بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 4 أكتوبر 2018

الحقيقـــة الدينيـــة



لا شك أن تفاوت التصورات والأفهام التي لدى الناس حول الدين، سببه ما استقر في الأذهان نتيجة ما أفرزته الثقافات المختلفة من تعاريف تختلف باختلاف هوية المفكرين الدينية ومشاربهم العلمية واهتماماتهم المعرفية، لذلك لا يوجد تعريف موحد للدين يتفق عليه الجميع. وبالتالي، فالدين بهذا المعني، هو خلاصة المعتقدات الوليدة من مختلف المعارف العامة والأفهام الخاصة.../...


لكن الملاحظ بوجه عام، أن هذا الاختلاف في التعريف بين الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والمفكرين، مرده الفرق القائم بين الجانب الظاهر والجانب الباطن للدين، لأنه إذا كانت دراسة الجانب الظاهر تخضع لمجال العقل لما يشمله الظاهر من طقوس وسلوك وممارسات وأخلاق، فإن الصعوبة تكمن في الجانب الباطن الذي هو من مجال الإيمان الذي يصعب تحديده لفهمه ومعرفته معرفة يقينية. أما غاية الدين فهناك إجماع على أن الأمر يتعلق بتوق الإنسان إلى الخلود في عالم الملكوت.

والصعوبة تكمن في التوفيق بين ثنائيات الظاهر والباطن، العقل والقلب، الجانب المادي والجانب الروحي للإنتقال من عالم المحسوس القائم في الواقع إلى عالم اللامحسوس القابع وراء حجب الغيب، وهو الانتقال الذي لا يمكن أن يتم إلا عبر الموت بالنسبة للإنسان العادي، أو التجربة الروحية الذوقية الفردانية التي تحصل على أساسها المغامرة المعرفة في الحياة الدنيا بالنسبة للعالم، لذلك قال الصوفية أن الطريق إلى الله لها نهاية تحلّ بالموت، أما الطريق في الله فهي بلا نهاية لأنها طريق المعرفة بلا حدود ولا قيود.

ولعل الصعوبة الكامنة في صبر أغوار عالم الغيب من قبل العامة، هي التي فسحت المجال لظهور الكهنوت الذي حوّل الإختلاف في أفهام الناس وتصوراتهم للدين إلى سلاح في خدمة الاستبداد، والتاريخ الإنساني حافل بالصراعات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي استخدم فيها الدين كمحرك للجماهير، بهدف إضفاء رداء الشرعية على طبيعة الصراع.

وهذا بالتحديد ما نلحظه في التاريخ الإسلامي، حيث خضع الدين لسيطرة الأسر الحاكمة التي كانت تستمد شرعيتها منه من خلال شراء النخب الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بأموال الريع. وبفضل هذا التحالف الانتهازي بين الاستبداد والكهنوت نجحت الأنظمة القائمة في إخضاع الجماهير لسلطتها، ساعدها على ذلك عامل الجهل ومنظومة المفاهيم الدينية المغلقة التي طورها فقهاء السلاطين منذ عصر بني أمية، حيث فرضوها على الناس بقوة الجبر بعد أن ربطوا خلاص المسلم بطاعة ولي الأمر حتى لو كان ظالما فاسدا فاسقا ما لم يصدر عنه كفر بواح، فغاب العدل وانعدمت الحرية وتحول المسلم من عابد لله إلى عبد للحاكم يعيش بلا كرامة في خوف وذل وإهانة، وبذلك نجح تحالف الإقطاع والفقهاء في انتزاع الملك من صاحبه الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله حين جعلوا من الحاكم خليفة لله في أرضه، فعادت تجربة حكم فرعون التي أسقطتها السماء زمن موسى عليه السلام لتحيا من جديد، وبذلك تحول الدين من أداة تحرير إلى سلاح لاستعباد الناس وإخضاعهم لمشيئة الطغاة ضدا في تعاليم السماء.

وليس غريبا و الحال هذه، أن تلجأ المعارضة في غياب الشورى بمفهومها القرآني الواسع إلى نفس سلاح الدين بغاية نشر أفكارها والترويج لتوجهاتها بمختلف الوسائل بما فيها استحضار الثرات في إنتاج المعني، مع تحيّن الفرصة المناسبة للقضاء على السلطة القائمة. هذه المعادلة السياسية المبدئية، هي جوهر الخلاف و أساسه، و ليس الدفاع عن الدين أو إقامة شرع الله كما روج لذلك من حملوا راية الإيديولوجيا الاسلاموية عبر التاريخ.

من هنا، يتبيّن أن التجربة الدينية الرسمية، لم تكن بريئة تستهدف بالأساس المصلحة العامة، ولا خالصة لخدمة الدين و تطبيق شرع الله المفترى عليه. وبالتالي، فإن التصورات المختلفة والأفهام المتضاربة التي لدينا اليوم حول الدين، مردها، أنها نابعة في مجملها من موروث ثقافي متخلف، لا علاقة له بالحقيقة الدينية البحثة، بل جاء نتاجا للصراع السياسي التاريخي على السلطة،  بآليات ايدولوجيا احتواء الأتباع وإقصاء المعارضين وتكفير المخالفين. 

صحيح أن المعرفة التي لدينا اليوم حول الدين، هي واحدة من مجموع المعارف البشرية، باعتبارها وليدة الفهم الإنساني النسبي.  وحيث أنها كذلك، فلا يمكن بحال من الأحوال أن تكون صحيحة المعنى قطعية الدلالة. لأنها بالنهاية، ليست علمية بالمفهوم التجريبي للكلمة، بل تشتغل أساسا بالبحث عن المعنى انطلاقا من النص بآليات اللغة وأدوات المباحث الكلامية. ونادرا ما تشتغل بمناهج العلوم الإنسانية و منها الفلسفة الدينية على سبيل المثال لا الحصر، لإخضاع التراث للفهم العقلي الموضوعي مقارنة بالمفاهيم التي يطرحها القرآن، بهدف حصول القناعة التي تتوافق مع الشرط الاجتماعي فيطمأن لها القلب، و تتناغم بشكل متكامل مع جوهر الدين و سر الوجود الإنساني في التجربة الأرضية. أو بمعني آخر، ليتم التصالح المنشود بين الإنسان و دينه من جهة، والإنسان وواقعه في تجربته الزمنية.

والمشكلة أعقد من أن توجد لها حلول ترقيعية من خلال أحكام ما اصطلح على تسميته بـ"الشريعة الإسلامية"، اعتمادا على بعض نظريات الفقه التلفيقية، لتبرير بعض التشريعات التي لا أساس لها من القرآن، ولا علاقة لها بجوهر الدين بقدر ما تهم شؤون السياسة وتخدم الاستبداد.  وبذلك يتم اختزال الدين كله في الشريعة، الشيء الذي يعد اعتداء سافرا على الدين نفسه، حيث لا تتعدي نصوص التشريع فيه أكثر من 250 آية من أصل 6.236، أي أقل من (5% ) فقط، في حين يترك أكثر من (95% ) من آي القرآن للتلاوة والتبرك بدل التفكر والتدبر.  هذه الحقيقة هي التي أنتجت مجتمعا من الجهال الأتباع الذين ينقادون وراء الفقهاء بالعاطفة بدل العقل.

والحل للخروج من هذا المأزق لا يكمن في تطبيق شريعة الفقهاء، بقدر ما يتعلق الأمر بإعادة النظر في كل المفاهيم الدينية التي استقرت في الوعي الجمعي للأمة انطلاقا من القرآن كما سبقت الإشارة، باعتباره المعيار للحكم على صحة أو خطأ كل ممارسة واعتقاد، بدل الإصرار على اجترار ما أنتجه التراث من مفاهيم مغلوطة بدعوى أنه ليس في الإمكان أحسن مما كان، وأن الخلاص يكمن في رفض الواقع وإعادة إحياء تجربة السلف لتجاوز معضلة التعارض الموهوم القائم بين ما هو ديني وما هو دنيوي في حياة الناس، وما تعنيه مثل هذه الدعوة المشبوهة من تضحية بالعقل والحقوق والحريات والتقوقع على الذات ضدا في قوانين التطور.

إن الدين في النهاية، أمر يهم الإنسان الفرد باعتباره المكلف حامل الأمانة، والمسئول المباشر أمام الله عن ما كسبت يداه (كل نفس بما كسبت رهينة) المدثر: 38. خصوصا وأن الله تعالى لم يقل أنه سيحاسب القبيلة أو الجماعة أو الدولة حتى لو سمّيت بالإسلامية. وعلى هذا الأساس، يعتبر كل شعار سياسي يستغل الدين كأداة لتحقيق أهداف انتهازية، مجرد محاولة انتهازية، الهدف منها تدجين الناس وإلغاء عقولهم من خلال التطاول على دينهم لتحويره وتطويعه واستغلاله فيما لا يخدم غاية الإنسان من التدين، الأمر الذي ساهم في تشويه إيمان الناس وتحويله من الإيمان بالله والولاء له  إلى الإيمان والولاء بخليفته وظله في الأرض.

ذلك أنه لا يمكن فهم قيمة الدين بعيدا عن عامل الإيمان الصادق الذي يتفاعل كيميائيا مع الطبيعة البشرية التي سماها الله "الفطرة" وصبغ بها جينات عباده كافة من دون استثناء، فتفاعل الإيمان مع هذه الفطرة الأصيلة في الخلق، يتجلي من خلال مظاهر الشعور بالأمان النفسي والاطمئنان الروحي اللذان يولدان حالة من الرضا الشخصي والسلام العام في ظل العيش في كنف الله الحي الدائم.  وهو شعور لا يستقيم بالنسبة للكيانات الاعتبارية، كالجماعة أو القبيلة أو الدولة، باعتبارها مفاهيم اجتماعية مجردة، لا تؤمن كما يؤمن الناس، ولا إحساس ولا عقل و لا قلب لها، تشتغل على استغلال الدين بآليات الاحتواء والتدجين، كما أن من طبيعتها التبدل والتحول والزوال وفق ما تؤكده سنن التاريخ. 

غير أن هذا الكلام، لا يعني فصل الدين عن السياسة بالضرورة، بل العكس تماما، لأنه بالنسبة للحالة الإسلامية بالذات، يتماها الدين مع السياسة ويؤثر فيها، لكن الحاصل بالتجربة، أن هذه الأخيرة، بدل أن تتفاعل ايجابيا مع الدين بالخضوع لشروطه، انقلبت عليه وسيطرت على آليات عمله، فأخضعته لإكراهات الحكم وهواجس الأمن والاستقرار بهدف ضمان استمرارية نموذج النظام التيوقراطي الاستبدادي الذي عرفه العالم العربي والإسلامي منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بسبب الخلاف الذي نشب حول طبيعة ووظيفة وآليات السلطة المتطلبة دينيا ودنيويا لخدمة الإنسان وسعادته.. وبذلك، أصبحت أولوية المسلم اليوم، هي تحرير الدين من براثن السياسة، وإخضاع السياسة لقيود الدين الأخلاقية بحكم مسؤولية التكليف الفردية والجماعية التي يتوقف عليها سعادة الإنسان في الدنيا وخلاصه في الآخرة.

إن تمجيد التجربة الدينية من منطلق الموروث الثقافي الذي لدينا اليوم ورفض كل محاولات التجديد على أسس عقلانية، لن يؤدي سوي لمزيد من الاختلاف البعيد عن الرحمة، وسينتصر في النهاية أصحاب نظرية العودة للعيش زمن قريش، ولن تنجح كل حقائق الدين والدنيا معا في تحرير الناس من استعبادهم الفكري بسبب الجهل المركب من جهة، و عدم امتلاك الشجاعة الضرورية لإعادة قراءة الثرات وفق مناهج علمية وعقلية جديدة وجريئة انطلاقا من القرآن نفسه من جهة ثانية.

لم يعد من الممكن بعد أكثر من أربعة عشر قرنا من التجربة الإصرار على القبول بأساليب الأنظمة العربية المتخلفة للسيطرة على عقول الناس وانتزاع حقوقهم والإجهاز على حرياتهم وإهانة كرامتهم وسرقة مقدراتهم والتحكم في مصيرهم ومستقبل عيالهم باسم الدين. لأن إقامة الدين لا يتطلب بالضرورة إقامة دولة دينية تحكم الناس باسم الله و نيابة عنه، ويكفينا ما وصلنا إليه من حال لا نحسد عليه خلال تجربتنا التاريخية الطويلة في هذا المضمار. ومن دون الخوض في التفاصيل، يمكن الجزم عموما بأن نماذج الحكم الاستبدادية المتخلفة القائمة اليوم في البلاد العربية والمسماة بالإسلامية، لا علاقة لها بالله ودينه، ولا يمكن أن يرضاها إطارا للحياة الكريمة إلا جاهل أو مسحور أو متخلف عقليا.

إن جوهر الدين، يقوم علي أساسين لا ثالث لهما: عبادة الله بما يرضاه في جو من السلم و الأمن والحرية، وإقامة العدل في أرضه بين عباده من دون تمييز. هذه هي المعادلة باختصار شديد، وهذا هو أساس التكليف الرباني للناس، باختلاف أعراقهم، وأجناسهم، وألوانهم، وأوطانهم، ومعتقداتهم، وأفكارهم، وهو تكليف يتطلب القناعة الشخصية والإيمان الصادق ابتداء، ولا يقبل بالتمثيل أو التفويض في مسألة التكليف الذي جعله الله مسؤولية فردية كل حسب مستواه وقدرته على الفعل. وجعل المسائلة تقتضي توفر الشروط الموضوعية للوفاء بأمانة التكليف، ومنها حرية الرأي والإرادة للتصرف العاقل بعد الفهم و التمييز، بحيث يكون الفعل الناجم عن الإرادة الحرة والتفكير العقلاني المسؤول هو موضوع المسائلة في الأرض والمحاسبة يوم العرض. ولا عصمة لأحد في ذلك، لأن طبيعة التكليف نفسها، تخضع الإنسان لمنظومة علاقات رباعية الأبعاد في تجربته الحياتية، مع نفسه وربه والآخر وبقية الموجودات من حوله. فإذا كانت العلاقة الأولى  ذاتية والثانية حميمية، فان الثالثة والرابعة تقوم على أساس الاحترام والتزام التقوى كي لا يعم الفساد والظلم في الأرض. 

القرآن هو أحد الكتب السماوية التي أنزلها الله لهداية البشر، مثل التوراة والإنجيل وغيرهما مما نعلم ولا نعلم من الرسالات السابقة لقوله تعالى، وما من أمة إلا بعثنا فيها رسولا، لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.  وحيث أن الأمر يتعلق بنفس المصدر الذي خلق الكون والحياة بالحق، فمن الطبيعي أن يأتي النور الإلهي في سياق تطور التجربة الإنسانية على الأرض، وفق قدرة كل أمة على الفهم والإدراك في سياق استمرارية التجربة الإنسانية. و كأن الأمر يتعلق بعملية بيداغوجية ممنهجة.. وحيث أنه كذلك، فلا يعقل أن يأتي التناقض أو التعارض بين مختلف الرسالات ما دام الأمر يتعلق بنفس الدين و بنفس الإله ولو تعدد الرسل وتنوعت الرسالات.. بحيث يصبح أي تضارب أو تعارض في هذا الصدد من صنع البشر ولا علاقة له بالشارع. كما لا يعقل أن تدعي أية أمة أن لها ربا خاصا بها فضلها على العالمين، و بحكم ذلك، تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، بل والأحقية في السيادة على الناس. يقول تعالي: (قل آمنا بالله وما انزل علينا وما انزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون) 3:84.

إن التجربة الإنسانية اليوم، وصلت حدا من العلم وتراكم المعرفة، لدرجة لم يعد معها الإنسان بحاجة لنبي أو رسول ينير له الطريق من جديد.. لأن دور الأنبياء والرسل كان فقط للتذكير بعهد الله وميثاقه الذي انعقد في عالم الذر والأنوار العلوية، وترتب عنه الإفراج عن الإنسان من العدم إلى الوجود بعد أن شهد على نفسه بأن الله ربه وفق منطوق الآية 172 من سورة الأعراف، وقبل بعد ذلك بحمل الأمانة طوعا لا كرها وفق ما يستفاد من الآية 72 من سورة الأجزاب.

وبهذا المعني، يكون الإله الواحد و الدين الواحد رغم تعدد الرسل والرسالات، هي الحقيقة الدينية الأولي. و بدون تجارب دينية لن يكون لنا دين، فالدين يبدأ بتأويل التجربة ومحاولة فهمها في إطارها الشمولي الذي ينطلق من الوجود إلى ما وراء الموت. أو بمعني آخر، أن فهمنا للدين يبدأ من الممارسة المعاشة في عالم الشهادة والتي على ضوئها يتم استقراء المصير في عالم الغيب. وهذا بالضبط هو المفهوم الدقيق لكلمة "تأويل" في القرآن. أي أن التأويل، هو بشكل من الأشكال، مصداق تحقيق الوعد الرباني، وهذا الاستقراء الإيماني لعالم الغيب، هو الذي يمثل الحقيقة الثانية في البناء الديني، أي أنه بعد الإيمان بالله الواحد الأحد، يأتي الإيمان باليوم الآخر، يوم الحساب والجزاء الذي تفصلنا عنه حجب كثيفة من الغيب. وتأتي بالنهاية الحقيقة الدينية الثالثة، المتمثلة في العمل الصالح الذي يستلزمه واجب القيام بالخلافة وحمل الأمانة، باعتباره العملة الوحيدة المقبولة يوم العرض لضمان رضا الله والفوز بوعده وتلافي وعيده. هذه باختصار هي أركان الدين الثلاث التي بينتها كل الرسالات على حد سواء، لقوله تعالى: (إن الدين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 62.  

لكننا نتساءل اليوم من جهة أخري، هل كل المسلمين يدركون هذه الحقيقة الدينية ويلتزمون بها؟ .. ومن منهم يهتم بالبحث في وجود الله وماهيته، وحقيقة الدين وقيمته، وأصل الخلق، وأسرار الموت والبعث، وغيرها من الماورائيات التي نؤمن بوجودها وتفصلنا عنها حجب من جهل وبرازخ من خيال؟.

الواقع أن غالبية المسلمين اليوم يكتفون بالجوانب التعبدية، ويطبعون بها حياتهم الخاصة والعامة كمظهر ديني خارجي يغنيهم عن مشقة البحث في ذلك، ويكفيهم متاهات الغوص في النص المقدس للتدبر في معانيه الظاهرة والباطنة، ناهيك عن أن معظمهم، ولأسباب مذهبية، يرفضون القبول بـ "فلسفة الدين" التي قد تساعدهم على صبر أغوار المغامرة المعرفية، خوفا على إسلامهم الموروث كثقافة جامدة ترفض الانفتاح على الآخر، وتعلن الحرب على التجديد. وكوننا نصف مثل هذا الموقف باللاعقلاني، لا يعني أنه موقف خاطئ تماما، لأن مثل هذا الموقف يستمد شرعيته، أو لنقل منطقه، من الخوف على إيمان العامة من أن يصطدم بمفاهيم جديدة قد تزعزع بعضا من ثوابته. ولعل السبب الأساس في هذه المعضلة يعود لعدم مسايرة الاجتهاد الديني لتطورات المعرفة الإنسانية منذ أن احتكرت الأسر الحاكمة إنتاج المعنى وتقرر سد باب الاجتهاد سنة 450 هجرية، الشيء الذي يستحيل معه دراسة تطور الفكر الديني بشكل خطي مقارن عبر مختلف العصور، خاصة فيما يتعلق بافتحاص المعاني و المفاهيم القرآنية المتوارثة جيل بعد جيل عن طريق النقل والتكرار والاجترار.

لكن من جهة أخري، وبغض النظر عن هذا النوع من الإشكال المعرفي، نجد مثلا السؤال الكلاسيكي المتعلق بوجود الله تحديدا، قد فقد جدواه ومعناه معا، بعد أن اكتشفنا استحالة التدليل بمقاييس العقل على كائن يتموضع خارج حدود الإدراك و يهيمن على الوجود كله من عرشه إلى فرشه (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) و (هو بكل شيء محيط) و (هو معكم أينما كنتم) و (ليس كمثله شيء)...  وغيرها من الآيات التي تشير إلى ماهية الله من دون أن تفصح عن كنهه لا ذاتا ولا موضوعا،  ليصبح السؤال الحقيقي هو عن الإيمان بالله. لقد أصبحت قضية الوجود تطرح كمسلمة من داخل الإنسان، أي من خلال وعيه بتجلياته: (ويوحي الله لمن يشاء من عباده)، و يقينه بألطافه: (واعبد الله حتى يأتيك اليقين)، وغيرها من الحقائق اللطيفة التي لا تدرك إلا من خلال التجربة الدينية الذاتية والوجدانية العميقة.

والتجربة الدينية في عمومها، تأثر بشكل شامل في الإنسان، في عقله وعواطفه وفي قيمه كما في تصرفاته وعلاقاته، لدرجة تجعله يتفاعل مع نفسه بصدق وعمق، ما يساعده على اكتشاف حقيقته الواقعية ومعرفة مكامن ضعفه و قوته، ومن ثم محاولة تصحيح مسار حياته بما يعتقد أنه يرضي ربه و ضميره ويخدم الآخر. غير أن هذا النوع من التفاعل الايجابي مع النفس والآخر، لا يمكن أن يختزل في إطار طقوس ومواقف معينة تخدم أهداف جماعة محددة أو مذهب بعينه، لأن للدين حقيقة كلية لا يمكن تجزئتها في قضية ضيقة أو اختزالها في فئة دون أخري. إن حجم وعمق وبعد التطبيق الذاتي للتجربة الدينية الحقيقية، يمكن أن يغير ظروف الناس ومواقفهم من خلال تغير نظرتهم للأشكال الخاطئة في تناول مشاكل العصر، والطرق العنيفة المستعملة أحيانا لمعالجتها.  فإذا كان الدين ثابت فلا شيء ثابت في المعرفة الدينية و تطور الفهم نحو الحقيقة الكلية. وحتما لا يحق لشخص كائن من كان، أن يفرض قناعاته على الآخرين باعتبارها حقائق مطلقة، كما لا يجوز لمدرسة أو جماعة أو مذهب صياغة مناهج فكرية دوغمائية وإلزام الناس بها مع استبعاد كل ما سواها، لأن مثل هذه المحاولات البئيسة والفاشلة هي التي تسببت في العديد من الكوارث لهذه الأمة عبر التاريخ.  فإذا كانت المذاهب هي لعبة الأنظمة بامتياز، فان السبب الرئيس من إتباع العامة لمدرسة دينية أو أخري، أو اندماجهم في احدي الجماعات الدينية دون أخري، يعود بالأساس لأسباب سياسية واجتماعية و ثقافية بحثة، لا علاقة لها بالاختيار العقلاني المبني على القناعة  الدينية اليقينية، بل بالخوف من المجهول الجاثم وراء الموت.

وهنا تكمن المعضلة، وهو ما استغله الكهنوت لترهيب المؤمنين الجهال بعذاب القبر وأهواله، بهدف إخضاعهم لمنظومته الفقهية المتخلفة متوعدا إياهم بالخلاص على شاكلة ما كانت تقوم به الكنيسة في عصور الظلام، هذا علما أن لا وجود لشيئ اسمه عذاب القبر في القرآن الكريم، ذلك أن الموت والاندثار لا يطال سوى الجانب المادي (الجسد)، فيما الروح التي هي من نفس الله الأقدس تعيش أبدية الخلود. والقول بوجود عذاب القبر هو محض تجني على الله الرحمن الرحيم، لأن عدله اقتضى أن لا يعذب أحد أو يغفر له إلا بعد محاسبته يوم القيامة كما تؤكد ذلك عديد الآيات القرآنية. غير أن السلفية آلأرثودكسية ترفض مثل هذا الطرح استنادا إلى أحاديث ضعيفة نسبت للرسول الكريم، وتقول بوجوب الأخذ بها لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو من أوضح ما لم يذكره القرآن، في تعارض تام مع قوله تعالى أن القرآن جاء تبيان لكل شيئ ولم يفرط في شيئ. هذا بالإضافة إلى أنهم يهاجمون كل من يُحكّم العقل ويعرض ما ورد في السنة على القرآن، ويقولون في شأن ذلك، إن "تحكيم العقل في الدين مرفوض لأنه يُحوّل الدين إلى ألعوبة"، ويتجاهلون أنهم بمقولتهم هذه حوّلوا الدين إلى كهنوت. 

وإذا كان الظاهر يقول، إن قوة معتقد ما لا تكمن في القدرة على تفسيره بل في قدرته على استقطاب الأتباع من جهة، وسهولة وقابلية الأتباع للاندماج في منظومته العقائدية التي تروج للخلاص من جهة أخري.. فبهذا المعني يمكن القول، وباستثناء اليهودية التي ضلت بعيدة عن ساحات الصراع من أجل الاستقطاب باعتبارها رسالة مغلقة لا تقبل من المنتسبين إليها سوي من يحمل الدم اليهودي النقي  من جهة الأم – وفق الاعتقاد اليهودي- (وهو ما جعل المشتغلين بعلم الإحصائيات في العالم، يتكلمون اليوم عن عدد يفوق قليلا 13 مليون يهودي فقط، منتشرين في مختلف أصقاع الأرض، منهم أقل من 6 مليون في فلسطين وأكثر قليلا من 5 مليون في الولايات المتحدة الأمريكية، والباقي موزع بنسب ضئيلة على مختلف الدول)، فان الصراع الحقيقي ضل قائما عبر العصور وإلي يومنا هذا بين المسيحية والإسلام، ليسجل عدد المسلمين تفوقا بمقدار 200 مليون مسلم أكثر من المسيحيين لأول مرة في التاريخ، حسب إحصاء المركز الأمريكي (World Christian Database (WCB)) المختص في تحليل الإحصائيات الدينية.  حيث أصبح عدد المسلمين في العالم سنة 2007 يناهز 1.322.000.000 مقابل 1.115.000.000 مسيحي.  كما أشارت الدراسة إلى أن المستقبل هو للإسلام بامتياز، معللة سبب هذا الازدياد المتصاعد في عدد أتباع هذه الديانة إلى نسبة الولادات المرتفعة لدى الأسر المسلمة.

وهذا صحيح جدا، لأن هذا المعطي الموضوعي يفسر طبيعة الإسلام الوراثي السائد في المجتمعات العربية و الإسلامية بصفة عامة، لكن ما لم يقله المعهد بالمقابل ما دام الأمر يتعلق بمنهجية المقارنة الكلاسيكية، هو أن سبب تراجع المسيحية يعود بشكل أساسي لعزوف المؤمنين عن الكنيسة التي فقدت الكثير من مصداقيتها. ودليل ذلك، أنه في اسبانيا المحافظة على سبيل المثال لا الحصر، نشرت الحكومة الاشتراكية سنة 2006 أرقاما صادمة، تتحدث عن أن عدد أتباع الكنيسة الكاثوليكية الذي قدر بـ (75%) عام 2004، قد تراجع إلى نسبة أقل قليلا من (25%) مع نهاية 2006.  وبالرغم من أن الحكومة استعملت هذه المعطيات كسلاح في حربها ضد الكنيسة بهدف تخفيض المساعدات المالية التي كانت تمنحها إياها جزافا كل سنة في حدود 7 مليار يورو، فحولتها بالتالي إلي نظام اقتطاع اختياري من ضرائب المواطنين يدفعه من يشاء من المؤمنين، فان لهذه المعطيات جميعها دلالات عميقة على مستوي السياسات الدولية العامة.  و هو ما يفسر قلق الكنيسة المسيحية الرومانية في الفاتيكان من تنامي المد الإسلامي في العالم عموما وأوروبا بشكل خاص، الشيء الذي دفعها إلى الانخراط في وقت مبكر و بشكل سافر في حملات الحقد التضليلية التي تحيكها الصهيونية والمحافظون الجدد في الغرب ضد الإسلام والمسلمين، مستغلين الحرب على الإرهاب كحصان طروادة لمحاربة الله و كتابه (يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين)، معلنين صراحة أن مشكلة الإنسانية اليوم، هي مع القرآن و ليس مع المسلمين: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم و الله متم لنوره ولو كره الكافرون).. متهمين النص المقدس بأنه من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم، (وما كنت تقرأ من كتاب من قبل وما كنت تخطه بيمينك) -  (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)،  وأنه يحرض على العنف و الكراهية و ينشر ثقافة الموت (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)، و بأن الإسلام – وفق ما يدعون -  دين بعيد عن العقل و المنطق، وفق خطاب البابا  الشهير زمن  "بينبديكت السادس عشر" بمناسبة إلقائه لإحدى المحاضرات في جامعة ألمانية عام 2007 في موضوع "الإيمان والعقل"،  وهو الخطاب الذي هز العالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه، وشكل ضغطا قويا على الكنيسة، و تهديدا مبطنا لمبدأ التعايش و التسامح بين ما يسمي زيفا وتضليلا بـ "الديانات السماوية"، في حال استمرت الكنيسة في نهجها العدائي والتضليلي ضد الإسلام و المسلمين، متناسية تاريخها الأسود الطويل المؤثث بالمؤامرات، و الملطخ بالدم والدموع والأشلاء بما لا يقارن مع ما وقع في العالم الإسلامي من مذابح زمن الصراع على السلطة والفتوحات معا.

والحقيقة أن لا أحد بإمكانه محاربة الدين اليوم أو تجاهله،  بل أقصى ما يملك الغرب عمله، هو محاولة فهم الإسلام، بعيدا عن الأفكار السلبية المسبّقة التي لديه حول المسيحية ورجال الدين، والتي يحكم من خلالها على الإسلام دون دراسته. فالمطلوب اليوم هو دراسة وتقييم الجوانب السيكولوجية والاجتماعية للمؤمنين ومدى تأثير الإسلام  في الحياة الخاصة والعامة لمعتنقيه. كما أن الفلسفة الدينية من جهتها، رغم ما تلاقيه من رفض ومعارضة في الأوساط الإسلامية التقليدية والراديكالية، من شأنها المساعدة على تفكيك المعتقدات الدينية على مستوي الممارسة والتساؤل عن معناها ومدى توافقها مع أوامر الله ونواهيه وتناسقها مع القيم والأخلاق الإنسانية المتعارف عليها كونيا. لأنها (أي الفلسفة) بالنهاية، لا تستطيع الحكم على أن معتقدا ما يعتبر صحيحا أم لا، لكن يمكنها أن تبين لنا أن بعض المعتقدات هي منطقية أو غير ذلك. ذلك أن الفلسفة الدينية ليست علما مستقلا عن الدين، بل هي وليدته الشرعية وتابعة له، وجدت بسببه ومن أجله، ولولا الدين، لما كانت هناك ضرورة للفلسفة الدينية أصلا. والدين وفق المعني القرآني كما ورد في سورة الكافرون، هو مجموعة معتقدات شخص أو جماعة، بصرف النظر عن كون المعتقد إيمانيا أو كفرا. بمعنى أن للمؤمن دينه كما أن للكافر دينه. و الآيات القرآنية حبلي بمثل هذه المعني.

و في هذا السياق، يحق التساؤل عن الخلفية الثقافية من وراء تصنيف الديانة التوحيدية الواحدة و الوحيدة إلي ديانات ثلاث (يهودية - نصرانية - إسلام)، خاصة وأن القرآن الكريم لم يشر إلي هذا النوع من التصنيف بتاتا، بل اعتبر أن كل الأنبياء و الرسل ينتمون إلي دين واحد هو الإسلام: (ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه). فكيف يمكن إذن فهم مثل هذه التجزئة لنفس الدين الذي يقوم علي التوحيد من محمد هبوطا إلى نوح صعودا - عليهم السلام جميعا - ؟ والله تعالى يقول: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) آل عمران: 105.

وواضح من خلال سورة الكافرون (لكم دينكم ولي دبين) أن التفرقة في الدين، جاءت بين دين محمد عليه السلام الذي هو دين التوحيد،  أي نفس الدين الذي بعث به صاحب الدين الأنبياء و الرسل إلى الأمم السابقة، و ما سواه من اعتقاد بني على الكفر ووصفه تعالى بأنه دين أيضا، أي اعتقاد. من هنا يمكن أن نفهم صحة أو خطأ ما نعتقده من الدين وهو ليس منه في ما يخص الرسالات التوحيدية الثلاثة، حتى لا نقول الديانات التوحيدية الثلاثة ما دام الأمر يتعلق بنفس الدين لجهة تمحوره حول نفس الإله المعبود، كما سبق التأكيد. ومن هنا نستطيع القول أيضا، أن سوء الفهم هذا، هو الذي ولد كل الكوارث والحروب والصراعات التي باعدت بين المؤمنين أتباع نفس الدين – دين التوحيد- من أتباع الرسالات السماوية.  وليس غريبا كذلك، أن يبلغ الجهل مداه ببعض أتباع نفس الرسالة، فنجدهم يكفرون بعضهم البعض بسبب تفاصيل جزئية لا علاقة لها بجوهر الدين. حدث هذا أيضا في كل الرسالات. و بالنسبة للقرآن، نحن نعلم يقينا، أن الله عندما يخاطب المؤمنين، فإنما يخاطب الصابئة واليهود النصارى و والمؤمنين برسالة محمد، وكلهم يدينون لله بالعبادة لقوله تعالى: (إن الذين امنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 62. هذه هي الأسس المشتركة بين الجميع بالنسبة للدين الصحيح الذي ارتضاه الله لكل عباده من دون استثناء كما سبقت الإشارة: (الإيمان بالله – الإيمان باليوم الآخر – العمل الصالح). 

لإنه إذا كنا نعتقد بأن الله هو الخالق والمعبود من قبل كل المخلوقات من دون استثناء (إن كل من في السماوات والأرض إلا أتي الرحمن عبدا) مريم: 93، فمن باب أولى أن لا نحصر مفهوم الدين الحق في شعب واحد على أساس العرق، أو أمة واحدة على أساس توزيع جغرافي معين. من هنا عالمية الدين ليشمل كل الأجناس والأقوام والشعوب عبر مختلف الأزمان وعلى امتداد جغرافية العالم.  وبالنسبة للتوحيد، هذا الكلام معناه أن الدين واحد ولو تعددت الرسل وتنوعت الرسالات، بدليل قوله تعالي: (ولكل أمة رسول) يونس: 47.  وقوله:  (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء: 15، لكي لا يكون للناس حجة على الله بعد الرسل.

وإذا كان الدين من الناحية التعريفية مصطلح من العسير تحديده تحديدا دقيقا لتباين تأويله لدى كل من البدائيين وأصحاب الديانات السماوية كما ورد في التعريف الذي أخذت به الموسوعة العربية الميسّرة (1965)، فإن هذه الصعوبة المزعومة تنتفي بالكامل عندما يتخذ الإنسان من القرآن مرجعا للتعريف. ومثال ذلك قول الله لرسوله الكريم: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم وما كان من المشركين) الأنعام: 161. والدين القيم الذي قصده الله تعالى بهذه الآية هو الدين الذي وصى به نوحا والذي أوحاه إلى رسوله الكريم ووصى به إبراهيم وموسى وعيسى وحثهم على إقامته وعدم التفرقة فيه كما يؤكد منطوق الآية 13 من سورة الشورى.

والمفارقة العجيبة أن المسلم يتعلم على يد الفقهاء، أن الإسلام هو الدين الذي جاء به محمد عليه السلام ليلغي ما سواه من أديان، وأن كل من لم يؤمن به من اليهود والنصارى فلا خلاص له يوم القيامة، هذا علما أن ما يؤكد عليه القرآن هو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح كما سبق القول، وأن الله جعل لكل أمة شرعة ومنهاجا، ولو شاء تعالى لجعل الناس أمة واحدة ولكن ليبلوهم فيما أتاهم كما يستفاد من الآية 48 من سورة المائدة وغيرها.  وأن ما جاء به الرسول الخاتم هو نفس الدين الذي شرعه تعالى لعباده كافة، مع التركيز على توضيح ما طال الكتب السماوية السابقة من تزوير وتحريف وتحوير دون القول بإلغائها جملة وتفصيلا. وبالتالي، فتأويل الآية (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران: 85، بالمعنى الذي ذهب إليه عديد الفقهاء بحصل الإسلام في رسالة محمد، أمر لا يستقيم دينا ولا يقبل عقلا، ذلك أن الرسول الأمين مبلغ عن ربه ما كلفه به دون زيادة أو نقصان لمخاطبته تعالى بقوله: (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس) المائدة: 67. وبالتالي، فما زعمه الفقهاء خلافا لهذه الحقيقة الدينية هو لعمري قمة الخطل العقلي والتجني على الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله الأمين السلام.

من هنا كونية هذا الدين الذي يشمل كل الأمم عبر العصور والدهور وعلى امتداد جغرافية المعمور، منذ ما بعد عصر الجنة وإلى أن تبدل السماوات غير السماوات والأرض غير الأرض، ليعود المؤمن للعيش من جديد في نعيم الجنة.  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق