بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 8 أكتوبر 2018

مفهـــوم الإســـلام (2/2)



الإسلام بين التراث والقرآن


لقد سبق القول في الجزء الأول من هذا المبحث أن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله للعالمين وبعث به كل الرسول والأنبياء إلى أمم الأرض، من نوح صعودا إلى محمد هبوطا عليهم الصلاة والسلام، وأن ما ورد في التراث من تعاريف لا تتوافق مع مفهوم الإسلام كما حدده تعالى في قرآنه الكريم بدقة، وأن هناك خلط وقع فيه الفقهاء بين الإسلام والإيمان برغم اختلاف مدلولهما.../...

وبرغم هذه الحقيقة الواضحة وضوح الشمس في قبة السماء، نجد أن عالما بحجم الأنباري (أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن الأنباري المقري النحوي، ولد في العراق سنة 272) هـ) ومات سنة (304 هـ)، قد عرّف الإسلام على أنه: " الدين الذي جاء به محمد بن عبد الله النبي العربي ". والإسلام وفق شرحه الذي لا نختلف فيه معه لجهة الجزء الذي يدل على شرط "النية" الصادقة هو: "إخلاص الدين والعقيدة لله تعالي" كما يقول، والإخلاص في القرآن يفيد استحضار النية في القول والعمل.. لكنه في تفصيله لما سماه بالأركان، أشار إلى أن "أركان" هذا الإسلام هي خمسة ليس بينها الشهادة وهي: " الصلاة، الصوم، الزكاة، الحج، الجهاد " (هكذا). وهو نفس التعريف الذي اعتمده المنجد العربي في اللغة والأدب والعلوم الذي ظهر عام 1908 وأعيد طبعه للمرة الخامسة عام 1927 في بيروت.

أما لماذا لم يشر الأنباري لركن الشهادة في تعريفه، فذلك مبحث قد تكون نتائجه صادمة لعديد المؤمنين، لكن قبل ذلك سيكون من المفيد توضيح قضية الأركان أو القواعد الذي اعتبرها عديد الفقهاء شرطا لدخول الإسلام، ونقصد بذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج لمن استطاع إليه سبيلا.

الإسلام والإيمان


بالعودة إلى القرآن الكريم، نكتشف أن هذه الأركان هي من مقتضيات الإيمان الذي لا يصح من دون الإخلاص في العبادة مثلها مثل الزكاة بحيث كلما ذكرت الصلاة إلا وذكرت معها الزكاة، لأن المخاطبين بهما هم "الذين آمنوا" لا "الذين أسلموا"، والسور حبلى بهذا المعنى الذي يتكرر كثيرا عند الحديث عن المؤمنين، ونفس الأمر يقال بالنسبة للصوم الذي كتبه الله تعالى على المؤمنين ولم يقل المسلمين، وقس على ذلك بقية القواعد كالحج والجهاد بمعنى المجاهدة وبدل الجهد والقتال الذي كتبه الله أيضا على الذين آمنوا وهو كره لهم وقال لهم: وعسى أن يكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وهم لا يعلمون. وأيضا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذان كانا سببا في أن تحول العرب من أمة جاهلية إلى أحسن أمة أخرجت للناس زمن الرسالة. 

وبذلك، فالإسلام والإيمان أمران مختلفان من ناحية المدلول والالتزام، لكنهما متلازمان من حيث جوهر هذا الاعتقاد الذي يقوم على التوحيد. لأنه إذا كان الإسلام هو التصديق الأولي عن طريق الإقرار باللسان (أسلمت لله رب العالمين)، فهذا هو المستوي الأول من التدين. أما الإيمان، فهو الاعتقاد الباطني الراسخ في القلب، المبني على اليقين الذي لا يرقي إليه الشك بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل قبله بالإضافة للايمان بيقين بالآخرة برغم أنها غيب يصعب إثباته، لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) البقرة: 4. وهذا هو المستوي الثاني من التدين، وهو أسمي درجة من المستوي الأول لأنه ينقل الإنسان من مستوى الإسلام إلى مستوى الإيمان.  ولذلك قال الله للأعراب في هذا الشأن: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) الحجرات: 14.  وهذا يعني أنه لا يوجد إسلام بدون تصديق أوليّ، ولا يوجد إيمان بدون اعتقاد باطني راسخ. لأنه لا يمكن أن يأتي الإيمان مباشرة من التصديق الأولي أو الامتثال الظاهري فقط، قبل حصول القناعة ووصولها درجة اليقين الذي لا يرقى إليه الشك. 

ففي القرآن الكريم، نلاحظ أنه كلما اجتمع اللفظان (الإسلام والإيمان) في نص واحد إلا وافترقا من حيث المعني، كما هو الحال في الآية 14 من سورة الحجرات السالفة الذكر.  وكلما افترقا في النص شمل الواحد معنى الآخر، كمثل قوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) الأنعام: 125. لأن شرح الصدر للإسلام هو عين الإيمان بالقلب.  ومثال انفراد الإيمان بمعنى الإسلام قوله: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا) آل عمران: 193.  فتلبية دعوة المنادي للإيمان بالله هنا جاءت بمعني الدخول في الإسلام لما استقر في العقل من فهم أولي يتساوق وحاجة الإنسان الفطرية إلى الدين، أي أن الإيمان المقصود في الآية هو عين الإسلام.  أما اجتماع اللفظين واختلاف المعنى فقد ورد مثلا في الآية 35 من سورة الأحزاب: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات)، والفرق واضح بينهما، فلا يعقل أن يرد اللفظان مجتمعان من باب الحشو إذا كان المعنى المقصود واحدا.

الشهادة في الإسلام

وهنا نأتي لركن الشهادة بتعبير الفقهاء، وهو الركن الذي أغفله الأنباري في تحديده لقواعد الإسلام، لنسأل من جهتنا: - هل الشهادة تعتبر حقا ركنا من أركان الإسلام؟

قد يكون مثل هذا السؤال مستفزا لمشاعر من أخذوا إسلامهم بالوراثة، لكن الجواب عنه من القرآن سيصدمهم أكثر بكثير لا محالة، وعزاؤنا بالنسبة لهم قوله تعالى إن الله الحق لا يستحي من الحق حتى لو لم يعجب الفقهاء والناس معا.

وكون ابن الأنباري لم يشر الي الشهادة كركن من ضمن الأركان، فالأمر فيه نظر، لأنه لم يرد في القرآن الكريم ما يفيد نص الشهادة كما هي متداولة اليوم بين المسلمين بشقيها المعروفين. لكننا سنحاول فهم حقيقة أبعاد هذا الأمر مباشرة من نصوص القرآن، بعد أن وقفنا على بعض النصوص الواردة في باب السنة.

يتكلم الفقهاء في قضية الركن الأول للإسلام، عن الشهادة بشقيها.. وواضح مما سبق بسطه أن الاعتراف بالرسول محمد وغيره من الرسل عليهم السلام، يندرج في باب مقتضيات الإيمان، والذي اعتبره الله تعالى قمة الصلاح حين سماه "البرّ" الملامس لمستوى الإحسان لقوله تعالى: ( ليس البرّ ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرّ من آمن بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيين وأتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وأتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس اولئك الذين صدقوا واولئك هم المتقون) البقرة: 177، وهي الآية الوحيدة التي أتت على ذكر قواعد الإيمان التي اعتبرها الفقهاء أركان الإسلام دون تمييز بين الفرق القائم بين الإسلام والإيمان وفق القرآن.

وهذا يعني أنه بالنسبة لمن لم يحضر رسالة محمد لا يمكن اعتباره غير مسلم لأنه لم يشهد به كرسول، لأن محمد صلى الله عليه وسلم وكما يقول تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) آل عمران: 144، وأنه جاء مبلغا عن ربه نفس الدين القديم الذي سماه تعالى الإسلام ولم يأتي بدين جديد، وبالتالي، فلا يمكن نزع صفة المسلم عمّن آمن بالله قبل بعثته صلى الله عليه وسلم أو اتبع رسوله زمن محمد أو من بعده، ومن ثم القول بإن كل من لم يؤمن بمحمد ليس مسلما.

لأنه بالنسبة للشهادة تحديدا، لم يرد في القرآن الكريم ما يفيد شرط إعلان "أن محمدا رسول الله" إلا في أول آية من سورة (المنافقون)، لقوله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون)، هذا علما أن الآية تتحدث عن المنافقين الذين عايشوا الرسالة في حياة محمد صلى الله عليه وسلم وشهدوا له بأنه رسول من باب النفاق ليس إلا. وبهذا المعني، لا يكون الشطر الثاني من الشهادة ركنا من أركان الإسلام، بمفهوم الدين الشامل، وإلا لما كان في هذا الوجود من مسلم غير أتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أمر لا يسلم به عاقل لتعارضه مع ما أقره الله من حقائق في قرآنه، لقوله تعالى أنه بعث لكل أمة رسولا منهم لكيلا يكون لهم حجة على الله يوم القيامة.

لكن ماذا عن الشق الأول من "الشهادة" والذي نصه: (لا إله إلا الله)؟

وردت كلمة "الشهادة" في القرآن الكريم 156 مرة في 123 آية بكل مشتقاتها، اسما وفعلا ومصدرا، بالمفرد والمثني والجمع، في الماضي والمضارع والأمر... وجاءت "الشهادة" في التعريف اللغوي والشرعي العام بمعني: مشاهدة الشيء مباشرة، أي معاينته بشكل واعي، والاطلاع عليه، وإدراكه من طريق الحضور الشخصي، للتمكن من الإخبار به إخبارا قاطعا لا يرقى إليه الشك كشاهد بالحق. ولا تقبل من الناحية الشرعية شهادة من لم يكن حاضرا بنفسه وأخبر عن شيء بالسماع نقلا عن شاهد آخر.. في حين تعتبر الشهادة على النفس إقرارا مقبولا واعترافا مسؤولا يأخذ بمضمونه إذا تم عن حسن نية، بطواعية ودون إكراه جسدي أو نفسي. وهذا هو المعنى الذي تأكده المراجع اللغوية والقانونية والنصوص الشرعية بما في ذلك آيات كتاب الله المجيد، اذ لا يقبل الله شهادة إلا بالحق المؤسس على اليقين القاطع، لا الظن الذي قد يؤدي بصاحبه إلى ارتكاب الإثم ولو كان حسن النية. من هنا خطورة الشهادة وأهميتها.

هذا الكلام إذا ترجم إلى اللغة الدينية، يصبح مفاده: أن لا أحد في الوجود يمكن أن يؤكد شهادة "لا إله إلا لله" لمجرد الاعتقاد بالظن، أي من دون أن يكون قد سبق وأن تواجد في الحضرة الإلهية لهذا الغرض، واطلع على الحقيقة بشكل مباشر، ليتحقق شرط الشهادة شكلا ومضمونا.. ولذلك قال الله تعالي:

-          (وإذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف: 172.

هذه الآية الرائعة، فيها من جواهر المعاني البديعة، والأسرار اللدنية اللطيفة، ما لا يحيط به إدراك ولا يحده وصف.. فالله سبحانه وتعالى يذكرنا هنا بقيامة أولى جرت في حضرته، حيث (أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم)، أي أخد الفروع من الأصول في عالم الذر والأرواح النورانية، قبل أن يخرج العباد من صلب آبائهم إلى تجربة الوجود الواقعية على الأرض، من أجل غاية واحدة، تمثل السر الكامن وراء الخلق، ألا وهي العبادة طوعا أو كرها.. ولذلك خلقهم تعالى لقوله: (وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون).. لكن شرط الخروج من ظلمة العدم إلى نور الوجود حيث رحمة الله الشاملة جعله الله في البدء طوعا لمن عاين الحقيقة والحق حضورا، وقبل اختيارا أن يشهد أمام الله على نفسه، لا على الله، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل أن يشهد عليه وهو على كل شيء شهيد (ألست بربكم؟)..

وواضح من مبنى ومعنى آية الميثاق، أن ما أراد الله من الخلق أن يشهدوا به على أنفسهم، هو أن "يعترفوا" حضوريا أمامه بربوبيته لهم، فلما شاهدوا شهدوا وقالوا: (بلى شهدنا). وهو ما يعني أن الله تعالى بعد الانفجار العظيم الأول الذي أوجد عنه السماوات والأرض ففتقهما بعد أن كانتا رتقا لقوله تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيئ حي أفلا يؤمنون) الأنبياء: 30، ومعنى الآية، أن الأرض والسموات بما تحويه من مجرات وكواكب ونجوم، والتي تشكل بمجموعها الكون الذي أوجده الله، كانت في الأصل عبارة عن كتلة واحدة ملتصقة، وهو ما يؤكده قوله تعالى (كانتا رتقا) أي ملتصقتين، ثم حدث لهذه الكتلة الواحدة فتق أي انفصال بفعل الانفجار العظيم الذي تكونت على إثره المجرات والكواكب والنجوم بقوة الدفع والدوران، وهذا ما كشف عنه علماء الفلك في نهاية القرن العشرين، كما أكدوا أن أدق وصف للمادة التي نشأ منها الكون هو "الدخان" الناجم عن انفجار الطاقة العظيم لقوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) فصلت: 11. وذلك من خلال تبلور شكلهما بفعل الدوران وقوة الجاذبية واستقرارهما على الصورة التي رسمها الله للكون. 

وبعد هذا الإنفجار الأول الذي نشأ عنه الكون من الدخان (الذي تحول إلى مادة)، استوى الله على العرش بمعنى أخذ الأمر والتدبير، وأحدث انفجارا عظيما ثانيا نتج عنه وجود الخلق عن نفس واحدة أولى تناثرت إلى أنفس كثيرة بعدد المخلوقات..  أي أنه بث النفس الواحدة إلى جزيئات صغيرة شكلت  كائنات من نور مستقلة، والحديث هنا هو عن الخلية الأولى التي انقسمت وتكاثرت.. فأسكن كل نفس في جسد خاص بها بعد اكتمال تطور الأجسام عبر ملايين السنين يقدرها العلماء بـ 20 مليون سنة، وبظهور آدم الإنسان العاقل (هومو سابينس) انتقلت إلى ذريته الحياة وعلم الأسماء وفطرة الإيمان عن طريق الجينات.  وهذا هو معنى قوله تعالى في الآية الأولى من سورة النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء). لأن البث في الآية يعني أنه جعلها أجزاء منثورة كثيرة.. ثم قوله تعالى: (وهو الذي أنشاكم من نفس واحدة فمستقر و مستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) الأنعام: 98. فالمستقر هو الأرض الدنيا لقوله تعالى: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين).  أما المستودع، فهو الخزنة الصغيرة التي أودعت فيها النفس "الجزء"، أي الفرع المأخوذ من النفس الكل التي تمثل الأصل الأول (النفس الرحماني)، الذي استقر في الخلية الأولى باعتبارها "الجسد المادي" الذي تنتهي صلاحيته بانتهاء التجربة الأرضية وفق تقدير العلي العليم.. يقول تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) هود: 6. والدابة هي كل من يدب على الأرض سواء بالزحف على بطنه أو على رجلين أو أربع أو يسبح في الماء.

أما فحوي الشهادة المذكورة في آية المسثاق موضوع البحث، فيستفاد من منطوق النص، أن الله تعالى أراد من خلقه أن يشهدوا أمامه بربوبيته، حتى لا تكون لهم  عليه حجة يوم القيامة.. حيث قطع عليهم الطريق من كل جهة، سواء لجهة الدفع بعدم العلم بواقعة "الحضور"  في رحاب الله في الملأ الأعلى للشهادة، بحكم ما تضمنته الفطرة الإنسانية في أصل التكوين من توق وشوق وحاجة للرب.. أو لجهة أن يقولوا: (إنا كنا عن هذا غافلين) في الحياة الدنيا بسبب النسيان وعدم التذكر، ولذلك بعث سبحانه وتعالى الرسل في كل أمة حتى لا يكون للناس حجة علي الله كما سبقت الإشارة. يقول تعالى في هذا الصدد: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) النساء: 165. فلهذا السبب بالذات بعث الله الرسل، وبذلك يكون دور الرسل وفق هذه الرؤية المنطقية للحق والخلق، هو تذكير الناس بشهادتهم على أنفسهم وإقرارهم بربوبية الخالق لهم، وإنذارهم بعواقب الإخلال بمستلزمات وشروط هذا النوع من الميثاق الغليظ، وفي نفس الوقت تبشيرهم بما أعد الله لهم من مغفرة وأجر كريم، إن هم وحدوا الله وآمنوا باليوم الآخر وعملوا صالحا... وهذه هي أركان الدين الثلاث التي أقرها الله لعباده كافة كما سبق القول في موضوع "الحقيقة الدينية".

وحيث أن هذه الآية الكريمة تمثل بما حوته من أبعاد معرفية عميقة، اللغز الخفي، أو سر الأسرار الثاوي وراء سؤال الوجود والمصير.. والمتمثل في الميثاق العظيم الذي أبرم في عالم الأرواح بين الخلق والحق، فتحول بالتالي إلى حبل الله المتين الذي يأخذ به تعالى بنواصي العباد، فيقودهم طوعا أو كرها إلى صراطه المستقيم.. فسيكون من المفيد الوقوف قليلا عند أسلوب الخطاب في الآية الكريمة، لاستشراف بعض من المعاني العميقة، التي من شأنها أن تضيء عتمات الظل في فهمنا القديم.. فالله تعالى، لم يستعمل في آية "الميثاق" اسمه الجامع في مخاطبته لخلقه، أي "الله"، بل استعمل اسم "الرب" بدلا من ذلك: (اذ أخذ ربك... ألست بربكم؟). وهذا الأمر طرح على العقل الإسلامي إشكالية تعريف الفرق بين الألوهية والروبية.

الفرق بين الألوهية والربوبية

وكشأن كل القضايا التي تثار في القرآن، عرفت هذه المسألة بدورها جدلا حادا بين الفقهاء والمتكلمين، حول معني "توحيد الألوهية" و "توحيد الربوبية" والفرق بينهما. فمنهم من فرّق بينهما فجعل توحيد الربوبية ليس كتوحيد الألوهية كابن تيمية الذي قال: "إن الرسل لم يبعثوا إلا لتوحيد الألوهية وهو إفراد الله بالعبادة، وأما توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله رب العالمين المتصرف في أمورهم فلم يخالف فيه أحد من المشركين والمسلمين بدليل قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)". وقبل ابن تيمية قال بمثل هذا القول الإمام الطبري في تفسيره لقوله تعالى: (ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي: "فاعبدوا ربكم الذي هذه صفته وأفردوا له الربوبية والألوهية" (المجلد السابع 11/60). وكذلك قوله تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي الذي فعل هذه الأفعال وأنعم عليكم هذه النعم هو الله الذي لا تنبغي الألوهية إلا له وربكم الذي لا تصلح الربوبية لغيره" (المجلد السابع 11/35). وقال ابن قتيبة في قضية الفطرة التي فطر الله الناس عليها: "فلست واجداً أحداً إلا وهو مقر بأن له صانعا ومدبرا إن سماه بغير اسمه، أو عبد شيئا دونه ليقربه منه عند نفسه، أو وصفه بغير صفته، أو أضاف إليه ما تعالى عنه علوا كبيرا، قال تعالى (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)" (تأويل مختلف الحديث: 129).  وذهب العز بن عبد السلام إلى نفس المعنى بقوله: "لا يمكن أن يقال إنهم – أي المشركين - كانوا يعظمون الأصنام أكثر من تعظيم الله، لأنهم قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)" (الفوائد في مشكل القرآن 90). وأكد ابن الجوزي أن: "ما يقال عن الفلاسفة من جحد الخالق محال فإن أكثر القوم يثبتون الصانع" (تلبيس إبليس 49). فالأقوال في هذه المسالة كثيرة لا يسع المقام هنا للتوسع فيها. وتجدر الإشارة إلى أن للتقسيم في مسألة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وفق هذا الرأي، دليل من كتاب الله - كما يقولون - كتقسيم الأحكام إلى فرض وواجب ومسنون ومباح ومكروه ومحرم وليس في ذلك نص، وإنما هو مستفاد من نصوص الشرع وفق زعمهم، بخلاف التقسيمات المخالفة للنصوص الشرعية، كتقسيم البدعة إلى بدعة واجبة وبدعة مستحبة، وقد قصّرها النبي صلى الله عليه وسلم على واحدة حين قال "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار".

 أما الفريق المعارض من الظاهرية والمجسمة، فهو المتمثل في محمد ابن عبد الوهاب وأتباعه من بعده، حيث ينكرون جملة وتفصيلا مثل هذا القول، ويؤكدون أن لا فرق بين الله والرب من حيث أنه الخالق، الرازق، المحيي، المميت، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع من في السماوات والأرضين عبيده تحت قهره وتصرفه. وبهذا المعني، يكون توحيد الألوهية والربوبية توحيدا واحدا.

 أما الصوفية، وعلى رأسهم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، فيفرّقون بين الاثنين على أساس اختلاف مستويات الحقيقة، وهو اختلاف وظيفي محض، حيث يعتمد ابن عربي في تحديد هذه الوظيفة على حديث نبوي فحواه أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين سأله القوم: " أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟  قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء". وتتحدد وظيفة العماء على أساس أنه مستوي الاسم الإلهي "الرب" الذي دار حوله سؤال السائل. واسم الرب يتطلب المربوب، أي يتطلب الوجود الفعلي للعالم وفق ابن عربي. لأنه إذا كان اسم الله يمثل الاسم الجامع المعبر عن الألوهية في جمعيتها، فانه لا يتطلب – بالضرورة – وجود العالم ولا يتعلق بالكون. أما اسم الرب من جانب آخر، "فهو مستوى اسم الرب كما كان العرش مستوى اسم الرحمن. والعماء هو أول الأينيات، ومنه ظهرت المحال القابلة للمعاني الجسمانية حسا وخيالا. وهو شريف الحق في معناه. وهو الحق المخلوق به كل موجود سوى الله. وهو المعنى الذي ثبتت فيه واستقرت أعيان الممكنات، ويقبل حقيقة الأين وظرفية المكان ورتبة المكانة واسم المحل. ومن عالم الأرض إلى العماء ليس فيها أسماء الله سوى أسماء الأفعال خاصة، ليس لغيرها أثر من كون ما بينهما من العالم المعقول المحسوس" (فلسفة التأويل 77 في شرح قول ابن عربي في الفتوحات 2/283).

وخلاصة القول، أن اسم "الله" الجامع وفق هذه الرؤية، غني بنفسه وموجود بلا شرط شيء على الإطلاق، سواء قبل الخلق في العماء أو بعد خلق السماوات والأرض والمخلوقات. أما اسم "الرب" فلا يظهر له معنى من غير إيجاد المربوب، من حيث أن ظهور الأول يكون مشروطا بوجود الثاني، فلا يعقل أن يكون الرب ربا من دون وجود المربوب، وهذا هو المعنى الذي ذهب إليه ابن عربي في شرحه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يجعل التفريق بين الألوهية والربوبية من حيث المستوي الوظيفي أمرا مقبولا من الناحية العقلية والدينية معا.

وبهذا المعني تكون العبودية للرب، لقوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة 21. فبيّن تعالى أن العبادة تكون للرب الذي خلق المعبود، وأوضح سبحانه في فاتحة الكتاب، أن هذا الرب المعبود، هو الله الذي كان ولا شيء معه وهو الآن كما كان لا يزال. فالذي حدث وأوجب العبادة للرب، هو إيجاد الإنسان المربوب الذي يقول (إياك نعبد وإياك نستعين). ولذلك قال ابن عربي بأن الألوهية تلغيك من حيث أن العبد يستحيل أن يدركها أو يتوجّه إليها بالعبادة.. فالمريض مثلا يتوجه إلى الله بصفته الشافي، والفقير يتوجه إليه بصفته الغني، والمحتاج يتوجه إليه بصفته الرزاق، والمظلوم يتوجه إليه بصفته العادل، والضعيف يتوجه إليه بصفته القوي، والمذنب يتوجه إليه بصفته الغفار، والمجرم يتوجه إليه بصفته الثواب... وهكذا إلى آخر الأسماء والصفات. بمعني أن العابد يستحيل عليه أن يتوجه إلى الله بكل أسمائه وصفاته لأن الألوهية تلغيه فلا يدركها. وفي الحديث القدسي حول رؤية الله يوم القيامة، والذي أورده البخاري عن أبي هريرة تحت رقم 331 وما بعده من صيغ مختلفة، يستفاد من مضمونه أن الله تعالى يجمع الناس يوم القيامة فيقول: "من كان يعبد شيئا فليتبعه"... إلى آخر الحديث. وهو ما يدل على أن الناس لا تملك تصورا موحدا حول ماهية الله ذاتا وموضوعا، وكل مخلوق له تصور مُتخيّل خاص به عن "الكائن الأعلى" أو "القوة القاهرة" أو "العقل الأول"، أو "الطبيعة" والذي لا يختلف عن إحدى مفاهيم التوحيد المتضمنة في اسم الله الجامع، بما في ذلك المشركين والفلاسفة وغيرهم.

فما هو شرط دخول الإسلام إذن؟

تأسيسا على ما سبق، نخلص إلى القول، أنه لم يرد في القرآن الكريم ما يفيد النطق بالشهادة كشرط للدخول في الإسلام كما يدعي الفقهاء، ولهذا السبب لم يذكر ابن الأنباري شرط الشهادة كركن من أركان الإسلام في الحديث الذي أوردناه أعلاه. لأنه لا يعقل أن يلزم الله بالشهادة من سبق وأن قدمها بين يدي جلالته حضوريا في عالم الأرواح قبل أن يفرج عنه برحمته من العدم إلي الوجود المادي، حيث أصبح الكل عابدا للرب طوعا أو كرها. وما يؤكد هذا المعني، هو أن اسم "الله" ورد في القرآن الكريم مستقلا 2697 مرة، ليس بينها مرة واحدة تفيد الشهادة بالمعني الشرطي لدخول الإسلام.  فمثلا وردت كلمة التوحيد بصيغة "لا إله إلا الله" مرتين فقط في القرآن الكريم، وتشير الآيتين تحديدا إلى حال المؤمنين والمشركين يوم القيامة من باب التنبيه والتذكير بضرورة التزامهم في الحياة الدنيا بالميثاق الذي عقدوه مع ربهم في عالم الأرواح قبل الخلق.  وهو ما حذرت منه آية الميثاق بقوله تعالى (أن تكونوا عن هذا غافلين)، الشيء الذي يجعلهما متناسقتين ومنسجمتين تماما مع سياق آية الميثاق ومقتضيات الوفاء به وعواقب تجاهله، وتبيان ذلك يكون كالتالي:

-          في الآية الأولي يقول تعالي: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) الصافات: 35.

وهي إشارة الي حال المجرمين في العذاب الأليم يوم الدين، بسبب تكذيبهم للمرسلين، وخيانتهم لميثاقهم مع ربهم، وإقدامهم على عبادة غيره من أموات، وأصنام، ونار، وكواكب أثناء التجربة الأرضية.

-          وفي الآية الثانية يقول تعالي: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) محمد: 19.

 والمعنى الذي يؤيده السياق بعد حديثه تعالى عن سعادة المؤمنين وشقاء الكفار يوم القيامة، هو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يستمسك بما يعلم من ربه علم اليقين، أي بأنه لا إله إلا الله. وفي هذا السياق يفهم قول النبي في الحديث الصحيح الذي مفاده، من مات وهو "يعلم"، ولم يقل من مات وهو "يقول"، وإنما ذكر "العلم" خاصة فقال وهو "يعلم" أنه لا إله إلا الله دخل الجنة. الأمر الذي يؤكد أن العلم بالله سبق إلى نفس كل إنسان وفق ما تؤكده آية الميثاق كما يقول ابن عربي في الفتوحات: "فلما عمرت الأنفس الأجسام واستقرت بها في الدنيا، فارقها العلم بتوحيد الله فبقيت النفوس ميتة بالجهل، ثم بعد ذلك أحياها الله جميعا بالعلم بوجود الله وأحيا بعضها بالعلم بتوحيد الله، ولهذا قال تعالي: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس)". ويشرح ابن عربي مفهوم العلم هنا بقوله: "فالعلم قوله حتى نعلم فإذا ابتلاه راقبه حتى يرى ما يفعل فيما ابتلاه به لأنه ما ابتلاه ابتداء وإنما ابتلاه لدعواه لأنه قال لهم ألست بربكم فقالوا بلى فادعوا فابتلاهم ليرى صدق دعواهم ولقد رحم الله عباده حين أشهدهم على أنفسهم بما قبضهم وقرّرهم عليه من كونه ربهم وما أشهدهم على توحيده".  أما قول الله في آخر الآية: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) فان الذنب المذكور هنا وفق ما يري ثلة من العلماء، لا علاقة له بمخالفة الأمر التكليفي الذي اختاره الله من أجله وعصمه من أن يقع في الخطأ بسببه، وإنما ما يكون قد تسبب به لقومه من تبعة بسب المعاناة الناجمة عن تبليغ الرسالة، ويشير بعضهم إلى هذا المعنى قياسا علي قول موسى لربه: (ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون) الشعراء: 14. ويؤيد معنى المغفرة هذه ما ورد في مطلع سورة الفتح من قوله تعالي: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا). وبذلك لا يكون ذنب الرسول صلى الله عليه وسلم بنفس معني الذنب المتعارف عليه بين العباد. أما أمره له بأن يستغفر (للمؤمنين والمؤمنات) فيشمل طلب المغفرة لكل من آمن بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر وقضائه وقدره خيره وشره من الناس أجمعين في زمانه أو قبل بعثته أو بعدها من دون استثناء، باعتبار أن محمد صلى الله عليه وسلم بعثه تعالى رحمة للعالمين كافة وخاتم الأنبياء والرسل وإمامهم جميعا، فيكون استغفاره بالتالي، ساري في الوجود لفائدة المؤمنين والمؤمنات من قبل ومن بعد إلى يوم الدين.

 يذهب ابن عربي إلى أبعد من هذا حيث يعتبر أن دعاء الرسول بالمغفرة والرحمة لا يقتصر فقط على المؤمنين والمؤمنات، بل يشمل حتى الكفار كذلك، فيستوجب لهم الشفاعة برحمة الله التي شملت كل شيء من دون استثناء.  يقول ابن عربي في الفتوحات (ج 3 / 286) : " ثم قال انه لا يفلح الكافرون وليس الكافر إلا من علم ثم ستر وان لم يعلم فما هو كافر ثم أمر نبيه أن يقول رب اغفر وارحم هذه الفرق التي وفت النظر استطاعتها التي آتيتها فلم تصل إلا إلى التعطيل أو الشرك وأنت خير الراحمين فإنهم ما تعدوا ما آتاهم الله فشفع هنا فيهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من حيث لا يشعرون فإذا نالتهم السعادة بالخروج من النار وقد غفر لهم الله بسؤال الرسول فيهم اذ قال رب اغفر وارحم حين أمره الله بذلك وما أمره بهذا الدعاء إلا ليجيبه فأجابه في ذلك فعرفوا قدر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عند ذلك إذا دخلوا الجنة فينتمون إليه فيها لأنه السيد الأكبر وهذا الدعاء يعم كل من هو بهذه المثابة من وقت آدم إلى نفخة الصعق لأنه ما خصص في دعوته إلا من هذه صفته ومن ينبغي أن يرحم ويغفر له وينبغي لكل نائب منا أن يحضر في نفسه هذه الفرق وكل من له عذر من الأمم في تخلفه عن الحق الذي هو في نفس الأمر أن يقول رب اغفر وارحم وأنت خير الرحمين فان الله تعالى يضرب له بسهم في هذه الشفاعة فلا تغفل يا ولىّ عن حظك منها ولا تكن ممن غلب اليبس عليه فحجر رحمة الله أن تصيب إلا المؤمن ولم يفرّق بين من يأخذها وتتناوله بطريق الوجوب ممن تتناوله من عين المنة فهذه شفاعة من الرسول". 

والحقيقة أن ما قاله ابن عربي في هذا الشأن هو ترجمة حرفية لقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء: 107، ويتطابق بشكل دقيق مع قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء) الأعراف: 156، أي أنها شاملة لا تستثني إلا من كفروا بآيات الله ولقائه ويئسوا من رحمته فسينالهم العذاب الأليم وفق ما يفهم من منطوق الآية 23 من سورة العنكبوت، ولا نعلم أمد هذا العذاب، مع أن ابن عربي يقول أنه سيكون لفترة محددة يطهر الله فيها عبده مما علق به من ظلم وإثم، ليرحمه بالجنة في نهاية المطاف، وهو ما يتساوق ومفهوم الآية التي تقول إن رحمة الله وسعت كل شيئ من دون استثناء.

وبالتالي، فكلمة "لا اله إلا الله" وفق القرآن لا تعتبر من أركان الإسلام، بل من مقتضيات الإيمان، وهو ما يؤكده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (الإيمان بضع وسبعين شعبة، أرفعها لا اله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق).  وما يدعم هذه الحقيقة أيضا، أن القرآن الكريم لم يشر لقضية الشهادة كشرط لدخول الإسلام في الحياة الدنيا، باعتبار أنه لا يوجد مخلوق على وجه الأرض، أفرج عنه من العدم إلى الوجود برحمة الله من دون أن يشهد على نفسه بالاستسلام لربه في عبادته، بدليل ما أخبر الله عنه في آية الميثاق التي فصلنا فيها القول أعلاه.  لكن ذلك لم يمنع الله تعالى ومن باب التذكير بالعهد، وحرصا على مصلحة عباده وحبا فيهم ورحمة بهم، من تذكيرهم بواسطة الأنبياء والرسل، بضرورة الوفاء بعهدهم والامتثال لأمر ربهم.. فجاء على لسان نوح عليه السلام قوله: (وأمرت أن أكون من المسلمين) يونس:72. وقال عن إبراهيم الخليل عليه السلام: (اذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين) البقرة: 130/131. وعلى لسان محمد صلى الله عيله سولم قوله: (قل إنما يوحي إليّ أنما إلهكم اله واحد فهل أنتم مسلمون) الأنبياء: 108... وغيرها من الآيات التي أكدت جميعها على أن كل الرسل الذين بعثهم الله إلى أقوامهم، كانت دعواهم أن "أسلموا وجوهكم لله" كما يؤكد القرآن. وبالتالي، يكون قبول الإنسان بأن يسلم وجهه لله هو أول شرط لإعلان اعترافه بربه ودخوله في دينه الذي هو الإسلام الذي ارتضاه تعالى دينا قويما لعباده كافة من دون استثناء.

إن ما جاولنا لتوضيحه في هذا المقام، هو لحظة الوعي الأولى لما يجوس في أعماق النفس البشرية، والوعي المفاجأ الذي يدفع الإنسان إلى تذكر ما يعلم من أنه لا إله إلا الله، ومن ثم القبول بالوفاء بعهد الله الذي قطعه على نفسه في عالم الذر.. هذه اللحظة الفارقة في تجربة الإنسان سماها تعالى "الإسلام"، أي تذكر للعهد بما تتوق له الفطرة بحكم التكوين، و"الاستسلام" له بالعبادة، وتوكل عليه في كل شيء، ودخول النفس في حالة من السلام والاطمئنان.. وذلك من خلال القول: "أسلمت وجهي لله". وقد وردت العديد من الآيات الكريمة بهذا المعني نكتفي هنا بذكر بعضها.. يقول تعالي:

-          (بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 112. والخطاب هنا عام لكل من تذكر الميثاق وأسلم وجهه لله.

-          (فان حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فان اسلموا فقد اهتدوا وان تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) آل عمران: 20. الخطاب موجه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث أمره الله أن يقول "أسلمت وجهي لله" ومن تبعه وأن يقول نفس الشيء لأهل الكتاب والأميين الذين لا كتاب لهم.

-          (ومن أحسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا) النساء: 125. وسيأتي شرح معني "الخليل" لما لهذه الكلمة من حمولات باطنية رمزية عميقة وناعمة تمثل جوهر التوحيد.. إلا أن المفسرين، أو أهل الرسوم كما يحلوا للمتصوفة تسميتهم، فضلوا الهروب من مواجهة حقيقة مدلولها،  لما تحيل عليه ظاهريا من معاني تتعارض مع مفهوم التوحيد وفق اعتقادهم.

-          (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم: 30. فاتجاه الانسان بالعبادة لله الواحد الأحد طوعا أو كرها، هو في أساس طبيعة الخلق والتكوين، فلا هروب من الله إلا إليه.

-          (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى والى الله عاقبة الأمور) لقمان: 22. وواضح أن العروة الوثقي هنا هي ميثاق الله الغليظ الذي عقد في عالم الأرواح كما أسلفنا.

كل هذه الآيات وغيرها، تفسر لنا سبب عدم ذكر ركن الشهادة في الحديث الذي أورده الأنباري حول تعريف الإسلام. كما أن الحديث الذي أخرجه النسائي يفيد كذلك، أن الركن الأول للإسلام وفق جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حيدة حين سأله، هو القول: "أسلمت وجهي لله وتخليت" – أي تخليت عن أن أشرك مع عبادة الله إله آخر، سواء في الظاهر أو الباطن – باعتبار أن الاعتراف بربوبية الخالق قد تمّت في الملأ الأعلى قبل الخلق ومن قبل الجميع بدون استثناء. وبذلك يتساوق هذا المعنى بدقة متناهية مع ما ورد مختصرا ومفصلا في الآيات القرآنية التي أوردناها في هذا المبحث، بعد أن لم نجد في كتاب الله ما ذهب إليه التراث في تعريف قواعد الإسلام. 

 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق