بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 2 أكتوبر 2018

مناهج التفسير الحديثة (4/2)



أركون: من الإيمان بالله إلى الإيمان بالدولة

ظهرت التاريخانية لأول مرة كمصطلح في معجم "لاروس" الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر، وهو القرن الذي شهد ثورة في مختلف مجالات العلوم والمعرفة، وارتبطت ارتباطا وثيقا بتقدم الحضارة الأوروبية، ما يؤكد دلالتها المادية قولا واحدا، وقد استخدمها لأول مرة كارل فرنر سنة ١٨٧٩ لتعريف فلسفة فيكو، وخصوصا مقولته التي تؤكد أن "العقل البشري لا يدرك إلا ما يصنع"، وعرّفها كارل بوبر بأنها "البحث عن قوانين التغيير الاجتماعي".../...


وبرزت "التاريخانية" بقوة مطلع القرن العشرين في حقل العلوم الاجتماعية زمن هيجل وكونت وماركس وميل وسبنسر، ثم تطورت إلى ما أصبح يعرف بـ "التاريخانية الجديدة" في عصر ما بعد الحداثة، حيث انتقلت من الاشتغال على مجال التاريخ والعلوم الإنسانية إلى مجال نقد الخطاب الأدبي سنة ١٩٨٠ في الولايات المتحدة الأمريكية على يد ستيفن جرينيلات، وحظت باهتمام كبير مع صدور كتابه "الصدى والأعجوبة" عام ١٩٩٠، وظلت موضة العصر وحديث المثقفين الجدد إلى يوم الناس هذا.

والتاريخانية الجديدة وفق ستيفن جرينيلات، جاءت استنادًا إلى فرضية تقول بأن العمل الأدبي ينبغي أن يكون نتاج زمانه ومكانه وظروفه، أكثر من كونه نتاج عمل منفرد في خلقه. فجاءت هذه المقولة بمثابة ردة فعل ضد النظرية النقدية القديمة التي كانت تركز على التحليل الشكلي للنصوص الأدبية، مقترحة مقاربة جديدة تسعى لفهم العمل الأدبي من خلال سياقه التاريخي وفهم التاريخ السياسي والثقافي من خلال الأدب، بحيث يقود ذلك إلى علم جديد هو "تاريخ الأفكار". هذا طرح لا جدال فيه ما دام الأمر يتعلق بالإنتاج الفكري البشري، لكن المعضلة تكمن في الوحي الإلهي الذي لا يمكن إخضاعه لمنهج دراسة الأفكار البشرية ومن ثم القول بأنه "منتج ثقافي" وليد زمانه وبيئته كما ذهب إلى ذلك نصر حامد أبو زيد الذي اعتنق هذه النظرية بحذافيرها تحت مسمى "التاريخية"، لتجنب الخوض في الإشكالات القائمة بين الحقيقة الإلهية المطلقة والفكرة الإنسانية النسبية في المجال الديني.

من هنا اتخذت التاريخانية مفهومها الواسع الذي شمل مجالات التاريخ وعلم الاجتماع والأدب والثقافة والفن والسياسة والدين، فكانت تعنى باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة، وانتقاد المؤسسات السياسية المهيمنة، وتقويض المقولات المركزية السائدة بما فيها المقولات المؤسسة على اعتقادات دينية كانت تراها غير واقعية ومن مجال الخرافة والأسطورة التي لا يمكن إثباتها.. وبهذا المعنى، جاءت التاريخانية الجديدة كمعول لهدم المفاهيم الثقافية القديمة في إطار الحسم مع مخلفات الماضي للانطلاق نحو المستقبل بمفاهيم وبنى فكرية جديدة تساير التاريخ بمنطق العصر، بغض النظر عن الحقيقة والأخلاق والمثالية، وهنا تكمن خطورتها في المجال الديني، لأنه إذا كان لتطبيقات التاريخانية في مجال التراث الفكري الإنساني من مزايا لا تنكر، إلا أن سعي البعض لإخضاع القرآن لمنطقها يجعل مقولة "الحسم" بمعنى القطيعة تنتقل من التراث إلى المقدس، وفي هذا الإطار يمكن فهم سعي بعض الباحثين العرب لإقحام القرآن في مجال التراث ورفض التفرقة بينه وبين الثقافة باعتباره جزء منها تأثر بها وأثر فيها، لأن القرآن وفق هذا الرأي الذي دافع عنه بقوة محمد أركون ونصر حامد أبو زيد على سبيل المثال لا الحصر، خُلق ليناسب بيئة جغرافية معينة في إطار ثقافي محدد، وإن كان هو أيضا أصبح منتجا للثقافة بعد ذلك حين هيمن على اللغة فاستعملها بطريقته الخاصة للترويج لخطابه.

والحقيقة أنه لا يوجد مفهوم موحد حول "التاريخانيّة"، فقد تشعبت إلى مفاهيم متعددة، وأصبح كل باحث يعرّفها بما يخدم هدفه من البحث، ومنهم من فضل استعمال مصطلح "التاريخيّة" كمحمد أركون ونصر حامد أبو زيد كما سبقت الإشارة، ومنهم من فضل استخدام مصطلح "التاريخانية" كبد الله العروي وغيره، وهذا لا يعني تغييرا في المنهج بقدر ما هو تغيير في العنوان بما تعطيه اللسانيات من تحديد، لأن "التاريخانية" وفق أركون توهم بوجود معنى معروف للتاريخ، في حين أن "التاريخية" تبقي الباحث في مجال التساؤل، يطرح الأسئلة التي تفتح على أسئلة جديدة إلى ما لا نهاية، وهذا التعريف يشبه إلى حد بعيد منهج الشك عند ديكارت الذي انتهى به الشك إلى الشك في الشك نفسه فتحول إلى نوع من العبث.

واستبدال مصطلح "التاريخانية "التي تفضي إلى الوصف انطلاقا من مواقف مسبقة وأحكام جاهزة بمصطلح "التاريخية" التي تطرح الأسئلة دون اهتمام بما تنتجه من أجوبة ومقارنتها بالحقائق في المعتقدات القائمة لإنتاج المعرفة، حوّل محمد أركون إلى فارس بلا حصان، فاقد للبوصلة والاتجاه، يتحدث عن مشاريع فكرية كبرى، ويطالب نظراءه في الغرب بإنجازها، يرفض أن يسمي القرآن كلام الله ويفضل تسميته بـ"خطاب النبي" لأنه لا يتفق مع الطريقة التي تم بها جمع القرآن زمن عثمان وتدمير النسخ الأربعة الأخرى، وبالتالي، يفضل التعامل مع المصحف كما تعامل نظراؤه في الغرب مع التوراة والأناجيل دون مراعاة للفرق القائم بين كلام الله وكلام البشر، وينصح الباحثين في التراث الإسلامي بتطبيق المنهج الأركيولوجي على فترة نزول القرآن والفترات التي تلته، لاكتشاف الدور الكبير والخطير الذي لعبه الخيال والتقديس في تشكيل العقل الخرافي العربي والإسلامي.

والحقيقة أن ما دعا إليه أركون قد سبقه إلى تطبيقه تيودور نولدكه سنة ١٨٥٩، والذي انتهت به حفرياته حول القرآن إلى خلاصة ضمنها في كتابه "تاريخ القرآن" مفادها، أن الطريقة التاريخانية النقدية لا تجدي نفعا ولا تؤدي إلى نتيجة تذكر مع القرآن، لأنها تتعامل معه كما تتعامل مع المخطوطات التي تتميز بتعددها وآلياتها وقدمها ودقتها، واستعمال النسخ المختلفة يهدف إلى الوصول إلى نص محقق أقرب إلى النص الأصلي الذي كتبه المؤلف، وهو ما لا ينطبق على القرآن الذي تناقلته الأجيال الأولى حفظا بالتواتر، ولم يعارض أحدا من المسلمين وخصوصا القراء والحفظة ما تم تدوينه في مصحف عثمان لا شكلا ولا مضمونا، بحيث حصل للقرآن إجماع لم تحظى به الكتب السماوية الأخرى كالتوراة والإنجيل. ومن ثم اعتبر نولدكه محاولة القراءة التاريخانية النقدية للقرآن مجرد خطل، لأن النص القرآني يعود إلى القرن السابع الميلادي، وهو نص واحد لا ينافسه نص آخر كما حدث مع الكتب السماوية الأخرى (الأناجيل الأربعة مثالا)، وليس فيه أو له أصول وفروع (التوراة مثالا). وقد تخلى كل الباحثين المستشرقين عن عملية الحفر الأركيولوجي هذه بعد أن انتهوا إلى ما انتهى إليه نولدكه، ومنهم أوتو برتزل وآرثر جفري، ثم بلاشير وبارت من بعدهما.

وحيث أن الأمر كذلك، فقد عمد المستشرقون إلى محاولة إعادة ترتيب القرآن حسب أسباب النزول، بهدف بناء تصور موضوعي لتطور الوحي وفق مسار النشأة والتكوين، لكنهم سرعان ما عدلوا عن ذلك، عندما اكتشفوا أن اللوائح التي وضعها الرواة المسلمون يكتنفها الكثير من الاختلاف الذي طال جميع السور تقريبا، وبالتالي، لم يأتي التحقيب الذي اعتمده بلاشير لترتيب القرآن حسب أسباب النزول بجديد مفيد، بل وصل إلى نتائج كانت معروفة في التراث، مع صعوبة إن لم نقل استحالة ترتيب السور في إطار هذا التحقيب، والسيرة النبوية تقدم من الإضاءات المفيدة ما يغني عن هذا التحقيب المستحيل لآيات وسور القرآن، وهو ما جعل بلاشير يعود في نهاية الأمر إلى الترتيب المعمول به في مصحف عثمان الذي عدّل على أساسه الطبعات اللاحقة لكتابه "ترجمة معاني القرآن". (محمد عابد الجابري - مدخل إلى القرآن الكريم - ج١، ص: ٢٢٠ – ٢٢١).

واستحالة التحقيب هذه تعود لكون ثمانية أعشار آيات القرآن الكريم (٨٠ في المائة) ليست لها أسباب نزول، كما أن القسم الأكبر ممّا ذكر عن أسباب النزول في التفاسير مختلقة مشكوك في صحتها ووقع عليها اختلاف كبير بين المفسرين، لعدم ملاءمتها لمنطوق النص ومقاصد الرسالة، وهذا الاختلاق وفق ما خلص إليه بسام الجمل في دراسته (علم التنزيل – المؤسسة العربية للتحديث الفكري والمركز الثقافي العربي ٢٠٠٥)، كانت وراءه دواع سياسية ومذهبية وبيئية وثقافية، حتى قد تكون لعقد صلة بين آيات المصحف وما شاع من اخبار سيرة الرسول ومغازيه انطلاقاً من مجالس القصاص والإخباريين. فابن عباس مثلاً الذي استأثر برواية أكثر من ثلثي المرويات لا يعتبر شاهداً حقيقياً على مرحلة الوحي، وفي هذا الصدد يتساءل بسام الجمل فيقول: كيف لابن عباس - وهو في سن الثانية عشرة عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم - أن يكون صحابياً بالمعنى الدقيق للصحبة وشاهداً موثوقاً به على احداث فترة الوحي؟ ثم من يجرؤ في ظل الدولة العباسية على تكذيب "جد الخلفاء العباسيين" وقتها او التشكيك في سلامة رأيه؟ كما ان جل التابعين من رواة الاخبار كانوا من الموالي، ومن المعروف ان مناهضة بني أمية للموالي سيدفع بالعديد منهم الى الرغبة في التفوق على العرب في الميادين التي كانوا يترفعون عنها، ومنها مجال العلوم عموماً كعلوم الدين واللغة وما شاكلها. وبالتالي، فكل محاولة لتطبيق التاريخانية على القرآن الكريم استنادا إلى أسباب النزول لم ولن تأتي بنتيجة تذكر.

ومرد دعوة أركون لتطبيق المنهج الأركيولوجي (الحفريات) على القرآن الذي سبق وأن اعترف مستشرقون كبار بعبثيّته، يعود لرغبته في اكتشاف أوجه الاختلاف بين مصحف عثمان والمصاحف المفقودة، ويقصد بذلك المصاحف الأربعة التي كانت تتداول في مختلف أرجاء البلاد الإسلامية إلى غاية العام ٣٠ من الهجرة، وهي: مصحف أبي بن كعب في دمشق، ومصحف ابن مسعود في الكوفة، ومصحف أبو موسي في البصرة ،ومصحف المقداد في حمص. فكانت كل جهة تقرأ القرآن وفق المصحف الذي لديها وتعتبره المرجع الإمام في الفصل عند كل اختلاف.

 وبالرغم من أن كل مصحف من المصاحف الأربعة كان يتميز عن غيره ببعض الخصوصيات البسيطة التي لا تغير من جوهر بنيته لجهة تقديم أو تأخير بعض الآيات وضم بعض السور القصار لبعضها واعتبار المعوذتين من طقوس الدعاء لا الوحي، إلا أن ترتيب السور كان هو نفسه  الذي جاء به مصحف عثمان، ولم يعتمد أحد من الصحابة الأربعة ترتيب الآيات وفق أسباب النزول، وما كان له أن يفعل مخالفا بذلك قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم وجمهور المسلمين، خصوصا وأن الترتيب الذي لدينا اليوم كان ترتيبا توفيقيا من الله تعالى عن طريق جبريل عليه السلام الذي كان يشير على الرسول صلى الله عليه وسلم بمواضيع الآيات من السور، وكان يُقرأه ما تنزّل من القرآن في رمضان، وفي رمضان الأخير من عمره الشريف، أقرأه الروح الأمين القرآن كاملا مرتين. كما أن الرسول كان قد قيّد للقرآن ٤٠ كاتبا لا شغل لهم سوى تدوين التنزيل، وبعد اكتمال الوحي وجّههم لطريقة ترتيب الآيات ووضعها في السور التي تناسبها. وهناك الكثير من الروايات التي تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وجماعة المسلمين، كانوا يقرؤون القرآن على نفس الترتيب الذي يبدأ بسورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس. ولعل عمل كتاب القرآن من جهة، وحفظ القرآن في صدور المسلمين قبل الجمع النهائي من جهة ثانية، هو الذي ساعد على حفظ ترتيب التلاوة وفق نفس قراءة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم دون تغيير أو تبديل، باستثناء مصحف الإمام علي كرم الله وجهه الذي كتبه وفق أسباب النزول وضمنه حواشي للشرح والتفسير وفق ما تذكر المصادر الشيعية، لكن لا أحد يعلم مصير هذه النسخة التي كتبها الإمام خلال ستة أشهر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومهما يكن من أمر، فما طرحه أركون حول المصاحف المفقودة قد يشكل هاجسا بالنسبة للباحث الغربي، أما الباحث االمسلم فلا يسعه إلا التسليم بأن جمع وترتيب القرآن كان بتوجيه من الله تعالى لقوله: (إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)  القيامة: ١٦ – ١٧. كما أنه تعالى تعهّد بحفظه من العبث والتحوير والتزوير كما حدث مع التوراة والإنجيل لقوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر: ٩.

ويشار في هذا الإطار بخاصية لافتة، وهي أن التحقيب الذي عمل عليه المستشرقون طويلا لم يساعد على كشف التناقض بين الخطاب القرآني والنصوص التاريخية المعتمدة كما حصل مع التوراة والأناجيل، وتكمن الصعوبة العملية لذلك في أن القرآن عندما يذكر حادثة من الحوادث فإنه يطمس معالمها وإحداثياتها الزمكانية ولا يهتم بالكرونولجيا التاريخية في السرد، حيث يجد الباحث نفس الحادثة وزعت على شكل أجزاء متفرقة في أكثر من سورة وبسياقات مختلفة، بحيث لا يمكن فهمها إلا إذا جمعت كل الآيات الخاصة بها وأعيد تركيبها لتتضح الصورة ويفهم المعنى الموضوعي للقصة من مختلف جوانبها، فيتضح مغزى الموعظة التي تعتبر الهدف الأساس من التذكير بالقصة، فتخرجها من الإطار التاريخي التي حدثت فيه إلى مجال التدبّر العقلي للذكرى والتأمل الروحي لتغذية الإيمان وتقويته. وفي غياب تحقيب موثق لآيات القرآن وفق أسباب نزولها، يستحيل على المنهجية التاريخانيّة القيام بمسح القرآن مسحا شاملا، وتحقيقه، والتأكد من تواريخه ووقائعه، ومن ثم دراسة كل ما ليس بواقعة مادية محسوسة من خلال علم النفس التاريخي، لتحديد الخيالات والأوهام والأحلام والطوباويات التي عمرت رؤوس الناس أو حركت نفوسهم، كما يقول محمد أركون متحسّرا (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل – ص: ٦٧).

وأمام هذه الاستحالة، لم يجد أركون من مخرج لمعضلته سوى القول من باب تبرير العجز، بأن هذه الرمزية في السرد التي يعتمدها الخطاب القرآني تصبغ عليه نوع من التعالي (التقديس) والتسامي (التصعيد)، فتصبح الحادثة تروى من خارج التاريخ وكأن لا علاقة لها بأي زمان أو مكان وقعت فيه. وهذا من وجهة نظره طمس لمعالم التاريخية ينتزع النص من الواقع، الأمر الذي لا يساعد على تحريره من الأسطورة كما يقول. وهو عكس ما ذهب إليه حين أكد أن القرآن نفسه يتضمن الوعي التاريخي الذي يسمح بدراسته دراسة تاريخية، ما جعله يبحث عن ضالته في التطبيقات اللسانية لاكتشاف العلاقة بين المصطلح واستعمالاته، عسى أن يساعده ذلك في إثبات تاريخية القرآن باعتباره منتجا ثقافيا ينتمي للزمان والمكان اللذان أنتج فيهما، متناسيا أن القرآن وإن استعمل لغة العرب إلا أنه أنتج معانيه الخاصة من داخلها فأعطاها مفاهيم كونية جديدة لا يمكن فهمها إلا من خلال تفسير القرآن بالقرآن، وهذا إحدى أوجه الإعجاز التي تتمثل في ترجمة اللغة من كلمات محلية خاصة بثقافة معينة إلى كلمات كونية مشتركة بين البشر من خلال المعاني وعبر الآيات التي تعتبر إشارات واضحة وعلامات بيّنة لا يفهم المتشابه منها إلا بالرجوع إلى محكمه، هذا إن استطاع الباحث الاهتداء للمحكم الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، ولدينا في علم الكلام زمن المعتزلة والأشاعرة الدليل على هذه الصعوبة، حيث ما كان يعتبره المعتزلة بالتأويل محكما كان يحوّله الأشاعرة بنفس سلاح التأويل إلى متشابه، والعكس صحيح أيضا، فتحوّل الكلام إلى نوع من المجادلة العبثية التي لم تنتج معرفة حقيقية بقدر ما ساهمت في تعميق الخلاف الديني بين المتناظرين، في حين كان الهدف السياسي هو الذي يغذي هذا الخلاف من أساسه كما سبق معنا القول. وهو الأمر الذي علق عليه الفيلسوف هنري كوربان بقوله: "إن الفائدة العميمة في هذه المجادلة تكمن في أن الاختلاف ليس اختلافا مبتذلا بين العقلانية، والفلسفة، والفقه بالمعنى الشائع. إنه اختلاف أكثر عمقا وأصالة بين فكر ديني باطني، تعليمي، وبين إرادة معادية لكل ما يتضمنه هذا الفكر" (تاريخ الفلسفة الإسلامية – ص: ٢١٩ – ٢٢٠).  وبالتالي، فليست القضية بالنهاية قضية خطأ أو انحراف عن الصواب، لأن كل طرف بذل جهده، وبمجرد بذل هذا الجهد فهو يسير في طريق الحقيقة، أو كما يقول الفيلسوف ليسّنغ: "إن البحث عن الحقيقة لهو أثمن من الحقيقة نفسها". (نفس المرجع السابق).

وكم كان أركون سعيدا بأن اكتشف متأخرا أن مشروع حياته الذي لم يستطع إنجازه، نجحت في إخراجه زميلته جاكلين شابي في مؤلفها الشهير "إله القبائل: إسلام محمد ١٩٩٨" وهو الكتاب الذي قال عنه أنه يمشي في الاتجاه الذي يرغب الباحث المفكر ويسعى إليه بما حققه من طفرة نوعية، ابستميائية وابستمولوجية، في الكتابة التاريخية عن القرآن. (محمد أركون - الفكر الأصولي واستحالة التأصيل – ترجمة وتعليق هاشم صالح – دار الساقي - طبعة ١٩٩٩ – ص: ٤٩ إلى ٥١).

فجاكلين شابي وفق أركون، استطاعت دمج القرآن داخل الدراسة التاريخيّة وتطبيق منهج التاريخيّة "العلمي" بكل صرامة ودقة عليه، حيث كشفت كيف انبثق الإيمان الإسلامي من خلال مجريات لغوية وتاريخية معينة، وذلك بدراستها لمفردات القرآن بدقة وربطها بظروف عصرها للتّوصل إلى ذلك، واستنتجت أن إيمان المسلمين مرتبط باللحظة التاريخية التدشينية لظهور القرآن لأول مرة في الجزيرة العربية. هذا الاستنتاج مناقض للحقيقة القرآنية التي تتحدث عن مفهوم الإسلام والإيمان الذي يشمل كل الأمم من نوح صعودا إلى محمد هبوطا مرورا بكل الرسل والأنبياء مما نعلم ولا نعلم عليهم السلام جميعا، وليس الأمر مقتصرا على إسلام وإيمان محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.

والحقيقة أن هذا الإعجاب الكبير الذي أبداه أركون بعمل جاكلين شابي، يناقض قناعاته حول عدم ثبات المعنى بين مدلول المفردة في الثقافة ومدلولها في النص المقدس، فيقول في هذا الصدد: "إن من أهم المكتسبات التي قدمتها الألسنيات الحديثة، ذلك التمييز الذي تقيمه بين النص الشفهي والنص ذاته بعد أن يصبح مكتوبا. فهناك أشياء تضيع أو تتحور أثناء الانتقال من المرحلة الشفهية إلى المرحلة الكتابية، ومن هذه المكتسبات أيضا التخلّي عن الهوس الإيتمولوجي (المعنى الأصلي) الباحث عن معاني أصول الكلمات باستمرار وإحلال الحقول المعنوية وشبكات ظلال المعاني محله"، ويقصد بظلال المعاني، المعاني المجازية بعد أن اكتشف أن المعنى القديم للكلمة كما تعطيه اللغة في أصلها لم يعد هو المعنى الذي يفهم في السياق الحالي أو في النص الحالي الذي ندرسه بعقلية مختلفة وأدوات مغايرة (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل - ص: ٥٣ – ٥٤).

هذه التفرقة بين المعنى والمدلول هي المطلوبة اليوم في الدراسات القرآنية، لأن المدلول يختلف عن المعنى اللغوي لأصل الكلمة، ما دام يقوم على العلاقة بين النص والواقع، أي بين المعنى والمصداق بلغة المناطقة، وإذا كان معنى اللفظ تابث من حيث الأصل، فإنه من حيث المدلول متجدد ومتغيّر بتجدد الواقع وتغيره، ما يستوجب البحث عن ظلال المعاني بسلاح التأويل للكشف عن المعاني الخفية والمتحولة في النص القرآني من عصر إلى عصر، بحيث يصبح المعنى الذي كان للآيات زمن النزول هو غير المعنى الذي أصبح لها اليوم بحكم تغيّر الواقع. هذا ما تقوم به الدراسات المعاصرة اليوم من خلال اسقاط النسبية على المعاني القرآنية، وهذه القراءة لا يمكن أن تعطي أكلها إلا إذا أخضع النص القرآني للدراسة كنص محكوم بسقف التاريخ وإطار الثقافة، ما يستوجب نزع القداسة عنه وفق ما يطالب بذلك المؤمنون بالتاريخانية والتاريخية معا.

وهنا نكتشف أن ما أثار إعجاب أركون في عمل جاكلين ليس المنهج المطبق ولا معاني المصطلحات القرآنية وعلاقتها بلغة العرب القديمة، بل النتيجة التي وصلت إليها، أي المدلول المتغيّر عبر الزمن لأهم ركيزة يقوم عليها الدين ألا وهي الإيمان. فالباحثة نجحت أخيرا في اكتشاف أن إيمان المسلمين ليس من الثوابت ما دام أنه قابل للتحوّل وفق زعمها، لأنه تحوّل بالفعل من إيمان قرآني كما كان لحظة التدشين إلى إيمان إسلامي مرتبط بالإمبراطورية الأموية ثم العباسية، وكأن المسلمين غيّروا عقيدتهم من الإيمان بالله إلى الإيمان بالخليفة الحاكم بأمره. وهنا بيت القصيد، حيث على ضوء هذه النتيجة "العلمية" المدهشة من وجهة نظر أركون، أصبح من الممكن الحديث عن قابلية الإيمان للتحوّل ما دام حدث ذلك من عصر إلى عصر بفعل تأثير الخطاب الديني الذي أنتجه الفقهاء. وبذلك، يرى أركون، أن جاكلين شابي استطاعت بشجاعة أن تنزع عن لحظة التأسيس الأولى زمن الرسول غطاء التعالي (القداسة)، لكي تغرسها في التاريخية لما تتميّز به من خطاب عقلاني يسمو فوق عقلانية القبائل وفق تعبيره.

والحقيقة أن ما أتت به جاكلين شابي في هذا الباب ليس بجديد، فقد سبق لابن خلدون وأن قال "الناس على دين ملوكها"، كما أن الإمام الأنباري والإمام الحيثمي لاحظا مثل هذا الفرق في إيمان الناس حين وصفوا إيمان العامة والدهماء وسواد الأمة بـ "إيمان الجهّال". كما أن الكثير من العلماء ميّزوا بشكل واضح بين الإيمان الموروث والإيمان المؤسس على القناعة من خلال دراسة سلوك المسلمين، حيث وصلوا إلى نتيجة مفادها، أنه كلما كان المسلم مستنيرا إلا وكان إسلامه منفتحا ومتسامحا، وكلما كان جاهلا متخلفا وبائسا تعيسا إلا وكان إسلامه متشددا. وهو أمر يمكن ملاحظته في حياة المجتمعات الإسلامية اليوم من دون حاجة لمساعدة من جاكلين شابي أو غيرها، ومرد هذه المعضلة يعود لعامل الاستبداد الذي يشجع الجهل وينتج الظلم والحرمان والكدارة، لأن من يهيمن على المجال الديني ويحتكر إنتاج المعنى لا يرى في الوعي الديني إلا خطرا محدقا يجب احتوائه، حتى لا يتحول إلى معارضة سياسية بسلاح الدين، في غياب الحرية ومبدأ الشورى بمفهومه القرآني الواسع، الذي يتيح للناس التعبير عن إرادتهم، والمشاركة السياسية الفاعلة في تقرير مصيرهم ومستقبل عيالهم.

لكن ما لم يقله أركون، هو أن الكتاب يقرأ من العنوان، وواضح أن مدلول العنوان وما تضمنه الكتاب من تلميحات يؤسس لخلاصات مسبّقة كان يُروّج لها الغرب بالنسبة للإسلام، ومفادها، أن إله العرب ليس هو رب العالمين بل "إله القبائل"، وأن الإسلام ليس رسالة سماوية للبشر كافة بل دين ابتدعه محمد ليحكم القبائل البدوية لأسباب سياسية واقتصادية وفق التفسير المادي للتاريخ، من هنا إصرار أركون على وصف القرآن بـ "خطاب النبي" بدل وحي السماء. وبالتالي، فلا خلاص للعرب بعد هذا سوى باعتناق العلمانية، أو كما يقول أركون: "العمل على تحويل الإيمان من الإيمان بالله إلى إيمان الإنسان بنفسه والمجتمع الذي يعيش فيه ما دام ذلك أصبح ممكنا بعد ما اكتشفته جاكلين شابي"، وهذا لن يتأتّى إلا بالحسم الذي يعني إحداث القطيعة مع التراث ووضع حد للغزو الذي يقوم به الخطاب الديني للمجتمع، وهو دور يفترض أن تقوم به الدولة، لأنه باستبعاد الدين عن مجال السياسة يتحول الإسلام من قضية مجتمعية إلى قضية شخصية تدخل في إطار الحريات الفردية في ظل الدولة العلمانية. هذا هو بيت القصيد.

وهنا تطرح إشكالية غاية في الأهمية، لأنه لو طبقنا هذا المبدأ على مسيرة الحضارة الغربية لوصلنا إلى نتيجة قاطعة حاسمة ونهائية مفادها، أن المبادئ التي جاءت بها الثورة الفرنسية وحولت إيمان الناس من الإيمان بالخلاص من داخل الكنيسة إلى الإيمان بالدولة العلمانية التي تضمن الحقوق والحريات، قد تغيرت اليوم في زمن ما بعد الحداثة بعد أن أصبحت بيوت المال والمجمعات العسكرية والشركات العابرة للقارات هي التي ترسم سياسات الدول الداخلية والخارجية، واكتشف المواطن في الغرب أن نظرية العقد الاجتماعي بكل إيجابياتها باعتبارها ميثاق تنظيمي للعلاقة التي تجمع بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية وبوتقة ينصهر فيها أفراد المجتمع باختلاف معتقداتهم ومشاربهم وتوجهاتهم، لم تكن سوى مبرر لظهور سلطة الدولة وحتمية الولاء لها، هذا الولاء الذي تحول من الإيمان بالمؤسسة الدينية التي أنتجت العبودية والقهر في ظل الكهنوت إلى الإيمان بالدولة التي وفرت الحقوق والحريات للأفراد والجماعات في مرحلة النشأة والتكوين. لكن هذا الأمر تغير اليوم، خصوصا بعد أن تخلت الدولة عن سيادتها باسم شرعية كونية وهمية وتوجهات نيوليبرالية عالمية ومخاطر أمنية عابرة للحدود والقارات، وأصبحت الدولة مجرد ديكتاتورية مقنعة حوّلت مواطنيها إلى كومبارس، همّهم السعي وراء الكسب المادي والاستهلاك على حساب حرياتهم وحقوقهم المبدئية، وأصبح الأمن هاجس العصر، فخسر المواطن الغربي بسبب هذا التحول الدراماتيكي كل ما كان يطمح إليه من رفاهية وازدهار في ظل الدولة العلمانية، وأصبح يطالب اليوم بثورة جديدة تعيد النظر في الأسس التي بني عليها مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، وقد رأينا كيف أن الديمقراطية لم تعد تعني اختيار الناس للأصلح، بعد أن أصبحت السلطة في معظم الدول الغربية تتوزع بين حزبين رئيسيين (يمين ويسار) وليس للمواطن من خيار غيرهما، وبذلك أصبحنا أمام ظاهرة جديدة أسميتها بـ "ديمقراطية الأحزاب" وهي نوع من الديكتاتورية المقنعة التي تخدم مصالح تحالف النخب.

والسؤال هنا هو: ألم تتحوّل العلمانية إلى دين جديد بديل عن الدين السماوي، حين تحول إيمان الناس من الإيمان بالكنيسة إلى الإيمان بالدولة؟ .. أليس هذا هو المطلوب تطبيقه منذ زمن من قبل الغرب في العالم العربي والإسلامي؟ .. ألم نرى كيف فُرضت العلمانية اليوم على النظام السعودي والإماراتي والخليجي بل والعربي عموما من قبل الغرب كشرط للتمتع بالحماية الأمنية؟ ..

ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى أن الازدهار الاقتصادي الذي عرفته الدول الغربية في عصر النهضة، ما كان له أن يتحقق من دون الحملات الاستعمارية التي لا زالت قائمة إلى اليوم تحت مسميات مخاتلة جديدة، لكن الأمر أصبح أكثر صعوبة بسبب صعود قوى إقليمية ودولية فاعلة تتبنى أنموذجا سياسيا واقتصاديا مغايرا للنموذج الغربي المتوحش على أسس أخلاقية مثل روسيا والصين وإيران وجنوب إفريقيا والبرازيل وفينزويلا وإندونيسيا والهند وغيرها من القوى الرافضة لهيمنة القطب الواحد على العالم، خصوصا بعد أن فقدت أوروبا قيمها وسيادتها وأصبح النظام العالمي الجديد مختزلا في دولة واحدة هي أمريكا دون سواها.

وبهذا المعنى، فما قامت به جاكلين شابي تكمن أهميته من وجهة نظر أركون في أن الباحثة نجحت إلى حد بعيد في تطبيق المنهج التاريخاني على القرآن "بدقة علمية مدهشة" وفق تعبيره، فأعطت للتاريخيّة معناها الدقيق الذي يفيد دراسة التغيّر من خلال الزمن، أي التغيّر الذي يصيب الأفكار والمواقف والأخلاق والمؤسسات بحسب اختلاف العصور والمجتمعات، أو بمعنى آخر، تلك المشاكل التي تطرحها تاريخية الوضع البشري (تاريخية الفكر العربي والإسلامي – ص: ٧٤). وهو تعريف مخالف لتعريف التاريخانيّة أو "التاريخاوية" كما يسميها أركون، والتي تعنى فقط بالتتابع الزمني (الكرونولوجي) للوقائع والتأكد من صحتها. ويحاول من خلال هذا التمييز الذي يقيمه بين المصطلحين (التاريخيّة والتاريخانيّة) التأكيد على أهمية العلاقة بين الحقيقة والتاريخ، وهو قلق فلسفي وتيولوجي خاص بالعصر الحديث تتجاهله التاريخانية بتركيزها على الواقع فحسب دون اهتمام بالحقيقة التي لا تعنى بمجالها، لاستحالة إدراكها من جهة، ولأنها من مجال الغيب والطوبى من جهة ثانية، والحقيقة بالنسبة للتاريخية تكمن فقط فيما يفرضه الواقع من معطى بغض النظر عن الحق والأخلاق. ولذلك نجد أركون يتهرب من الإجابة على إشكالات الحاضر التي هي وليدة تجارب الماضي في الغرب مثلا، لأن التاريخية بالنسبة له لا تهتم إلا بطرح الأسئلة دون تقديم أجوبة حاسمة حتى لا تتحول لإيديولوجيا كما حدث مع التاريخانية.

لكن، إذا كان الأمر كذلك، فمن غير المنطقي، علميا وعمليا، أن يدعو أركون المجتمعات العربية للحسم مع تراثها واستيراد تجربة الغرب للتحرر من كل ما هو غيبي وخرافي وأسطوري كشرط لدخول عصر ما بعد الحداثة، وهو يعلم علم اليقين أن هذا الطريق الذي سلكه الغرب قد أوصله اليوم إلى نتائج كارثية على كل المستويات المادية والروحية، وأصبحت المجتمعات الغربية مهددة بالتفكك تبحث لها عن نموذج قومي يعوض عنها ما كانت تطمح إلى تحقيقه في ظل الدولة العلمانية المتعددة القوميات، وهذا بالذات ما يفسره ظهور وتنامي ظاهرة القوميات في أوروبا اليوم وانتهاجها للخطاب اليميني العنصري الشعبوي لهدم النموذج المؤسساتي الذي نشأ في ظل الدولة الوطنية الجامعة بعد أن استنفذ أدواته ولم يحقق ما كانت تطمح إليه الشعوب باختلاف مكوناتها.

هذا التمييز الذي يقيمه أركون بين المصطلحين نجده أيضا في معجم "أكسفورد" لكن بمعنى آخر يقول: إن "التاريخيّة" هي الرأي القائل بأن الحتمية التاريخية وأحداث التاريخ تحكمها قوانين الطبيعة، أما "التاريخانية" فهي ارتباط شديد بالماضي أو توقير له، ومنه كلمة "تاريخاني" التي هي وصف للشخص الذي يقول بالحتمية التاريخية. والفرق بين المصطلحين وفق هذا التعريف يكمن في أن "التاريخيّة" تعتبر نـزعة، أما "التاريخانية" فهي صفة. وهو ما أشار إليه معجم "روبير الصغير" الذي نجد فيه أن كلمة "تاريخيّة" تعني النزعة التي تدرس الأحداث ضمن شروطها التاريخية، أما "التاريخانية" فهي سمة ما هو تاريخي، وبذلك تكتسي طابعا إيديولوجيا. لكن هذا الفارق في المفهوم لم يمنع بعض الباحثين من توظيف الكلمتين بمعنى واحد دون تمييز لاشتراكهما في الاشتقاق، وكثير ما توصف التاريخية بأنها مذهب أيضا. لكن لا يخفى على المدقّق اشتمام رائحة الإيديولوجي في مصطلح "التاريخانيّة" فيما يظل مصطلح "التاريخيّة" في مستوى التساؤل دون تأويل أو اهتمام بتقييم التجارب في إطار البحث عن الحقائق، أو لنقل الموعظة بلغة القرآن، والتي على أساسها يستنير الإنسان في تجربته الأرضية.

بمعنى، أن الذي يستخدم "التاريخيّة" يحاول دراسة المواضيع والأحداث في إطار بيئتها الجغرافية والسوسيو – اقتصادية والثقافية وشروطها التاريخية التي ظهرت فيها لكن دون الحكم عليها بمعيار الحقيقة الدينية أو الأخلاقية.

لكن معجم لاروس نجده يذهب عكس هذا الاتجاه الذي يروج له المدافعون عن التاريخية، بتجاوز طرح الأسئلة إلى الحكم على النتائج، حيث يعرف "التاريخيّة" بأنها مذهب يقضي بأن التاريخ جدير بإثبات الحقائق الأخلاقية أو الدينية، وهو ما لا تهتم به "التاريخانيّة" التي تعتبر الحقيقة آخر همها وتركز على الواقع كما هو بعيدا عن الأخلاق والمثالية كما أسلفنا، لأن الحقيقة لا تدرك في الميتافيزيقا أو الوحي، وهو التعريف الذي يعطيه محمد أركون لمصطلح "التاريخية"، رافضا استعمال مصطلح "التاريخانية" بسبب الجدلية القديمة القائمة بين الوحي والحقيقة والتاريخ، ما يعني أن الفكر الإسلامي الذي يعتبر أن الحقيقة توجد في الوحي قد استعمل "التاريخيّة" بوصف آخر حين قال المعتزلة بـ "خلق القرآن"، وهذه المقولة تعتبر من أبرز ما أسس للتاريخيّة في الفكر الإسلامي الحديث، بما تعنيه من دمج كلام الله في التاريخ، أو بمعنى آخر إعطاء كلام الله مفهوم مرتبط بالتاريخ البشري كما قال بذلك نصر حامد أبو زيد. وبهذا المعنى، يصبح هدف الباحث هو معرفة الحقيقة في التاريخ لسموها فوق الإيديولوجيا التي تكرسها المفاهيم الدينية السائدة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق