بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 12 أكتوبر 2018

مفهـــوم الشريعـــة (3/3)



بين شرع الله وشريعة الفقهاء


السنة بين الأسوة والبدعة

إذا كان الإمام الشافعي هو أول من اعتبر السنة أصلا من أصول التشريع، مشترطا أن تكون من الأحاديث المتصلة بإسنادها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الإمام أحمد ابن حنبل كان أول من حاول تأصيل السنة كمصدر للتشريع من نصوص القرآن، استنادا إلى قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) الأحزاب: ٢١، فاستدل بهذه الآية على اتباع الرسول كأسوة في كل شيء بما في ذلك الأحكام، هذا فيما الأسوة التي حث عليها الله تعالى المؤمنين في الآية الكريمة مرتبطة بتطبيق ما جاء في الرسالة أي القرآن، وذلك لما تعطيه كلمة الرسول من معنى باعتباره مبلغ عن ربه دون أن يكون له الخيرة في أن يضيف أو يعدل أو يغير شيئا من عنده لقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) المائدة: ٦٧.../...

ولأن القرآن يفسر بعضه بعضا كما قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، فإنه من غير المقبول اجتزاء آية من سياقها لتلبيسها معنى لا تحتمله، خصوصا وأن الله تعالى صاحب الدين يعبر عن المراد من خطابه بمفردات لا تحتمل أكثر من معنى من حيث الظاهر. لأنك لو بحث عن كلمة "أسوة" في القرآن الكريم، لوجدت أنها وردت في ثلاث آيات وبنفس المعنى الذي لا يقبل التأويل، وذلك كالتالي:

-        الآية الأولى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) الأحزاب: ٢١. والأسوة هنا مرتبطة بكثرة الذكر وفق المعنى الذي يعطيه السياق الذي وردت فيه هذه الآية الكريمة.

-       الآية الثانية: (لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومه إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله...) الممتحنة: ٤. والأسوة هنا مرتبطة بعبادة الله دون سواه والتخلي عن عبادة كل مظاهر الشرك.

-       الآية الثالثة: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) الممتحنة: ٦. والأسوة هنا وردت بمعنى الاقتداء بالرسل (إبراهيم ومحمد عليهما السلام) فيما له علاقة بالولاء والبراء.

وواضح أن المعنى المراد من الخطاب لا علاقة له بالشريعة كما حاول الإمام أحمد بن حنبل  الإيهام بذلك في حجيته على السنة كأصل ثاني من أصول التشريع، لأن الأسوة جاءت في الآيات الثلاثة السالفة الذكر بمعنى القدوة الحسنة، وفي سياق محدد يتعلق بالإكثار من ذكر الله ونبذ الكفر والتمسك بالإيمان والنهي عن اتخاذ أعداء الله أولياء لمن كان يريد الله واليوم الآخر، تأسيا بإبراهيم الخليل عليه السلام ومن معه حين اختاروا الإيمان على الكفر، وتأسيا بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه يوم الأحزاب حين تبرأوا من المشركين ومن إلقاء المودة إليهم، فأعلنوا الجهاد ضدهم لوأد الفتنة، فنجحوا في امتحان الولاء واختبار الإيمان والصبر على تحمل الجوع والسهر والمشاق والتضحية في سبيل انتصار عقيدتهم لنيل رضى الله.. وبالتالي، لا علاقة لهذه الآيات التي تتحدث عن العقيدة تحديدا بمسألة التشريع من قريب أو بعيد، وإلا ما معنى أن يطالب الله تعالى المؤمنين بأن يتخذوا إبراهيم الخليل ومن معه أسوة أيضا؟

وفيما له علاقة بحجيّة تصنيف السنة أصلا ثانيا من أصول التشريع بدليل القرآن كما زعم الفقهاء، فلم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى أمته بأخذ التشريع من سنته بزعم أن القرآن لم يبيّن لهم كل ما يحتاجونه لتنظيم شؤون حياتهم، لأنه لو فعل لأنكر عديد الآيات التي تؤكد عكس ذلك بصريح العبارات، مثل قوله تعالى، أن القرآن جاء بلسان عربي مبين (الشعراء: ١٩٥)، وبالتالي، فهو لا يحتاج لمن يفسره بقدر ما يحتاج لمن يفهمه ويعمل بمضمونه، لأنه قرآن عربي غير ذي عوج (الزمر: ٢٨) حتى لا يستشكل على الناس فيختلفون فيه، وأنه أنزل القرآن تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة للمسلمين (النحل: ٨٩) فلا يحتاج لسنة تكمّله، وأنه ما فرّط في الكتاب من شيء (الأنعام: ٣٨) كي لا يترك لرجال الدين منفذا ينفذون منه للتفريق بين عباده وفرض الوصاية على عقيدتهم كما حدث مع الأمم السابقة، وأنه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (هود: ١) فلا يحتاج بعد هذا لمزيد تفصيل، وأن الله ضرب للناس في القرآن من كل مثل (الإسراء: ٨٩ - الكهف: ٥٤ – الروم: ٥٨ – الزمر: ٢٧) ليهتدوا به من خلال إلحاق الشبيه بشبيهه والتركيز على التوجه بالأعمال إلى تحقيق المقاصد العليا للشريعة وفق ما ورد فيه من آيات محكمات تهم كل المؤمنين بالله وليس أتباع محمد فحسب.

والمقاصد العليا للشريعة لا يمكن أن يدركها فقيه بمعزل عن الواقع وحركة تطور المجتمعات مهما بلغ علمه وادعى أن ما شرّعه في زمانه يصلح لقومه وللذين سيأتون من بعده، بل مقاصد الشريعة تدرك من متغيرات الواقع في كل زمان ومكان، فتسن القوانين لتحقيقها على أساس الشرع الجماعي لا شريعة الفقهاء أخذا بالاعتبار المقاصد العليا الواردة في الآيات المحكمات لا أهداف الحاكم السياسية التي طوع لها الفقهاء السنة لتبريرها دينيا. لأنه لو كان التشريع منوطا بآراء الفقهاء لما قال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم). وقول الإمام علي كرم الله وجهه: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه). وقول ابن مسعود رضي الله عنه: (يذهب علماؤكم، أو خياركم - ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم، فينهدم الإسلام ويثلم). وقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (العلم ثلاثة: كتاب الله الناطق، وسنة ماضية، ولا أدري) والسنة الماضية المقصودة هنا هي سنة الله في الخلق مصداقا لحاكميته المطلقة لا سنة الفقهاء (أصول التشريع لعلي حسب الله – ص: ٨١).

وواضح من هذه الشهادات القيمة، أن هناك إجماع بين كبار الصحابة والمقربين من الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم زمن الرسالة حول استبعاد الرأي من مجال التشريع، لأن الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول برأيه في الدين،
لأنه حين كان يسأل أثناء فترة تلقي الوحي عن شيء لا يعرف حكمه، كان ينتظر وحي السماء قبل أن يبيّن الحكم فيه بنص التنزيل، وهذا هو معنى سنته، أي أنه لم يكن مشرعا بقدر ما كان مبينا لشرع الله بوحي السماء. بدليل، أن الله تعالى لم يسمح له بأن يحكم بين الناس برأيه، بل قال له بصريح العبارة (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) المجادلة: ١. أي بمعنى: لتحكم بين الناس بما أوحى الله لك لا بما تراه أنت. وإذا كانت هذه هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في التعاطي مع الشريعة، فهذا يعني من الناحية المنطقية، أنه لا يمكن لفقيه مهما بلغ علمه أن يشرع لقومه وللأجيال من بعده، ويعتبر ما قال به شريعة إسلامية.

والسؤال الذي يطرح في هذا السياق هو: - ما العمل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع وحي الرسالة في مواجهة ما يستجد على الأمة من أمور؟ ... 

الجواب نجده واضحا جليا وحاسما في حديث للرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر بمثابة آلية عملية موضوعية لتجاوز هذا الإشكال، تنسجم قلبا وقالبا مع روح القرآن الكريم، وذلك من خلال إقرار مبدأ الشرع الجماعي بدل شريعة الفقهاء، وهو حديث نادر يسحب من تحت أقدام الفقهاء شرعية الوصاية على الدين من خلال الانفراد بمجال التشريع. فقد روى سعيد بن المسيب عن الإمام علي رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم تمض فيه منك سنة؟ قال: (أجمعوا له العالمين – أو قال: العابدين من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد). وبذلك يكون الشرع الجماعي هو المنهج القويم الذي من شأنه المحافظة على المصالح المشروعة للأفراد والمجتمعات وفق تبدل الظروف والأحوال واختلاف النوازل. هذا الحديث رواه الإمام مالك، وإن كان البعض زعم أن بعض رواته لا يحتج بهم (إعلام الموقعين ج١ / ص:٧٣ – ٧٤)، إلا أن معناه في غاية الصحة والصدق، لأن من رواه هو الإمام علي كرم الله وجهه الذي كان أقرب إلى النبي من أي شخص آخر، ولأنه دعوة إلى الشورى في مهام الأمور كلها يؤيدها حث القرآن على ذلك في أكثر من آية وسياق. وقد روى هذا الحديث الطبراني أيضا في (مجمع الزوائد الأوسط – ج١ – ص: ١٨٧) ورجاله ثقات من أهل الصحيح برواية "العالمين" التي تعتبر أرجح من رواية "العابدين"، لأن الغرض من الاجتماع التشاور للوصول إلى رأي فيما نزل بالناس من مستجدات، وهذا أمر لا يكون إلا بذوي العلم والمعرفة من مختلف المجالات، لا بالمتعبدين المتباعدين عن العلم وشؤون الناس معا.

وإذا كانت "أصول التشريع" وفق المعنى الذي استقر عليه الفقهاء، تعنى بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، فقد تم تحديد هذه الأدلة في مصادر ثلاثة كما سبق القول لشرعنة هيمنة الفقهاء على مجال التشريع، أي (القرآن، السنة، الاجتهاد). ويدخل في هذه القواعد بالتعريف:

1.   قواعد لغوية: بحكم أن القرآن والسنة هما باللغة العربية، وبالتالي، لا يستطيع فهمهما واستنباط الأحكام منهما إلا من عرف فنون اللغة وأساليبها وطرق دلالاتها، وفق ما أقره الفقهاء. هذا فيما يدحض الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القاعدة بقاعدة متينة صلبة مفادها، أن (القرآن يفسر بعضه بعضا)، وبالتالي، لا يحتاج أحد للبحث في جذور اللغة وأصل كلماتها لفهم المراد من كلام الله، فلو بحث المسلم عن مصطلح "إسلام" من القرآن مثلا، لوصل إلى نتيجة حاسمة قاطعة ونهائية تختلف جملة وتفصيلا عن المفهوم الذي وضعه الفقهاء لـ"الإسلام" باسم السنة والاجتهاد حين اعتبروا أن الإسلام هو الدين الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، ولأدرك بسهولة ويسر أن الله لم يلزم عباده بدين آخر غير الإسلام منذ بدأ الخليقة وإلى أن تبدل السماوات غير السماوات والأرض غير الأرض.. وقس على ذلك بقية المصطلحات القرآنية.

2.   قواعد شرعية: وهي المتعلقة بالأسس التي بنى عليها الفقيه أحكامه، والأغراض التي رمى إلى تحقيقها من ذلك.. وهذه الأسس في مجملها لا تخرج عن مبدأ قياس ما لا يقاس، لأنه لا يمكن القياس على واقعة محددة للحكم على غيرها، بسبب اختلاف الظروف والشروط والمعطيات الخاصة بها، بحيث تتحول كل حادثة إلى حالة خاصة تتطلب معالجة مختلفة.

لذلك، لم تصمد هذه القواعد طويلا أمام الواقع المتغير عبر الزمن، فسرعان ما تبين أن القواعد اللغوية مثلا، ليست من القواعد الكبرى في القياس الاقتراني، وليست دليل ملازمة في القياس الاستثنائي، لأنها لا تستخدم كقاعدة أساسية في التشريع بل كأدوات يستعان بها في الاستنباط فحسب.

ولعلها من مفارقات التاريخ، أن يكون واضع علم النحو العربي سيبويه (توفي عام ١٦٩هـ) من أصل فارسي، ومن بعده اهتمت مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة بمسألة المفاهيم على أساس اكتشاف الصلات المتبادلة بين اللفظ والمعنى بالعودة إلى جذور المفردة في الكلام العربي القديم ما قبل الإسلام، فدخلت اللغة ولأول مرة في قوالب عقلية ومنطقية، وبينت أن الشواذات والانحرافات ما هي إلا اعراض ظاهرية، وأن لها في ذلك أسبابا عقلية (تاريخ الفلسفة – هنري كوربان – فلسفة اللغة – ص:٢٢١).

وبسقوط قاعدة اللغة من أصول الفقه نظريا وعمليا، سقطت معها الحجّة التي تقول، بأحقية العرب في احتكار المعنى والفتوى الدينية، وكان التاريخ عدوا للفقهاء حين كذّب ادّعائهم هذا جملة وتفصيلا، لأن ما أنتجه العلماء غير العرب من الفرس تحديدا في مجالات العلم والمعرفة بما في ذلك اللغة من نحو وبلاغة وقواعد بسبب حبهم لمعرفة الحقيقة، لا يقاس بما أنتجه العرب أنفسهم حيث لا مجال للمقارنة. ولعل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحابي الجليل سلمان الفراسي الذي هجر بلاده طلبا للمعرفة، يؤكد أن الحقيقة الدينية ليست حكرا على العرب بدعوى معرفتهم باللغة العربية، ما دام الله قد بعث برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين جميعا.. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد: (سلمان منا آل البيت، وأنا جد كل تقيّ، ولو كان عبدا حبشيا)، والحديث صحيح ومشهور رواه فقهاء السنة والشيعة ولم يعارضه أحد، ومعنى آل البيت في الحديث بيت العلم الذي اشتهر به بيت الرسول وقال عنه صلى الله عليه وسلم (أنا مدينة العلم وعليّ بابها)، لأنه كان الأقرب إلى الرسول من أي صحابي آخر طوال مسار التنزيل، والأدرى بما قاله الحبيب أو لم يقله في زمانه مقارنة مع من نقلوا الأحاديث عنه من الفقهاء في الأزمان اللاحقة. هذه الملاحظة الموضوعية يتم تجاهلها من قبل أهل السنة والجماعة لأنها لا تخدم أهدافهم السياسية.

ومعضلة الفقهاء لا تكمن في سقوط قاعدة اللغة التي قالوا بها فحسب، بل وسقطت القاعدة الثانية التي تقول: إن العلم بالأدلة يؤدي إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الدليل في عرف الفقهاء والأصوليين هو غير الدليل في عرف المناطقة، حيث يختلف عنه جملة وتفصيلا. كما أن منهج النقل الذي يعتمد التكرار والاجترار، لا يمكن أن يصمد أمام منهج العقل الذي يقوم على النقد والتفكيك وإعادة بناء المعاني في قوالب جديدة تستنطق النص الصامت على ضوء الواقع المتغير في البحث عن الحقيقة.

ولم يقف السقوط عند هذا الحد، بل سقطت أيضا القاعدة الفقهية المستحدثة التي تقول بشمول "أصول التشريع" للعقيدة أيضا، هذا علما أن العقيدة ليست من مجال الظاهر كالمعاملات وطقوس العبادات، بل من مجال الإيمان الذاتي الذي يصنف في خانة الباطن القلبي الذي لا يعلمه ويحكم عليه إلا الله تعالى حصريا دون سواه، بسبب أنه لا يخضع لدليل عقلي أو منطق برهاني، وبذلك يظل الإيمان حرا طليقا يحلق في فضاءات الحب والجمال خارج أي قيد أو مراقبة. بدليل القول المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن من يتطاول على عقيدة الناس: (ألا شققت قلبه؟).

ويشار في هذا الصدد، إلى أن محاولة الفقهاء فرض وصايتهم على العقيدة من خلال آليات التشريع، أدى إلى كوارث التكفير والقتل والحرق والتعذيب والفتن والصراعات التي عرفها التاريخ الإسلامي القديم والحديث. وفي هذا، لا فرق بين السلفي "المعتدل" والسلفي "المتطرف" في الجمود، فكلاهما يكفر من يدعو لتطوير الشريعة لملائمتها مع متغيرات الواقع.. لكن المفارقة، أن كلاهما يرفض تكفير من سفكوا الدماء وقطعوا الأعناق ونهبوا مقدرات العباد واغتصبوا الأعراض.. بدعوى أنهم مسلمون عاصون لا يجوز تكفيرهم، برغم وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته في خطبة الوداع التي قال فيها: (لا ترجعوا من بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض).. فعن أي سنة يتحدثون؟

أما طرق الإثبات، فقد حصرها الفقهاء في ثلاثة: الأدلة المنطقية، العادة الفطرية، الأحكام النصية من وجوب وحرمة وإباحة وندب وكراهية وغيرها.

فبالنسبة للأصل الأول الذي هو القرآن، لا اختلاف حول أنه عمدة الشريعة وأصل أدلتها، وأن ما ورد فيه من أحكام تعتبر حجة على المسلمين أفرادا ومجتمعات. لأنه وكما أوضح صاحبه، جاء شاملا مبيّنا ومفصّلا لكل شيء، لتهتدي به الأمة وتركز
على التوجه بالأعمال نحو تحقيق المقاصد العليا للشريعة، بهدف المحافظة على المصالح المشروعة للأفراد والمجتمعات وفق تبدل الظروف والأحوال واختلاف الأزمنة، بدل مصالح الحكام الطغاة وزبانيتهم.

أما في الحالات التفصيلية التي لا تخالف مبادئ الشريعة الأساسية، فكان تعالى يوصي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالأخذ بالعفو والأمر بالعرف لقوله تعالى (خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين) الأعراف: ١٩٩. وأخذه بالعفو يتعلق بعدم الانتقام ممن أساء إلى شخصه الكريم، ما يمثل قمة التسامح الذي هو سمة أساسية من أخلاق المصطفى الرفيعة التي تعلمها في مدرسة الله وشهد له بها من خلال قوله: (وإنك لعلى خلق عظيم) القلم: ٤.. أما الأمر بالعرف، فيشمل ما دأب عليه الناس في حياتهم من قيم ومبادئ اجتماعية متفق عليها ومقبولة بشكل عام، بحيث لا ينكرها العقل الجمعي ولا تتعارض مع أصول الدين، فوجّهه تعالى للأخذ بها. ومعلوم لدى كافة المجتمعات البشرية قديما وحديثا، أن العرف مُقدّم في التشريع على ما سواه من قوانين وضعية، بل وسماوية ما لم يخالف الأصول، ولا يمكن للمشرع أن يضع قانونا محدثا يخالف العرف السائد الذي يمثل أسمى تعبير عن الشرع الجماعي، باعتباره تجربة ثقافية جماعية خاصة بأهلها وزمانها.

والسؤال الذي يطرح في هذا السياق هو: - هل ما كان يحكم به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من عرف في زمانه خارج إطار الشريعة الإلهية، يصلح لأن يكون سنة تفرض على كافة المجتمعات المسلمة التي تختلف أعرافها باختلاف مكوناتها وعاداتها وثقافاتها على امتداد جغرافية توزيعها؟

أهمية هذا السؤال تكمن في وجوب التفريق بين محمد الرسول الذي بعثه الله رحمة للعالمين كافة.. ومحمد النبي الذي بعثه ليؤسس أمة ويعلمها الأخلاق والحكمة.. ومحمد القائد الذي كان يدير صراع وجود مع المشركين والمنافقين في زمانه.. ومحمد القاضي الذي كان يحكم بين الناس بما ورد في كتاب الله من أصول ويأخذ بعرف قومه في مجال الفروع.. ومحمد الإنسان الذي كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.. أي وجوب التفريق بين محمد الرسول صاحب الرسالة التي تنتمي للتاريخ القدساني ومحمد الإنسان الذي ينتمي للزمن الدائري.

نقول هذا بسبب التعريف الهلامي الذي أصبغه الفقهاء على الشريعة لتشمل كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو سيرة أو صفة، أكان ذلك قبل البعثة النبوية أم بعدها.. وهو تعريف يسمح للفقهاء بالتلاعب بالشريعة لدرجة مخالفة أحكام القرآن وسنة النبي في كثير من الحالات المثيرة للشك والريبة. هذا علما أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة أقواله من غير القرآن بقوله: (لا تكتبوا عني ومن كتب غير القرآن فليمحه) كما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري (في الزهد والرقائق / ٥٣٢٦). غير أن الفقهاء قالوا بنسخه بناء على حديث آخر قال فيه: (اكتبوا لأبي شاه) مستدلين به على الكتابة لمن لا يوثق في حفظه للحديث، وفق ما ورد في (شرح مسلم – ١٢٩ / ١٨ – ١٣٠). 

والحقيقة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم: "لم يقل إنه مصدر للتشريع، لا في مكة، ولا في الدينة، ولا في السرّ، ولا في العلن. وهو موقف لم يتخذه الرسول لأنه كان يجهل حاجة الشريعة إلى الحديث النبوي، بل لأن رسالته نفسها، كانت موجهة لإسقاط الأحاديث النبوية من أساسها. إن علم السنة الذي قام على مخالفة هذه السنة، قد قرأ رسالة محمد عليه السلام، مقلوبة جدا، رأسا على عقب" (الصادق النيهوم – الإسلام في الأسر – خيانة مرفوعة الرأس – ص: ١٣٥). والإشارة هنا إلى التحريف الذي طال التوراة والإنجيل من قبل باسم السنة التي ابتدعها رجال الدين.

أما اتخاذ الفقهاء بعض الآيات القرآنية كحجية لتبرير أحقيتهم في التشريع وفق الأصول التي ابتدعوها، فتحتاج لتدقيق. كقوله تعالى: (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر: ٧، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم مؤمنين بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا) النساء: ٩، وقوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) الأحزاب:٣٦، وقوله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء: ٨٠. هذه الآيات جميعها، تتحدث عن طاعة الله وطاعة الرسول، والرسول وفق المعنى الذي يعطيه المصطلح، هو الوسيط المختار من قبل الله تعالى والمبعوث ليبلغ لمن ليس لهم كتاب آيات الله وشريعته ويعلمهم الحكمة، لقوله تعالى في محمد صلى الله عليه وسلم: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) الجمعة: ٢. وبالتالي، فالمعنى واضح يفيد بشكل لا لبس فيه، أن الله لم يبعث الرسول الأمي للعرب لأنهم كانوا أمة لا تعرف القراءة والكتابة، بل لأنهم كانوا في ضلال مبين بحكم أنهم لم يكونوا يملكون شريعة سماوية.

وبالتالي، فمصطلح "أمي" الوارد في قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) سورة الأعراف: ١٥٧. لا تعني غير المتعلم إلا في قاموس رجل جاهل، بل تعني وفق أصل المصطلح التوراتي رجل "أممي"، أي غير تابع لأهل الكتاب من اليهود، وهو المعنى الذي يتبناه القرآن حرفيا في قوله تعالى (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين) آل عمران: ٢٠. (الصادق النيهوم - إسلام ضد الإسلام – إقامة العدل أم إقامة الشعائر – ص: ٢٣.

وبذلك، يكون الرسول المشتق اسمه من الرسالة هو من يحمل شريعة ربه إلى قومه ليعملوا بمقتضاها.. بخلاف النبي المشتق اسمه من لفظ "النبأ" أي الخبر. ذلك أن النبي لا يحمل شريعة، لكنه يخبر عن ربه ما يوحي إليه من حكمة لهداية قومه وإصلاح دنياهم من أجل خلاصهم، وفي نفس الوقت يحكم بينهم بالعرف السائد لديهم ما لم يخالف أصلا من أصول شرع الله. والنبي وفق ما تؤكده عديد الآيات القرآنية يتبع شريعة الرسول الذي بعثه الله قبله، فيهتدي بها، ويهدي إليها قومه، ويبشرهم بمن سيأتي بعده. وطاعة أولي الأمر تكون عندما يلتزمون العمل بشرع الله كما كان يفعل رسوله الكريم، لأن طاعتهم الواردة في الآية السالفة الذكر معطوفة على طاعة الرسول الذي هو بدوره يطيع الله في كل ما أمر بتبليغه والسياق المحدد الذي يستفاد من الآية ٥٨ من سورة النساء التي سبقت الآية ٥٩ التي تتحدث عن طاعة الله ورسوله وأولي الأمر منكم، قد جعلها تعالى مشروطة بتأدية الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل، وخيانة أمانة التكليف وعدم إقامة العدل بين الناس يفقد الحاكم شرعية الحكم ولا يلزم المحكوم بطاعته، لأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما سبقت الإشارة.

أما سر بعث الله تعالى الرسل والأنبياء إلى الأمم كافة، فهو تذكيرهم بعهدهم الذي قطعوه على أنفسهم في عالم الذر والأرواح النورانية قبل الخلق، وفق ما يفهم من آية الميثاق، لقوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف: ١٧٢، وذلك حتى لا يكون للناس حجة على الله بعد الرسل، بدليل قوله تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) النساء: ١٦٥. لكنه بعث بمحمد صلى الله عليه وسلم ليكون خاتم الرسل والأنبياء جميعا ورحمة للعالمين كافة، معلنا بذلك اكتمال رسالة السماء بالقرآن الجامع والمتضمن لمختلف مراح نطور البشرية منذ بدأ الخليقة وإلى أن يرث الله ال{ض ومن عليها، وليكون بذلك النسخة الأخيرة المكتوبة والمحفوظة من التحريف والتزوير والتحوير، وهي النسخة التي تمثل المعجزة التي تحدى بها الله تعالى المنكرين والمشككين والمجادلين إلى أن تقوم الساعة، خصوصا على مستوى المعاني والحقائق الوجودية، وليس على مستوى الأسلوب فحسب كما ذهب إلى ذلك الفقهاء ليبرروا أحقية العرب بالتشريع.

وليس صدفة أن تكون أول آية من أول سورة نزلت هي "اقرأ" كما هو معلوم، ما يجعل مسؤولية فهم الدين من مصدره الأساس (القرآن) مسؤولية فردية، لقوله تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة) المدثر: ٣٨، وقوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) النجم: ٣٩، فلا يحق لرجال الدين بعد القرآن فرض وصايتهم على عقيدة الناس، ولا للإقطاع احتكار إنتاج المعنى خدمة لمصالح سياسوية لا تضمن للناس سعادة في الدنيا ولا خلاصا في الآخرة، وبذلك يكون القرآن منهجا عمليا للتعلم في مدرسة الله لا في مدرسة الفقهاء.

وبديهي أن ما ساعد لصوص الدين على تخريب عقل الأمة أمام عجزهم عن فهم القرآن بالعمق المطلوب، هو استنادهم على ما اصطلحوا على تسميته بـ “علم الحديث"، وليس له من العلم إلا التسمية، مركزين في ذلك على عدالة الراوي والثقة به، بغض النظر عن تعارض مضمون ما قال به مع نص القرآن أو مخالفته لشروط العقل، الأمر الذي حول الكثير من الأحاديث المدسوسة إلى سنة نبوية شريفة.. وهو ما يتعارض مع القاعدة الأصولية القائلة: "إذا رأيت الحديث يباين العقول، أو يخالف المعقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع (اختصار علوم الحديث لابن كثير – ص: ٧٨). وهو ما علق عليه ابن صلاح في (توجيه النظر إلى أصول الأثر – ص: ٨٣) بالقول: "ومتى قالوا: هذا حديث صحيح – فمعناه أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة (يعني أوصاف الرواة)، وليس من شروطه أن يكون مقطوعا به في نفس الأمر، إذ منه ما انفرد بروايته عدل واحد، وليس من الأخبار التي أجمعت الأمة على تلقيها بالقبول. وكذلك إذا قالوا في حديث: إنه - غير صحيح – فليس ذلك قطعا بأنه كذب في نفس الأمر، إذ قد يكون صدقا في نفس الأمر، وإنما المراد به أنه لم يصح إسناده على الشكل المذكور". (أصول التشريع الإسلامي – علي حسب الله – ص: ٦٩).

كما أن قولهم بأن المراد بالسنة كل ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو سيرة أو صفة، فتح الباب واسعا للخلط بين محمد الرسول الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين كافة، ومحمد النبي الذي بعثه الله بقومه، ومحمد الإنسان التاريخي الذي عاش تجربة واقع زمانه.. هذا علما أن ما أثر عن محمد الرسول من اجتهاد وفق زعم الفقهاء، لا أساس له، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحتاج لاجتهاد فيما كان الله ينزله على قلبه مبيّنا، بدليل قوله تعالى: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) النحل: ٦٤. وبهذا المعنى، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ليبين إلا ما يوحى إليه من ربه، بدليل قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي) النجم: ١، وبالتالي، فلو كان له أن يجتهد ما كان كلامه ليكون وحيا، خصوصا وأنه المبلغ عن ربه ما يتلقاه دون زيادة أو نقصان وفق ما تقتضيه مهمة الرسول كما سبق القول، بدليل قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) المائدة: ٦٧.

وحين لم يسعف كل ذلك فقهاء الرسوم في وضع شريعة إسلامية لزمانهم وللأزمنة من بعدهم، راحوا يبحثون عن أدلة جديدة في أثر السلف من خلفاء وصحابة وتابعيهم أيضا باسم السنة، أي سنة السلف، إلى أن استنفذوا كل المأثور ولم يبقى لهم مصدر يستندون إليه، فابتدعوا أصلا ثالثا للتشريع سموه "الاجتهاد".. وهنا بدأت مسيرة التحريم والتكفير والاقصاء والقتل والتعذيب والقهر والتدجين والتجهيل والإرهاب الفكري والإكراه النفسي والقتل الجسدي.. فتحول التاريخ الاسلامي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تاريخ دموي لم تنجح هالة التقديس التي أصبغت عليه في طمس حقيقته، وكل ذلك بسبب احتكار الاجتهاد الفردي، ما حول الدين إلى نسخة مشوهة عن الإسلام السمح الجميل الذي ارتضاه الله تعالى دينا قيما للعالمين كافة وليس للعرب فحسب.

وإذا كانت النتائج رهينة بمقدماتها، فإن ما أصبحت الأمة عليه اليوم من جهل، وفقر، وضعف، وتخلف، وهوان، وفقدان للحرية، وضياع للكرامة، وتفرقة، وتبعية، وظلم، وفساد، وانحطاط أخلاقي، وصراعات داخلية، وفتن متنقلة وعابرة لحدود الأقطار على امتداد جغرافية العرب.. إنما هو نتيجة طبيعية لحجم التخريب الذي صنعته شريعة الفقهاء التي نجحت أيّما نجاح في تفكيك لحمة الأمة باسم شعارات خادعة كاذبة من قبيل "إسلام الاعتدال" و"اختلاف اجتهاد الفقهاء رحمة"، هذا فيما تم تغييب إرادة الأمة التي لها الحق وحدها في تشريع ما تراه مناسبا لها في زمانها ضمانا لسعادة الدنيا وخلاص الآخرة، وفق مبدأ الشورى الملزم الذي يحتم على الجميع اعتماد قواعد "الشرع الجماعي" في التشريع.

وليس أدل على ما نقول من شهادة قيّمة قدما بشجاعة سلفي راجع فكره المتشدد في السجن، ويتعلق الأمر بالشيخ المغربي محمد عبد الوهاب رفيقي (أبو حفص) الذي كتب مقالة على صفته في الفاسبوك ونشرها موقع "بانوراما اليوم" بتاريخ ٥ نوفمبر ٢٠١٧ تحت عنوان "من أجل أنسنة العلوم الدينية"، جاء فيها:

"لقد كنت أقول دائما أنه لا بد من أنسنة العلوم الدينية، وأن الاقتصار على المنظومة الأصولية لا يصلح لشيء إلا للتوظيف السياسي والتحكم باسم الدين وشرعنة كل المواقف والاختيارات. أومن دائما أن هذه المنظومة تنتج الحكم وضده، وأن بها من المرونة وعدم الانضباط ما يجعلها صالحة للاستدلال على أي موقف، اختر الموقف الذي تريده ثم اختر لك من مصادر الاستدلال الكثيرة ما تشاء لشرعنة موقفك وتأصيله تأصيلا سليما. هذه مواقف العلماء والفرق العقدية والفقهية التي عرفها التاريخ الإسلامي كم فيها من الاختلاف وآلاف الأقوال المتعارضة، وكلها مؤصلة بنفس المنهجية والمصادر، وليس قول بعضها بأولى من بعض مهما ادعى البعض صواب رأيه ورجحان مذهبه. فبنفس المنظومة حرموا كل منتجات التحديث وبنفسها أباحوا ما حرموه، وبنفس المنظومة حرموا العمل السياسي وبنفسها أباحوه، وبنفسها أباحوا الخروج على ولي الأمر وبنفسها منعوه، وبنفسها حرموا التصوير وبنفسها أباحوا التقاط السيلفيات والإعلانات، وبنفسها حرموا على المرأة القيادة وبنفسها أباحوا مع أنهم في أقوالهم السابقة كانوا يقطعون أنها الحق ويسفهون كل مخالف ويتعالون على الخلق… وكل ما يحرمونه اليوم من قيم كونية واختيارات فردية سيبيحونه يوما وبالأدلة الشرعية والأصولية، حين تقرره السلطة السياسية ذلك وتجعله خيارا لها".
إلى هذا الحد تم استغلال الدين في السياسة، وإلى هذا الحد تم التلاعب بعقل الأمة الجمعي ومصيرها، فخسرت نفسها وأصبحت تعيش على هامش التاريخ عالة على الحضارة. وإذا كان من درس يجب استخلاصه من هذه التجربة الطويلة مع فقه المذاهب الذي فرق بين أبناء الأمة الواحدة وأدى إلى ما أصبحت عليه اليوم من تفكك وتخلف وانحطاط، فمرد ذلك يعود إلى استبدال إسلام القرآن بإسلام الفقهاء من خلال التلاعب بمعاني المصطلحات. لأنه إذا كان مصطلح "السنة" عند العرب ما قبل الإسلام يعني "الممارسة المتبعة"، فإن منظومة شريعة الفقهاء التي أقاموها على أساس السنة، لم تنتج أمة تمتاز عن غيرها من الأمم، أقله بالأخلاق الحسنة، أسوة بأخلاق الرسول العظيمة التي فضله بها الله تعالى على العالمين جميعا.. وكم كان نزار قباني مصيبا بقوله: "يا سادتي الفقهاء، قبل أن تعلموا ابنتي بأي رجل تدخل الحمام.. اتركوني أعلمها الأخلاق".

مفهوم السنة من منظور القرآن

المفارقة، أن مصطلح السنّة ورد في القرآن ٧ مرات (الأنفال: ٣٨ و الحجر: ١٣ و الإسراء: ٧٧ و الكهف: ٥٥ و الأحزاب: ٣٨ / ٦٢ و الفتح: ٢٣) ، ليس بينها ما يفيد اتباع سنة النبي، بل جاءت جميعها بمعنى سنة الله الماضية في الخلق، والتي لا تتبدل ولا تتغير قديما أو حديثا أو مستقبلا، كقوله مثلا: (وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين) الأنفال: ٣٨. وقوله (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) الفتح: ٢٣.

وسنة الله بالمفهوم القرآني تعني القوانين الثابتة التي وضعها الله في التاريخ، فأخضع بها إرادة الخلق لإرادته بشكل حاسم، مطلق، ونهائي، كي لا تكون إرادتهم فوق إرادته لقوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) السجدة: ٥، ولكيلا تخالف مشيئتهم مشيئته لقوله تعالى (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) التكوير: ٢٩.

أما السنة بمعنى "الطريقة المتبعة"، فقد ميزها تعالى عن سنّته، كي لا يختلط الأمر على الناس، فسمّاها "ملّة"، وأوضح بشكل لا لبس فيه أنها الطريقة الوحيدة التي أمر رسله والمؤمنين كافة باتباعها. ومن خصوصية الملّة، أنها لا تضاف إلى الله كالشريعة، لأنها مأخوذة عن الغير بالاتباع لا عن الله. لهذا أمر تعالى رسله جميعا باتباع ملّة إبراهيم الخليل عليه السلام صاحب العهد وأبو الرسل والأنبياء جميعا، فقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) النحل: ١٢٣، وجعل هذا الاتباع عاما يشمل كافة العباد لقوله تعالى: (ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفه نفسه) البقرة: ١٣٠، وقطع الشك باليقين حين أنكر على أهل الكتاب قولهم كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، فقال لهم: (بل ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) البقرة: ١٣٥، وعرّف تعالى المسلم الذي هو على الدين القويم بقوله: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملّة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا) النساء: ١٢٥، وأمر رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقول لمن يجادله في رسالته: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) الأنعام: ١٦١.

لكن ما حصل بالنسبة للرسالات السابقة، هو عكس ما شرّعه الله لعباده، لأنه وباسم السنة، ترك الناس ملّة إبراهيم التي تعني طريقته ومسلكه، واتبعوا طرقا ومسالك نسبوها إلى رسلهم. وعلى سنة اليهود والنصارى سار رجال الدين المسلمين أيضا، فابتدعوا سنة نسبوها للرسول صلى الله عليه وسلم وبعض السلف الذي لم يكن كله صالحا إلا من رحم الله، وبذلك أصبحت شريعة الله شريعة مشتركة بين الله والفقهاء، فتحولت بحيلة لغوية ذكية من "شرع الله" إلى "شريعة إسلامية".
وبهذا المفهوم القرآني الذي يُميّز بين ما هو سنة فينسبه إلى الله تعالى دون سواه، وبين ما هو ملة باعتبارها دعوة إلى اتباع طريقة إبراهيم الخليل حنيفا، يكون جوهر رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هو دعوة أمته لاتباع ملّة جده إبراهيم عليه السلام، لا سنة الأنبياء والسلف من بعده، ما دام القرآن نفسه يؤكد في أكثر من سورة وآية، أنه جاء ليسقط السنة التي ابتدعها رجال الدين فحرفوا بها التوراة والإنجيل، وأضلوا الناس عن السبيل.. لأن الدين ليس فقها ينتج الخلاف والفتن، بل شريعة تحرم الخلاف الفقهي من أساسه.
وإعادة إنتاج تجربة اليهود والنصارى من قبل الفقهاء المسلمين بناء على حديث منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (خذوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، بعد أن كان قد نهى عن الأخذ عنهم، في تناقض صارخ بين النهي والإباحة (الحديث ورد بصيغة "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" في صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (٦ / ٥٧٢ تحت رقم ٣٤٦١) ومصادر أخرى كثيرة).. هي دعوة لا تعدو كونها معولا لهدم الدين واستبداله بنسخة مشوهة إلى أقصى الحدود عن الإسلام السمح الجميل، لأنه من العبث الأخذ عمّن حرفوا التوراة والإنجيل، وشوّهوا القرآن، ودسّوا آلاف الأحاديث المكذوبة ونسبوها إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.. فكيف يعقل أن يأخذ المسلم عنهم التشريع؟ وكيف يعقل أن يبيح الرسول ذلك بعد أن سبق ونهى عنه؟


نتائـــج كارثيـــة

إن من أخطر نتائج استغلال الدين في السياسة أن تم تغييب ملة إبراهيم صاحب العهد التي أوصى تعالى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وكافة الرسل والأنبياء والمؤمنين عبر العصور والدهور باتباعها، واستبدالها بسنة نبلاء قريش زمن معاوية من خلال تأسيسه لما أصبح يعرف بـ “أهل السنة والجماعة" كما سبقت الإشارة، حيث تم اختزال الإسلام في الجماعة الناجية، واعتبر كل من لا ينضوي تحت لوائها خارجا عن الإسلام الصحيح.

وبذلك، فكل الخلافات والصراعات والحروب التي سجلها التاريخ بين المسلمين، مردها هذا التحريف الذي غيب الحقيقة الدينية واستبدلها بحقيقة سياسية مموهة بلبوس الدين تحت مسمى "السنة" لتبرير هيمنة الإقطاع على المجال الديني.

وبسبب ذلك، برزت تيارات تاريخية كبرى مناهضة لتيار أهل السنة والجماعة، منها التيار المعتزلي الذي أخضع الفهم الديني للعقل المجرد، والتيار الشيعي الذي طور الفلسفة النبوية أو علم القلوب لتكون المعبر عن الثقافة الإسلامية المحمدية في بعدها الروحي، ومنها التيار الصوفي الذي تميز برؤيته الخاصة للدين، والمعبرة عن معتقدات كل البشرية من منطلق فهمهم لرؤية لله للعالم والإنسان في تجربته الأرضية سعيا وراء المعرفة الكفيلة بتحرير الإنسان من الجهل والظلم والتدجين والاستغلال.

وبقراءة خطية لمسار التجربة التاريخية منذ الفتنة الكبرى وإلى يوم الناس هذا، نستطيع القول، أن ما عاق تطور المسلمين السنة بصفة خاصة، وكبّل حرية الفكر والعمل لديهم، ليس الدين نفسه، وإنما استغلاله من قبل تحالف الفقهاء والإقطاع، الأمر الذي حوله إلى إيديولوجيا بديلة عن الدين، والمصيبة أن المستشرقين وعديد الباحثين العلمانيين المتأثرين بمناهجهم، يحكمون على الإسلام من خلال ممارسات هذه الجماعة التي تشكل غالبية المسلمين الجهال اليوم، ولا يكلفون نفسهم – من باب الموضوعية العلمية – مقارنة ما أنتجته هذه الطائفة مع ما ورد في القرآن الكريم من مفاهيم، لأن من شأن مثل هذه المقارنة أن تفصل بين الجانب الديني والجانب السياسي وتكشف عن أوجه الاستغلال والتحوير.

ولعل هذه الحقيقة التاريخية هي التي دفعت الفيلسوف ميشيل فوكو للقول: "إن الحقيقة لا توجد خارج السلطة، بل إنها ذاتها هي السلطة، لأنها نتيجة إكراهات متعددة. فالسياسة العامة للحقيقة تفرض أن يحدد المجتمع نوع (أو أنواع) الخطابات التي يعتبرها حقيقة (...) ومن هذا المنطلق ينتج المجتمع ويحدد الأشخاص والآليات والهيئات التي تسند إليها مهمة الاهتمام بالحقيقة. وهذا ما يفيد أن الطابع المؤسساتي هو الذي يطغى على مفهوم الحقيقة". وهذا الاستنتاج يعد صحيحا إلى حد بعيد بالنسبة لمؤسسة "أهل السنة والجماعة" التي حكمت العالم الإسلامي باسم "الخلافة" التي لا أصل ولا فصل لها من الدين، فأنتجت ثقافة الكدارة التي تدفع الأمة اليوم أثمانها الكارثية على كل الصعد.

هذه المؤسسات التي تحدث عنها فوكو هي ذاتها التي قسمها الفيلسوف لوي ألتوسير إلى مؤسسات إيديولوجية ومؤسسات قمعية. وهذا النمط لم يتغير عبر مختلف مراحل التاريخ، بسبب تحريم المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية للفلسفة بذريعة السقوط في الهرطقة والشرك، فيما الحقيقة تكمن في الخوف من أن يتعلم الناس طرح الأسئلة المنطقية، فتفتح عقولهم على النور، وتحررهم من هيمنة الكهنوت والإقطاع، أو بتعبير الفيلسوف مارتن هيدغر، "إن الحقيقة انكشاف وحرية"، أي انفتاح على الواقع واستعداد لاستقباله في الصورة التي ينكشف بها أمام الذات كما هي على حقيقتها لا كما يراد لنا أن نتصورها من خلال رفض الواقع والتمسك بالوهم.

لا نريد العودة بعيدا إلى هذا التاريخ لجرد الأخطاء التي أدت إلى هذا الوضع الكارثي، لكن ما حدث منذ الحادي عشر من أيلول/شتنبر ٢٠٠١، حين تقرر، ولأسباب جيوسياسية استعمارية، تحويل الإسلام إلى عدو للبشرية من خلال وصمه بالعنف والكراهية والإرهاب الذي أصبح يهدد أمن واستقرار البشرية، تحول العالم العربي بصفة خاصة إلى ساحة للقتل والذبح والاغتصاب والدمار والخراب باسم الإسلام، فشوهوا الإسلام وسمعة المسلمين.

لقد نجحوا في إخراج مارد الإرهاب من قمقمه انطلاقا من ثقافة أهل السنة والجماعة الدينية، والتي يحلو للمدافعين عنها وصفها بإسلام الوسطية والاعتدال.. إسلام غيّب المجاهدة بالعلم والعمل من أجل الوحدة اعتصاما بحبل الله، وحوّل الجهاد من وسيلة شرعية للدفاع عن النفس ضد المعتدي والمغتصب، إلى وسيلة ارتزاق لزعزعة أمن واستقرار الدول العربية والإسلامية من خلال الثورات المسلحة، لإسقاط الأنظمة، وحل الجيوش، وتمزيق المجتمعات، وتدمير الحضارة، وطمس الهوية وإنهاء أي إمكانية للوحدة العربية أو الإسلامية. وقد رأينا كيف تناسلت الجماعات الإرهابية كالفطر على امتداد الوطن العربي، وانخرطت في مؤامرة إمبراطورية روما الجديدة لتدمير المنطقة وتقسيمها، خدمة للمشروع الصهيو – أطلسي للهيمنة على مقدرات الأمة ونهب خيراتها وسرقة مقدراتها والحؤول بينها وبين الوحدة والنهضة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق