بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 17 أكتوبر 2018

الطريقـــة لولـــوج الحقيقـــة



بعد الشريعة والحقيقة تأتي الطريقة لولوج الحقيقة. وإذا كانت الشريعة هي البوابة الإلزامية لولوج عالم الحقيقة فالسؤال الذي يطرح هو حول الطريقة. لأنه وبخلاف اعتقاد أهل السنة والجماعة، يؤكد الصوفية أن الطريق إلى الله هو بعدد أنفاس الخلائق، لأن العلاقة مباشرة بينه وبين عباده ولا تمر عبر جماعة أو طائفة أو مذهب بدليل قوله تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة) المدثر: ٣٨.../...

لكن اختلاف الطرق لا ينفي وحدة الحقيقة الإلهية في معناها الوجودي، بل الإختلاف هو في معناها المعرفي بسبب اختلاف مستويات فهمها وطرق التعبير عنها، لأن اختلاف السالكين يعود لاختلاف الأمزجة والطبائع والاستعدادات الروحية والمجاهدات عند كل سالك على حدة، مما يؤدي إلى اختلاف النتائج التي يتوصلون إليها، فكل سالك يقف عند حدود معراجه ويعبر عن معرفته الخاصة التي تعكس المدى الذي وصل إليه في رحلته المعرفية، كما يقول محيي الدين ابن عربي في (رسالة الأنوار - ص ٢)، مؤكدا أن الولاية مكتسبة لأنها مرتبطة بالمجاهدة على عكس النبوة التي هي اختيار من الله واصطفاء.

والولاية عند ابن عربي تعني الوصول إلى غاية المعراج الصوفي، لأنها مسعى لاكتساب العلم بالأسرار الإلهية والاطلاع على غوامض العلوم اللدنية، وهي غير مقتصرة على فصيلة دون أخرى من البشر، بل هي "سارية في عباد الله من رسول وولي وتابع ومتبوع" (الفتوحات المكية: ١ / ٢٠٠).

وفي هذا الصدد، يشير القرآن الكريم بشكل مركز إلى تجربتين فارقتين في التاريخ البشري: معراج إبراهيم ومعراج محمد عليهما السلام، وإن كان معراج يوسف عليه السلام لا يختلف عنهما في ما له علاقة بالرؤيا وطريقة حصولها وكيفية تأويلها باعتبارها من العلوم اللدنية لقوله تعالى (رب قد أتيتني من الملك وعلمتني تأويل الأحاديث) يوسف: ١٠١.

تجربة إبراهيم
يقول تعالى في شأن تجربة أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِين) الأنعام، الآيات : من 76 إلي 79.
هكذا عرف إبراهيم ربه من خلال تجربته الفريدة في البحث عن الحقيقة الإلهية... وإذا كان آدم في القرآن يمثل الأب الجيني بطبيعته البشرية المادية، فان إبراهيم هو الأب الروحي الذي نجح عبر معراجه الروحي في نقل الخلق من حالته البدائية الفطرية إلى أرقى حالات النضج في سلم الكمال الإنساني مستعملا في ذلك التأمل العقلي بالمعنى الفلسفي.  

السماء لم تتصل بإبراهيم لتخبره أن له ربا خالقا ومدبرا كما فعلت مع نوح في وقت لم يكن البشر ناضجا بعد...  بل إبراهيم وبمبادرة منه، هو من بدأ رحلة البحث عن ربه في المحسوسات أولا... ولمّا لم يجده في الموروث من الأصنام التي قيل له أنها تجسد روح الآباء والأجداد من أبناء نوح وآدم، هجر قومه وتوجه إلى السماء بحثا عن نور الحقيقة في لحظة تعقل فارقة في تاريخ البشرية... لكن دون جدوى، فإبراهيم رغم كل ما بدل من جهد حسي وعقلي جبار بمقاييس عصره، لم يهتدي إلى اكتشاف ربه في النجوم المضيئة والكواكب المنيرة على حد سواء، لأن أفولها كان السبب الرئيس في عزوف إبراهيم عنها كما يفهم من ظاهر الآيات السالفة الذكر. وفي عز حيرته.. جاء الكشف، فقذف الله نور الحقيقة في روعه، ليعرف إبراهيم أخيرا من هو ربه، فقال: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين).

وهنا تجدر الإشارة إلى أن بعض فقهاء الرسوم ذهبوا حد اتهام إبراهيم الخليل عليه السلام بالشرك في بداية تجربته الدينية عند البحث عن ربه استنادا إلى ما يفهم من ظاهر قوله في بعض الأجرام السماوية (هذا ربي)، وهو ما نفاه تعالى عنه بقوله: (وإذ جاء ربه بقلب سليم) الصافات: ٨٤، وقوله: (وما كان من المشركين)، وهي شهادة من الله في حق إبراهيم الخليل تكررت خمس مرات في الآيات التالية: (البقرة: ١٣٥، وآل عمران: ٦٧ و٩٥، والأنعام: ١٦١، والنحل: ١٢٣).

ومرد اتهام بعض فقهاء الظاهر لإبراهيم بالشرك يعود لاعتقادهم أن تجربة إبراهيم المعرفية تمت في حالة اليقظة، وهو أمر يتناقض مع السياق القرآني الذي يتحدث عن رؤيا تمت في المنام لما جن الليل وبلغ وقتا متأخرا، كما أنها تتناقض مع المنطق العقلي الذي يقول إن إبراهيم الخليل كان يعرف بحكم عمره وكثرة معاينته يوميا للكواكب والنجوم، أن القمر كما الشمس وغيرهما من الآفلين، وبالتالي، لم تكن رؤيته لهذه الكواكب تتم لأول مرة، وهو ما يفرض البحث عن معنى التجربة الباطني من خلال التأويل.

وتماما كما حدث ليوسف عليه السلام حين رأى الأجرام والشمس والقمر تسجد له، لقوله تعالى (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) يوسف: ٤. فأولها داود بشكل صحيح حين أشار إلى ان الأمر يتعلق بإخوته، وطالبه بأن لا يخبر بها أحدا لأن رؤية الأنبياء تعتبر وحيا من السماء وبشارة بأمر عظيم قادم. والعجيب أن أسماء الكواكب والأجرام في القرآن تحيل على الأشخاص لا النجوم، ففي قصة يوسف تعني أحد عشر من إخوته الأنبياء والشمس والقمر أبويه.

وفيفي قصة إبراهيم لا يختلف المعنى أيضا، فالكواكب والأجرام والنجوم والشمس والقمر تحيل على الرسل والأنبياء والأولياء ورثة العهد من ذريته إلى يوم الدين، بدليل أن إبراهيم الخليل هو صاحب العهد الذي جعله الله تعالى في ذريته وحرمه على الظالمين. وسؤاله ربه عن الإمامة بقوله (ومن ذريتي) البقرة: ١٢٤، يفيد اهتمام الخليل اهتماما خاصا بكوكبة الوارثين للعهد من نسله، حيث كان يتطلع لأن ينتقل هذا الإرث العظيم إلى أصلح وأخلص ذريته، الأمر الذي يفيد أن تمثل الكواكب والنجوم والشمس والقمر في رؤياه الليلية يحيل على كوكبة من الأنبياء والرسل الذين اصطفاهم الله من نسله. كما أن كلمة "الرب" في اللغة القديمة كانت تعني "السيد" و "الكبير"، كقول يوسف لصاحبيه في السجن: (يا صاحبي السجن أما أحدكما فسيسقي ربه خمرا) يوسف: ٤٤، وذلك استنادا إلى منهج الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم القائل بأن القرآن يفسر بعضه بعضا، وهو ما يؤكد أن الكلمة في القرآن تحمل نفس المدلول حتى لو اختلف السياق.

وبهذا المعنى، فقد كشف الله عن إبراهيم عليه السلام حجب الجهل التي كانت تحول بينه وبين معرفة الحقيقة الغيبية معرفة يقينية لا يرقى إليها شك، فتذكر فجأة ميثاق ربه الذي عقده معه في عالم الذر، وأطلعه تعالى على الأفعال الخاصة بالأجرام السماوية، أي على ملكوت السماوات والأرض كما يقول ابن رشد في تهافت التهافت (ص: 52)، وهو ما يؤكده تعالى بقوله: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين).

ولا يمكن فهم عالم الملك والملكوت بمعزل عن معادلة (الله – الإنسان – العالم) التي بنى على أساسها ابن عربي فهمه للحقيقة الوجودية والمعرفية معا، لأنه وبخلاف ما ذهب إليه بعض المجسمة من تخصيص الضمير بإحالته على الله تعالى في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته)، فالمعنى الحقيقي الذي يعطيه الصوفية لهذا الحديث من طريق التأويل، يفيد أن المقصود بـ “صورته" هو العالم الأكبر بمجمله، لأن العالم ينقسم إلى قسمين: أحد القسمين: ظاهر محسوس وهو عالم الملك، والثاني: باطن معقول هو عالم الملكوت، والإنسان بدوره ينقسم إلى قسمين: ظاهر محسوس هو الجسد بكل مكوناته، وباطن غير محسوس كالروح والعقل والإرادة والقدرة وأشباه ذلك ... وبذلك، يكون المشابه لعالم الملك هي الأجزاء المحسوسة من جسم الإنسان لأنها صنعت من ذات المواد التي صنع منها العالم، وتعمل وفق ذات النظام الذي أودعه الله فيه من أصغر ذرة إلى أعظم كوكب في الوجود.

أما المشابهة لعالم الملكوت فهي المتعلقة بعالم الأمر والجبروت، وهو سر عظيم لا تدركه العقول، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تحدثوا الناس بما لم تصله عقولهم، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله؟)، وينصح الغزالي بأن لا يلتفت العارف إلى ما مال إليه بعض ممن لا يعرف وجوه التأويل ولا يعقل كلام أولياء الحكمة والراسخين في العلم حين ظن أن قائل ذلك أراد الكفر الذي هو نقيض الإيمان، وهذا لا يخرج إلا على مذاهب أهل الأهواء الذين يكفرون الناس بالمعاصي (الغزالي – الإحياء – مكتبة مصر ١٩٩٨ – ج ٥ ص ٥٢).

ويفهم من كلام الغزالي هذا ضمنا، أن الله هو الوجود من عرشه إلى فرشه، ولا شيء موجود معه أو من خارجه، وبالتالي لا يمكن الحديث عن الإنسان بمعزل عن هذه الحقيقة الوجودية والمعرفية معا، لكن الغزالي يسقط في التناقض حين يطغى عليه الجانب الفقهي على حساب الجانب الصوفي فيقول بإمكانية رؤية الله يوم القيامة استنادا إلى تأويله لقوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) يونس: ٢٦. فيعتبر أن "الزيادة" تفيد رؤية الله، وهو ما لا يحتمله معنى الآية ولا يستقيم مع حقيقة الله ذاتا وموضوعا كما بيّنها تعالى في واقعة موسى عليه السلام من خلال قوله: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني انظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت اليك وانا اول المؤمنين) الأعراف: ١٤٣. وسيأتي شرح ذلك بإسهاب في فصل "نظرية الوجود بين الوحدة والثنائية". 

لذلك، ينصح ابن عربي بتجنب تأويل القرآن انطلاقا مما يعطيه النص القرآني من معاني ظاهرة قد تسقط صاحبها في التناقض، ويوضح هذا الإشكال بالقول، إن القرآن ليس نصا لغويا تاريخيا يتحدد معناه طبقا لقواعد وأصول اللغة العربية، لأن اللغة العربية هي مجرد مظهر للغة الإلهية المقدسة، وبالتالي، إذا كان القرآن كلام الله فالوجود كذلك كلمات الله، والمهم بالنسبة للصوفي ليس فهم كلام الله من خلال ظاهر اللغة، بل من خلال الاستماع إلى المتكلم الذي هو الله من خلال مجالي كلامه المختلفة على مستوى النص ومستوى الوجود معا، وبالتالي، فاستماع الصوفي للقرآن هو استماع لكلمات الوجود من خارج واستماع لكلمات نفسه من داخل، فلا تعارض بين ظاهر الوجود وباطن الإنسان، فكلاهما جانبان يكشفان عن حقيقة واحدة هي كلام الله (فلسفة التأويل عند ابن عربي – نصر حامد أبو زيد – ص:٢٥٧).

ولتوضيح ذلك يقول، إن الإنسان هو مختصر الوجود والكون الجامع الصغير: "ولا تظن يا بني أن تلاوة الحق عليك وعلى أبناء جنسك من هذا القرآن العزيز خاصة. ليس هذا حظ الصوفي، بل الوجود بأسره (كتاب مسطور في رق منشور)، تلاه عليك سبحانه وتعالى لتعقل عنه إن كنت عالما، قال تعالى: (وما يعقلها إلا العالمون)، ولا يحجب عن ملاحظة المختصر الشريف من هذا المسطور الذي هو عبارة عنك، فإن الحق تعالى تارة يتلو عليك من الكتاب الكبير الخارج، وتارة يتلو عليك من نفسك، فاستمع وتأهب لخطاب مولاك إليك في أي مقام كنت، وتحفّظ من الوقر والصمم، فالصمم آفة تمنعك من إدراك تلاوة الحق عليك من نفسك المختصرة، وهو الكتاب المعبر عنه بالفرقان، إذ الإنسان محل جمع لما تفرق في العالم الكبير" (مواقع النجوم: ٦٧ – ٨٦).   

والتوازي الذي يقيمه ابن عربي بين الوجود والقرآن من جهة، وبين الإنسان والقرآن من جهة أخرى كما يقول نصر حامد أبو زيد في شرحه لكلام ابن عربي، يعتمد على التوازي بين الإنسان والوجود، لأنه إذا كان الإنسان هو البرزخ الفاصل بين الحق والخلق، فهو الفرقان. والفرقان هو القرآن بحكم الفرق بين الحق والباطل معرفيا، وبحكم أنه برزخ بين الله والإنسان في نفس الوقت. وبالتالي، فمن الطبيعي أن يكون كل شيء في الوجود له ظاهر هو ما ندركه بالحواس، وباطن وهي الأرواح التي تمسك بالصور الحسية الظاهرة، وله حد يميزه عن غيره من الموجودات، وله مطلع هو غايته ونهايته. هذه الجوانب الأربعة لكل من العالم والإنسان تنطبق على الله نفسه، أو على مرتبة الألوهة تحديدا كما يقول ابن عربي، لما لها من ظاهر وباطن وأول وآخر، هذه الأسماء الإلهية تكشف عن نفسها بنفسها لقوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) الحديد: ٣. فهو الأول بالوجود، والآخر بالعلم، والظاهر في عالم الشهادة بالمجالي التي هي انعكاس للأعيان الثابتة في الملأ الأعلى، والباطن في عالم الملكوت الذي هو عالم الأمر والجبروت، وبالتالي، فلا موجود غير الله الواجب الوجود. (فلسفة التأويل عند ابن عربي ص: ٢٧٦ – ٢٧٧). 

وعلى عذا الأساس، يكون ما قام به خليل الله إبراهيم عليه السلام كان معراجا روحيا بامتياز، انتقل بواسطته من ظاهر الوجود إلى باطنه، ففتح الله عليه بالكشف اللدني، واستحق بذلك أسمى الدرجات وأرقى الألقاب الربانية، أي خليل الله.

وإذا كان آدم يوصف بأنه "صفي" الله، ونوح "نجيّه"، وموسى "كليمه" وعيسى "كلمته وروحه"، ومحمد "حبيبه”، فان إبراهيم جمع أكثر من صفة، فجعله الحق سبحانه "صدّيقا" و "نبيا" و "رسولا" و "تقيا" و "وفيا" و "إماما" و"أمة"...  وإذا كان يشترك في هذه الصفات مع الرسل والأنبياء كافة من ناحية الفضل، فقد اتخذه الله "خليلا"، تمييزا له لجهة السمو والرفعة والقرب من الله.

وبذلك، يكون التساؤل الذي طرحه إبراهيم الخليل في بحثه عن الحقيقة يستمد شرعيته من طبيعة ما كان يبحث عنه في الكواكب، هل هو شكلها وحجمها؟ ... أم طبيعة النور الذي كان يصدر عنها فيتخلل حاسة الإبصار التي تدرك الأشياء فتعقلها؟ ...

يقول الغزالي في رحلته المعرفية انطلاقا من المحسوس، مرورا بالعقل، وانتهاء بالذوق ما مفاده: "أن حاسة البصر تنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار، وعليه فان الحسّيات غير يقينية ولا توجب أن نسلم بها بصورة قاطعة". وبذلك، فلا يعقل أن تختزل تجربة إبراهيم عليه السلام في البحث عن الله عن طريق معرفة حقيقة حجم الكواكب بقياسات العقل من خلال قوله (هذا ربي هذا أكبر)، لأن الكبر هنا لا علاقة له بالحجم، بل بقوة الضياء في الشمس مقارنة مع خفوت النور في حالة القمر. فالذي كان يبحث عنه إبراهيم عليه السلام بالتحديد، هو منبع النور الحي الدائم، أي نور الأنوار ومصدر كل الأنوار الوهاجة منها واللطيفة. ولو لم يقذف الله العليم المؤمن شيئا من نور علمه وإيمانه في قلب إبراهيم عليه السلام، لما عرف إبراهيم ربه على حقيقته وولى وجهه شطره حنيفا، معرضا عن نور الكواكب وضياء النجوم الآفلة، رافضا أن يعتبرها آلهة تعبد مع الله فيكون بالتالي من المشركين.. لأن إله إبراهيم أكبر وأعظم وأقوى من كل ما يرى من حوله، انه بتعبير إبراهيم (فاطر السماوات والأرض)، أي أصل الخلق والمخلوقات.. وهذا الأصل هو نور السماوات والأرض كما يعرف الله تعالى نفسه في الآية: 35 من سورة "النور".

ومن اللافت هنا مقارنة تجربة الغزالي وابن عربي مع تجربة إبراهيم الروحية.. ذلك أن الغزالي كما ابن عربي لم يهتديا إلى الحقيقة عن طريق النقل (الإسلام الموروث)، ولا عن طريق العقل بأدوات الجدل الفلسفي (منهج الشك والاستدلال المنطقي) وفق ما يؤكدان في كتاباتهما، وإنما عرفا الحقيقة عارية مجردة تنطق بما فيها عن طريق ثالث يعتمد الخلوة، أي الانقطاع إلى الذكر والتأمل العميق في انتظار الكشف الذي يتم بواسطة قذف نور المعرفة اللدنية في قلب السالك، مع وجوب التفريق بين هذين القطبية في النتائج التي توصل إليها كل منهما.

ففي كتابه: "المنقذ من الضلال" صفحة 60، يقول أبو حامد الغزالي: "أن العلم اليقيني هو الذي يكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم".

هذا النور الإلهي اللطيف الذي يفيض الله به على من يشاء من عباده، فتتكشف له البديهيات والحقائق الأولى، هو "مفتاح أكثر المعارف". ويستدل الغزالي على جوهر هذا النور بالقرآن والحديث، يقول تعالى: (فمن يُرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام). ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى هذه الآية قال: (نور يقذفه الله في القلب).  فقيل وما علامته؟ قال: "التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود". فمن ذلك النور ينبغي أن يُطلَب الكشف، وهو ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحايين، فيجب الترصد له كما قال عليه السلام: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها".

وبهذا المعني، يكون إبراهيم الخليل عليه السلام، هو أول من عرف الحقيقة اللدنية معرفة يقينية تامة لم تخالجها ذرة من شك أو ظل من وهم. ولم تأتي هذه المعرفة بمحض الصدفة، بل حصلت بعد أن أعياه النظر بالحواس وأعجزه التدبر بالعقل، فكافأه الله على تقربه منه واجتهاده في معرفته بأن قذف نور الحقيقة في قلبه، فامتلك الخليل عليه السلام بذلك "مفتاح أعظم المعارف"، حيث انكشفت له حقيقة الحقائق الكامنة في ملكوت السماوات والأرض.. والذي ليس في حقيقة الأمر سوي الله الذي هو نور السماوات والأرض... فقال عليه السلام بمنتهي العزم والثقة: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين).

وبذلك، نستطيع القول دون مواربة، أن إبراهيم الخليل عليه السلام، كان أول فيلسوف وأول صوفي عرفه التاريخ البشري، ويكون الطريق كما اتبعه وبينه الصوفية من خلال تجاربهم الروحية، هو المسلك الوحيد و الصحيح لمن أراد معرفة الحق والحقيقة، معرفة قلبية يقينية على غرار سنة أب الأنبياء وسيد الفلاسفة وشيخ الصوفية وإمام الحنفية الموحدين، إبراهيم الخليل عليه السلام، رمز الإنسان المتعقل، الناضج في مسعاه نحو الكمال.  وهو ذات الإنسان الذي تجمعت فيه كل الحقائق الإلهية الظاهرة والخفية، باعتباره المجلى المظهر للحق، كما يقول ابن عربي في بيانه لمرتبة "الخليل". فالحق يتخلل صورة إبراهيم وإبراهيم يتخلل جميع ما اتصفت به "الذات الإلهية" من أسماء وصفات. فهناك تبادل في فعل التخلل، والدليل عليه تبادل ظهور كل من الحق والخلق بصفات الآخر، وليس المتخلل والمتخلل سوي الظاهر والباطن.

يقول ابن عربي: "إنما سُمّي الخليل خليلا لتخلله وحصره جميع ما اتصفت به الذات الإلهية". هنا يتكلم ابن عربي عن الذات الإلهية بالمرموز، فخطابه المركز، يوحي بأنه يعرف ماهية هذه الذات، من دون أن يفصح عن طبيعتها الحقيقية. ثم يسترسل: " قال الشاعر:

قد تخللت مسلك الروح مني          وبه سمي الخليل خليلا

كما يتخلل اللون المتلون... أو لتخلل الحق وجود صورة إبراهيم عليه السلام... ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات... ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق... فالمتخلل محجوب بالمتخلل... فاسم المفعول هو الظاهر، واسم الفاعل هو الباطن المستور" (فصوص الحكم 1 ص: 80 – 81).

-       لكن ما هي هذه الذات الإلهية التي يرفض الصوفية عموما الإفصاح عنها بصريح العبارة، متعللين في ذلك بمحدودية اللغة البشرية تارة وبضرورة التزام التقية مراعاة لمستويات الفهم لدى الناس تارة أخري؟

      بالرغم من أن الغزالي يعلن صراحة في (المنقذ، ص97): "أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة وأن سيرتهم أحسن السيَر وطريقهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق". إلا أن الكثير من فقهاء الظاهر من أتباع الإمام ابن تيمية، وبسبب رفضهم المطلق للتصوف كطريق في الله يؤدي إلى معرفة ذاته، وعدم قبولهم بنظرية "الظاهر والباطن والحد والمطلع" في فهم القرآن، فقد ذهبوا بعيدا في تكفير الصوفية من دون حجة من عقل أو دليل من شرع. وذلك بسبب شطحاتهم وفق ما يبدو لهم من ظاهر تصرفاتهم، وما يصدر عنهم من أقوال تستعمل اللغة بطريقة جريئة ومستفزة تهدد إيمان العامة من الناس، أو إيمان الجهال بتعبير الإمام الأنباري والإمام الحيثمي.  ولم يكن الأمر ليثير سخط حراس العقيدة، فيدفعهم لتأليب الرأي العام والساسة ضد الصوفية، لو أن هؤلاء "العارفون" ظلوا متسترين من وراء أسلوب التلميح الغامض بلغة الرمز والإشارة، بدل الإفصاح عن حال وجدهم بصريح العبارة، كقول الحلاج: "ما في الجبة إلا الله"، و "سبحاني ما أعظم شأني"، أو "أنا الحق"، التي كانت القطرة التي أفاضت الكأس وأدت إلى محاكمته من قبل الحنابلة في العراق، فقتل شر قتلة عن طريق الشنق وقطع الأطراف، ثم توزيعها على الجهات الأربع للبلاد الإسلامية، ليكون عبرة لمن يعتبر. لكن دمه لم يغسل من الوجود أفكاره ولا أنسى الناس مقولاته. فتحول إلى شهيد العشق الإلهي.  وله قصيدة مشهورة تغنت بها الأجيال يقول في مطلعها: 

يا نسيم الريح قولي للحشا          لم يزدني الورد إلا عطشــا
لي حبيب حبه وسط الحشا      لو يشأ يمشي على خدي مشــا
روحه روحي وروحي روحه      إن يشأ شأت وان شأت يشا

والبيت الثالث من القصيدة يجسد بشكل دقيق مفهوم "التخلل" الذي يقصده الصوفية بعباراتهم الاشارية، والحبيب المشار إليه هنا هو الله سبحانه وتعالى، مع توظيف مستفز ظاهريا لنص وفحوى الآية الكريمة التي تقول: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله). وبنفس الإشارة الجمالية والتحدي لجهة تفكيك المعنى، نجد الحلاج يقول في قصيدة أخري:

أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا             نحن روحان حللنا بدَنا
فإذا أبصرتني أبصرتــــــه            وإذا أبصرته أبصرتنا

وهو هنا يستعمل مصطلح "الإبصار" بمعنى الإدراك لا البصر الذي يعني الرؤية بالعين المجردة، للدلالة على الحقيقة التي يبصرها الصوفي من دون الإفصاح عن ماهيتها، وهي لا تختلف في الجوهر من حيث طبيعتها الواحدة، ولا تتعارض من حيث الجوهر مع الآية الكريمة التي تقول (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)، لأن الإبصار هنا جاء بمعنى أدرك الشيء ولحق به.  ولأن الأمر بالنسبة للحلاج يتعلق بروحين حلا في نفس البدن، فهو يقصد من دون أن يفصح عن ذلك نورين سكنا في قلب واحد: "نور الروح" و "نور المعرفة" التي تجلت من خلال الكشف الرباني عن طريق قذف الحقيقة في قلب الصوفي..  فالتحما معا من حيث أنهما اختلطا وتخلل الواحد الآخر، كتخلل الماء الخمر في الإناء، وفق التعبير الصوفي، مع الإشارة إلى أن الخمر في القاموس الصوفي يعني مجازا الحب حد الثمالة.  وأصل الروحين ومصدرهما الله تعالى مما ينفي مفهوم ثنائية الوجود لصالح الأحدية بدل الوحدة، أي أن الروح هي من عند الله والعلم المقذوف في القلب كذلك، وليس للمخلوق على الحقيقة شيء من وجود حقيقي على الإطلاق، لأن الوجود لله وحده من دون شريك من قبل أو من بعد. بل حتى المادة هي مصنوعة من حمأ مسنون بالنار التي هي طاقة مصدرها النور.. والعلم يؤكد اليوم أن المادة مخلوقة من طاقة، وهي لا تفنى أبدا، بل تتحول في كل مرة إلى مادة أخرى بالتفاعل الكيماوي... وهكذا إلى ما لا نهاية.

لكن ما حصل، وبسبب سوء فهم العبارة الصوفية من قبل المجسدة، الذين يأخذون بظاهر القول ويعتقدون أن وجود الإنسان مستقل عن وجود الله، وأن لله جسم ويدين وعينين وأذنين ورجلين، مثله مثل البشر، فقد سارع فقهاء الظاهر إلى اتهام الحلاج وابن عربي والبسطامي وابن السبعين وغيرهم، بالكفر والزندقة، ووسموهم بالهرطقة، وبأنهم يقولون بالاتحاد والحلول ووحدة الوجود... الخ... وقد ساعدهم في حملاتهم التكفيرية هذه، شطحات الصوفية أنفسهم، لعدم كتمانهم ما يتفاعل بقوة في وجدانهم من حال فلا يستطيعون عليه صبرا. وقد ذهب الحلاج مثلا حد القول منشدا:

رأيت ربي بعين قلبي فقلت            من أنت؟  قال: أنا أنت

وواضح أن عين القلب هنا هي جوهر الإنسان، أي الروح العاقلة، المعبر عنها ضمنا بنور البصيرة، التي رأى بها الحلاج نور ربه حين قذفه في قلبه في لحظة صفاء، ولم يقل إنه أبصر شيئا آخر له أيدي يبطش بها أو أرجل يمشي بها بين الناس، لأن الحلاج استعمل في مطلع البيت مصطلح الرؤية بالقلب وليس الإبصار بالعين. وفي هذا الصدد، ينصح أبو حامد الغزالي المتصوف "الذي لابسته تلك الحالة" من الوجد، أو غيرها من الحالات، بأن لا يزيد على القول التالي: “وكان ما كان مما لست أذكره.. فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق