزيا؟ ... ثم ألا تقتضي خصوصيتنا الدينية أن ننطلق في بناء أنموذجنا الحضاري من قرآننا الذي يمثل بالنسبة لنا جوهر وجودنا وسر نجاح تجربتنا الأرضية التي يتوقف عليها خلاصنا في الآخرة؟

نقول هذا لأن الأمور اتخذت منحا آخر في القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، حيث جرّدت الحداثة وما بعد الحداثة الإنسان من قيمه الروحية والأخلاقية باسم الواقعية، فاختلّ التوازن وطغت القيم المادية الغربية على القيم الإنسانية التي جاءت بها الثورة الفرنسية، مخلفة فراغا روحيا هائلا حوّل الإنسان إلى مجرد رقم بلا قيمة، أهمّيته تكمن في أنه مجرّد زبون للقوى المالية العظمى والشركات الكبرى العابرة للقارات المتحكمة في السياسة والاقتصاد والأمن والسلم والحرب، في ظل عولمة رقمية ونظام عالمي ليبرالي متوحش، ملأ الفراغ الذي خلّفه سقوط المعسكر الاشتراكي، فاندلعت حروب قيم جديدة اختير الإسلام ليكون عدوّها البارز تحت عنوان صراع الحضارات الذي قال به صامويل هنتنجتون بدل حوار الحضارات الذي قال به المهدي المنجرة، فدخل العالم عهدا جديدا من العبودية في ظل مفاهيم مبتدعة روّج لها الغرب لتصبح من المسلمات الثقافية في عصر ما بعد الحداثة، كمفهوم موت الله الذي يعني موت الدين وولادة الإنسان "السوبر مان" المسلح بالعلم بدل الإيمان كما قال الفيلسوف نيتشه، وأصبح الدين مجرد معتقدات غيبية وأسطورية قديمة كما تروج لذلك بشكل سافر ووقح "التاريخانية الجديدة" كما ظهرت في عصر ما بعد الحداثة، حيث أصبحت الحقيقة هي تلك التي تنتجها السلطة ويفرضها الواقع، لا تلك التي نحلم بها أو نتوهّم إمكانية تجسيدها على أرض الواقع انطلاقا من الثوابت والمبادئ والمسلمات الدينية والأخلاقية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إذا كان الطريق الذي سلكه الغرب نحو الحداثة وما بعد الحداثة بركوب العلمانية كعقيدة للدولة والمجتمع، والليبرالية المتوحشة كنهج لتحقيق المصالح الزمنية ولو على حساب القيم والأخلاق والمصير الأخروي، فلماذا يصرّ التاريخانيون العرب على إقناعنا بضرورة الحسم مع الماضي وتبني أنموذج الغرب لإعادة تجريب المجرب الذي أوصل العالم الغربي اليوم إلى حافة الهاوية؟

نقول هذا بعد أن اعترف أحد كبار الباحثين الذي اعتنق التاريخيّة ونظّر إلى حتمية اعتناق المجتمعات العربية والإسلامية للعلمانية بحكم صيرورة التاريخ بالقول: "ينبغي أن نعلم أن قطيعة الحداثة قد أدت إلى تفريغ العالم من الفتنة والسحر، أو قل نزعت عنه أغلال الدهشة والبهجة والأسرار كما يقول ماكس فيبر في مصطلحه الشهير (le désenchantement du monde) وأصبح العالم واضحا، عقلانيا، محسوبا بدقة. وهكذا خسرنا التقديس لكي نربح العلم والفعالية الاقتصادية والإنتاجية. ولكن الإنسان الأوروبي أصبح يحنّ الآن إلى التقديس وترميز العالم بعد أن شبع من الماديات والحياة الاستهلاكية، وبهذا المعنى يمكن أن نفهم عودة الله أو الدين إلى المجتمعات الأوروبية" (محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الساقي ١٩٩٩، ص: ٦٩).



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق