بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 2 أكتوبر 2018

مناهج التفسير الحديثة (4/4)



أبو زيد: القرآن "منتج ثقافي"

أما نصر حامد أبو زيد الذي أثار ضجة كبيرة بكتاباته عن القرآن، حيث انتقل من نقد التراث إلى البحث عن تاريخيّة القرآن الكريم، متأثرا بمقولة المعتزلة بـ "خلق القرآن"، ليصنف كلام الله في خانة "المنتج الثقافي"، مستفيدا في منهجه التحليلي للخطاب الديني من التاريخيّة والسميولوجيا والهرمنيوطيقا، بالإضافة إلى الألسنية والأسلوبية وعلم السرد كما يدّعي.../...

ففي تعريفه للتاريخيّة التي يعتمدها كمنهج في البحث يقول: "إن القول بأن النص القرآني منتج ثقافي يكون في هذه الحالة قضية بديهية لا تحتاج إلى إثبات. لأنه يمثل بالنسبة للقرآن مرحلة التكوين والاكتمال، وهي مرحلة صار النصّ بعدها منتجا للثقافة، بمعنى أنه صار هو النص المهيمن المسيطر الذي تقاس عليه النصوص الأخرى، وتتحدد به مشروعيتها. إن الفارق بين المرحلتين في تاريخ النص هو الفارق بين استمداده من الثقافة وتعبيره عنها، وبين إمداده للثقافة وتغييره لها". (النص، السلطة، الحقيقة – ص: ٨٦ – ٨٧).

وهذا يعني أن القرآن ليس خطابا له طابع عالمي بقدر ما هو نتاج للثقافة العربية المحلية التي كانت سائدة في شبه الجزيرة العربية زمن الجاهلية الأولى، ارتوى منها النص خلال مرحلة النشأة والتكوين بين مكة والمدينة، وحين اكتمل أصبح منتجا للثقافة بأسلوبه الخاص بعد أن سيطر على اللغة العربية وأخضعها لآلياته في إنتاج المعنى. وهذا لعمري اختزال سطحي لكتاب الله في زمن جزئي وتجاهل غبيّ لارتباط موضوعاته ليس بالزمن الدائري الكوني منذ أول الخليقة وإلى أن تقوم الساعة، بل بالزمن القدساني برمته، ومن يعتقد أن القرآن مرتبط بمرحلة الرسالة زمن محمد صلى الله عليه وسلم فحسب، يكون كمن يقرأ القرآن بعقلية المستشرقين.

وللإشارة، فهو ذات التعريف الذي سبق وأن أكده في كتابه "مفهوم النص"، لأنه عندما يقول مثلا: "إن الفن القصصي في القرآن يجعل من الأخير نصا أدبيا" على شاكلة القراءة التاريخانية الحديثة كما ظهرت في الولايات المتحدة بدل التاريخية الأوروبية التي يزعم أنه يعتمدها، فهو يساوي من حيث الأسلوب والفكر بين النص الإلهي والنص البشري، مع فارق جوهري يكمن في أن دراسة النص البشري تستوجب معرفة المؤلف، أما في النص القرآني فعدم معرفة الله تدفع بمعتنقي التاريخيّة ونقد الخطاب الديني إلى استبعاد كل ما هو غيب لأنه لا يدرك، وبالتالي، تجاهل أنه كلام الله واعتباره مجرد كلام بشري من خلال وصفه بـ "خطاب النبي" أو "قرآن محمد" كما سبقت الإشارة، ما ينزع عنه التقديس والتعالي ويحوّله إلى مجرد منتج ثقافي يحمل ذات المغالطات التاريخية التي حملتها النصوص الدينية اليهودية والمسيحية وتم اكتشاف طابعها الأسطوري والخرافي من قبل الباحثين الغربيين.

وقد حاول أبو زيد التأسيس لفكرة أن القرآن "منتج ثقافي" انطلاقا من محاولة تأويلية تعسّفيّة لخلاصة قال بها ابن خلدون في (المقدمة – ص: ٩٥) تؤكد اتحاد الدليل والمدلول في القرآن الكريم، باعتباره من "أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة على صدق وصحة القرآن المنزّل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الخوارق في الغالب تقع مخالفة للوحي الذي يتلقاه النبي، ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه. والقرآن هو بنفسه المُدّعى، وهو الخارق المعجز، فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي، فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه".

يقول نصر حامد أبو زيد في هذا الصدد، أنه إذا كان النبي موسى عليه السلام قد جاء قومه بمعجزة من جنس الثقافة التي كانوا متفوّقين فيها، أي السحر. وإذا كان عيسى عليه السلام قد جاء قومه بمعجزة إحياء الموتى وابراء المرضى، فلأن ثقافة زمانه كانت تتميز بالتفوق في علم الطب. أما محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جاء بمعجزة النص، لأن الثقافة التي كان يتفوق فيها قومه هي الشعر. وبهذا المعنى، يكون القرآن "منتجا ثقافيا" ينتمي إلى البيئة التي نزل فيها بلسان العرب، بدليل أنه عندما كان يستشكل بعض غريب القرآن على الفهم كان ابن عباس يفسّره بالرجوع إلى الشعر، لأن الشعر هو ديوان العرب.

هذا الأساس الذي بنى عليه الباحث مقولته أساس تأويلي ترفضه المنهجية التاريخية التي تعتبر كل ما هو معجزة من مجال الأسطورة الذي لا يمكن الاستناد إليها في النقد التاريخي لاستحالة التحقّق من وقوعها بالفعل، ما يفقد دليل أبو زيد الأساس العلمي "المادي" الذي يزعمه ويسقطه في التضارب حد التناقض، لأن الإعجاز بالنسبة للقرآن لا يقتصر على النص بقدر ما يتجاوزه لفضاءات المعاني، وبالتالي، لا يمكن مقارنته بالنص الشعري الذي له خصوصيته التي تختلف عن النص القرآني من حيث المبنى والمعنى.

وإذا كانت التاريخيّة تحمل معنى الواقعية المادية والتحقق العيني كما يقول نصر حامد أبو زيد في (مفهوم النص) للدلالة على المفهوم الأنطولوجي للزمن باعتباره مرتبطا مع المكان بالحادثة التاريخية من خلال استعماله عبارة "الحدوث في الزمن" بالنسبة للقرآن، وذلك للهروب من الإشكالية التي يطرحها الزمن التاريخي المرتبط في الذاكرة بعصر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مقارنة بالنص القرآني الذي لا يعير اهتماما يذكر للأحداث في إطار الكرونولوجيا الزمنية التي تؤرق المؤرخ، فقد استعار نصر حامد أبو زيد مقولة المعتزلة "خلق القرآن" موظفا إياها في إطار المفهوم الفيزيائي (الزمني) للخلق المرتبط بدوره بالمفهوم الجغرافي (المكاني)، لأن كل الأحداث وفق هذا التفسير وقعت بعد خلق الكون بما في ذلك الكلام الإلهي، وتاريخيّته تعني حدوثه في الزمان والمكان الذي نزل فيه وباللغة التي استخدمها في إطار الثقافة التي ولد فيها، وبهذا المعنى، تميّز التاريخانية والتاريخية على حد سواء بين الغيبي والواقعي، بين المطلق والمشروط، باعتبارها لحظة تقاطع بين الميتافيزيقا والتاريخ، لذلك تقتصر على دراسة الأحداث التاريخية من جانبها الظاهر المادي فقط، وكأن الله حين خلق العالم استقال وسلم للإنسان مفاتيحه ليتصرف فيه بإرادته فيغيّره على هواه كما زعم ماركس، بدل اكتفاء الإنسان بتفسيره لفهمه واستغلاله فيما سخره الله له، وكأن الروح (الجوهر) التي نفخها تعالى في الإنسان فانية مثلها مثل المستودع (الجسد)، وليست خالدة لها امتداد ميتافيزيقي ما وراء التاريخ بمفهوم الزمن الكوني الذي تحدث عنه نصر حامد أبو زيد وغيره، فتكون بذلك خارج سلطة التاريخ والتاريخية والتاريخانية، لأن الروح من عالم الأمر كما يقول تعالى في قرآنه. وكأن كلام الله لا علاقة له بأم الكتاب الذي يشمل التاريخ القدساني بمفهوم الأمد اللاّمتناهي والتاريخ الكوني بمفهوم الزمن التاريخي النسبي معا، لأنه إذا كان الزمن الكوني يعني الماضي والحاضر والمستقبل، فإن الزمن القدساني يعني حرفيا أن كل ما يحدث في ملك الله يحدث "الآن" من دون ماضي ولا مستقبل، وهو ما عبر عنه العالم ألفريد أينشتان بتصور افتراضي يقول: "لو وقفت فوق قبة الكون لانتفى الزمن بالمفهوم النسبي لارتباطه بحركة الأجرام والكواكب، ولأدركت أن كل ما يدور من حركة في الكون تدور أمامك الآن من دون ماضي ولا مستقبل". ودليل ما قاله أينشتاين نكتشفه في القرآن الكريم من خلال حديث الله تعالى عن القيامة وأهوالها والساعة وأشراطها بصيغة الماضي، لأن الله لا تجري عليه طوارئ الزمن ومتغيراته ما دام هو من خلق الزمن ولا يخضع لقدم أو حدوث بالتقويم الزمني الكوني، وكل ما يحدث في ملكه من الأزل إلى الأبد يحدث الآن ويعلم به من نشأته وتكوينه إلى صيرورته.

وقد حاول التركيز على هذا الفارق بين النص والمضمون الصادق النيهوم حين قال في كتابه (الإسلام في الأسر – وطن أم مصحة – ص: ١٦٥ – ١٦٦ - ١٦٧) أنه : "في درس التفسير، يقال للطالب أن النبي موسى قد أحال عصاه إلى ثعبان في حضرة فرعون، وأنه أرسل على مصر وباء البعوض والقمل والضفادع، وفلق البحر الأحمر بضربة من عصاه. لكن في أوراق البردي، يقرأ الطالب أن فرعون شخصيا لم يقابل رجلا اسمه موسى، ولم ير عصاه تنقلب إلى ثعبان، ولم يسجل قصة فلق البحر الأحمر، رغم ولعه بتسجيل القصص".

ويسترسل النيهوم في نفس المرجع ليشكك في كل المعجزات، فيقول عن عيسى عليه السلام، أن لا أحد يستطيع التأكيد بالشواهد التاريخية القاطعة أنه كان يحيي الموتى ويشفي المرضى. كما لا أحد يستطيع تأكيد أن الطوفان وقع زمن نوح عليه السلام، وأن الأخير صنع مركبا لينقد الحياة من الفناء. لأنه في درس العلوم يعرف الطالب أن أجناس المخلوقات تزيد في الواقع على خمسين مليون جنس، وأن الأرض لم تغرق في أي طوفان خلال الألف مليون سنة الأخيرة على الأقل، وأن الإنسان لم يتعلم صناعة المراكب إلا في عصر سوم منذ سبعة آلاف سنة قصيرة. وأن سليمان عليه السلام الذي يقول القرآن أنه كان نبيا يكلم النمل والطيور ويسخر ملوك الجن في بناء الهيكل، لم يكن كذلك، لأنه في درس التاريخ، يتعلم الطالب أن سليمان كان ملكا فقط، وأن الهيكل اليهودي لم يشيده ملوك الجن، بل بناه العمال اللبنانيون الذين استقدمهم سليمان من مدينة جبيل.

أما الحياة الدنيا فهي مرحلة الطفولة التي تتميّز باللعب واللهو كما يقول النيهوم، والآخرة هي المرحلة التي ينضج فيها الإنسان ويترك من الأعمال ما يُخلّده فيعيش في الذكرى، منكرا بذلك البعث والقيامة في الحياة الأخرى كما صورها القرآن الكريم في أكثر من آية وسروة (الصادق النيهوم - الإسلام في السر – كتاب الحياة والأحياء – ص: ١٠٣ وما بعده).

 وبالتالي، فالمطلوب وفق النيهوم هو تصديق ما يقوله التاريخ لا القرآن، حتى وإن كان التاريخ لم يكتشف بعد الدليل على الأحداث التي رواها القرآن.

غير أنه ولسوء حظ النيهوم الذي أنكر قصة فلق البحر الأحمر وغرق جنود فرعون، فقد تداولت وكالات الأخبار العالمية في شهر أكتوبر ٢٠١٧ عثور علماء الآثار المصريين في القسم الأسفل من خليج السويس على بعد 1.5 كيلو متر من شاطئ مدينة رأس غريب أثناء التفتيش عن سفن أثرية ترتبط بالعهد الحجري والبرونزي غرقت في منطقة البحر الأحمر، اكتشفوا بالصدفة كتلة كبيرة جدا من العظام والجماجم الإنسانية، ومعدات وأسلحة، فضلا عن شظايا من مركبات متحطمة. ويعتقد رئيس البعثة البروفيسور محمد عبد القادر من جامعة القاهرة، أن هذه البقايا البشرية تعود لجنود من العهود الفرعونية، مشددا على ضرورة توسيع منطقة البحث، لكي يتسنى لبعثته العثور على بقايا أخرى لجيش فرعون وعتاده بسبب التيارات البحرية التي جرفت البقايا بعيدا عن الموقع الذي حدث فيه الغرق، مؤكدا أن فريقه قام باكتشاف مهم جدا، يثبت علميا حقيقة قصة عبور النبي موسى من أرض مصر عبر البحر الأحمر. وقدّر طاقم بعثة خبراء الآثار المصرية، أن هناك أكثر من 5000 هيكل عظمي منتشرة في مساحة أوسع في نفس المكان، مما يدل على أن جيشا كبيرا جدا قد دُمر في عهد الملك أخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد في هذه المنطقة.
وقبل ذلك، نشر موقع ويكيبيديا تقريرا علميا يتحدث عن اكتشاف بعثة علماء آثار بريطانية برئاسة العالم رونالد ويات سنة ١٩٥٩ بقايا سفينة نوح على جبل "جودي" في المنقطة الواقعة بين العراق وتركيا. ولقد نشرت صحيفة Life magazine في عدد سبتمبر من عام ١٩٦٠ في الصفحة الثانية تحقيقاً عن خبر اكتشاف سفينة نوح مدعما بالصور، وخلال بعثة علمية ثانية سنة ١٩٧٧، تأكد بالقياسات العلمية، سواء لجهة تحديد حجم السفينة أو عمرها، أنها بالفعل سفينة نوح التي تم اكتشافها في موقع يرتفع حوالي ٦.٣٠٠ قدم فوق سطح البحر وعلى بعد حوالي ٢٠٠ ميل عنه. وقد عاين عديد رجال الدين من مختلف بلدان العالم آثار السفينة وأكدوا بعد إجراء عديد القياسات ومقارنتها بما ورد في كتبهم أنها بالفعل سفينة نوح، وأن الفيضان الذي تحدث عنه القرآن قد حدث بالفعل في هذه المنطقة ولم يشمل الأرض كلها كما اعتقد النيهوم، وأن السفينة استوت على جبل الجودي، مصداقا لقوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي) هود: ٤٤.

وبالتالي، فعجز الإنسان عن اكتشاف آثار الأمم والحوادث القديمة التي تحدث عنها القرآن لا يعني أن ما جاء به الأخير عار عن الصحة بالنسبة للباحثين الموضوعيين، واعتماد النيهوم على ما وصل إليه التاريخ في زمانه كمعيار لدحض ما قاله القرآن لا يخدم الحقيقة في شيء ولا علاقة له بالموضوعية العلمية من قريب أو بعيد.

وقبل الصادق النيهوم ذهب طه حسين حد التشكيك في صدقية القرآن من خلال القول بأن لا وجود لشواهد تاريخية تؤكد أن إبراهيم الخليل وولده إسماعيل عليهما السلام هما من بنيا الكعبة، وأن القصة من اختراع العرب استعملها القرآن كحيلة للقول بأنهم واليهود أبناء عمومة ينحدرون من أصل واحد وينتمون إلى ملة واحد، لحاجة العرب حينها لمن يتحالف معهم ضد الغزاة المعتدين حفاظا على سيادتهم على الكعبة وحماية لمصالحهم التجارية. وبالنتيجة يتحول هنا إنكار التاريخ إلى معيار يقاس عليه صدق الحدث من عدمه، بغض النظر عما يقوله القرآن، وفي ذلك تشكيك ضمني في صدقية الوحي من خلال مواجهة ما يقول به من حقائق مع ما يستنتجه الباحث من ترّهات، حتى لو كان هذا التاريخ عاجزا عن صبر أغوار الحقائق، ما دامت الحقيقة في حد ذاتها تظل خارج اهتمام المنهج التاريخاني.

غير أنه ولسوء حظ طه حسين، فالقرآن لم يخترع قصة تقول بأن اليهود أبناء عمومة العرب كحيلة لحاجة العرب للتحالف معهم ضد الغزاة المعتدين، فالتاريخ لم يذكر بالمطلق أن القبائل العربية كانت تتحالف مع اليهود لصد المعتدين، لأن اليهود كانوا أجبن من أن يخوضوا الحروب وأحرص الناس على الحياة كما يؤكد القرآن ذلك. وها هو علم جينولوجيا الحمض النووي الحديث، وبعد أن درس أنساب البشر على مستوى العالم بشكل علمي دقيق، وضع خريطة للجينوم البشري تتضمن ٢٠ مجموعة إثنية تعيش على الأرض فقط لا غير، ولا تتقاطع مع بعضها البعض بسبب الطفرات التي حدثت للحمض البشري على امتداد التاريخ منذ ظهور الإنسان العاقل (هومو سابينس) إلى اليوم، إي إنسان عصر ما بعد الجنة. والجديد القديم الذي أتت به هذه الخريطة الجينية بشكل علمي دقيق لا يقبل التشكيك، هو أن اليهود والعرب ينتمون معا لنفس الجين السامي (ج ١) أو (J 1) والذي يعود مصدره إلى إبراهيم الخليل عليه السلام. 

والمفارقة أن جماعة اليهود الكوهينيين اهتموا كثيرا بهذه الدراسات الجينية، وحاولوا من خلالها إثبات أنهم ينتمون إلى نبي الله هارون في محاولة بائسة للتمييز بينهم وبين العرب، غير أن النتائج جاءت مخالفة لتوقعاتهم حين أكدت عديد الدراسات التي أجريت على أعضاء هذه المجموعة، أن غالبيتها تنتمي لنبي الله إبراهيم، لأن سلالة هارون عليه السلام تحمل نفس الكروموزوم الجيني الذي أخذه هارون عن جده إبراهيم عليهما السلام أي (ج ١) أو (J 1). وبذلك انهارت القاعدة التي تقول إن من لا ينحدر من أم يهودية ليس بيهودي حتى لو كان أبوه يهوديا، وهي القاعدة التي وضعها اليهود للتفريق بين النسل المنحدر من سارة زوجة إسحاق وهاجر زوجة إسماعيل عليهما السلام. وهذه المرة قطع العلم الشك باليقين حين أثبت أن الكروموزوم الجيني الوراثي ينتقل حصريا من الرجل إلى أبنائه وأحفاده وأن لا علاقة لكروموزوم المرأة بعلم النسب من قريب أو بعيد، ذلك أن الكروموزوم (Y) يوجد فقط عند الرجل (X - Y)، في حين أنه لا يوجد عند المرأة بالمطلق (X - X).  وبذلك سقطت خرافة العرق النقي التي قال بها اليهود، وسقطت أحجية اختراع القرآن لقرابة العمومة بين العرب واليهود التي قال بها طه حسين، وصدق الله العلي العظيم حين قال: (وإذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) الأعراف: ١٧٢، ليؤكد بأن نسب الأمم بعد انتهاء عصر الجنة أصبح ينتقل بالوراثة من آدم إلى ذريته من الذكور حصريا. والتفرقة التي حصلت وأدت إلى ظهور ٢٠ مجموعة بشرية كما أظهرت خريطة الجينوم البشري لها علاقة بالطفرات التي حدثت خلال آلاف السنين، لكن الجين المشترك بين العرب واليهود ظل دون تغيير ويعود لنبي الله إبراهيم والذي هو بدوره ورثه عن جده سام ابن آدم، لذلك سمي هذا العرق بالعرق السامي.

وبالتالي، فإذا كانت هذه بعض من نماذج التفسير المادي للتاريخ التي تتنكر للمعجزات والحقائق القرآنية، بل وللتاريخ أيضا عندما لا يخدم أهدافها، وتعتبرها خرافات لا يصدقها إلا العقل الغيبي برغم عجز التاريخ عن اكتشاف عديد الحوادث المتعلقة بالقصص القرآني، فكيف سمح نصر حامد أبو زيد لنفسه بالخروج عن المنهج بقياس ما لا يقاس؟ وأين العلمية وأين التحليل العقلاني البراغماتي الذي يزعمه وهو يستنجد بالأسطورة التي يستحيل إثبات وقوعها بالشواهد المادية كما تدعى التاريخية والتاريخانية معا، للقول بأن القرآن "نص تاريخي" و"منتج ثقافي"؟

أما ما له علاقة بتفسير المشكل من القرآن واستشهاده بحديث ابن عباس الذي كان يستنجد بشعر العرب في ذلك، فالقرآن لا يحتاج لا لقاموس لغة ولا لمعلقات شعرية تفسره، لأنه وإن كان قد استعمل اللسان العربي، إلا أنه أخضعه لنظامه الخاص لإنتاج المعاني، فتحول بالتالي إلى لغة كونية من العلامات مشتركة بين البشر، وهذا ما تؤكده فلسفة اللغة نفسها، ذلك أن علم النحو الذي وضعه سيبويه المتوفي سنة ١٦٩ هـ / ٧٨٦، كتب مذكراته في شيراز من أعمال فارس بعد أن أخذ أصول علمه من الخليل الذي أخذ أصول علمه بدوره عن ابن المقفع الذي ارتد عن المزدكية إلى الإسلام، وكان صديقا للخليل بن أحمد الذي يسّر له الاطلاع على كل ما في اللغة الفهلوية من أبحاث لغوية ومنطقية، وعلى ضوء ابحاثه كما يذكر هنري كوربان في تاريخ الفلسفة الإسلامية (ص: ٢٢١ وما بعدها) ظهرت مدرستان:

-        مدرسة البصرة التي اشتغلت على اللفظ والمعنى لتعكس بدقة وأمانة الظواهر والأشياء والمفاهيم من خلال نفس القواعد التي يجري عليها الفكر في الطبيعة والحياة سعيا منها لوضع قواعد لغوية موحدة يقاس عليها، وكل ما يخالفها يعتبر استثناء.

-       ومدرسة الكوفة التي كانت على النقيض من مدرسة البصرة، حيث اعتبرت التراث العربي بأجمعه هو المصدر والأصل للنحو والقواعد، وكل شذوذ عن القاعدة يصبح أصلا بذاته لا استثناء، وأصبحت القواعد النحوية عندهم تطلق على كل حالة بعينها فتصبح كل حالة خاصة حالة نوعية.

وبذلك، قد تسعف اللغة في الفهم الظاهري للنص القرآني، لكنها يستحيل أن تصبر أغوار معانيه الباطنة الكامنة في العلامات التي يستخدمها للدلالة على الحقائق الغيبية التي ترفضها التاريخانية والتاريخية معا. وبالتالي، فلا سبيل لفهم القرآن إلا من داخل القرآن نفسه لا من خارجه، وهو الأمر الذي أكد عليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: (القرآن يفسر بعضه بعضا)، ولم يقل لأصحابه أن يستنجدوا بالشعر إذا تعذر عليهم فهم آية، لأن الآية ليست بيتا شعريا والسورة ليست قصيدة، والبناء القرآني لا يخضع لنظام القافية وميزان البحور المعمول به في الشعر القديم. وهذا هو المنهج القويم الذي من شأنه مساعدة المسلمين على إعادة فهم قرآنهم فهما سليما دون حاجة لمناهج غربية وضعها أصحابها للتعامل مع الفكر البشري النسبي لا الحقائق الإلهية المطلقة التي يستحيل إدراكها من دون نور الله الذي يفتح به تعالى على من يشاء من عباده.  

كما أن ابن عباس الذي استأثر برواية أكثر من ثلثي المرويات كما سبق وأشرنا، لم يكن صحابيا بل تابعيا، وبالتالي، لا يمكن اعتباره شاهدا ً حقيقياً على مرحلة الوحي اذ لم تكن سنه عند انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه تتجاوز ١٢ سنة. وتذكر الروايات التاريخية أن نجمه سطع بشكل لافت زمن العباسيين وليس قبل ذلك، لأسباب إيديولوجية وسياسية، ولم يكن أحد حينها يجرؤ على تكذيب جد "خلفاء العباسيين" أو التشكيك في سلامة رأيه، بدعوى أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له لكي يفقهه الله في الدين ويعلّمه التأويل، بغض النظر عن صحة الحديث من عدمه.

وفي النهاية، يدرك كل مسلم يقرأ القرآن بالعادة، أن هذه الأرضية التي انطلق منها نصر حامد أبو زيد ليؤسس لفكرته، ينفيها القرآن جملة وتفصيلا بقوله، إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن شاعرا في قومه ليتفوّق عليهم في مجال إبداعهم، وما بلّغه عن ربه ليس أضغاث أحلام ولا قول شاعر أو كاهن أو مجنون. ومرد ذلك، أن النص القرآني يختلف من حيث المبنى والمعنى عما كان سائدا في الثقافة العربية التي يقول أبو زيد أنه استمد وجوده منها في مرحلة النشأة والتكوين ليهيمن عليها بعد أن اكتمل وأصبح نصا منتجا لثقافة جديدة. ناهيك عن عديد المضامين الجديدة التي أتى بها القرآن ولم تكن معروفة في البيئة الجاهلية ولم يسبق للشعر العربي القديم أن تناولها، للقول أن القرآن كان يعبر عن واقع العرب في الزمن الذي نزل فيه، وهو ما ينفي أن يكون ما قاله ابن خلدون عن اتحاد الدال بالمدلول له علاقة بثقافة العرب كما أوّل ذلك نصر حامد أبو زيد بطريقة تعسّفيّة، بل له علاقة بالحقيقة التي يمثلها الخطاب القرآني مقارنة بالواقع المتمثل في الكون والخلق، سواء على مستوى التاريخ القدساني أو التاريخ الكوني أو موجز التاريخ الزمني البشري، وليس زمن الرسالة المحمدية فقط، لأن القرآن وكما وصفه صاحبه (كتاب مسطور في رق منشور) والكتاب هو عالم الخلق المسطور في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه تعالى ما كان وما هو كائن وما سيكون من أحداث وأعمال وحركة وسكون إلى يوم يبعثون. والرق المنشور هو ما وصل الأمم عبر الرسل من آيات فنشروها بعد أن نسخوها على الجلد والورق، والقرآن هو النسخة النهائية الكاملة والمنقحة المتضمنة لكل الرسالات السابقة والمأخوذة من أم الكتاب. لهذا السبب سُمّي القرآن قرآنا، لأن يشبه البحر الذي استقرت فيه مياه كل الأودية ومجاري الأمطار التي نزلت من السماء لتروي قصة الحق والخلق، من عالم الأرواح مرورا بعالم الوجود المادي وانتهاء بعالم البعث والخلود. وهو ما يتجاوز سقف التاريخ بمفهوم الزمن البشري الذي جعل أبو زيد وغيره من معتنقي التاريخية والتاريخانية يضعون القرآن في خانته، ليصبح التاريخ البشري جزء من الدين وليس العكس. وهذا هو الجواب على السؤال الذي طرحناه في مستهل هذا المبحث: - هل القرآن جزء من التاريخ البشري أم العكس هو الصحيح؟

والملاحظ أيضا، أن نصر حامد أبو زيد عندما لقى معارضة شديدة لمقولته هذه، حاول المراوغة وتحميل اللغة العربية المسؤولية عن ذلك من خلال القول، إنه عندما يقول إن "القرآن نص تاريخي"، يتصوّر الناس أنه يقصد بالتاريخ "المعنى الزمني"، وهذه مشكلة من مشكلات اللغة العربية كما يدّعي، لأن هناك فرقا بين "التاريخي" و "الزمني". لكن، إذا كان التاريخي كما يُعرّفه في سياق حديثه عن التاريخية يعني "الحدوث في الزمن"، فكيف يمكن أن يتفلّت كل ما هو تاريخي من قيود الزمن من جهة، وحدود المكان الذي تجاهله كمعطى أساسي لا معنى للتاريخي من دونه من جهة ثانية؟

وكون نصر أبو زيد ضرب مثالا بالعبودية التي هي نقيض الحرية، واعتبر ما ورد بشأنها في القرآن يتعلق بظاهرة تاريخية لم تعد قائمة في الزمن الحالي، فالواقع القائم يدحض ما زعمه بشأنها جملة وتفصيلا. لأنه من الناحية المنهجية والمنطقية، من الخطأ البناء على الجزء للحكم على الكل. والسؤال الذي يطرح بالنسبة للمثال الذي ضربه هو: - هل تحرر المواطن العربي من العبودية السياسية والإيديولوجية التي تمارسها الأنظمة الاستبدادية القائمة اليوم لتصبح العبودية مسألة تاريخية لا زمنية؟

قد نتفق مع أبو زيد بأن العبودية بمفهومها القديم قد انتهت في السويد وسويسرا مثلا، كما أنها لم تعد قائمة كما كانت قبل حروب التحرير التي انتهت باستقلال الولايات الأمريكية عن بريطانيا وفرنسا وتوحيدها. ما يعني أن العبودية لم تكن ظاهرة تاريخية خاصة بزمن الرسالة المحمدية، لأنها ظلت قائمة إلى أن تحرر العبيد في أمريكا بإعلان الرئيس أبراهام لنكولن الشهير عام ١٨٦٢. إلا أنه ولسوء حظ الباحث، فهي لا تزال قائمة بالمفهوم القديم للرّق في دول كموريتانيا ونيجيريا والهند والصين وباكستان وأوزباكستان وغيرها من الدول المتخلفة إلى يوم الناس هذا، ناهيك عن وجود نحو ٣٦ مليون شخص في العالم يواجهون اليوم شكلا من أشكال العبودية في أبشع صورها، من خلال الاتجار بالبشر، والعمل بالسّخرة، والزواج القسري، والاستغلال الجنسي التجاري للأطفال، ناهيك عن مظاهر الرّق التي ظهرت مؤخرا في بؤر الحروب كالعراق وسورية وأفغانستان، حيث أعادت "داعش" إحياء العبودية بمفهومها الذي كان سائدا زمن الجاهلية. وهي معطيات وثقتها منظمة "ووك فري" ومقرها أستراليا في تقرير لها نشرته قناة "CNN" سنة ٢٠١٤. ومن المؤسف أن نصر حامد أبو زيد الذي عاش أواخر سنوات عمره في أوروبا لم يلحظ أن المجتمعات الأوروبية تتدمر من العبودية الجديدة، بحيث يعيش المواطن عبدا لألبناك بسبب الديون التي تثقل كاهله ويشعر في قرارة نفسه أنه فاقد لحريته وأنه أصبح سجين نظام يستغله ويسبب له الأرق والإرهاق والحزن والألم والانهيار النفسي، لدرجة فقد معها روحه وأصبح عبدا للمادة لا هدف له من الحياة سوى الاستهلاك حتى لو عاش حياته دائنا للبنوك في سبيل ذلك.

وبهذه المعاني، يحق التساؤل: كيف يتحوّل النص القرآني الذي يتحدث عن العبودية إلى نص تاريخي والعبودية بمختلف أنواعها لم تنقرض بعد، والإنسان الذي كرمه الله بالحرية لم يحصل عليها بعد؟ .. ألا يفقد هذا الواقع المؤلم القائم في الشرق والغرب على التاريخية والتاريخانية الأساس "العلمي" الذي تزعم أنها تقوم عليه؟

وفي تعارض ينم عن تخبط مع ما يزعمه من أن القرآن "نص تاريخي"، يعترف أبو زيد في "مفهوم النص" بوجود مستويات للدلالة في القرآن يمكن أن تكون زمنية، بمعنى أنها لا تزال صالحة لزمننا هذا، وينصح بإعادة قراءة القرآن للكشف عنها في إطار ما يسمّى بالمقاصد الكلية للشريعة، لأن المقاصد التي وضعها الفقهاء وضعية وليست مأخوذة من القرآن الذي يحتاج في كل عصر وأوان إلى قراءة جديدة كما يقول. ونحن نؤيده في دعوته لهذه القراءة الجديدة لأنها مطلوبة وقد تأخرت كثيرا، ونعطيها الأولوية على مراجعة التراث، لأن التراث لا يمكن تنقيته وغربلته إلا من خلال ما ستسفر عنه دراسة القرآن من نتائج لإعادة تحديد المفاهيم على ضوئها، ومن دون ذلك، يستحيل أن تفهم الأمة دينها بشكل صحيح في غياب المعيار الموضوعي الذي يقاس عليه صحة ما ورد في التراث مقارنة مع ما جاء به القرآن. لكن ما لا نوافق عليه هو أن تنفي التاريخانية والتاريخية أن تتخذ من القرآن مرجعا للحقيقة. وهنا مربط الفرس، لأن اقتراح نصر حامد أبوزيد الأخير يسقطه في التناقض ما دامت التاريخية التي يعتمدها في بحثه تتنكر للحق والحقيقة، ولا تعترف بوحي ولا غيب ولا معجزات، وتصنف الحقائق القرآنية في خانة الأسطورة والخرافة والطوبى.

وكنا نتمنى لو أن نصر حامد أبو زيد درس القرآن قبل أن يصفه بما لا يوصف ويحمل عليه من العناوين ما لا يليق انطلاقا من أفكار ومواقف مسبّقة تأثر بها من الدراسات الغربية. نقول هذا لأن ما أورده عن القرآن يؤكد محدودية معلوماته التي قد لا تصل لمستوى فهم مسلم متنور فأحرى باحث أكاديمي، خصوصا وأن الرجل كان متخصصا في علم اللغة لا الدراسات القرآنية، ومع ذلك عُيّن مدرّسا لعلوم القرآن والحديث في الجامعة المصرية. لذلك نجده يخلط بين التراث والقرآن حين يختزل القرآن في الشريعة، في حين أن آيات التشريع لا تتجاوز ما نسبته أقل من ٥ في المائة من آيات القرآن كما هو معلوم، وعلى نهج الباحثين الغربيين ينتقد ما يسمّى في أدبيات التاريخية بـ "العقل الغيبي"، فيعتبره عقل خرافي بالرغم من أن الغيب هو أساس الإيمان لقوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) البقرة: ٣، وقوله: (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون) الأنبياء: ٤٩ وقوله: (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم) يش: ١١، وقوله: (من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب) ق: ٣٣. وبالتالي، فاعتبار الغيب من مجال الأسطورة والخرافة هو دعوة صريحة لهدم الأساس الذي يقوم عليه الإيمان بالله واليوم الآخر.

نقول هذا لأن المفروض، ومن باب الموضوعية والأمانة العلمية، ألا يقوم الباحث بانتقاد ما يسميه بـ "الخطاب القرآني" بشكل انتقائي ومن منظور رؤية تجزيئية تسقطه في التناقض الصارخ مع الرؤية الكلية للقرآن. ولن ينفعه الاستنجاد بالمنهجية التاريخية للقول بإن ما خلص إليه من نتائج يكتسي الطابع العلمي بالمفهوم الحديث، هذا الادعاء هو محض هراء.

فمثلا، ينطلق أبو زيد في نقده لـ "العقل الإسلامي" من مجموعة الأنساق الفكرية المختلفة والرؤى والتوجهات التي تشكله، ليقول: بأن "هذا العقل (الخرافي كما يصفه)، ليس منظومة فكرية موحدة ومتجانسة، ويعود سبب ذلك وفق رأيه، إلى اختزال التراث في الإسلام، واختزال الإسلام في أحد بعديه: الإسلام الأشعري الرّجعي المسيطر، أو الإسلام الاعتزالي الفلسفي التقدمي المُهمّش". وبغض النظر عن الأحكام القيميّة التي يطلقها على التيارين (الأشعري والمعتزلي) ضدا في منهج التاريخية الذي يكتفي بطرح الأسئلة دون الحكم على الظواهر حرصا على عدم السقوط في فخ الإيديولوجية، فما يهمنا هنا هو اعترافه الصريح بصعوبة تحديد متى حدث التوحيد المشار إليه بين "التراث" و "الدين" بالدقة وعلى وجه اليقين، وبالتالي، فإن "الاقتراب من محاولة التحديد يستلزم منا تقديم قراءة من داخل اللغة للألفاظ الدالة على تلك المفاهيم" وفق ما يقترح في كتابه (النص، السلطة، الحقيقة – ص:١٤).

هذا الطرح يثير سؤالين، الأول حول المنهجية، والثاني حول المفاهيم: لأنه إذا كانت التاريخية التي يعتمدها الباحث كمنهج لا تستطيع تحديد متى حدث التوحيد بين التراث والدين، علما أن التراث هو "منتج بشري" خاضع للتحديد التاريخي بالدقة وعلى وجه اليقين، فكيف يمكن لذات المنهجية أن تحدد لنا الطابع التاريخي للنص القرآني، ومن ثم القول بيقين أنه نص تاريخي ومنتج ثقافي وليد بيئة وظروف النشأة والتكوين؟ .. ألا يعد هذا تناقضا صارخا يتعارض مع أسس وقواعد المنهجية التاريخية نفسها؟ ..

والسؤال هو: لماذا لا يلتزم الباحث بالمنهجية التي يؤمن بها ويبتعد بالتالي عن البحث في نص يصعب إن لم يكن يستحيل تحديد تاريخيته كما هو الحال مع القرآن؟

أمّا من حيث المفاهيم، فيقول نصر حامد أبو زيد: إن "المعنى الذي يسيطر على الاستخدام القرآني هو 'الشرائع'، أما طريقة الحياة التي يرتضيها القرآن فهي 'الإسلام': (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) سورة آل عمران: الآية: ٨٥. وهذا أمر طبيعي بالنسبة لنص يستوعب النصوص السابقة عليه فينفيها مؤكدا حضوره هو بوصفه نصا شاملا، لكن هذا النفي لا يصل إلى درجة نفي صفة 'الدين' عن تلك النصوص، إذ يشار إليها دائما بوصفها أديانا، وإن كانت غير مرضاة" كما يقول في (المرجع السابق - ص: ١٥).

هذا الكلام ينمّ عن جهل فضيع بمفهوم الدين ومفهوم الإسلام في القرآن، والكارثة أنه صدر عن باحث متخصص في علم اللغة قضى زمنا غير بسيط في تدريس القرآن والتراث في الأزهر من دون أن يكون متخصصا فيهما كما سبقت الإشارة، وقضى ردحا من الزمن يكتب في الفكر الإسلامي دون أن يفهم أن لا وجود لدين في ملك الله غير الإسلام، وأن الإسلام ليس دينا جديدا جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو دين كل الأنبياء والرسل والأمم السابقة واللاحقة، ولا وجود لدين سواه غير الكفر.

لذلك، سيكون من المفيد، وكما سبق القول مرارا، الإنطلاق من المفاهيم التي يطرحها القرآن نفسه لاتخاذها كمعيار يقاس عليه مدى صحة أو خطأ ما ينسب إليه من معاني، سواء تلك التي قال بها التراث أو تلك التي روج لها دعاة تطبيق المنهج التاريخاني لتحديد أصول المصطلحات الدينية الرائجة بين المسلمين.  

وهذا هو هدفنا الأساس من إنشاء هذا الموقع، ولا نسعى من وراء ذلك إلا لكسب رضا الله دون سواه، لقوله تعالى: (وجاهدهم به جهادا كبيرا) الفرقان: ٥٢، في إشارة إلى القرآن.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق