بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 2 أكتوبر 2018

مناهج التفسير الحديثة (4/3)




العروي: الحق والحقّانية "ثرثرة كلامية"

أما عبد الله العروي، فيفضل استعمال "التاريخانية"، ويعرّفها بأنها: "تلك المنشآت التي تكوّن العالم التاريخي (مفهوم التاريخ – ص: ٣٤٧)، ويرفض أن تكون "التاريخانية" فلسفة المؤرخ كما ذهب إلى ذلك كروتشه وكولينجوود ومارو، ويقدم لها تعريفا جديدا يقول: "ليست التاريخانية مذهبا فلسفيا تأمليا، وإنما موقف أخلاقي يرى في التاريخ، بصفته مجموعة من الوقائع الإنسانية، مخبرا للأخلاق وبالتالي للسياسة. لا يعنى التاريخاني بالحقيقة بقدر ما يعنى بالسلوك، بوقفة الفرد بين الأبطال، التاريخ في نظره، هو معرفة عمليّة أولا وأخيرا" (ثقافتنا في ضوء التاريخ – ط ٢ – ١٩٨٨ – ص: ١٦ – بيروت، لبنان – الدار البيضاء، المغرب – المركز الثقافي العربي).../...


هذا التعريف وإن كان يلتقي إلى حد ما مع تعريف معجم "لاروس" و "روبير" فيما له علاقة بقدرة التاريخ على إثبات الحقائق الأخلاقية أو الدينية، إلا أن العروي ينفي اهتمام التاريخانية بالحقيقة ويرى فيها موقفا أخلاقيا يعنى بالسلوك الأخلاقي والسياسي من خلال دراسة أحداث التاريخ، من هنا تنبع قيمة الباحث التاريخاني الذي وصفه بالبطل بين الأبطال، لأنه هو من يحدد بالنهاية ما هو أخلاقي أو غير أخلاقي، لكن السؤال هو عن المعيارية الغائبة في هذا التعريف، والتي يحصرها عبد الله العروي في موضوعية الباحث التاريخاني التي تبقى نسبية على كل حال في غياب معايير كونية مجمع عليها، وهو ما يعني رفض اعتبار النص الديني مرجعية للحقيقة لصعوبة الإمساك بها واختلاف المؤمنين به حولها. هذا علما أن التاريخانية باعتبارها مذهبا واقعيا لا يعير اهتمام لقضية الحقيقة والأخلاق إلا من وجهة نظر الباحث بسبب اختلاف القيم بين الغرب والشرق وبين باحث وآخر حسب ما تمليه القناعات والمشارب والتوجهات، وبذلك يصبح موقف العروي من ثنائية الحق والباطل يثير من التساؤل أكثر ممّا يقدمه من أجوبة.

فمثلا، يعيب العروي على العرب أنهم لا ينظرون للقضايا والأحداث في إطارها التاريخي، ويتعاملون معها بطريقة غير تاريخية، فيقول بالنسبة لفلسطين، إن القضية بالنسبة لهم تمثل صراع الحق مع الباطل، فيرفض الثنائية القائلة "إما أنك على حق أو أنك على باطل"، ناصحا العرب باعتماد النجاعة التاريخية الواقعية والعصرية مع المشاكل بدل التمسك بالأنماط التقليدية من قبيل الحق والحقانية والحقيقة والتي هي عبارة عن "ثرثرة كلامية" حسب تعبيره.

-       فماذا قصد العروي بهذا الكلام الصّادم للوعي الجمعي للأمة؟

هذا الكلام يكشف بشكل لا لبس فيه موقف الباحث التاريخاني من القضايا الجوهرية التي لها علاقة بثوابت العقيدة الدينية فضلا عن الأخلاق والقيم الإنسانية، ويجرد التاريخانية من النزعة الأخلاقية التي حاول العروي إضفاءها عليها لتجميل وجهها القبيح، ويسلّم بطريقة ضمنية بأن الحقيقة هي تلك التي يفرضها منطق القوة لا قوة الحق. لأن المعضلة هنا لا تكمن فيمن هو على حق أو باطل، بل فيمن له القدرة على فرض حقيقته على أرض الواقع بكل الوسائل بغض النظر عن الشرعية التاريخية أو المشروعية الأخلاقية.

وكان حريّا بالعروي أن يوجّه مثل هذه النصيحة المجّانية للكيان الإسرائيلي المحتل الذي يرفض السلام برغم تنازل العرب عن فلسطين التاريخية والقبول بدويلة غير قابلة للحياة على حدود ١٩٦٧ عاصمتها القدس الشرقية مقابل الاعتراف بشرعية الدولة القومية والدينية اليهودية والتطبيع معها، وهو التنازل الذي شجع الإدارة الأمريكية على الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل في إطار تصفية القضية بطريقة نهائية من خلال ما أصبح يعرف بـ "صفقة القرن" بين مستشار ترامب وصهره كوشنير وولي عهد السعودية محمد بن سلمان.. مستغلة في ذلك ضعف العرب وانهماكهم في صراعات وفتن وحروب بينيّة، وغياب الشعوب عن الفعل التاريخي الحضاري، والتآمر على المقاومة ووصمها بالإرهاب، ووصلت الوقاحة حدّا غير مسبوق حين أصبح الغرب يتدخل في نظم التعليم في البلدان العربية ويطالبها بمراجعة قيمها الدينية التي لا تتماشى مع قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان الغربية، بما في ذلك تعطيل الآيات القرآنية التي تتحدث عن الجهاد باعتبارها تشجع على الإرهاب، لأن من تأويلاتها تولّدت مختلف الإيديولوجيات المتطرفة، ويحثها على الانفتاح على العلمانية باعتبارها أسمى النظم الإنسانية التي وصل إليها الغرب في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، أو عصر نهاية التاريخ وانتصار النموذج العلماني الليبرالي الغربي بشكل نهائي وفق زعم المدافعين عنه.

وهذا بالتحديد هو ما تدعو إليه النزعة التاريخانية، فهي لا تعنى بالحقيقة بقدر ما تعنى بالسلوك، كما يقول العروي، والتاريخ في نظره هو معرفة علمية أولا وأخيرا (ثقافتنا في ضوء التاريخ، الدار البيضاء – بيروت، المركز الثقافي العربي، ١٩٩٢، ص:١٦). ما يجعل كل واقع جديد يلغي الواقع القديم، وبذلك، يتحوّل الواقع القائم إلى حقيقة واقعية وتاريخية بديلة، لأن الأحداث رهن بنتائجها، ولا يمكن الرجوع فيما أنتجه الواقع الجديد إلى الماضي للحكم عليه بمنطق واقع تاريخي لم يعد قائما، لأن الزمن في جريانه يشبه نهرا سريعا أو بطيئا يجري الماء فيه باتجاه محدد من الحاضر إلى المستقبل كما يقول. وهنا يكمن الفرق بين الحقيقة التاريخية والحقيقة الواقعية، أو بين الحقيقة التاريخية التي تنتمي لواقع كان قائما في الماضي، والحقيقة الآنية كما هي قائمة في الحاضر، ولا يفسد على التاريخانية رؤيتها هذه للتاريخ والواقع سوى الحقيقة القرآنية التي تبدو عصية على الإقصاء مثل ما نجح الأمر مع التوراة والإنجيل في الغرب، ويبدو التناقض واضحا بالنظر إلى أن مثل هذا النقد التاريخاني لا ينصب على الهولوكوست مثلا، ولا على الأساطير المؤسسة لحق اليهود المزعوم في فلسطين بمقتضى وهم شعب الله المختار في أرض الميعاد، لكنه ينكر هذا الحق على العرب في فلسطين بغض النظر عن حقائق الدين والتاريخ.

هذه النزعة التاريخانية الغربية التي يتبناها عبد الله العروي بحذافيرها، قامت على أساس نظرية "واحدية العلوم" التي تقول بضرورة فصل النشاطات الإنسانية عن كل المعايير الأخلاقية، فلا يصبح هناك من فرق بين الإنسان والطبيعة المادية، فتغدو معرفتنا بالإنسان أشبه بمعرفتنا بالظواهر الطبيعية، وبذلك يتم تشييئ الإنسان ليفقد بالنهاية قيمته الروحية وسموه الأخلاقي على بقية الموجودات، هذا علما أن العلوم الإنسانية الأكثر تطورا لا تستطيع أن تؤكّد لنا أن المقدّمات التي تنطلق منها والمعايير التي تعتمدها بإمكانها أن توصلنا إلى اليقين بدرجة عالية من الدقة، لأنه ببساطة لا يمكن  الحديث في العلوم الإنسانية عن البديهيات، خصوصا وأن تاريخ العلوم هو تاريخ أخطاء العلوم كما تؤكد ذلك الفلسفة الواقعية الحديثة، وبهذا المعنى، تتحول التاريخانية إلى منهج يسعى لتغريب الإنسان وسلخه عن جذوره التاريخية وبيئته المعرفية وعقيدته الدينية وقيمه الأخلاقية وهويته القومية ليتساوى من حيث القيمة مع الطبيعة المادية، فيتحول إلى إنسان بلا روح من منطلق الواقعية والعقلانية.
 وهو ما تفطن له الباحث عبد الوهاب المسيري وعالجه بإسهاب في مؤلفه "في نقد الخطاب الحداثي" من خلال استعماله لترسانة هائلة من المفاهيم المتنوعة المصادر، منحته فاعلية نقدية فريدة أغنت المنظومة الإبستيمولوجية في مجال الإنسانيات والمناهج النقدية الحديثة من خلال قدرته على "تحديد المفاهيم"، بحيث يقوم كل مفهوم بوصف جانب من الظاهرة، ويصبح اسما لها، ثم يقيم العلاقة بين مفهوم وآخر من خلال حال التقابل واللقاء، وبذلك نجح إلى حد ما في التخلص من القبضة الحديدية التي تفرضها على الباحث العربي النماذج المعرفية الغربية.
ويلتقي المسيري مع خلاصة الفيلسوف أريك فروم في كتابه "الإنسان بين الجوهر والمظهر" القائلة بأنه: "عندما يتغيّر في المجتمع أي جانب هام كما حدث عندما تحوّل الإقطاع إلى الرأسمالية، أو عندما حلّ نظام المصانع محل الحِرفيّة الفردية، فإن مثل هذا التغيّر يحتمل أن يؤدّي إلى اضطراب في الطبائع الاجتماعية للناس، ولا يصبح التكوين القديم للطبائع مناسباً للمجتمع الحديث ما يزيد من الشعور بالاغتراب واليأس، وأثناء هذه الفترات الانتقالية يصبح الإنسان ضحيّة لجميع أنواع المزاعم والادّعاءات التي تُهيّئ له ملاذاً من الشعور بالوحدة".
وعلى أساس هذه النظرية يقيم عبد الوهاب المسيري تماثلاً بين الرؤية الإمبريالية المعرفية والرؤية الصهيونية، فيقول، إن الرؤية الإمبريالية تعتبر الإنسان الأبيض (الغربي) مركز الكون، أما الرؤية الصهيونية فجعلت من اليهود شعباً مختاراً، وهذا يعني تمتعه بحقوق مُطلقة تنكر حقوق الآخر وتلغي كل المنظومات الأخلاقية القيمية بمنطق التعالي والقوة. وهي نفس الخلاصة التي قال بها روجي جارودي في كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" حين اعتبر أن الصهيونية السياسية التي اعترف بها مؤتمر بازل في غشت ١٨٩٧ هي "عقيدة سياسية، قومية، استعمارية" ومن هذه العقيدة صرح هيرتزل قائلا بعد المؤتمر: "لقد أسست الدولة اليهودية"، (روجي جارودي -الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية الطبعة الثالثة يناير ٢٠٠٠ ص: ٢٣). وبذلك نجحت الحركة الصهيونية في خلط السياسي بالقومي والديني، فتحولت بذلك إلى أداة وظيفيّة في خدمة المشروع الإمبريالي الغربي الذي يعتبر من أهم أهدافه العمل على تفتيت العالم العربي والإسلامي من خلال الحروب المباشرة والحروب بالوكالة والحروب الناعمة من الجيل الرابع والخامس، كي لا تقوم للأمة وحدة بعد قيام "الدولة اليهودية" في فلسطين والاعتراف الرسمي بها من قبل الدول العربية العميلة التي تطبّع معها بالسر والعلن فرادى وجماعات اليوم لقياس معارضة الشعوب التي لم تعد كما كانت زمن النضال القومي، ما يمهد لمرحلة جديدة تصبح فيها "إسرائيل" دولة طبيعية تنتمي، بل وتهمين على المنطقة، ولا يفسد عليها حلمها الوردي هذا اليوم سوى محور المقاومة بزعامة إيران.
 وهذا بالضبط هو ما حدث ويحدث في المنطقة عبر مراحل، ونجد من يروج له من الباحثين العرب بسطحية من بوابة الواقعية والعقلانية، وهو يدرك أن هدف إسرائيل ليس السلام ولا العيش في المحيط الذي زرعت فيه باحترام، بل لتظل المنطقة تعيش تحت ضغط الفتن والحروب والقتل والخراب إلى أن تدمر قيم مجتمعاتها، وتدنس أخلاقها، ويذهب ريح دولها، وتطمس هويات شعوبها، ويمحى تاريخها، وتنسى حضارتها، لأن المطلوب لنجاح المشروع الصهيوني في المنطقة أن يكفر العرب بهويتهم القومية، ويتخلون عن عقيدتهم الدينية، ويتحول إيمانهم من الإيمان بالإسلام باعتباره دينا يحرض على الكراهية والإرهاب إلى الإيمان بالعلمانية للّحاق بركب الحضارة وركوب قطار ما بعد الحداثة، والقبول بالكيان الصهيوني المجرم دولة طبيعية في المنطقة، وبأمريكا سيّدة هذا العالم بلا منازع.

وأساس التماثل بين الرؤيتين اللتان أشار إليهما المسيري، يكمن في كونهما مبنيين على "تصدير المشكلات إلى الخارج"، بحيث يدفع بقية العالم فواتير التقدّم الأوروبي. والحل الصهيوني بهذا المعنى هو حل إمبريالي مبني على تصدير المسألة اليهودية إلى فلسطين لحل مشكلات أوروبا، وتوظيف العنصر البشري لصالحها. وقد قامت الإمبريالية الغربية بتأسيس الدولة الصهيونية، بحيث أصبحت قاعدة للاستعمار الغربي وتدين له ببقائها، فهي دولة وظيفية تابعة للإمبريالية الغربية كما يؤكد المسيري في خلاصة بحثه التي ليست بجديدة على كل حال لأن المسألة معروفة للجميع، لكن الفرادة هذه المرة تكمن في أنه أصبح أمرا مؤكدا بالبحث العلمي القيمي الذي لا يغفل الجانب الأخلاقي في الحكم على الظواهر التاريخية وتطور النظم والأفكار والمجتمعات، بهدف إبراز الحقيقة دفاعا عن الحق بدل التسليم بالواقع القائم على منطق القوة والتضليل.
فالصهيونية كما هو معلوم، لم تنبع من واقع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم ولا علاقة لها بالعقيدة اليهودية، وإنما هي صيغة فرضتها الحضارة الغربية في عصر نهضتها، وبداية تجربتها الاستعمارية للتعامل مع الجماعات اليهودية، أي أن حال التبعية والذيلية الصهيونية للعالم الغربي، ليست مسألة تنصرف إلى أمور السياسة والاقتصاد، بل إلى بنية الأيديولوجيا نفسها وأصولها الحضارية والفكرية كما يؤكد المسيري في مؤله. وقد تبنّت الصهيونية كل هذه الأفكار الخاصة بالدولة القومية وتحرّكت في إطارها فأنشأت علاقة مع النظامين الفاشي والنازي، لذلك لا يمكن رؤية الحركة الصهيونية، ومن ثم فهم الخطاب الصهيوني خارج هذا الإطار. وهنا يبرز الفرق بين الباحث المغترب الذي يتبنى المناهج الغربية بعلاتها ويحاول تطبيقها في مجتمعات لها خصوصياتها المميّزة، وبين الباحث الذي يجتهد لإرساء مناهج جديدة تتسم بالموضوعية العلمية وتتساوق مع البيئة التي يعمل في إطارها، دون إغفال مسألة الحقيقة والحق والقيم والأخلاق.
أوردنا هذه المقارنة بين باحثين ينتميان لنفس البيئة العربية، للتمييز بين موقف العروي وموقف المسيري من القضية الفلسطينية للقول، أنه إذا كان المسيري ينطلق من الظواهر التاريخية فيحدد مفاهيمها انطلاقا من علاقة التقابل واللقاء القائم بينها دون إغفال مسألة الحقيقة والحق والأخلاق، فإن العروي من جهته يعتبر الحكم على الظواهر التاريخية من منطلق الاعتقاد الراسخ بالحق القومي والتاريخي والديني والأخلاقي كما يفعل العرب مع القضية الفلسطينية، اعتقاد غير واقعي مرتبط بأفق ديني أسطوري وخرافي، وبأفق تاريخي ينتمي لماض لم يعد قائما، وبالتالي، فمن غير المناسب عقلانيا وواقعيا التمسك به بعد أن تغيرت الظروف والشروط والأفكار وفق زعمه، وهو ما يحتم على العالم المؤرّخ أن ينطلق من فلسفة الحياة إذ يؤرّخ، وهي ذات فلسفة العالم الفيزيائي إذ يعمل في مخبره، وهذا هو مفهوم التاريخانية التي تضع كل فعل، كل تفكير، كل فهم في أفقه التاريخي الذي نشأ فيه، لكنها ترفض كل ما هو غير واقعي لأنه من مجال الطوبى والخرافة والأسطورة كما يوضح العروي، متجاهلا أن الفكر الصهيوني فكر خرافي أسطوري متعالي على الأخلاق ومعادي للحق والقيم الإنسانية الكونية.

ولعل هذا التباين في الموقف من الحقيقة بين التاريخية والتاريخانية هو الذي دفع ميشيل فوكو للقول من قبيل وصف ما وصل إليه الفكر الغربي في هذا المجال: "إن الحقيقة لا توجد خارج السلطة، بل إنها ذاتها السلطة بما تمثله من قوة، لأنها نتيجة إكراهات متعددة، ما دامت السياسة العامة للحقيقة تفرض أن تحدد السلطة نوع أو أنواع الخطابات التي تعتبرها حقيقة فتسوّقها للمجتمع". وهو ما يفيد أن الحقيقة لها طابع مؤسسي يحدد مفهومها في الفلسفة الحديثة.

والطابع المؤسسي وفق مارتن هيدغر يتجاوز أطروحة مطابقة الفكر للواقع عند الفلاسفة، والدال للمدلول عند المفسرين، والمعنى للمصداق عند الألسنيين، لأن الحقيقة بهذا المعنى لا يمكن أن تكون استنساخا للواقع القائم وترجمة أمينة له، ما دام التطابق لا يكون إلا بين شيئين متماثلين في الشكل والطبيعة، فكيف يمكن أن يكون الفكر مطابقا للواقع وهما مختلفان؟ كما يتساءل هيدغر.

وهو الأمر الذي دفع ميشيل فوكو لتعديل رأيه فيما بعد والقول بنسبية الحقيقة وتعدد أوجهها واستحالة تمثلها في صورة واحدة بالنسبة للجميع، فلكل حقيقته التي يتوصل إليها من استنطاق التاريخ أو الثقافة أو نتيجة لقراءة معطيات الواقع من الداخل.

والحقيقة بهذا المعنى ليست كل ما هو نفعي ومفيد في تغيير الفكر والواقع كما تدعو إلى ذلك التاريخانية البراغماتية التي يتبناها عبد الله العروي، لأن الإقرار بالقيمة النفعية للحقيقة يجردها من قيمتها المثالية ويفسح المجال لسلوكيات غير أخلاقية، ولا بد وأن تخضع الحقيقة لمعيار الصدق الذي يفيد تفكيرنا والصواب الذي يفيد سلوكنا كما يقول وليام جيمس.

وإذا كانت الحتمية التاريخانية عند عبد الله العروي تعني القطيعة مع التراث الدوغمائي بسبب استغلاله من قبل السياسي، والانخراط في الفكر العالمي والتعامل مع القضايا وفق شروط المرحلة التاريخية، فهذا لا يعني، من وجهة نظرنا، القطيعة مع الدين الذي يبقى الدافع والمحفز الذي يحكم حركة التاريخ، والتفريق بين ما هو ديني وما هو إيديولوجي كفيل بفتح العقول على طريقة مغايرة وأسلوب جديد للتعامل مع معطيات الواقع القائم التي تختلف عن معطيات الواقع القديم لاختلاف الظروف والشروط التي حددت المفاهيم وشكلت الثقافة السائدة، ما يستوجب تصحيحها وتجديدها لتساير إكراهات ما بعد الحداثة، أما تبني التاريخانية انطلاقا من طبيعتها الإيديولوجية فيفرغها مما تزعمه من موضوعية علمية وحس أخلاقي، ويحوّلها إلى أداة لتدجين المجتمعات وسلخها عن قيمها التي تشكل الشخصية التي تميّزها فتعرضها للتغريب والتلاشي.

وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع بعض ما يطرحه العروي من أفكار، فالملاحظ أن الرجل لم يتخلى عن ثقافته الماركسية في التعامل مع التاريخ، بالرغم من أنه تحوّل بحكم التطور التاريخي الذي فرضته الأحداث، إلى مدافع عن العلمانية السياسية والليبرالية الفكرية باعتبارهما الطريق للعبور إلى الحداثة العربية، لكن بشرط الحسم مع الإيديولوجي والانخراط في صيرورة الواقع الاجتماعي التي ستنتهي حتما إلى اعتناق العلمانية في زمن ما بعد الحداثة، لأن المجتمع من حيث يريد أو لا يريد، من حيث يدري أو لا يدري، يتجه نحول العلمانية، وهذه الحتمية مردها غياب أنموذج حضاري عربي بسبب تراكم الانتكاسات والهزائم منذ الاستقلال إلى اليوم، وإدراك الجميع أن الحلم العربي كان مجرد وهم غير قابل للتحقيق، وبذلك أصبح الواقع يفرض نفسه على الجميع بغض النظر عن القيم والأخلاق، لأن ما يسميه العروي بالبذور العتيقة في إشارة إلى التراث، زرعت في الناس اليأس والميل إلى التخريب، وقد ظهر ذلك جليا إبّان ما عرف بالربيع العربي ولا تزال تداعياته لم تنتهي بعد بسبب ركوب الاستعمار لثورات الشعوب ومحاولة توظيفها في الوجهة التي تخدم مصالحه من خلال زرع الفتن والحروب بالوكالة تحت ما أصبح يعرف بالحروب الناعمة والفوضى الخلاقة، لأن من الفوضى يولد النظام كما تقول النظرية العلمية الفيزيائية.

وفي هذا الصدد يقول العروي: "واجب علينا إنقاذ العلم والسياسة، لا من الدين، إذ المفهوم يتطلب كل مرة مزيد تدقيق، بل من التأويل الذي فرضته السنّة، والسنّة مؤسسة بشرية، رسمية كانت أم لا، منظمة كانت أم لا، والواجب عام ودائم إذ لا نهاية للصراع" (السنة والإصلاح - ص:٢١٠).

أما كيف؟ فيقترح العروي الحل التالي: "في هذه الحال لا بدّ من سلطة محايدة، ترسم الحدود وتُلزم كل طرف باحترامها، بعد أن علّمتنا تجارب مرّة كثيرة أن النفس لا تؤتمن" (المصدر السابق).

وهنا يصل العروي إلى خلاصة ما يعتبره الحل الأنجع للمعضلة، والمتمثل في العلمانية، باعتبارها المؤسسة المحايدة المناسبة، فيقول: "كلمة علمانية، رغم ما يلازمها منذ القرن الماضي وبكامل الأسف من إشارة قدحية، لا تعني سوى الحياد المنشود" (المرجع السابق). ويعتبر أن التشويه الذي طال العلمانية سببه الحملة التي شنّها مروجو نظرية دارون ضد التفسير المنسي للتاريخ الطبيعي، متأثرين بما كان يجري آنذاك في أوروبا. أما كلمة علماني فمقتبسة من "العلم" وفق المصدر الإنجليزي (scientist)، ومنشؤها سببه التعارض الذي كان قائما بين العلم والدين، ولو ترجمها العرب إلى "دنيوي" مقابل "أخروي" أو "سلطاني" مقابل "شرعي" لما استبشع المصطلح في الأوساط الشعبية كما هو الحال اليوم مع لفظ "علماني".

غير أن مثل هذه الدعوة تبدو كصرخة في واد بسبب فشل النموذج العلماني الغربي بشهادة محمد أركون التي أوردناها من قبل، والتي تؤكد عودة الناس في أوروبا إلى الدين هربا من الفراغ الذي أحدثته الحياة المادية في ظل العلمانية المتطرفة والليبرالية المتوحشة.
هذه الحقيقة الواقعية التي تتجاهلها التاريخانية، تكشف إلى حد بعيد كيف أن حلم ماركس القائل بـ"اختفاء الدين" مع تطور نمط و وسائل الإنتاج والتحولات في شكل الملكية، لم يتحقق، بل العكس هو ما نراه يحدث اليوم، ذلك أن نضوب المعنى السائد في الحياة المعاصرة، وتفشي العدمية، وشيوع التشاؤم، وانطفاء الأمل، وذبول جذوة الحياة، وفشل المتع الحسية في إرواء ظمأ الروح لملء الفراغ النفسي الذي أصبح يشعر به المواطن الغربي، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن المادة ليست هي هدف الإنسان الأسمى في الوجود، وأن المتطلبات العميقة والدفينة للروح التي هي من عالم الأمر هي التي تدفع بالإنسان للبحث عن المطلق الذي لا ترتاح إلا في ظله، وهي متطلبات عميقة أدى إهمالها من قبل الفكر المادي إلى ظاهرة انبعاث الدين من جديد في المجتمعات المعاصرة، وهو ما وصفه عبد الجبار الرفاعي في مقالة له حول الفلسفة والعلوم الإنسانية على موقع "مؤمنون بلا حدود" بـ "انتقام الله لنفسه".
يقول عبد الجبار الرفاعي في هذا الصدد: "إن ما لم تتنبه إليه الماركسية هو أنّ الذات البشرية بطبيعتها؛ باطنية، داخلية، عميقة، تنطوي على أسرارها، وتتخصّب وتغتني بمنابع إلهامها وديناميكيتها الجوانية، وتتحقق على الدوام حين تشعر بوجودها وتجاربها الخاصة. ولا يمكن لنا اختراق هذه الحياة واكتشاف مدياتها إلا بحدود ما تبوح به هي. يولد الإنسان بمفرده، ويحيا بمفرده، ويموت بمفرده، ويتألم بمفرده، ويشعر بالخطيئة بمفرده، ويؤمن بمفرده، ويستفيق ضميره بمفرده، ويجتاحه بمفرده أيضاً القلق واليأس والاغتراب والضجر والسأم والألم والحزن والغثيان وفقدان المعنى وذبول الروح وانطفاء القلب والجنون...إلخ. لا تبدأ الحياة الإنسانية الحقيقية إلاّ عندما توجد الذات الشخصية وتتحقّق، وهذه الذات لا تتحقّق من دون الفعل، فالوجود الإنساني لا يصل إلى الامتلاء إلاّ بالفعل وحده. الذات البشرية وجودها وصيرورتها الحرية، وحيث لا حرية تنطفئ الذات. والحرية ليست أمراً ناجزاً قبل أن نشرع باستعمالها، وجود الحرية يعني ممارستها. والحرية لا تتحقق بعيداً عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته. لحظة تنتفي الحرية تنتفي الذات، ولا تغتني الذات وتتسع وتتكامل إلاّ بالحرية" (د. عبد الجبار الرفاعي، دعوة للخلاص من نسيان الذات، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، ع 55/56 - صيف وخريف 2013).

وتجدر الإشارة بالمناسبة، أن المفارقة في مقولة العروي حول فلسطين، تكمن في تجاهله وهو يدافع عن المنهج التاريخاني، العلاقة التاريخية القائمة بين العلمانية والليبرالية والصهيونية، وهي العلاقة التي أكدها الباحث عبد الوهاب المسيري بقوله: "إن هناك ديباجة أخرى بصيغة دينية يهودية هي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المتهوّدة التي تُعبّر عن الإجماع الصهيوني، والهدف منها احتواء المادة البشرية اليهودية، فتذهب إلى أن العالم هو المنفى، وأن اليهود يشكّلون شعباً عضوياً واحداً لا بد من أن يُنقل من المنفى - فهو شعب عضوي منبوذ - إلى فلسطين أرض الميعاد. والهدف من النقل ليس التخلّص من اليهود وتأسيس دولة وظيفية، وإنما إصلاح الشخصية اليهودية وتطبيعها. وبهذا المعنى، اكتسب المكان الذي سينقل إليه الشعب اليهودي معنى داخلياً إذ تصبح الأرض هي الأرض الوحيدة التي تصلح للخلاص المشيخاني أو الاشتراكي أو الليبرالي، فهي أرض الميعاد الدينية والقومية والعلمانية، ما دام خلاص الشعب هو خلاص الأرض وهو نفسه مشيئة الإله".
إن "الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة" و"الصيغة الصهيونية المتهوّدة" وفق المسيري، تشكّلان أساس العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، والذي يقضي بأن تلتزم المنظمة الصهيونية بموجبه بإخلاء أوروبا من يهودها أو على الأقل من الفائض البشري اليهودي وتوطينهم في فلسطين، على أن يقوم الغرب بحمايتهم ودعمهم وضمان بقائهم وتوظيفهم لمصلحته. وهذا هو الواقع الذي يدعونا عبد الله العروي للتسليم به والتعايش معه من باب الواقعية والعقلانية بغض النظر عن منطق التاريخ ومنطق الحق والقيم الدينية والأخلاقية التي نؤمن بها وتقوم عليها هويتنا العربية والإسلامية.
لقد ظل العروي وفيّا لقناعاته وخياراته لا يهتم لمنتقديه، داعيا العرب إلى الانخراط الفكري في تاريخ لم يصنعوه بسبب عجزهم، في إشارة إلى التاريخ العالمي عموما والأوروبي بوجه خاص، ناصحا إياهم باستيعابه ليتمكنوا من دخول العصر من أوسع أبوابه حتى لا يظلوا معاصرين من حيث الظاهر، فيما وعيهم معتقل في سجن الماضي دون أن يدركوا خطورة المآل الذي انتهوا إليه.

وبرغم هذا التطور التاريخي الذي مرت منه أفكاره، إلا أنه يرفض التخلي عن التاريخانية المادية، متجاهلا مّا تعرضت له من نقد، ما دام يجد فيها كما يقول، الطريق الوحيد للتخلص من الانتقائية والسلفية واستبدالهما بالخضوع للفكر التاريخي بمقوماته المتمثلة في: "صيرورة التاريخ - إيجابية الحدث التاريخي - تسلسل الأحداث - ومسؤولية الأفراد عنها" (العرب والفكر التاريخي). هذا الفكر التاريخي كما يقول، هو الذي يستطيع تحريرنا من أصالة موهومة تمجّد التراث، لذلك يدعو العروي إلى العلمانية والليبرالية وما بعد الحداثة في إطار ماركسية تاريخية، مقوماتها الإيمان الذي يقوم على أساس: ثبوت قوانين التطور التاريخي ووحدة اتجاهه، وإمكانية اقتباس الثقافة، وإيجابية دور المثقف المنفتح والسياسي العقلاني أمام تراجع دور المثقف الإيديولوجي. متجاهلا أن الباحث التاريخاني هو باحث إيديولوجي يؤمن بحتمية تاريخية لا بد وأن تنتصر في النهاية ضدا في السنن الطبيعية والتاريخية معا. وهذا لعمري هو عين الوهم لأنه يتجاهل سنن الله في الخلق والتاريخ، ويستبدلها بالحتمية التاريخية الماركسية التي فشل أنموذجها السياسي والاجتماعي وسقط إلى لا رجعة.

هذا المنهج التاريخاني الذي يعتنقه العروي، يعتبره محمد عابد الجابري "كونية ثقافية موهومة"، لأنه وبرغم عديد المشتركات بين الثقافات الإنسانية إلا أنه لا يمكن لشعب أصيل كالشعب العربي أن يلغي خصوصياته الثقافية النابعة من تاريخه ودينه وحضارته لينصهر في ثقافة كونية موهومة لا وجود لها إلا كطوبى، والطوبى تحديدا هي ما يرفض المنهج التاريخاني التعامل معها، ويقترح الجابري بدل التغريب الذي يدعو له العروي، التمسك بالتراث الإسلامي والتصالح معه بمحاورته ومراجعته وغربلته لتملّكه والتأسيس عليه لأنموذج ثقافي خاص بالذات العربية والإسلامية (نحن والتراث). وهذا بالتحديد هو ما ندعو إليه.

قد يبدو ما دعا إليه الجابري عملا مستحيلا بسبب الكم الهائل من المؤلفات التي يزخر بها التراث والتي تراكمت خلال قرون طويلة دون مراجعة، لكنه عمل لا مناص منه، شرط اعتماد المنهج العقلاني السليم الذي يستطيع الاشتغال على التراث دون حساسية بسبب طغيان سرطان الطائفية والمذهبية في الوعي الإسلامي، ولا بدليل عن ذلك ما دامت الشعوب لا تستطيع اعتناق ما هو أجنبي بسبب اختلاف مواضيعه ولغته وإشكالاته كما ينبه إلى ذلك الجابري، باستثناء العلوم التي هي إرث إنساني مشترك ومشاع بين الجميع ولا يتسم بالنزعة التسلطية النفعية. وكلما أسرع العرب في مراجعة تراثهم كلما اقتربوا من نقطة الضوء للخروج من النفق المظلم.

هذا هو الفرق بين دعاة الحسم والتغريب ودعاة الإصلاح في ظل الأصالة لولوج عالم الحداثة، والغريب أن الرجلين (العروي والجابري) ينتميان لنفس المدرسة الفكرية الماركسية، وكانا معا عضوين في الحزب الاشتراكي المغربي زمن النضال لكنهما اختلفا حول التاريخانية وتطبيقاتها فيما له علاقة بالدين.

ونستطيع القول أن الرجلين وإن كانا في بداية حياتهما الفكرية يدعوان إلى التعامل مع الواقع بالمنهجية التاريخانية، أي بالمعنى الدنيوي البحث الذي ينزع عن هذا التعامل كل نزوح نحو الدين الذي يقيد الدنيوي بشرطه لضمان نجاة الإنسان في نهاية تجربته الأرضية، فإن الجابري انتهى باحثا في العقل العربي ثم النص الديني، وختم حياته بتفسير القرآن تفسيرا موضوعيا، فيما تأثر العروي بمقولة الجابري حول التراث، وهذا ما يستشف من كتابه "السنة والإصلاح" الذي يعد خطوة في الاتجاه الصحيح ودعوة صريحة لمراجعة التراث على ضوء القرآن، ومن قرأ الكتاب لا شك أنه لاحظ انتصار العروي للقرآن على حساب التوراة والإنجيل، واقتنع بدعوة الجابري لإعادة النظر في التراث وفهم الدين عموما انطلاقا من تجربة إبراهيم الخليل عليه السلام صاحب العهد والوعد وأب الرسل والأنبياء وإمام المتقين في كل مكان وزمان.

والسؤال هو: هل مرد هذا التحول النسبي في فكر العروي يعود لكونه اكتشف اللاّ تاريخانية التي يتميز بها العهد القديم والجديد، لعدم مطابقة الوقائع التي تتحدث عنها للتاريخ بالمفهوم الذي جاء به القرآن الكريم؟

لم يفصح العروي عن هذا الأمر، لكنه لمّح إلى إمكانية التأسيس لثقافة جديدة مبنية على مفاهيم دينية صحيحة انطلاقا من القرآن دون سواه، وهذه لعمرى رؤية سليمة نتفق معه عليها وتنم عن تحول كبير في رؤية الرجل وقناعاته. وكان العروي قد كشف في مؤلفه المشار إليه أعلاه عن اقتراح سبق وأن قدمه لمُجمّع فكري دولي ينعقد كل سنة في إيطاليا، طلب فيه أن يقضي في قصر جميل ومنعزل عن الحياة المدنية اليومية مدة ستة أشهر يدرس فيها القرآن بصفاء ذهن ولا يحمل معه من المراجع شيئا آخر غير كتاب الله، وفي نهاية المدة يقدم استنتاجاته، لكن المُجمّع العلمي المذكور رفض الفكرة لأسباب لم يوضحها.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق